رعاية المسنين وحماية حقوقهم للشيخ فوزي محمد ابوزيد





الحمد لله ربِّ العالمين، ولىِّ المتقين، وناصر المستضعفين، ورافع الكرب عن المكروبين، وملبّي الدعاء للسائلين من المؤمنين أجمعين.
سبحانه .. سبحانه، مَنْ توكَّلَ عليه كفاه، ومَنْ ناداه لبَّاه، ومَنْ دعاه أجاب دعاه، ومن استنصر به نَصَرَهُ على جميع عِداه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (222البقرة).
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عَبْدُهُ ورسولُه، خير مَنْ أرسله المَلِكُ العلاَّم، وأفضل مَنْ عمل أعمال البرِّ التي بها وَصَلَ إلى أعلى مقام.
اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على حبيبك ومصطفاك، وقرُّة عينك ومجتباك، سيدنا محمد وآله وصحبه، والسالكين على نهجه، والماشين على شرعه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.

أيها الإخوة جماعة المؤمنين:

سمع أصحابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم حديثه القدسيّ الذي يرويه عن مولاه جلَّ في عُلاه، والذي يقول سبحانه وتعالى في فحواه:
"ما تقرَّب إلىَّ عبدي بشيء أحب إلىَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" (البخاري عن ابي هريرة)،
فعرفوا أن الباب لِحُبِّ الله، والوصول إلى هذا المقام الكريم الذي تحدَّث عن أوصافه جلَّ الله، هي النوافل.
أيُّ النوافل يتقربون بها إلى الله؟!! انقسموا إلى فريقين:
فريقٌ سارع في نوافل العبادات؛ كإحياء الليل بصلاة القيام، وإحياء النهار بالصيام، وقطع الوقت على الدوام بتلاوة القرآن، وذكر الله عزّ وجلَّ على كلِّ الحالات. وبعضهم بالغ في ذلك! حتى أن: (ثلاثة منهم جلسوا مع أنفسهم وتعاهدوا فيما بينهم، قال أولهم: أما أنا فأقوم الليل أبداً - ولا أنام الليل، وقال الثاني: وأما أنا فأصوم النهار أبدا، وأما الثالث فقال: وأنا لا أتزوج النساء). يعني: يتفرغون لطاعة الله وعبادة الله، وظنُّوا أن هذا هو الطريق الميمون الموصل إلى محبَّة الله جلَّ في عُلاه.
فسمعهم النبيُّ التقيُّ النقيُّ الذكيُّ الألمعيِّ الذي علَّمه مولاه العلىُّ: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (113النساء). علَّمه الله من علمه المكنون، فقال: (أنتم الذين تقولون كذا؟!! فسكتوا. فقال:
" أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى" (متفق عليه عن انس رضي الله عنه )
أما الطائفة النُّجَبَاء، الأعلى في المقام في معية سيد الرسل والأنبياء، فقد فَطِنُوا إلى كلام الحقّ، واستنُّوا بسنَّةِ سيِّد الخَلْق، فعلموا أن النوافل التي تُوجب محبَّة الله، هي التي يتقرَّب العبد بها بخلق الله ولِخَلْقِ الله إلى جناب الله جلَّ في عُلاه. هناك نوافل بينك وبين الله، وهناك نوافل – خدمات، إعانات، مساعدات - تقدمها لخَلْقِ الله طلباً لمرضاة الله، وهذه هي الأعلى في المقام عند الله جلَّ في عُلاه.
مَنْ الذي يريد أن يكون في درجته ومعيته – صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وفي جنت النعيم؟ ويكون له بالإضافة إلى ذلك أجرُ قيام الليل وصيام النهار والجهاد في سبيل الله؟ وكلُّها في وقتٍ واحد يعني يكون طوال عمره يُكتب له أجر المجاهدين في سبيل الله، وأجر القائمين طوال الليل في عمره كلِّه الذي كتبه له مولاه، وأجر صيام النهار أيام دهره الذي قدَّره له الله، مَنْ الذي يريد ذلك؟ وبأيِّ عملٍ يحصل على ذلك؟ اسمعوا لحضرة النَّبِيِّ - وصَلُّوا عليه - وهو يُبيِّن لنا ذلك:

يقول صلى الله عليه وسلَّم: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، والقائم لا ينام، والصائم لا يفطر" ( البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه).
الذي يسعى على أرملة ضعيفة - ليُطعمها أو يعالجها أو يوفر لها ضروراتها - أو الذي يبحث عن مسكين - يقدِّم له ما يحتاجه طلباً لمرضاة ربِّ العالمين عزّ وجلَّ.
من الذي يستطيع أن يحصل على أجر عبادة خالصة لله لمدة ستين عاماً في لحظة واحدة؟ وهل ذلك ممكن؟ جعله النَّبِيُّ ممكناً لنا جماعة المؤمنين
قال صلى الله عليه وسلَّم ما معناه: "من سعى في حاجة أخيه المؤمن ابتغاء وجه الله عزّ وجلَّ، قُضِيَتْ أو لم تُقْضَ، كُتب له أجر ستين سنة"(1)
من يسعى في مصلحة للمؤمن - ولو مصلحة بسيطة لا تلقي لها بالاً - كأن تجد رجلاً أو إمرأةً كباراً في السِّنِّ لا يستطيعون الحركة، ويريدون تحصيل شيءٍ من الدكان، وأخذت منهم المال واشتريت لهم هذا الشيء من الدكان، تحصل على أجر ستين سنة
وليس ذلك فقط، بل يقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم في منزلتك يوم القيامة:
"من سعى في حاجة أخيه المؤمن - قُضِيَتْ أو لم تُقْضَ - ابتغاء وجه الله، كنتُ واقفاً عند ميزانه يوم القيامة، فإن رجحت كفَّة حسناته وإلا شفعت له" (رواه أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)
ينال شفاعة الرسول لأنه يسعى في مصالح ومنافع المؤمنين، لا لعلَّة دنيوية، ولا لغرضٍ فانٍ، وإنما لمرضاة الله، وابتغاء شفاعة حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
ولذا كان كُمَّلُ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم ورضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين، كانت هذه نوافلهم التي يتقربون بها إلى الله.
تعالوا معي ننظر إلى رجلٍ يُقال فيه: "لو وُزن إيمان هذه الأمة في كفّة، وإيمان أبي بكرٍ في كفة، لرجحت كفة أبي بكر" (رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب).
كم ركعة كان يصليها في الليل لله؟ وكم ختمة كان يختمها للقرآن في الفجر بين يدي الله؟ وكم مرةً كان يُسبِّح الله؟
لا هذا ولا ذاك. إذن ما هي طاعته التي كان يقدمها لله في جوف الليل؟

كان يبحث عن المستضعفين - والمساكين الذين لا عائل لهم، ولا أنيس لهم، ولا خادم لهم - ويجعل قيامه الليل في خدمتهم، وتنظيف بيوتهم، وتوفير حاجاتهم. ولم يكن وحده في ذلك، بل كان يتنافس معه عُمَرُ وغيره من أصحاب النبي الأمين لأنهم سمعوا قول الله في ذلك: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (26المطففين).
يروى عمر رضي الله عنه أنه أخذ يبحث عن امرأة مُقعدة في المدينة - ليس لها عائلٌ ولا زائرٌ ولا أنيس - ليخدمها ابتغاء وجه الله، وَبَعْدَ لأيٍ وجهدٍ؛ وجد امرأة ليس لها أبٌ ولا أخٍ ولا أخت، ولا ابن ولا ابنة، أي: منقطعة، ومقعدة لا تستطيع الحركة - وكان يذهب إليها بالليل، لأنهم كانوا يحرصون على إخفاء العمل عن الناس حتى لا يطَّلع عليهم إلا ربُّ الناس عزَّ وجلَّ، لا يتباهون بين الخلق بهذا العمل، ولا يطلقون ألسنتهم عمَّا فعلوا أو عملوا، بل يجعلون هذا سرًّا بينهم وبين الخالق الباري عزَّ وجلَّ - فيذهب إليها في الليل، وكلَّما ذهب إليها وجد البيت نظيفاً، وبجوارها الماء، وبجوارها الطعام، وبجوارها كل ما تحتاج إليه، فيسألها: يا أمَةَ الله، مَنْ الذي يصنع لكِ ذلك؟ فتقول: رجلٌ يأتيني لا أعرفه ويقوم بكل ذلك، فدفعته نفسه وفضوله إلى التعرُّف على هذا الرجل، فسألها يوماً: متى يأتيكِ؟ قالت: قبل الفجر بساعة - في الوقت الذي يقول فيه الله: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (17الذاريات).
هذا كان قيامه الليل لله عزّ وجلَّ وليس في المسجد، وهذا يراه وهذا يطلع عليه ويسألوه: ماذا تفعل وماذا تسوِّي؟ لا يطَّلع عليه إلا مولاه جلَّ في عُلاه، وعبادته هي جَبْرُ خاطر هذه المسكينة لوجه الله، وهذه أعلى وأغلى من آلاف الركعات التي يصليها المرء لله جلَّ في عُلاه. فذهب قبل الميعاد واستخفى في مكان ليرى هذا الرجل، وإذا به يرى هذا الرجل هو أبو بكر رضي الله عنه، فقال لنفسه معنِّفاً ومؤنِّباً: تبَّاً لك يا عمر، أتتبع عثرات أبي بكر؟!!
هذا كان دأبهم!! وهذا كان شأنهم وهذه كانت نوافلهم التي يتقرَّبون بها إلى الله جلَّ في عُلاه، وهي رعاية الأيتام، ورعاية الفقراء، ورعاية المساكين، ورعاية المرضى، ورعاية ذوي العاهات والحاجات
من الذي يريد أن يدخل الجنة بغير صلاة ولا صيام؟(نافلة) وهل أحدٌ يدخل الجنة بغير صلاة ولا صيام؟ أوجب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم للمرء أن يدخل الجنة إذا مشي أربعين خطوة - ولكنها بشرط أن يمسك بيده رجلٍ أعمى لا يبصر ويقوده في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
"من قاد أعمى أربعين خطوة وجبت له الجنة" (الطبراني في الكبير وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله عنهما)
انظر إلى عناية الدِّينِ بهذه العبادة التي غَفَلَ عنها شبابنا وشيوخنا، وأقبلوا على الطاعات والعبادات التي بينهم وبين الله، ونسوا سُنَّة التكافل التي سَنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
والتي قال فيها صلى الله عليه وسلم : "ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه"(رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه )
كان على هذا الهَدْيِ الصحابة الكرام، ومَنْ بعدهم مِنْ السلف الصالح أجمعين، وانظر إلى كلِّ المقربين والصالحين من عصر حضرة النَّبِيِّ إلى يومنا هذا، تجدهم على هذه الشاكلة وعلى هذا الحال.
مات الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين - وكانوا يلقبونه: بـــ (زَيْنِ العَابِدِينَ)، لكثرة عبادته لله - وبعد موته وضعوه على خشبة الغسل لتغسيله، فإذا بهم يفاجئون أن ظهره فيه كالُّو كبيرٍ كأنه يعمل عتالاً يحمل الأثقال على ظهره وهم يعلمون أنه رجلٌ مرفَّه، ومن الوجهاء والأغنياء، وعنده الخدم وعنده الأولاد فتعجَّبوا من هذا الأمر. وبعد شهرٍ من دفنه فوجئا بثلاثين أسرة في المدينة ينكشف حالهم ولا يجدون القُوتَ الضروري فذهبوا إليهم وسألوهم: كيف كنتم تعيشون؟! وكيف كنتم تقتاتون؟!!
فقالوا جميعاً: كان يأتينا رجلٌ مع مطلع الهلال - يعني في أول كلِّ شهر عربيّ - يحمل جوالَ دقيقٍ على ظهره، وفي يده اليمنى وعاءٌ فيه سمنٌ، وفي يده اليُسرى صُرَّة فيها نقود، فيدق الباب، فإذا سمع ردَّنا وقالوا: من بالباب؟ خرجنا فوجدنا هذه الأشياء ولم نجد أحداً بالباب فعلموا أنه رضي الله عنه كان يَكْفُلُ هذه الأسر كلَّها ولا يعلمون ولا تعلم حتى زوجته ولا ولده شيئاً، لأنه يعمل لله طلباً لمرضاة الله جلَّ في عُلاه
(يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (28الكهف).
ولا علاج لأحوال مجتمعنا، ولا خروج من مشكلاتنا، إلاَّ إذا أعدنا هذا التكافل الإسلامي فيما بيننا، ونعمل هذا لله - لا للشهرة بين الخَلْق، ولا رغبة في الظهور، ولا رغبة في أن يُقال عن الإنسان أنه جوادٌ أو كريم، أو كذا وكذا - ولكن رغبةً في رضاء الله، ورغبةً في مشاركة حبيب الله ومصطفاه في درجته العُليا عند الله، يوم لقاء الله عزّ وجلَّ.
من استطاع أن يفعل ذلك، وجاهد نفسه في ذلك، فهنيئاً له المقام العلىّ، وهنيئاً له بالدرجة الكريمة، ونبشِّرُه بأنه يوم القيامة سيكون مع النَّبِيِّ وأصحاب النَّبِيِّ في الموقف العظيم، وفي الجنة العُظمى يوم القيامة بين يدي الكريم، يدخل في قول الله: (محمد رسول الله والذين معه) (29الفتح).
قال صلى الله عليه وسلَّم: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من السماء"
(أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)
أو كما قال: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31النور).

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين، إلهٌ واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، فتح لنا أبواب القرب من حضرته، وسخر لنا - لننال الأرزاق - كل الكائنات العالية والسافلة في بريته، وجعلنا بفضل الله لو عملنا بما أمرنا مرزوقين، وبكتاب الله عزَّ وجلَّ لو نفَّذناه فيما بيننا في الدنيا والآخرة سعداء وفائزين، وجعلنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لو مشينا على هديه دائماً وأبداً مرفوعين الرأس عالين بين ربوع العالمين أجمعين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقِهِ وخليله، نثر لنا أحكام كتاب الله، وبيَّنها لنا بياناً صريحاً واضحاً حتى لا نضِّل ولا نذِّل في هذه الحياة. ما ترك شيئاً يُقربنا إلى الله إِلاَّ ودلَّنا عليه، ولا ترك أمراً يُباعد بيننا وبين الله إلا وحذَّرنا منه.
اللهم صلِّي وسلِّم وبارك على هذا النَّبِيِّ الكريم، سيدنا محمد، الذي قال لنا في شأنه ربُّنا العظيم:
"وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (7الحشر).
صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين، وعلى صحابته المباركين، وعلى كلِّ مَنْ اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
من أعظم أبواب الفضل التي يتقرب بها العبد إلى مولاه نذكر باباً واحداً، فتحه لهم الله فولجوه ودخلوه، ونحن وأبناؤنا في مجتمعنا على وشك أن نَسُدَّه ونُغلقه، هذا الباب فيه سِعَةٌ للأرزاق، وفيه زِيَادَةٌ في العُمرِ في طاعة الكريم الخلاق، وفيه دعاءٌ لا يُردُّ لمن قام بذلك وكان أهلاً لذلك وهو بابٌ سهلٌ ويسير، والأمر فيه غيرُ شاقٍّ ولا عسير
اسمعوا معي فيه قول البشير النذير صلى الله عليه وسلَّم:
(مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى بارًّا بِوَالِدَيْهِ، فَتَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ بَاباً إِلَى الجَنَّةِ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى عاقًّا بِوَالِدَيْهِ فَتَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ" (2).

برُّ الوالدين، والإحسان إليهما، كان سَمْتَ الأولين، وكان شِيمَةَ مجتمعات المؤمنين أجمعين، منذ بعثة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم إلى يوم الدين، لأن الله عزَّ وجلَّ عندما قضى أن نعبده ونُوَّحده عزَّ وجلَّ، كان الأمر التالي مباشرة لذلك هو القيام بحقوق الوالدين: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (23الإسراء).
فكانت العناية بالوالدين، والحرص على رعايتهما وطاعتهما، والحرص على الخير الذي ينال به برَّهما، هو الأمر المباشر بعد طاعة الله جلَّ في عُلاه كما نصَّ على ذلك كتاب الله، وبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم على ما يعود على المرء المسلم من البِرِّ، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِه – أي: يُؤخر عمره - فَلْيَبِرّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)(3)
وقد كان صلى الله عليه وسلَّم حريصاً على تربية اصحابه على هذه القيم الكريمة، حتى في أمسِّ حاجات المسلمين، فعندما دعا داعي الجهاد، وطالب الشباب إلى الخروج إلى الجهاد، جاءه رجلٌ شابٌ وقال:
يا رسول الله إنِّي أريد أن أجاهد معك، فقال صلى الله عليه وسلَّم: "هل أحد أبويك حيّ؟ قال: نعم، وقد تركتهما يبكيان. فقال صلى الله عليه وسلَّم - وهو الرحمة المهداة: "ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما، وفيهما فجاهد" (4)
فجعل الجهاد في سبيل الوالدين كالجهاد في سبيل الله، لأنه اعترافٌ بالجميل، وتربية للقيم الأصيلة الإسلامية التي تدعو المؤمن إلى الاعتراف والإقرار لكلِّ مَنْ أسدى إليه نعمة، أو فعل معه معروفاً، أن يكافئه بما يليق بذلك.
وحكى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم لصحابته عن واحدٍ مِنْ أمته، آمَنَ بالنَّبِيِّ - وكان في بلاد اليمن - وكان وحيد أمه بعد أن مات أبوه، وكلما استأذنها أن يذهب إلى المدينة ليلقى رسول الله، تقول له: وتتركني لِمَنْ يا أويس؟!! فَيَبْقَى بجوارها حرصاً على برِّها!! قال في شأنه النبي صلى الله عليه وسلَّم:
"خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ القِرَنِيّ، رجلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَن، آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، مَنَعَهُ مِنْ المَجِيءِ إِلَىَّ بِرُّهُ بأمِّه، يَدْخُلُ فِي شَفَاعَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ ومُضَر"(5) وهما أكبر عائلتين أو قبيلتين في الجزيرة العربية. عَرَفَ له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم ذلك وعرَّف به، لأن الواجب على الابن أن لا ينهض إلى عملٍ مهمٍ من مهمِّات حياته إلا بعد استئذان الوالدين
فإذا أطاع الإنسان والديه يجد ذلك في حياته الدنيا، في سعة الأرزاق، وفي جمال الطباع والأخلاق، ناهيك عن برِّ الأبناء لقوله صلى الله عليه وسلَّم: (برِّوا آباءكم تبركم أبناؤكم)(6) ، ولذا قيل يا رسول الله: أى العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: (الصلاة لوقتها، قيل: ثم ماذا؟ قال: برُّ الوالدين)(7)
جماعة المؤمنين: نحن نحتاج في هذا الوقت إلى تلقين أبنائنا وبناتنا - قبل أن يفلت الزمام من أيدينا، وقد أوشك - على البِرِّ بالآباء، وعلى البِرِّ بالأمهات، وعلى الواجب عليهم نحوهم الكبار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويعرف لعالمنا حقه (أخرجه البزار عن عبد الله بن عباس )...... ثم الدعاء

*************************************************
(1) روى الطبراني وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من مشى مع أخيه المسلمِ في حاجةٍ حتى تتهيأَ له أثبتَ اللهُ قدمَه يومَ تَزِلُّ الأقدامُ
(2 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (ما من مسلم له أبوان، فيصبح وهو محسن إليهما إلا فتح له بابان من الجنة، ولا يمسي وهو محسن إليهما إلا فتح له بابان من الجنة، ولا سخط عليه واحد منهما فرضي الله عز وجل عنه حتى يرضى) رواه البيهقي والدارقطني.
(3) البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه بلفظ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) ورواه أحمد وزاد فيه : (فَليَبِرّ وَالِدَيْهِ).
(4 ) البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ). وروى الإمام أحمد عنه رضي الله عنهما قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُهُ، فَقَالَ: جِئْتُ لِأُبَايِعَكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا
(5 ) روى الإمام مسلم عن أسير بن جابر، قال: ((لما أقبل أهل اليمن، جعل عمر -رضي الله عنه- يستقرئ الرفاق فيقول: هل فيكم أحد من قَرَن، فوقع زمام عمر أو زمام أويس فناوله - أو ناول أحدهما الآخر- فعرفه، فقال عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس. قال: هل لك والدة؟ قال: نعم. قال: فهل كان بك من البياض شيء؟ قال: نعم، فدعوت الله فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي. قال له عمر: استغفر لي. قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فدعا الله، فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته)، فاستغفر له، ثم دخل في غمار الناس فلم ندر أين وقع. قال: فقدم الكوفة. قال: فكنا نجتمع في حلقة، فنذكر الله، فيجلس معنا فكان إذا ذكر هو، وقع في قلوبنا، لا يقع حديث غيره)). فذكر الحديث.

(6) الدارقطني والمنذري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، والسيوطي عن أبي هريرة رضي الله.
(7) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه




التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات