ميلاد الرسول .. ميلاد للإنسانية من جديد د/ عادل هندي
ذكـرى مولد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلّم
ميلاد الرسول .. ميلاد للإنسانية من جديد
مقدمــة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله منّ على الطائعين
بمحبته ومعيته، ومنح العاصين ستره بكمال رحمته، وقصم ظهور الظالمين بقوة جبروته
وعظمته، الحمد لله ولا يحمد على مكروه سواه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك
له: لا شريك له في ملكه، لا شريك معه في قدرته وإرادته، سبحانه سبحانه؛ هو عزّ كل
ذليل، وهو قوة كل ضعيف، وهو غوث كل ملهوف، وهو ناصر كل مظلوم. قال في كتابه وهو
أصدق القائلين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا وشفيعنا وقائدنا وسائدنا ورائدنا محمدا
عبدالله ورسوله، هو .. مَن هُو؟!! صفي القلب، نقي الفؤاد، طيب المنشأ، كريم
المعشر، أسلم الناس صدرا وأزكاهم نفسا، وأعطرهم -إن شممت منه ريحا
كان- مسكًا، وأحسنهم بحكمة ربه سلوكًا وخُلُقًا، قال عن نفسه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». أخرجه الحاكم في المستدرك عن سيدنا أبي هريرة، وقال عنه: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ البخاري ومسلم»..
أمـا بعـد:
فحياكم الله تعالى أيها الأخوة المسلمون، أحباب الله
ورسوله: طبتم وطاب ممشاكم، وتبوّأتم من الجنّة منزلاً ومقعدًا، فها نحن اليوم
نلتقي مع أشرف الناس، وأكرم الناس، وأرقى مَن خلَق الله، نلتقي مع رسولنا محمد صلى
الله عليه وسلّم؛
لنرى كيف كان منّة من الله على المخلوقات والكائنات!!
كيف كان رحمة من الخالق على الخلْق!!
كيف تحوّل العالَم من الظلام إلى النور، ومن الجهالة إلى
العلم، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الوثنية والشرك إلى العبودية والتوحيد لرب
الأرض والسماء!!!
وذلك من خلال العناصر التالية:
1. العالَم قبل قدوم النبي محمد صلى
الله عليه وسلّم.
2. الإعداد الربّاني لرسول الله محمد
الحبيب.
3. صور من عظمة ونقاء منهج الرسول.
4. كيف نحتفل برسول الله على الوجه
الصحيح؟.
وإليكم البيان التالي
1. العالم قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه
وسلّم:
إِنَّ النَّاظر إلى حال الدنيا والحياة قبل قدوم الرسول
يجدها بلا حياة حقيقية؛ حيث اختفى العقل والوعي، وساد الشرك والوثنية والجهالة
والضلال، في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية. ففي الجانب الاقتصادي
تأخّر وتباطؤ. وفي المجال الاجتماعي ضياع للحقوق وأكل للأموال بغير
حقّ، وأد للبنات مخافة العار، وقتل للأبناء مخافة الفقر. وفي الجانب
الاعتقادي: ضلال ما بعده ضلال؛ حيث زاغت العقول عن الباري والخالق جل وعلا
وأشركوا معه آلهة أخرى، وادعوا له الولد، ومن الناس من عبدوا النار كالمجوس ومن
على شاكلتهم، ومنهم من عبدوا الكواكب والنجوم واعتقدوا نفعها وضرها. وفي
الجانب السياسي والإنساني: استعباد للضعفاء والفقراء واستذلالهم هنا
وهناك.
هذا هو حال الدنيا!!
وها هو نور الله تعالى ورحمته تحل بالأرض كلها؛ إذ أذن
بميلاد خير رسول وأكرم إنسان!
فما إن أذِن الله بميلاده حتى وُلِدت معه كل معاني
الإنسانية، وُلِد معه حياة الأرواح كحياة الأجسام، وُلِد مع ميلاده أرقى مكارم
الأخلاق، وُلِد مع مولده الحق والعدل والحرية وعودة الحقوق للضعفاء والمظلومين
والمقهورين.
2. الإعداد
الرباني للرسول صلى الله عليه وسلّم:
لقد كانت عناية الله تعالى بجميع أنبيائه واضحة جلية في
إعدادهم وتربيتهم وصناعتهم على عينه وذلك مصداقًا لقوله جلّ شأنه: {وَلِتُصْنَعَ
عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقوله جل في عُلاه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
[طه: 41].. غير أنّ النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم قد نال من العناية والرعاية
والإعداد الشيء الكثير والكثير؛ لأنّه خير خلق الله، وأشرف رسل الله، وأكرم مخلوق،
وأرقى إنسان، وهو خاتم النبيين والمرسلين..
ومن ملامح الإعداد الرباني للرسول الحبيب ما يأتي:
1. اختيار المعدن الطيب والمنشأ النقي:
ففي الحديث عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ،
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ
اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ،
وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»
صحيح مسلم..
2. وفاة الأب والأم والجدّ والعمّ وكل
سند؛ ليكون يُتْمُه دليل عناية إلهية: فقد مات أبوه قبل ولادته، وماتت أمه بعد ولادته، ثم مات جدّه الذي كان يحبه
كأكثر ما يحب المحب حبيبه، حتى مات عمّه أبو طالب الذي كان يحميه من أذى المشركين.
وما كان ذلك إلا لبيان كمال العناية الربانية برسول الله، فربه يربيه ويعينه على
الحياة بسند وكرم منه جل وعلا.
3. تحبيب الاختلاء إليه صلى الله عليه
وسلّم في الغار قبل البعثة؛ تنمية للمحبة الذاتية للطّاعة والعبوديّة وتأهيله
للرسالة والنبوّة: فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ،
ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ
فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ
إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ...... كما روى البخاري في صحيحه.
4. حماية النبيّ صلى الله عليه وسلّم من
سقطات الشباب في عمُر الشباب: فيوم أن
تواعد مع أحد أصدقائه ليذهب إلى أحد أندية المشركين غلبته عيناه فنام ولم يستيقظ
إلا عند شروق الشمس، مما يدلل على كمال عناية الله به صلى الله عليه وسلّم.
5. التأديب المباشر للرسول، وذلك مصداقا لما أُثِر: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».
ومن ثم تعوّد فعل الخير منذ أن كان صبيًّا أو شابًّا فكملت أخلاقه وحسنت صفاته
وكان نبيلا في كل حال من أحوال حياته، ولننظر إلى شهادة زوجه خديجة في أول الدعوة
والبعثة: «كَلَّا -أبشِرْ- وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ
لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ،
وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ» كما روى
البخاري في صحيحه.
3. صور من عظمة المنهج النبوي الكريم
أولا: احترام حقوق الإنسان والحيوان
لقد نعمت البشرية بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ
أعلنها قولا وفعلا ضرورة احترام حقوق البشر والحيوان، فها هو صلى الله عليه وسلم
يحترم البشر كل البشر مهما اختلفت أفكارهم وتوجهاتكم ومعتقداتهم، فيوم أن مرّت بِهِ
جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ
نَفْسًا» (حديث متفق عليه).
كما أنّ منهجه قائم على المساواة بين البشر وعدم التمييز
بينهم لا لمنصب ولا لدرجة قرابة أو نسب، أو لكثرة مال أو جاه وسلطان، أبدًا: الناس
سواسية، فلا تجد هذا يقرّب منه لأنه قريبه أو لأنه أكثر مالا أو غير ذلك، فالناس
خلقهم الله جميعًا من نفس واحدة لإعلان مبدأ المساواة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وها هو النبي الأكرم والرسول الأعظم r يقول: «إِنَّ رَبَّكُمْ
وَاحِدٌ، وَأَبَاكُمْ وَاحِدٌ، وَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا
لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ
عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى» [أخرجه أحمد في
مسنده بتحقيق شعيب الأرنؤوط، وقال عنه: إسناده صحيح].
هذا بالنّسبة للبشر، أما الحيوان
واحترام حق الحيوان فحدِّث ولا حرج!!
? هل لكم أن تذكروا معي قول النبي r في شأن الكلاب، ففي الحديث الصحيح: عنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ
مُغَفَّلٍ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
r: "لَوْلَا
أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا
مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، إِلَّا
كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ، إِلَّا نَقَصَ مِنْ
أُجُورِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ" [سنن ابن ماجه ت
الأرنؤوط].
? أو ما تذكرون أمر العصفورة: ففي شأن العصفورة إذا قُتلَت بلا داعٍ أو
احترام لحقها يقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن ابْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا
فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «حَقُّهَا
أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهَا فَيَرْمِيَ بِهِ» [المستدرك على الصحيحين للحاكم: (وقال عنه: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)]. فإذا كانت حقوق الحيوان محفوظة -في الإسلام- بهذه الدرجة، فأوْلى
بالاحترام والتقدير ذلكم الكائن المكرّم -الإنسان- وهو الذي خلقه الله بيده، ونفخ
فيه من روحه، وأسجد له ملائكته تشريفًا وتكريمًا، وعظّم شأنه، ومن أجله وله سخّر
السماء والأرض وما فيهما.
ý
فمن يدّعي بعد ذلك أنّ الإسلام لم يحترم حقوق الإنسان فهو كاذب مخادع ضال
مضلّ!!
ý
وإلى من يستهينون بحياة البشر فيسهمون في إزهاق أرواحهم، ويحرمونهم من أبسط
حقوقهم، هل رأيتم كرمًا إنسانيًّا مثل الذي فعله رسول الله مع هذا الرجل اليهودي،
المخالِف له في العقيدة والدين، لكنه ما خالفه في الإنسانية المشتركة!! فهلا
تعلمتم وأيقنتم بحق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة واحترام المشاعر
والإحساس.. نقول هذا الكلام في زمن امتلأ بالمهانة لكرامة البشر، ولم تحترم
حقوقهم!!
ý
وإلى الذين يدّعون أنهم مناصري حقوق الإنسان: ها هو الرجل الأعظم الذي حمى
الحقوق، وراعى المشاعر، وقدّر الأحاسيس!
ثانيًا: وسطية المنهج
ويسره
فالتشدد ليس من الإسلام، كما أن
التساهل والتفريط ليسا من الإسلام، بل لقد تميّز أسلوبه الدعوي والإنساني بالبساطة
واليسر، فما كان -كما يظن البعض- متشددًا -حاشا وكلا- أو
مطأطئ الرأس بين الآخرين، بل كان عزيزًا بتدينه وإيمانه ودينه.
إن من أهم خصائص هذه الأمة أنها أمة الوسطية، قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].. والوسطية تعني في
أبسط معانيها: العدل والرحمة والحكمة والتوازن، واليسر في كل الأمور..
إنّ هذه الوسطية جعلت من رسالة الإسلام طريقة سهلة
التطبيق والاتباع، كما ساهمت في منح الإسلام طبيعة الصلاحية للتنفيذ في أي زمان
ومكان ومع أي إنسان؛ لأنه دين الإنسانية.
وهذا خبر النفر
الذين جاءوا يسألون عن عبادته، فيروي لنا أنس قائلاً: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى
بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا،
فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا
أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ
وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا،
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ
الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ
لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» [رواه البخاري]. وسطية في العبادة
بلا إفراط أو تفريط!!
كما أن منهجه اتسم بالوسطية واليسر في الحياة وطبائعها،
يأكل كما يأكل الناس، ويهتم بأنواع الطعام والشراب، كما يهتم بالآخرة في ذات
الوقت، وهذه قمّة الوسطية والتوازن، فقد ورد في المعجم الكبير للطبراني، بإسناد
حسـن، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ خَارِجَةَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ نَفَرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،
فَقَالُوا: حَدَّثَنَا بَعْضٌ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: وَمَا أُحَدِّثُكُمْ؟ كُنْتُ جَارَهُ، «فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ
أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَكَتَبْتُ الْوَحْيَ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا
مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ
ذَكَرَهُ مَعَنَا» ، فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ...
ثالثًا: الصدق والأمانة
.. وعدم الكذب والخيانة
العجب كل العجب من مقام هذا النبي الكريم؛ الذي اشتهر
بين قومه قبل الإسلام بالصادق الأمين، والذي ما إن أعلن الإسلام رسالة جديدة إلى
القوم، ما توقف القوم عن إيداع أماناتهم لديه، حتى أنه لما أراد الخروج من مكة
مهاجرًا إلى المدينة ترك عليا ابن عمّه خلفه في فراشه ليرد الأمانات إلى القوم؛
حتى لا يقال أنه نصب عليهم أو أكل أموالهم -وما كان ليحدث هذا
منه أبدًا رغم عداوة القوم وإيذائهم له-.
إنّ أمانته وصدقه هذا دفع أبا سفيان ليشهد بالحق الذي
يعرفه وما كان له أن يكذب عندما وقف أمام هرقل وسأله عن أمانة النبي وصدقه،
فأعلنها صريحة: ما جربنا عليه كذبًت قطّ!..
أمانته وصدقه هما اللذان دفعا امرأة كريمة عزيزة كخديجة
لتعرض عليه الزواج بها!!
أمانته وصدقه اللذان كانا سببًا في إسلام كثير من أبناء
أواسط وشرق آسيا يوم أن هاجر إلى هذه البلاد أتباعه تجارًا، ورأى الناس أخلاقهم
فأسلموا دون أن يتحدثوا عن الإسلام إلا بالصدق والأمانة في المعاملة!!
وما كان ليغدر أبدًا رسول الله أو يخون الأمانات، فهو
الذي يحفظ قول ربه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}
[غافر: 19] وهو الذي يدرك بيقين قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى
مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].. وهو نفسه صلى الله عليه وسلّم القائل: كما
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ
القِيَامَةِ» (صحيح البخاري)..
وفي الحديث الطويل –كما عند الترمذي- عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا صَلَاةَ العَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَلَمْ يَدَعْ
شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ
حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ
خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ،
أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» وَكَانَ فِيمَا قَالَ: «أَلَا
لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ»
قَالَ: فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا،
فَكَانَ فِيمَا قَالَ: «أَلَا إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ
القِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَلَا غَدْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عَامَّةٍ
يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ»
فحري بالخونة وأصحاب الغدرات أن يعودوا إلى رُشْدِهِم
ورَشَدِهِم قبل فوات الأوان، ويأتي موعد اللقاء مع الذي لا تخفى عليه خافية،
وسينال من العقوبة ما الله به عليم!!
رابعًا: العفو والتسامح
.. والحلم والرفق بالآخرين:
ومن أعظم خصائص منهج النبي الكريم أنه كان عفوًا
متسامحًا، حليمًا بالناس، رفيقًا بالمخطئين عن جهالة!!
فهو الذي عفا عن أعدائه يوم أن تمكّن من رقابهم يوم فتح
الله عليه مكة.. وما قولته الشهيرة عنا ببعيد يوم أن قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وكما يقول الشاعر:
وعدت للبيت عودا لا أعز، وها *** أنت
القدير عليهم أينما ذهبوا
وجاءك القوم في ذل، وقد نكسوا *** رؤوسهم..
وعليهم سيطر الرعب
(ماذا تظنون إني فاعل بكم) *** ساءلتهم..
وقلوب القوم تضطرب
قالوا: وأدنى أذى منهم أتاك إذا *** عدلت فيهم أبيدوا.. بعد أن غُلبوا
أخ كريم علينا أنت، وابن أخ *** وران صمت.. وكل قلبه يجب
قلت: اذهبوا انتم الطّلقاء. فانقلبوا
*** لكن على ما مضى منهم قد انقلبوا
قلت اذهبوا؟! يا له الرحمن من خلق ***
هو الرسالة شقت دونها الحجب!!
وجاءك النصر. نصر الله واكتملت *** بك
الرسالات وانقادت لك الحقب
يا أكمل الناس في قول، وفي عمل *** أمسى
لهجرتك التاريخ ينتسب
تمضي القرون وتبقى أنت قدوتها *** فأنت
من بهداه تمت الكتب
وهو الذي تسامح مع الرجل الذي بال في المسجد وعلّمه برفق
كيف هي حُرْمة بيوت الله!!
وهو الذي بشّر المتخلفين يوم تبوك (كعب، وهلال، ومرارة) بتوبة
الله عليهم كما نزلت الآيات، فان يفرح ببشرى الناس، ولا ييئسهم من رحمة الله
أبدًا، ويفتح لهم أبواب الرحمة والعطف والكرم!!
وهو النبي القائد الزعيم، الذي امتلأ قلبه رحمة وشفقة
على أتباعه وجنده، فما قسى قلبه ولم يقتل نفسًا أو يزهق روحًا أو يأذن أبدًا بذلك،
وكان رفيقا بالرعية، وهو الذي دعا ربه بقوله كما في صحيح مسلم: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي
شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي
شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ». فهنيئًا لمن تمثّل خطاه، وسار على
هديه وهداه....
نعم إنه رسول الله ...
الرحمة المهداة:
لقد أرسل الله-تبارك وتعالى- رسوله محمّدا صلّى الله عليه
وسلّم رحمة للخلائق عامّة مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنّهم، وجعله رءوفًا رحيمًا بالمؤمنين
خاصّة فمن قبل الرّحمة وشكر هذه النّعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها خسر
الدّنيا والآخرة... ويؤيّد هذه الخصوصيّة قوله تعالى: [وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ]..
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال: قيل: يا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ادع الله على المشركين. قال: «إنّي لم أبعث لعّانا وإنّما بعثت رحمة»
(رواه مسلم في صحيحه)
وعنه -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «يا أيّها النّاس إنّما أنا رحمة مهداة» «رواه الحاكم في
المستدرك.. واللفظ له وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي»
وعن أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم يسمّي لنا نفسه أسماء، فقال: «أنا محمّد، وأحمد، والمقفّى والحاشر،
ونبيّ التّوبة، ونبيّ الرّحمة» «رواه مسلم في صحيحه».
4. كيف
نحتفل برسول الله على الوجـه الصحيح؟:
إنّ من المعلوم أن ثمت خلاف يحدث كل عام في مناقشة قضية
الاحتفال بمولد رسول الله، ونقول في هذا المقام: أنّ قضية الاحتفاء والاحتفال
بمولد رسول الله تعالى بالطريقة الصحيحة فرض على كل مسلم محب لنبيه ورسوله محمد.. لكن
طريقة الاحتفال هي التي تحدد الحلال والحرام منها..
ومن صور الاحتفال الحقيقي برسولنا صلى الله عليه وسلّم ما يأتي:
1) طاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا نهى
عنه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
[الحشر: 7].
2) معايشته في سيرته والتخلق بأخلاقه
في كل حدث من أحداث الحياة، قال تعالى: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وهو القائل:
إنما بعثت لأتمم مكارم –محاسن- صالح الأخلاق... فلنلتزم بأخلاقه، فالاحتفاء
الحقيقي يكون بالتخلق بأخلاقه العظيمة..
3) الاتحاد تحت رايته والتمسك بوحدة
أمته: فإنه حينما تعود الأمة للوحدة
والاعتصام فقد احتفلنا بحق حق الاحتفال، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
4) الدعوة إلى منهجه وسنته وسيرته،
وإرشاد الناس للخير: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَلِّغُوا
عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ
عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه
البخاري)..
5) نصرة المظلوم من أتباع دينه
والسائرين على طريقته، فكما عند مسلم
في صحيحه من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ،
وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ
الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". وهو القائل أيضًا: كما في الصحيح
عند البخاري –رحمه الله-: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ
وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،
وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ
يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
فهيا أيها المسلمون لنحتفي ونحتفل بمولد رسول الله بعودة حكيمة وحميدة إلى سنته
وسيرته، ولنتخلّق بأخلاقه، ولنهتد بهديه، ولنقتف أثره في كل حين... رزقنا الله
وإياكم شفاعته ومحبته ورفقته في أعلى الجنة يارب العالمين...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين...