محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي الرحمة فلنحمل رحمته للعــــــالميـــــــــــن للشيخ / محمد حســـــن داود
الموضـــــوع : الحمد لله رب العالمين،
القائل في كتابه العزيز(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)الأنبياء107)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل
في حديثه الشريف " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ
" مستدرك الحاكم) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين، وبعد
لقد جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري، فتألقت روحه الطاهرة بعظيم الشمائل
والخصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت أخلاقه القريب والبعيد، وشملت رحمته الغريب
والصديق، ولقد صور لنا القران الكريم هذا جليا واضحا إذ يقول الحق سبحانه وتعالى (وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)الأنبياء107) فما من عبد صغيرا كان
أو كبيرا، قريبا كان أو بعيدا ، مؤمنا كان أو كافرا، إلا وكان له من هذه الرحمة نصيب
.
الرحمةُ المهداةُ جاء مبشِّرا *** ولأفضلِ
الأديان قــــــام فأنذرا
ولأكرمِ الأخلاق جاء مُتمِّمًا *** يدعو
لأحسنِها ويمحو المنكرا
صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما قـــــام
عبدٌ في الصلاة وكبّرا
قال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ)التوبة 128) فلقد بعث عليه الصلاة وأزكى التسليم رحيم شفيق حريص علينا يشق
عليه عصياننا، رءوف بنا، يسجد تحت عرش الرحمن يوم القيامة فلا يرفع رأسه حتى يقال له
يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،
فيقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم:يارب أُمَّتِى أُمَّتِى.
فلقد تجلّت رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته
في الكثير والكثير من المظاهر والمواقف، إذ رق قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لجميع
أبناء أمته حتى بكى خوفا عليهم أن يصيبهم من الله عذاب، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضيَ
اللهُ عنهُ قالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "اقْرَأْ
عَلَيَّ الْقُرْآنَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلْيكَ
أُنْزِلَ؟! قَالَ:"إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"فَقَرَأْتُ
عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى جِئْتُ إِلى هذهِ الآيَة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاءِ شَهِيدَاً) النساء41) قالَ:"حَسْبُكَ
الآنَ "فالْتَفَتُل إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان. متفقٌ عليه)و عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)
سورة إبراهيم آية 36 الآيَةَ )، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
سورة المائدة آية 118 )، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ ، أُمَّتِي ، أُمَّتِي
، وَبَكَى ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
، فَسَأَلَهُ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا
قَالَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ ، فَقَالَ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ
، فَقُلْ : إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ " رواه مسلم) بل
بلغت رحمته صلى الله عليه أن يؤثر أمته على نفسه بدعوته المستجابة شفاعة لهم ورحمة
بهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ
دَعْوَتَهُ؛ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛
فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ
شَيْئًا"(متفق عليه)
ولقد بلغت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
بأمته حدا لا يتخيله عقل إذ كان يترك العمل وهو يحبه خشية أن يفرض عليهم فيشق عليهم
أداؤه، تقول أم المؤمنين عائشة "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ
النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ" البخاري ومسلم) فانظر في سنته وسيرته تراه يمتنع
عن الخروج إلى قيام الليل جماعة في رمضان خشيةَ أن يُفرَضَ على المسلمين، و تأخر في
الردِّ على من سأل عن تكرار الحج في كل عام خشية فرضه بهذه الصورة على المسلمين، و
لما فرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال يقول أمتي أمتي حتى خففت إلى خمس في العمل و
خمسين في الأجر رحمة بأمته، وها هو نبي الرحمة يدخل في الصلاة ينوي أن يطيل فيها، فإذا
به يسمع بكاء الصبي فيتجوز فيها شفقة بالصغير من جانب وبأمه من اخر، إذ يقول
"إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ
مِنْ بُكَائِه"رواه البخاري)وصدق أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه إذ يقول"مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهّ عليه
وسلم" فكان بالأطفال والنساء والشباب والرجال رحيما ، ولك أن ترى حواره الرحيم
الزكي الطيب الرشيد مع شاب كادت الشهوات أن تغلب فكره وقلبه ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ
, قَالَ : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا , فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ
, فَزَجَرُوهُ , قَالُوا : مَهْ مَهْ , فَقَالَ : " ادْنُهْ " , فَدَنَا
مِنْهُ قَرِيبًا , قَالَ : فَجَلَسَ , قَالَ : " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟
" , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : " وَلَا
النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ " , قَالَ : " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ
؟ " , قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ
, قَالَ : " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ , قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ
لِأُخْتِكَ ؟ " , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ
: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ , قَال : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ
؟ " , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : "
وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ , قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟
" , قَالَ : لَا وَاللَّهِ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ , قَالَ : " وَلَا
النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ , قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ , وَقَالَ
: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ , وَطَهِّرْ قَلْبَهُ , وَحَصِّنْ فَرْجَهُ
" , فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ .رواه احمد)
ولم تقف رحمته صلى الله عليه وسلم عند هذا
الحد بل اتسعت حتى شملت من كان على غير دينه، والشواهد على هذا أكثر من أن تعد أو تحصى،
وهل من شاهد اكبر من حرصه وسعيه صلى الله عليه وسلم لنجاتهم في الدنيا والآخرة فعَنْ
أَنَسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ".
فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : أَطِعْ أَبَا
الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَقُولُ:"الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ بِى مِنَ النَّارِ"سنن أبي داود) وبعين المسلم الوسطى
المعتدل الرحيم، وبعيدا عن أهل الهم والغم والتخريب والتدمير من أبناء التطرف والإرهاب،
تدبر معي هذه المواقف الشريفة الكريمة الرشيدة الرحيمة لحبيبنا صلى الله عليه وسلم
مع من كان على غير دينه فلما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم في أحد قال له الصحابة
ادع على المشركين، فانظر ماذا كان جوابه، قال"اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون"
شعب الإيمان للبيهقي) و لقد كان أشد يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم
احد، يوم أن اعتدى عليه أهل الطائف إذ سخروا أطفالهم في سبه وشتمه، ورميه بالحجارة
حتى أدموا قدميه الشريفتين، فلما خيره مَلَكُ الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين قال له
النبي - صلى الله عليه وسلم "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" متفق عليه) ولما قيل
له يا رسول الله ادع الله على دوس كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
، قَالَ : جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ
عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ " رواه البخاري)
فالعجب كل العجب أن نجد مظلة الرحمة النبوية تمتد لترفرف على من ناصبوه العداء وحاربوه
وفعلوا معه كل ما يستطيعون من الكيد والإيذاء، فيوم الحديبية وحده يكفي دليلا على عظمة
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهاهو يقترب من مكة التي خرج منها مطرودًا، وهو اليوم
في موطن القوة يستطيع أن يفاجئ القوم ويفعل بهم ما يريد، لكنه يؤثر السلم ويقبل شروط
أهل مكة التي لم يرضَ بها كثير من المسلمين في حينها، فقبلها حتى لا تراق قطرة دم.
نعم، حتى في الحروب ترى رحمته صلى الله
عليه وسلم تحوط المكان والزمان فينهى عن قتل النساء والشيوخ والأطفال عن رَبَاحِ بْنِ
رَبِيعٍ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ
: انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ ؟ فَجَاءَ فَقَالَ : عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ
، فَقَالَ : مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ قَالَ : وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ : قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً
وَلَا عَسِيفًا" رواه أبو داود). و هاهو صلى الله عليه وسلم يدخل مكة يدخل مكة
بجيشه العظيم الذي أعجز أهل مكة أن يقاوموه – مجرد مقاومة- فيسمع سعد بن عبادة رضي
الله عنه يقول مزهوًا: "اليوم يوم الملحمة"، فيردّ النبي صلى الله عليه وسلم:
"بل اليوم يوم المرحمة"! ثم تأتي لحظة النصر فيقف أهل مكة جميعًا أمامه خاضعين
مستسلمين ينتظرون أيَّ قضاء يقضي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم:
"مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟ ". قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ
وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ : " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، قالها
لهم وفيهم الذين حاصروه هو ومن معه ومنعوا عنهم الطعام فمات من مات معه من الصغار والكبار
، وفيهم الذين قتلوا عمه حمزة (رضي الله عنه) ومثلوا بجثته وحاولوا أكل كبده، وفيهم
الذين باتوا يدبرون له المكايد.
إن هذه الرحمة النبوية المنقطعة النظير
في البشر لم تقف عند حدود البشر، بل امتدت لتشمل الحيوان، فهاهو الرحمة المهداة يوصي
بالرفق في الحيوان والإحسان إليه حتى في اللحظة التي يفارق فيها الحياة – عند الذبح-
فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"رواه الترمذي)فكما
اوصى المصطفى بالرحمة بالإنسان لا يزال صلى الله عليه وسلم يوصى بالرحمة بالحيوان والطير
حتى قال "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ"النسائي
وابن حبان) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي
هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا
وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"(
متفق عليه)، وفي المقابل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ
كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ”(متفق عليه)، و«المُوقُ»: الخف.
وَ «يُطِيفُ»: يدور حول، "رَكِيَّةٍ": البئر.
و لم تقف رحمته صلى الله عليه وسلم عند
كل ما فيه روح بل نال رحمته كل خلق الله فتدبر حاله صلى الله عليه وسلم إذ يتعاطف مع
جبل أُحُد، الصخر الأصم، ولا يريد للناس أن تتشاءم منه لما حدث عنده للمسلمين في غزوة
احد ، فلا يريد لهم أن يكرهوه دون جريرة ولا جريمة؛ فقال صلى الله عليه وسلم ، وهو
يشير إلى جبل أُحد: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ".
هذه صور من رحمة نبينا تجسد رحمته، فلنحمل
للعالمين رحمته، إذ أن الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، والأمم باقية ما بقيت
أخلاقها، وتطيبُ الحياةُ بين أبنائها وتصلحُ وتزدهرُ بالتراحُم والتعاطُف، وتشقَى المُجتمعات
بالاعتداء والعُدوان وفُقدان التراحُم، لذلك ولغيره الكثير ذكرت صفة الرحمة بمشتقاتها
في القران الكريم أكثر من ثلاثمائة مرةً ،وان من هذا ليتضح للجميع أن الرحمة من قوائم
وقيم هذا الدين، فعن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال"مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسَد الواحد
إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهَر والحُمَّى" متفق عليه)
فالرحمة بالآباء والأمهات والنساء والأولاد والأقارب والجيران واليتيم والفقير والمسكين
والمعسر وذا الحاجة، من قيم ديننا و أخلاق نبينا وهى إلى الغفران نهجنا والى الجنة
طريقنا فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا
مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" والرحمة مفتاح قلوب الناس؛
فإن السبب الحقيقي الذي جمع الناس حول رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما هو الرحمة التي
أودعها الله قلب نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)آل
عمران 159)كما أنها مفتاح لباب رحمة الله تعالى، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ
وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللَّهُ
لَكُمْ "
وانك لتعجب اشد العجب حين تسمع من جانب
قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل لم يقبل أولاده ،كما جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ
، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ
نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ؟ " وترى من جانب آخر أفعال العنف والإرهاب
والتهديد وترويع الآمنين من جماعات متطرفة قست قلوبهم وعميت أبصارهم، نزعت من قلوبهم
الرحمة وقد قال رسولنا " لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ
" أناس يتدثرون بثياب الإسلام والإسلام منهم براء فقد قال الحبيب المصطفى
" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرفَ كَبِيرِنَا
" يعنفون ويهددون ويروعون الآمنين ويسفكون الدماء وينتهكون حرمة الأموال والأعراض
ويبثون في المجتمع الخوف والقلق والاضطراب ، مع أن دينا الوسطى السمح يجرم هذه الأفعال
ويذم أهلها فيقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم" من حمل علينا السلاح فليس منا
"، حتى لو كان ذلك الترويع على سبيل الهزل من غير ضرر أو اعتداء؛ فعَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى
حَبْلٍ مَعَهُ ، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا " . رواه أبو داود
)وإذا كان هذا فقط لمجرد الترويع فكيف بمن يسفك الدماء وينتهك الأعراض ويغتصب الأموال
والله جل وعلا يقول (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ
مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة32)
فتجد أن الإسلام اعتبر النفوس كلها واحدة، دون نظر إلى عقيدة أو لون أو جنس، فكان من
قدم لإحداها خيرا رأفة ورفقا ورحمة فكأنما قدم الخير للإنسانية بأسرها (أُولَٰئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )البقرة218﴾، ومن اعتدى على
إحداها كأنما اعتدى على النفوس جميعها، فحق فيهم قول رسولنا (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا
يُرْحَمُ " البخاري) وان الوقوف صفا واحدا متماسكا مترابطا في وجه هؤلاء الذين
لم يرحموا الشيوخ الركع،والأطفال الرضع، والنساء الثكالى، اوالأيامى واليتامى، والأبرياء
الحزن،ولا حتى دور العبادة؛ لهو سبيل جليل عظيم طيب زكى لإسبال ثوب الرحمة على المجتمع
كله،أما إهماله ففيه الهلكة للمجتمع، ولقد قال صلى الله عليه وسلم " مَثَلُ الْقَائِمِ
عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ
فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا
إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا
خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ
وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا
جَمِيعًا "البخاري )
غير أن المتدبر في أحوال بعض الناس يفتقد
الرحمة في البعض، يفتقدها في كل غاش في بيعِ وشراء ،في كل محتكر لطعام الناس وما يحتاجون
إليه، يفتقدها في كل مروج للمخدرات، يفتقدها في من أهمل حق اليتيم،اواكل ماله ظلما،
في من عق والديه، ومن أكل ميراث النساء، ومن اعتدى على المال العام بإهمال آو غلول،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا" .
فحرى بنا أن نقتدي برسولنا في كل شيء ولا
سيما في رحمته فهو صلى الله عليه وسلم القائل " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ " مستدرك الحاكم)
ادرْ إلى الخيرِ يا ذا اللبِّ مغتنمًا
*** ولا تكنْ مِـــن قليلِ العرفِ محتشما
واشكرْ لمولاك ما أولاك من نعمٍ *** فالشكرُ
يستوجبُ الإفضالَ والكرما
وارحــمْ بقلبِك خلقَ الله وارعَهُم
*** فإنَّما يرحمُ الرحمــــــــنُ مَن رَحِما
(فاللهم ارحم ضعفنا, واجبر كسرنا, و تولى
أمرنا, وأمنا في أوطاننا، واختم بالصالحات أعمالنا)
===== كتبه =====
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومدرس