نعمة الماء والحفاظ عليها د/ خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية الماء في حياة
الإنسان
العنصر الثاني: دعوة الإسلام إلى المحافظة
على الماء وعدم الإسراف فيها
العنصر الثالث : الذنوب والمعاصي وأثرها
على حجب نعمة الماء
العنصر الرابع: وافعلوا الخير لعلكم
تفلحون
المقدمة:
أما بعد:
العنصر الأول: أهمية الماء في حياة
الإنسان
عباد الله: إن الماء نعمةٌ من الله
عظيمةٌ وهبةٌ من المولى جزيلة؛ به تدوم الحياة وتعيش الكائنات وتخضر الأرض وتنبت
من كل زوج بهيج؛ وهو عنصر
الحياة وسبب البقاء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30) ؛ وبه تعقد الآمال
وتطيب النفوس وتهدأ الخواطر وتتفاءل الأرواح وتنشر الرحمة؛
قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى: 28) وهو أغلى من
المُلك وأثمن من الجواهر وهو نعمة الله الكبرى ومنتهِ العظمى؛ قال تعالى:{
أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ
الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (الواقعة: 68، 69)...
ومما يؤكد أنه أغلى من الملك هذه القصة الرائعة: فقد روي أن ابن
السماك دخل على هارون الرشيد الخليفة العباسي يوما؛ فاستسقى الخليفة فأُتى بكأس
بها؛ فلما أخذها قال ابن السماك : على رسلك يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة
بكم كنت تشتريها؟! قال: بنصف ملكي. قال: اشرب هنأك الله تعالى يا أمير المؤمنين.
فلما شربها قال: أسألك بالله لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها؟!
قال: بجميع ملكي. قال ابن السماك : لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء. فبكى هارون
الرشيد ...
يا الله !! ملك يمتد من الصين
شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً لا يساوي شربة ماء ..!!!
عباد الله: إن الماء أصل المعاش وسبيل
الرزق، يقول عمر رضي الله عنه: " أينما كان الماء كان المال، وأينما كان
المال كانت الفتنة."
وإن كثرة ذكر الماء في كتاب الله بمفرداته ومكوناته من البحار
والأنهار والسحاب يدل على عظم أثره في حياة البشرية؛ فهذا السائل المبارك هو أغلى
ما تملك الإنسانية لاستمرار حياتها بإذن الله، أدرك ذلك الناس كلهم كبيرهم وصغيرهم
عالمهم وجاهلهم، حاضرهم وباديهم، عرفوه في استعمالاتهم وتجاربهم وعلومهم، إن خف
كان سحاباً، وإن ثقل كان غيثاً ثجاجاً، وإن سخن كان بخاراً، وإن برد كان ندى
وثلجاً وبرداً؛ تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار :
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] وقال:
{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ}
[المؤمنون:18].
أيها المسلمون: إن السعي في حصر خصائصه
ووظائفه ومنافعه وفوائده تعجز الحاصرين، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء،
ولا دواء إلا بالماء ولا نظافة إلا بالماء، ثم لا زراعة إلا بالماء، بل ولا صناعة
إلا بالماء؛ ولم تنقص قيمته لا بتقدم الإنسانية ولا بتخلفها، بل لقد زادت أهميته
ثم زادت، حتى صاروا يتحدثون عن الأمن المائي والصراع على موارد المياه ومصادرها
ومنابعها.
الماء هو عماد اقتصاد الدول، ومصدر رخائها ، بتوافره تتقدم وتزدهر،
وبنضوبه وغوره وشح موارده تحل الكوارث والنكبات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].. { وَإِنَّا
عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].
كما تبرز أهمية الماء في أنه يغطى 71% من مساحة الأرض، كما يرى البعض
أنه من المتوقع أن تندلع الحروب في المستقبل القريب بسبب الصراع على الموارد
المائية, نظراً لتقلص حجمها وكميتها، وانخفاض جودتها بسبب التلوث, ولذلك فإن الدول
تشرع القوانين للحفاظ على الماء وصيانته من التلوث، لكن هذه القوانين غير كافية،
ولا بد من وجود الوازع الديني للحفاظ على الماء، وقد سبقت الشريعة الإسلامية
القوانين الوضعية في الإشارة إلى أهمية الحفاظ على الماء.
فالماء ليس ملكاً لأحد بل هو
منة وعطية للخالق - عز وجل- للناس جميعاً فيقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
صراحة في حديثه الصحيح «إن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» . (سنن ابن
ماجه).
وموجب هذه المشاركة ألا يتعدى إنسان على حق الآخرين في استعمال الماء
سواءٌ في كمه أو كيفه.
لذلك نهى الإسلام عن منع الماء عن المحتاجين إليه، وذلك للحفاظ على
أرواحهم من الإهلاك، وتوعد المانعين بالعذاب الأليم في الآخرة، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا
أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ ؛ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؛ وَرَجُلٌ
مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا
مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ " ( البخاري ومسلم).
أحبتي في الله: ولأهمية الماء في جميع
شئون حياتنا أن الله جعله ليس له لون ولا طعم ولا رائحة!! فلو كان للماء لون
لتشكلت كل ألوان الكائنات الحية بلون الماء الذي يشكل معظم مكونات الأحياء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30) ؛ ولو
كان للماء طعم لأصبحت كل المأكولات من الخضار والفواكه بطعم واحد وهو طعم الماء
فكيف يستساغ أكلها؟!! {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}( الرعد:
4) ؛ ولو كان للماء رائحة لأصبحت كل المأكولات برائحة واحدة فكيف يستساغ أكلها بعد
ذلك؟! لكن حكمة الله فى الخلق اقتضت أن يكون الماء الذى نشربه ونسقى به الحيوان
والنبات ماء عذبًا أى بلا لون ولا طعم ولا رائحة. فهل نحن أدينا للخالق حق هذه
النعمة فقط؟!
ولم تقف الحكمة فى ماء الحياة! ولكن انظر إلى هذه المياه المختلفة،
ماء الأذن مر ؛ وماء العين مالح ، وماء الفم عذب! فاقتضت رحمة الله أنه جعل ماء
الأذن مرًا فى غاية المرارة: لكى يقتل الحشرات والأجزاء الصغيرة التى تدخل الأذن،
وجعل ماء العين مالحًا: ليحفظها لأن شحمتها قابلة للفساد فكانت ملاحتها صيانة لها،
وجعل ماء الفم عذبًاَ: ليدرك طعم الأشياء على ما هى عليه إذ لو كانت على غير هذه
الصفة لأحالها إلى غير طبيعتها. حقًا لا نملك إلا أن نقول: سبحان الله !!!!
العنصر الثاني: دعوة الإسلام إلى المحافظة
على الماء وعدم الإسراف فيها
عباد الله: لقد دعا الإسلام إلى نظافة
المياه وذلك بالمحافظة على تنقيتها وطهارتها، وعدم إلقاء القاذورات والمخلفات
والبقايا فيها، باعتبار أن الماء أساس الحياة، وقد جاءت أوامره - صلى الله عليه
وسلم - ناهية عن أن يُبال في الماء الراكد، فَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - : " أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ
الرَّاكِدِ" (مسلم) ، كما يشمل النهي البول في الماء الجاري وفي أماكن الظل
باعتبارها أماكن يركن إليها المارة للراحة من وعثاء السفر، وعناء المسير، وربما
لأن الشمس لا تدخلها فلا تتطهر فتصبح محط الأوبئة وموضع الأمراض، وفي الحديث:
" لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي
ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " (متفق عليه).
والعلة من ذلك حتى لا تنتشر الأمراض
والجراثيم، وبهذا سبقت السنّة بالحث على حماية البيئة من التلوث، بل عُدَّ للمقصر
في الطهارة عذابٌ أليم، فَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه
وسلم - عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا
يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ
وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"( متفق عليه).
كذلك نهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الإسراف
في الوضوء؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ
أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ
الْوُضُوءِ؟ فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا . ثُمَّ قَالَ:" هَكَذَا
الْوُضُوءُ ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ "(
ابن ماجة والنسائي بسند حسن). وإذا كان هذا في شأن عبادة، فما ظنك بما دون العبادة
؟!!!
وعَنْ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ
مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ فَقَالَ :
أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ.
" (أحمد وابن ماجه).
كما نهى
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المؤمنَ أن يزيد على وضوئه ثلاث مرات؛ فعن عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: " هكذا الوضوء؛
فمَن زاد على هذا، فقد أساء، وتعدَّى، وظَلَم ". ( النسائي) ؛ قال البخاري: " بَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً
مَرَّةً؛ وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ؛
وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْإِسْرَافَ فِيهِ؛ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". (صحيح البخاري).
فالماء
نعمةٌ عُظمى، وهبةٌ ومنحةٌ كبرى، ورسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضرب للأمة
أروعَ الأمثلة في المحافظة على هذه النعمة، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
"كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتوضأ بالمُد، ويغتسل بالصَّاع، إلى
خمسة أمداد"؛ ( رواه مسلم) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ :" يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ مُدٌّ ، وَمِنَ
الْغُسْلِ صَاعٌ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لاَ يُجْزِئُنَا ، فَقَالَ : قَدْ كَانَ
يُجْزِئُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ، وَأَكْثَرُ شَعَرًا ، يَعْنِي النَّبِيَّ
صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ. " ( ابن ماجة بسند صحيح).
أيها المسلمون: إن الإنسان المعاصر يسرف
في الماء اسرافاً لا حدود له؛ وقد وصل استهلاكه للماء إلى أرقام من الإسراف مخيفة،
وبخاصة ما يصرف في الاستحمام والمراحيض والسباحة، وسقي الحدائق وأمثالها، والمستعمل
في الشرب والطهي لا يتجاوز نسبة (2%).
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى قد
وعدنا الله بالمزيد إن شكرنا نعمة الماء، وبالعذاب إن قصرنا وكفرنا بها وأسرفنا في
استخدامها؛ حيث قال: {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)؛ فالماء نعمة فإذا
استخدمته في طاعة وحافظت عليه فقد شكرت النعمة وأديت حقها؛ فبذلك تنال الرحمة
والمغفرة ؛ أما إذا استخدمته في معصية وأسرفت فيه؛ فقد ظلمت نفسك وكفرت بالنعمة
ولم تؤد حقها فبذلك دخلت في دائرة الظلم والكفران !!
إذاً فالمــاء نعمة عظيمة تحتاج إلى الشكر وإنَّ شُكْرَ اللهِ تباركَ
وتعالَى على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ
إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلاَلِه، والاقتصادِ
والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ
سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحاً في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ
اللهُ تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ
مَنْهيّاً عنهُ وممنوعاً مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى
أَكْثَرُ مَنْعاً وأشدُّ خَطَراً.
العنصر الثالث : الذنوب والمعاصي وأثرها
على حجب نعمة الماء
عباد الله: تعالوا نعيش مع حضراتكم في
هذا العنصر الهام والذي له علاقته الوثيقة بواقعنا المعاصر، لأن المعاصي والذنوب
وارتكاب المحرمات لها أثرها السيئ في حجب النعم والبركات عامة ونعمة الماء خاصة؛
وقد تضافرت نصوص القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة في ذلك. قال تعالى في النعم
والبركات عامة:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }(الأعراف: 96)، وقال في الماء خاصة:{
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}[الجـن:16].
ومن السنة ما روي عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمْ
الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمْ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ ؛ وَلَمَا
أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ " ( أحمد والحاكم وصححه ). ، وعن عبدالله بن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ
خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ : لم تَظْهَرِ
الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ
والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا ، ولم يَنْقُصُوا
المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ
السلطانِ عليهم ، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ
، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا ، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ
اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم ، وما لم
تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ
إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم” (ابن ماجة والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
فتأملوا حكمة الله تعالى في حبس الغيث عن عباده، وابتلائهم بالقحط إذا
منعوا الزكاة، وحرموا المساكين، كيف جوزوا على منع ما للمساكين قِبَلَهُم من القوت
بمنع الله ماء القوت والرزق وحبسه عنهم؛ فقال لهم بلسان الحال: منَعتم الحق
فمُنعتم الغيث، فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلَكُم؟!!
ويحضرني قصة في حديث تربط أداء الزكاة بالعطاء والبركة؛ وإنزال الماء
من السماء لسقي زرع صاحب القصة خاصة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ
مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ : اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ ،
فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ
تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ
، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ
: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ ؟ قال : فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ ،
فقال له : يا عبدَ الله ، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي ؟ فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ
صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يقولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ
لاسمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ، فَقَالَ : أمَا إذ قلتَ هَذَا ، فَإنِّي
أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أنَا
وَعِيَالِي ثُلُثاً ، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ » . ( مسلم).
فمدار إمساك المطر وحجبه أو إنزاله وإدراره على المنع والعطاء من
العبد نفسه وبكسبه. لذلك كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا رأى السحاب قال: في هذه
والله رزقكم، ولكنكم تحُرمونه بخطاياكم وذنوبكم. وقال الله تعالى: {وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فالرزق المطر، وما توعدون
به الجنة، وكلاهما في السماء.
ومن أقوال السلف : قال مجاهد:
إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَنَة – أي : القحط - وأمسك
المطر , وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم . وقال عكرمة : دواب الأرض وهوامها ، حتي
الخنافس ، والعقارب يقولون : مُنعنا القطر بذنوب بني آدم .
ولذلك كان المسلمون على تعاقب العصور والأزمان ينظرون إلى تأخر المطر
وقحط السماء وجدب الأرض على أنه نوع من العقوبة الإلهية بسبب الذنوب والمعاصي
والسيئات فيبادرون إلى التوبة والإنابة إلى الله. فقد خرج أهل دمشق يستسقون وفيهم
بلال بن سعد فقام فقال : يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا : نعم ، قال
: اللهم إنك قلت : { ما على المحسنين من سبيل } ، وقد أقررنا بالإساءة ، فاعف عنا
واسقنا ، فسُقي الناس يومئذ بإذن الله ...
أحبتي في الله: أسوق لكم هذه القصة
الجميلة والتي فيها العبرة والغرض المنشود؛ وهي من الإسرائيليات التي نستأنس
ونستشهد بها ؛ وقد ذكرها الإمام ابن قدامة
في كتابه التوابين فقال: روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه
السلام فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث فقام
معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفاً أو يزيدون فقال موسى عليه السلام: إلهي!
اسقنا غيثك: وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ
الركع فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارة؛ فأوحى الله إليه: يا موسى كيف
وفيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي؟! فناد في الناس حتى يخرج من بين
أظهركم فبه منعتكم فقال: موسى إلهي وسيدي! أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ وهم
سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك النداء ومني البلاغ فقام منادياً
وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة! اخرج من بين أظهرنا
فبك منعنا المطر فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج
فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني
إسرائيل وإن قعدت معهم منعوا لأجلي فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله وقال:
إلهي وسيدي! عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعاً فاقبلني فلم يستتم الكلام
حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب فقال موسى: إلهي وسيدي! بماذا سقيتنا
وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى! سقيتكم بالذي به منعتكم فقال موسى:
إلهي! أرني هذا العبد الطائع فقال: يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني ؛ أأفضحه وهو
يطيعني؟!
أحبتي في الله: ما من شرٍّ في العالم ،
ولا فساد ، ولا نقص ديني ، أو دنيوي : إلا وسببه المعاصي والمخالفات ، كما أنه ما
من خيرٍ في العالم ، ولا نعمة دينية ، أو دنيوية : إلا وسببها طاعة الله تعالى
وإقامة دينه. فالتوبة ، التوبة ! تفلحوا ، وتنجحوا ، وتستقيم أحوالكم ، وتصلحوا ،
قال الله تعالى : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } (هود: 52) وارجعوا إلى ربكم ،
بالتجرد ، والتخلص من حقوق الله التي له قبَلكم ، واخرجوا من جميع المظالم التي
عند بعضكم لبعض ، وأكثروا من الاستغفار ، بقلب يقظان حاضر ، معترف بالذنوب ، مقر
بالتقصير والعيوب ، وأديموا التضرع لرب الأرباب : يُدرَّ عليكم الرزق من السحاب .
قال القرطبي رحمه الله : وقد استسقى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى
المصلَّى متواضعاً ، متذللاً ، متخشعاً ، مترسِّلاً ، متضرعاً ، وحسبك به ، فكيف
بنا ، ولا توبة معنا ، إلا العناد ، ومخالفة رب العباد ، فأنَّى نُسقى ؟! فالإقلاع
عن الذنوب والمعاصي والتوبة والإنابة إلى الله مع الاستغفار واللجوء إلى الله رب
العالمين بالدعاء في خشوع وتضرع وانكسار واضطرار من أسباب نزول الغيث من السماء
والإمداد بالأموال والبنين وجريان الأنهار والبركة في ذلك.
فقد جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له : إن السماء لم تمطر !! فقال له
الحسن البصري: استغفر الله. ثم جاء رجل آخر فقال له : اشكوا الفقر!! فقال له الحسن
البصري : استغفر الله. ثم جاء ثالث فقال له: امرأتي عاقر لا تلد!! فقال له الحسن
البصري : استغفر الله. ثم جاء رابع فقال له أجدبت الأرض فلم تنبت !! فقال له الحسن
البصري: استغفر الله. فقال الحاضرون للحسن البصري : عجبنا لك أو كلما جاءك شاك قلت
له استغفر الله؟! فقال لهم الحسن البصري ما قلت شيء من عندي وقرأ قوله تعالى:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح 10- 12 ).
فعليكم بدوام الاستغفار
والرجوع إلى الله تعالى؛ والعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى يُصبَّ
علينا الخير صباً .
العنصر الرابع: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون
أيها المسلمون: ينبغي على كل إنسان أن
يسعى جاهداً في عمل سبيل سقي الماء بأي وسيلة من الوسائل المختلفة؛ فهذا من البر
والصدقات الجارية التي تلحق المرء بعد وفاته؛ فتبريد الأكباد، وإطفاء حرارة الظمآن
من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنان، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم
لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله
عَليْهِ وسَلَّمَ : إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ
وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : عِلْمًا نَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ
، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ
السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ
مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ ، تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ. (ابن ماجة
والبيهقي بسند حسن). وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ
حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ
مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ». ( البزار
والبيهقي وأبو نعيم في الحلية بسند حسن لغيره).
وما أجمل هذه الصورة النبيلة الرحيمة لذي النورين عثمان - رضي الله
عنه - الذي يسعى إلى الجنة عن طريق التراحم والتكافل وسقاية الناس كلهم؛ " فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة ؟
قال: فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
وسبلها للمسلمين؛ وكان اليهودي يبيع ماءها . وفي الحديث أن عثمان رضي الله عنه
اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ؛ ثم قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها
يوما وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا ؛ فاختار يوما ويوما ؛ فكان
الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين ؛ فقال اليهودي: أفسدت عليَّ بئري فاشتر
باقيها ؛ فاشتراه بثمانية آلاف " ( زاد المعاد لابن القيم ).
تخيلوا يا عباد الله أنه لا يوجد بئر ولا ماء للمسلمين غير هذه ؛ وكان
عثمان رضي الله عنه قادراً على احتكارها وحده؛ ولكنه مثالٌ للتراحم والتكافل؛
وتخيلوا لو أن هذه البئر في أيدي أحد المحتكرين الجشعين وحده في هذا الزمان؛ ماذا
كان يفعل بالمسلمين ؟!!
ولا يقتصر أجر وثواب سقي الماء على الناس فحسب، بل إحسانك إلى البهائم
وري ظمأهم كذلك يكون سبباً في غفران ذنوبك
ودخولك الجنة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ
بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ” ( متفق
عليه).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ
عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ
بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ. فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ
هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ
ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ
رَطْبَةٍ أَجْرٌ” ( متفق عليه).
فإذا كان الله غفر لهذا الرجل وتلك المرأة البغي من أجل سقي الكلب فما
بالكم بمن حرص على سقي أبناء آدم ؟!!
لا شك أن الله يغفر له جميع ذنوبه مهما بلغت ؛ لذلك قال بعض التابعين:
"من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء" ( تفسير القرطبي ).
ومن فضائل سقي الماء أيضاً أن
يسقيه الله من الرحيق المختوم في الجنة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَيُّمَا مُسْلِمٍ
كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ؛
وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ
ثِمَارِ الْجَنَّةِ؛ وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ
اللَّهُ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ ". ( أحمد وأبو داود والترمذي ) .
فيا أيها الراغب في البر والأجر،
وبذل المعروف والخير سابق إلى الصدقات الجارية، عن الآباء والأمهات، والبنين
والبنات، والأنفس والذوات، واعلم أن من أعظم الصدقات سقي الماء وإجراؤه، فهو من
أفضل الأعمال، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ:
«نَعَمْ»، قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ». (أحمد
وأبو داود والنسائي وابن ماجه )؛ قال الإمام القرطبي في تفسيره مُعَلِّقًا على هذا
الحديث: " دل على أن سقي الماء من أعظم القُرُبَات عند الله تعالى" .
أحبتي في الله: ومن فوائد سقي الماء أيضاً
أَنَّه سببٌ لعلاج الأمراض، وشفاء الأسقام بإذنه سبحانه وتعالي؛ يقول ابن شقيق:
"سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد
عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك:
اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين
ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله" (أخرجه البيهقي في الشعب ). فقد
كان سقي الماء من هذا الرجل سببًا لشفائه بعد إذن الله سبحانه وتعالى.
فاحرصوا أيها المسلمون على حفر الآبار في الأماكن التي يحتاج إليها
الناس، وهذا أمر ميسور، فَيُطِيْقُ الإنسان أن يحفر له بئرٌ بثمن بخس في بلد فقير
معوز تجري عليه بركته وبره، فعن جابر - رضي الله عنه – قال: سمعت رسول - الله صلى
الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى
مِنْ جِنٍّ وَلاَ إِنْسٍ وَلاَ طَائِرٍ إِلاَّ آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ». (أخرجه البخاري في التاريخ الكبير وابن خزيمة بسند صحيح). كل هذه
المعاني تجعل الأمة في حب وتعاون وتكافل وأمن وسلام .
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه وسوء ؛؛؛؛؛
الدعاء،،،،، وأقم الصلاة،،،،، كتبه
: خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي