استقبال عام جديد بالأمل والعمل والتخطيط وإرادة التغيير للشيخ / محمد حســـــن داود





الموضـــــوع : الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )التوبة105). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل فى حديثه الشريف " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " (الأدب المفرد للبخاري)اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فان سنة الحياة الدنيا أنها لا تستقيم لأحد على حال، ففيها نفع وضرر، وسرور وحزن ، وبين هذا كله يظل هناك شعاع يمحو مواطن الظلام وينير دروب الحياة ويبعث في النفس البشرية الجد والسعي والعمل ، ألا وهو" الأمل "
 فما غامر تاجر بماله في تجارة إلا أمله في الأرباح، وما بعث في الطالب الجد والاجتهاد إلا أمله في النجاح، وما حبب المريض في الدواء المر إلا أمله في الشفاء، وما كان عبد في مخالفة لهواه وطاعة لمولاه إلا أمله في الفوز بجنة الله ورضاه ، وما أكثر المذنب من الندم والرجاء إلا أمله في العفو والغفران .
" الأمل " هذه القيمة العظيمة؛ تبعث في القلوب حسن الظن بالله، والله عند ظن العبد به ، فقد جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي "
هذه القيمة الجليلة التي دعانا الإسلام إلى التحلي بها في كل زمان ومكان وحال ومال، لاسيما ونحن في استقبال عام جديد، فلولاها ما زرع زارع ولا حصد ولولاها جد طالب ولا اجتهد، يقول الشاعر :
اعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها  ***  ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
فالأمل للإنسان شعاع يضيء في الظلمات، وينير المعالم، ويوضح السبل، تنمو به شجرة الحياة، يرتفع به صرح العمران، يذوق به المرء طعم السعادة، يستشعر به بهجة الحياة، أما اليأس والإحباط  فهذا أول طريق الفشل والحزن، وكفى فيه ما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : " الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالإِياسُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " .
ولقد ضرب لنا الأنبياء عليهم صلوات الله وتسليماته أروع الأمثلة في التحلي بالأمل، فهذا سيدنا زكريا (عليه السلام )مع انه بلغ من الكبر عتيا إلا انه لم يفقد الأمل في الإنجاب قال تعالى حكاية عنه (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ) مريم 4-5) فكانت الاستجابة الربانية العاجلة ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) مريم 7) وهذا سيدنا أيوب( عليه السلام)، رغم ما كان به من داء إلا انه لم يفقد الأمل في الشفاء ، قال تعالى (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ )الأنبياء 83 /84) وها هو سيدنا إبراهيم ( عليه السلام ) عندما ألقاه قومه في النار فلم يكن ليفقد الأمل وهو يحسن الظن بالله فكانت النجاة في قوله تعالى ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) الأنبياء69/70) وهذا سيدنا يونس ( عليه السلام ) عندما التقمه الحوت لم يكن ليفقد الأمل قال تعالى( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِـنَ الظّـَالِمِـينَ * فَاسْتَـجَبـْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِـــنَ الْغَـمِّ وَكَـذَلِكَ نُنْجِـي الْمُؤْمِنِـينَ )الأنبياء 87 /88 )
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا دائما بأقواله وأفعاله على أن يبعث الأمل في أصحابه وعلى دعوتنا معهم إلى التحلي بهذه القيمة العظيمة فهو القائل " وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" وفى الحديث الذي رواه البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  " وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" رواه البخاري) وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" متفق عليه) وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ ، قَالَ : " نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ، فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " رواه مسلم) ولقد جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ( لو كان العُسْرُ في جُحرٍ لتَبِعَهُ اليُسْر، حتى يَدخُلَ فيه فَيُخْرِجَه، ولن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَيْن)
غير أن الأمل بلا عمل أمل أجوف أو أعرج ، وأمانٍ كاذبة خاطئة فقد قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا )الكهف30) وعَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ) وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يقول : " لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني وقد علمت أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ” ويقول الحسن البصري" ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل؛ إن قومًا أَلهتهُم أماني المغفرة حتى خرجُوا من الدنيا ولا حسنةَ لهم، وقالوا: نُحسن الظن بالله؛ وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل" ومن الشعر
وليسَ أخُـــــو الحاجاتِ مَنْ باتَ نَائِما *** ولكــــــنْ أخُــــوها مَنْ يبِيتُ على وَجَل
الجَدُّ في الجدِّ والحِرمانُ في الكَسَــــلِ *** فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأمـــــلِ
فإن من أعظم ما تميز به الإسلام انه دين يدعو الناس ويحثهم على عمارة دنياهم وأخراهم على السواء وهذا من اجل السمات التي يجب تحقيقها في الشخصية المسلمة، ففي الاهتمام بالعاجلة وإغفال الآجلة أو العكس بعد عن التوازن وشرود، وإعراض عن المنهج السوي وصدود، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسأل ربه أن يَعْمُرَ دنياه وأخراه، فما أكثر ما كان يدعو بهذا الدعاء القرآني الكريم(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة201). والناظر في القران الكريم يرى جليا حين صرف قارون همه إلى الدنيا وانصرف عن الآخرة نصحه بعض الذين أوتوا العلم من قومه وأرشدوه، وذكروه ونبهوه بأن انصرافه عن الاهتمام بالآخرة واهتمامه بالدنيا فقط، فيه جنوح عن الصواب وشطط، فقالوا له كما حكي القرآن الكريم، قال تعالى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ  وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ  وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ  وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )(القصص75/76).
لقد تضافرت النصوص دعوة إلى العمل الصالح للآخرة على اختلاف ألوانه وصنوفه قال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )آل عمران)133. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ " فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ " فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ " فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" (رواه مسلم ). فالمؤمن الفطن يعلم أن أنفاسه معدودة، وساعات إقامته في الدنيا محدودة، وان عمره هو رأس ماله ،ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر ،الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته ، بل يغتنمه في الطاعات و يتنافس في الخيرات ويسارع بالقربات إلى رب البريات
وكما دعانا الإسلام إلى العمل للآخرة، دعانا إلى العمل للدنيا، دعانا إلى السعي والكسب، فالإسلام دين لا يعادي الحياة ولا يخاصمها، ولا يرضى لمؤمن أن يعيش على هامشها، بل يريده في جميع مجالات العمل المفيد سباقا، وإلى معالي الأمور تواقا، ليكون في مقدمة من أسهموا في عمارة الحياة الدنيا فلقد اهتم الإسلام اهتماما بالغا بكل ما كان من أثره تقدم العباد ورفعة البلاد، وعلو شأنها، ومن ثم كانت نظرته إلى العمل والسعي والكسب نظرة توقير وتمجيد ، فرفع قدره وقيمته، حتى جعل الإسلام من يسعى على كسب معاشه ،ورزق أولاده من حلال في درجة الشهيد أو المرابط في سبيل الله، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): "إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ"(المعجم الكبير للطبراني). فلقد تضافرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد على قيمة العمل ومكانته وتحث عليه، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )(التوبة105). وقال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة 10)، فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فالله ذلَّل لنا الأرض بما فيها، وأمرنا أن نسير في أرجائها وان نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في كل عمل كان من شأنه نفع البلاد والعباد قال تعالي ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك: 15) وما زال الرسول (صلى الله عليه وسلم )يؤكد على العمل وأهميته ومكانته حتى حثنا عليه في أحك الظروف، بل في أخر اللحظات من الحياة فبين أن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين القيام بعمل منتج فيه مصلحة للبلاد والعباد ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " (الأدب المفرد للبخاري).
ولا يكفي مجرد العمل، إنما ينبغي أن يكون العمل متقنًا ، فَعنْ عَائِشَةَ(رضي الله عنها ) أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ" مسند أبي يعلى) ،فالإسلام لم يدعُ إلى العمل، أي عمل فحسب، وإنما يطلب الإجادة والإتقان، والإتقان في المفهوم الإسلامي هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقى به إلى مرضاة الله  كما انه ليس قيمة أخلاقية أو سلوكية فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تهدف إلى الرقى، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة، وتنعش الأمم ،وتتقدم الأوطان، و تزدهر ،المجتمعات .
ولاشك أن من أساسيات  إتقان العمل التخطيط الجيد له؛ فالتخطيط الجيد أساس نجاح أي عمل من الأعمال؛ سواء في حياة الفرد أو المجتمع، غير أن التخطيط سلوك إسلامي قويم، ومنهج رشيد حثَّ الإسلام على ممارسته في جميع شئون الحياة؛ فبه يحقق المسلم فعالية في عمله وإنتاجه، وكفاءة في أدائه، ونجاح في حياته،  وفى قصة سيدنا يوسف دليل ساطع وبرهان واضح على ذلك، إذ يضع خطة يستغرق تنفيذها خمس سنوات تهدف إلى نجاة البلاد والعباد من مجاعة مهلكة وخطر محدق كما حكي القران الكريم على لسانه تأويلا لرؤيا الملك في قوله تعالى (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ )يوسف47-49) وفى هذا يجمع سيدنا يوسف بين العمل الدؤوب والإتقان والتخطيط .
وفى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم خير دليل على أهمية التخطيط في حياة الفرد والمجتمع، فلقد بدت حادثة الهجرة درسا عمليا راقيا في التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب، إذ يذهب الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي بكر (رضي الله عنه) في وقت شديد الحر حين يستريح الناس في بيوتهم حتى لا يراه احد ، فيأمر أبا بكر أن يخرج من عنده حتى لا ينتشر الأمر ويظل طي الكتمان، بل لما حدثه عن الهجرة لم يفصح إلا عن الأمر بالهجرة فقط، وكتم تفاصيل الأمر، كما جهز النبي صلى الله عليه وسلم الوسائل الضرورية للسفر قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك، وقت الهجرة وحتى لا يلفت الأمر انتباه قريش، كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات، فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيا، بل كانت خطة محكمة جدا وتنظيما دقيقا، وزعت فيها الاختصاصات وحددت المسئوليات فكان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يرافق الرسول (صلى الله عليه وسلم )ويعاونه ويساعده ،وهذا على (رضي الله عنه)، ينام في فراش النبي( صلى الله عليه وسلم )للتمويه ولرد الأمانات والودائع لأصحابها، و عبد الله بن أبي بكر لنقل أخبار قريش إلى النبي وصاحبه، وهذه أسماء بت أبى بكر تحمل الغذاء إلى النبي وصاحبه، ومن جميل التخطيط، تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه من لبن غنمه كما استعان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعبد الله بن أريقط ألليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره خبيرا ماهرا في الطرق ، غير أنه يتحلى بالرجولة ، فلا تضعف نفسه أمام مكافآت ترصدها قريش .
 - هذا وغيره الكثير لكن المجال لا يتسع لتفصيلها –
كما أننا ونحن في استقبال عام جديد تملأه الآمال التي تبعث النشاط في النفس والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة، والمخفق إلى العمل وتبعث دوافع الكفاح من أجل الواجبات الوطنية، لابد من التغيير إلى الأفضل؛ من المعصية إلى الطاعة، ومن السيئات إلى الحسنات، إلى ما فيه الفلاح،فقد قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)الاعراف96) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَاب" رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة وابن حبان ) إلى ما ينفع ولا يضر، إلى ما يبنى ولا يهدم، إلى ما يجمع ولا يفرق، إلى كل ما فيه الحفاظ على الوطن والدفاع عنه، إلى تعزيز قيم الانتماء للوطن، والعمل بكل جد من اجله، والتضحية من اجله بكل غال ونفيس، فان حمايته والحفاظ عليه هو واجب شرعي ووطني على جميع أبناء هذا الوطن، لا انفكاك من هذا الواجب مهما كانت الأحوال والأهوال، وأننا أبناء وطن واحد يتحتم علينا أن لا نكون إلا قلبا واحدا ويدا واحدة، قلب محبة وبر وود، ويد سلام وعون بيننا ،لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي، أو بمعنى أدق لا فرق بين مصري ومصري، فكلنا أبناء وطن واحد على حد واحد من الحقوق والواجبات، لا فرق في ذلك بين حماية مسجد أو حماية كنيسة والحفاظ عليهما والدفاع عنهما، كما ينبغي أن نكون قلبا واحدا ساخطا على الإرهاب وأهله، ومن عاونه ومن ناصره أو دعا إليه أو رضي به، ويدا واحدة في التصدي للإرهاب وأهله ومن عاونه ومن ناصره أو دعا إليه أو رضي به ، مواجهة له مهما كانت الصعوبات والأهوال، فسلامة وطننا الحبيب مصر واستقراره فوق كل اعتبار .
إننا ونحن في استقبال عام جديد مفعم بالآمال، يجدر بنا أن تكون سلامة وطننا واستقراره وأمنه والحفاظ عليه وتقدمه وازدهاره واقتلاع الإرهاب من جذوره وإحباط جرائمه والكشف عنها؛ الأمل الأعظم والاسمي والأزكى والأطيب بل والأول والأخير،  فكونوا على قدر المسئولية .
(اللهم أحفظ وطننا الحبيب مصر من كل مكروه وسوء ووفقنا لما تحبه وترضاه)
===== كتبه ======
محمد حســـــــن داود

إمام وخطيب ومدرس
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات