معاني وأنواع الهجرة للشيخ عبد الناصر بليح


لتحميل  word أضغط هنا
لتحميل  pdf أضغط هنا
الحمد لله رب العالمين .. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونسأله التوفيق والسداد والعفاف والغني والتقي ..من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين ..
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه القائل :” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ” اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يارسول الله وعلي آلك وصحبك وسلم . أما بعد فيا جماعة الإسلام :
“إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”) التوبة/40).
أخوة الإيمان :
إن معاني الهجرة ستبقي متجددة وسراجاً منيراً حتى يرث الله الأرض ومن عليها..وتلك  المعجزة ستظل خالدة بقاء الدهر لأن الذي خطط لهذه الهجرة وأعطي الأذن بها ” َهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الـْخَبِيرُ“( الأنعام /18).
والذي بلغ بالتخطيط ولحظة الانطلاق هو:”  رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍعِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِي  مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ”(التكوير/19-20 ).
والذي قاد هذه الهجرة وهذه الرحلة رجل ضرب أروع الأمثلة في الإقدام والشجاعة والتبليغ عن ربه فعصمه ورعاه :” يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚوَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ “(المائدة /67).
والذي قام بهذه الهجرة رجال ونساء امتدحهم القرآن بقوله:” مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِرُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖتَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا”)الفتح/29 ).
واالذين قاموا بهذه المهمة لهم من الله  أجر وثواب جزيل:” وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( “النساء/100) .
أخوة الإيمان والإسلام
الهجرة من سنن الأنبياء والمرسلين  جميعاً وهي جهاد إيجابي وحفظ للدين  وقد عرف التاريخ الإنساني هجرات كثيرة للأنبياء والمرسلين فقد هاجر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لرفع قواعد البيت وإعداده وجعله مثابة للناس وأمنا حيث قال: “إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ” (الصافات/99).  أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، وقد هاجر عليه السلام  ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلد الحرام والبيت العتيق، كما جاء في دعائه لربه:”رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم” (إبراهيم/37).وقد هاجر نبي الله لوط  .. وهاجر موسي ومن معه من بطش فرعون وجنوده وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين .
**معاني الهجرة :
إن الهجرة معناها لغةً:مفارقة الإنسان غيره ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.
ومعناها شرعاً:مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة. 
والمعنى الذي حدده المصطفى صلي الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية،بتكوين دولة عظيمة تقوم  على أسس قويمة، أسس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية؛ ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان.. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد.. لذلك يقول صلي الله عليه وسلم :” ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عن شيء فانتهوا” (أحمد).
** معني لا هجرة بعد الفتح.
وهناك هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله  يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ إِحْدَاهُمَا ، أَنْ تَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ وَالْأُخْرَى ، أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ ، وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ ، طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ “(أحمد).
  إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين؛ لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة.
 ورد أن مجاشع  بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: “قد مضت الهجرةُ بأهلها”. قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على الإسلام والجهاد والخير”(مسلم).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”. فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم: “وإذا استنفرتم فانفروا”.
والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحلَّ الله؛ لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ”(الذاريات/56).
وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”(متفق عليه). وفي رواية (ابن حبان): “المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.
** أنواع الهجرة:
  من أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه:”وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ”(المدثر/5). الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”. أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق والمكذبين  الضالين الفاسدين وذلك بالابتعاد عنهم، قال الله تعالى:”وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ” (المزمل/10). أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: “وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً” (المزمل/10). أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العبادة له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به. فأساس هذه الهجرة النية  ..ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”(متفق عليه  ).
وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
فتبين من هذا أن الهجرة أنواع منها:
هجر أمكنة الكفر… وهجر الأشخاص الضالين المكذبين الفاسدين … وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة وصحيح الدين. هجر العادات والتقاليد التي تخالف تعاليم الإسلام, هجر الأنانية والغدر والفوضى السلوكية
والإهمال.و اللامبالاة ,هجر النزاع والشقاق والإشاعات والفساد بكافة أنواعه.
 يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون العصبية النتنة :”التعصب للمذهب والقبيلة والحزب والجماعة والفريق “,. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضللة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
دروس من حادث الهجرة
أيها الناس :
وإذا أردنا أن نأخذ  العظات والعبر والدروس من حادث الهجرة فإننا نأخذ أن
الهجرة انتصاراً لا فراراً:
لقد ادعي بعض المشككين في الإسلام بأن هجرة المسلمين إلي المدينة لم تكن خوفاً من ظلم المشركين لهم بل كانت هروباً وفراراً من عبأ  الدعوة إلي الله عز وجل ..
وفي حقيقة الأمر لم تكن الهجرة تعنى فرار الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة بأنفسهم من قسوة تعذيب مشركى مكة ولكن كانت إقامة الدولة الإسلامية هي الشاغل الأول للرسول على الرغم من أنه لم يصرح بذلك فى الفترة المكية ،وكانت الهجرة عملا لتوسيع رقعة الإسلام وتكثير عدد المسلمين وإحداث نوع من الإعلان والإعلام عن هذه الدعوة المباركة وقد سبقت الهجرة للمدينة هجرات أخرى للحبشة والطائف ولكن تبقى هجرة المدينة هى المعلم الرئيسي في تاريخ الإسلام وقد سبقت بإعداد لم يسبق لأحد تصوره وكان الرسول هو المهندس والمخطط لهذه الرحلة الربانية التاريخية التي صارت بموكب النور من مكة للمدينة فقبلها اتصل النبى بالقبائل العربية فى مواسم الحج ليخبرهم بشأن دعوته ويطلب منهم النصرة . وجاءت بيعة العقبة الأولى بشئ من الأمل والتغيير إذ هيأ الله بها الخميرة الصالحة والتربة الخصبة لانتشار الإسلام على أيدي الأنصار ،وجاءت بيعة العقبة الثانية لتقرر وجوب السمع والطاعة للرسول صلي اله عليه وسلم فى المنشط والمكره والنفقة فى العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقول الحق وعلى أن ينصره أهل يثرب ويمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم ،فكان هو العهد الأول الذي جاء لينص على حماية الإسلام والدفاع عن الرسول ودعوته.
فقد كانت الهجرة إلى المدينة فتحاً ونصراً لدعوة الإسلام حيث أوجد الله لدعوة نبيه بيئة خصبة وجد فيها قلوبا مفتوحة لدعوة الحق وتكونت نواة الدولة المؤمنة المجاهدة والأمة المؤتلفة المتحابة التي لا تعرف عصبية لجنس أو لقبيلة فالجميع قد انصهر فى بوتقة واحدة وأصبحوا جسما واحدا وبناء متراصا متحدا يعمل كل فرد فيه لخير هذا المجتمع ولإعزاز هذا الدين وأحب أهل المدينة إخوانهم المهاجرين وأثرهم على أنفسهم وزكى القرآن حين قال :”وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”(الحشر/9).
وعند إمعان النظر فى حادث الهجرة نجد أنها لم تكن فراراً من الموت أو طلباً للنجاة أو خوفاً من بطش ظالم وإنما كانت انتقالا بالعقيدة من وطن كثر فيه الباغى وقل فيه الناصر إلى وطن آخر تأمن فيه على نفسها ويستطيع المؤمنون أن يجدوا تربة طيبة فيغرسوا فيها شجرة التوحيد فلم تكن الهجرة فراراً بل كانت انتصاراً .
**الهجرة تخطيطاً منظماً لا انحساراً.
أخوة الإيمان :
إن الهجرة تعلِّمنا كيف يؤدِّي التخطيطُ الجيِّد دَوْرَه في تحقيق النَّجاح، ومن أعظم أسُسِ التَّخطيط حُسْنُ توظيف الطاقات، وسلامة استغلال القدرات المتاحة، فالصَّدِيق قبل الطريق، والراحلة تُعْلَف وتُجهَّز قبل أربعة أشهر وبِسرِّية تامَّة..  فخطط الرسول صلي الله عليه وسلم للهجرة للانتقال بالمسلمين  إلي مكان أخر وإعلان للدعوة وبها أصبحت يثرب نموذجاً حيا ً  للمدينة الفاضلة.. فأتقن الرسول صلي الله عليه وسلم  التخطيط وأحسن توظيف الطاقات  ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة. تَمويهًا على المشركين وتخذيلاً لَهم، وهو دور الفتيان الأقوياء. –ويتجلى من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر.
ويتجلى ذلك أيضاً من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به. ويبين ذلك  قولُ عائشة – رضي الله عنها – متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: “فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ” أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر، “وصنَعْنا لهما سُفْرة” الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر “في جِراب” وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه، “فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين”؛ البخاري.
وأمَّا دور الأطفال، فيمثِّله عبد الله بن أبي بكر، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “ثُم لَحِقَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر في غارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا” اختفَيا “فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ” حاذق فطن، “لَقِنٌ” سريع الفهم، “فيدلج من عندهما بِسَحَر” قُبَيل الفجر، “فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلاَّ وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام” تشتد ظلمة الليل”( البخاري).
ومِن كمال التخطيط، كان الراعي عامِرُ بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار؛ لِيُزيل آثار الأقدام المؤدِّية إليه، ثم يسقي النبِيَّ – صلى الله عليه وسلَّم وصاحبَه مِن لبن غنَمِه.ومن كمال التخطيط أنِ اتَّخَذ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – عبدالله بن أريقط دليلاً عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم – بِمهارته – إلى اتِّخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
فتعتبر الهجرة النبوية هي أعظم حدث فى تاريخ البشرية لأن بها تم انتصار الحق على الباطل وكلل الله تضحيات المسلمين الأوائل بالنصر المبين .وكان من نتائجها انتشار الإسلام بين العرب أولا ثم فى باقى ربوع العالم بعد ذلك ،وكانت الهجرة عملا استراتيجيا حاسما فى تاريخ الإسلام فمكة لم تكن تصلح أن تكون حاضنة للإسلام فى مراحله الأولى وعاصمة روحانية له وللمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها لذلك لم يفكر النبى أن ينقل الدولة من المدينة إلى مكة بعد الفتح إذ ما كان للدولة الإسلامية أن تعلن فى بيئة قبلية معزولة ومغلقة مثل مكة بل كان الأمر يتطلب بيئة حضارية مثل المدينة قريبة من دول ذات حضارة وتتوسط الطرق التجارية ..
وبعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام ببناء المجتمع الجديد فى المدينة على ثلاثة أسس ينبغي وضعها كقواعد لبناء الأمة والمجتمع الإسلامي الصحيح ،وهى بناء المسجد النبوي وفى ذلك إشارة إلى أن أساس صلاح المجتمع هو الاتصال بالله وهو الذى يثرى ويؤكد اتصال الإنسان المسلم بخلق الله وتنظيم صلته بالناس ،
والمؤاخاة التي ربط بها الرسول بين الصحابة كرباط إسلامي يفوق رباط الدم ليؤكد أن المجتمع لا يمكن أن يكون قويا إلا بالتعاون والتكاتف ،والمعاهدة التي أبرمها مع الطوائف اليهودية الثلاث بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، والتي أقر عليهم فيها حقوقهم وجعلهم مع المسلمين أمة واحدة ،ولذلك فإن وثيقة المدينة تعتبر دستوراً خالداً أكد أسبقية الإسلام لكافة القوانين والمواثيق الدولية فى إقرار حقوق الإنسان ولو استطلعت المنظمات الحقوقية الدولية دستور المدينة لاكتشفت عظمة هذا الدين الحنيف فى معاملة غير المسلمين وتعلمت الوسائل الراقية لحقوق الإنسان كما أقرها الإسلام .

**الهجرة هدفاً سامياً لاانكسار:
أخوة الإيمان :
وكان الهدف من الهجرة هدفًاً عظيمًاً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة..و تكوين دولة الإسلام.
و متنفساً للدعوة :”
 لقد كان هدف المصطفى صلي الله عليه وسلم  من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة؛ لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: “رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب”.
وكثرة المسلمين :”
كما كان هدف رسول الله صلي الله عليه وسلم  من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة؛ لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات؛ ولهذا حرص رسول الله صلي الله عليه وسلم  أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلِّم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة، حثَّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: “هاجروا إلى يثرب، فقد جعل الله لكم فيها إخوانًا ودارًا تأمنون بها”.
-و جمع الشمل :”
كما كان هدف رسول الله صلي الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فلم يكن الرسول القائد أن يظل  في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة؛ ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه؛ لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تُسرِع السير إلى أهدافها بخُطا وئيدة.
 فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله , هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلي الله عليه وسلم باتباع سنته، والاقتداء بسيرته. فإن فعلنا  ذلك فقد بدءنا السير في الطريق الصحيح، وبدءنا نأخذ بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .
*والهجرة توكّل على ربّ الأرباب بعد الأخذ بالأسباب:
أخوة الإيمان :
لم يعتمد الرسول على الأسباب وترك رب الأسباب، حاشا لله، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله ، ولذلك فبعد أن بذل أسبابه كاملة تحلَّى بيقين عظيم في أنَّ ما أراده الله سيكون..  -ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة. ويتجلى كذلك في استعانته بعبد الله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق.ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل.   وظهر ذلك في كلمته الرائعة: “مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا”.  وظهر ذلك أيضًا في أنه لم يكن يكثر الالتفات في الطريق، فقد أدَّى ما عليه، وما أراد اللهُ واقع لا محالة. وبدون هذا اليقين لا يمكن للدولة المسلمة أن تقوم.
فالتوكل علي الله يبعث  الأمل والثقة في النصر :” ومن يتوكل علي الله فهو حسبه ” .
لم يفقد رسول الله روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطرة، وهو يخرج من مكّة بهذه الطريقة، وهو مطلوب الرأس، لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، إذا به يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأَخْذ كنوز كسرى غنيمة، “كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سِوارَيْ كِسْرَى”.يقول تعالى: ” إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ “(القصص/ 85). قال ابن عباس: “لَرادُّك إلى مكَّة كما أخرجَك منها”.
مَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – وصاحبه، وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر: “لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا”؟ إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول – صلى الله عليه وسلَّم -: “ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما”( البخاري).
إن التوكُّل سبيل النَّصر، فكلما احلولكَتِ الظُّلمات، جاء الصُّبح أكثر انبلاجًا، ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا “(يوسف/110).  إنَّها جنودُ الله التي تصحب المتوكِّلين عليه، هذا سُراقة بن مالك يُبْصِر مكان المختبِئَيْن، ويَحْزن أبو بكر ويقول: “أُتينا يا رسول الله”، فيقول له النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم:”لا تَحزنْ؛ إِنَّ الله مَعَنا”، فإذا بالعدوِّ ينقلب صديقًا، يعرض عليهما الزادَ والمتاع، ويَذْهب بوصيَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم:”أَخْفِ عنَّا”( البخاري).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ..والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين . أما بعد فيا جماعة الإسلام :
الهجرة  ثبات على الموقف، وبحث عن الحلِّ الشامل.
وليس الاقتصار على مفاوضات البدائل التَّرقيعيَّة، ومناقشات الحلول التخديريَّة الآنية، لقد بدأ الحلُّ الشامل منذ أن عُرض على النبيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – أن يَعْبد إله المشركين عامًا، ويعبدوا إلَهَه عامًا، فأبَى ذلك، ثم تطوَّرَت العروض والمغريات حتَّى وصلَتْ إلى ذروتها مع عتبة بن ربيعة حين قال للنبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم -: “يا ابن أخي، إن كنْتَ إنَّما تريد بِما جئتَ به من هذا الأمر مالاً، جَمَعْنا لك من أموالنا حتَّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا، سوَّدْناك علينا حتَّى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد مُلكًا، ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه” مَسًّا من الجن “لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلَبْنا لك الطِّبَّ، وبذَلْنا فيه أموالنا حتَّى نبرئك منه”؛ حسَّنَه في “ص. السيرة النبوية”.
إن الحلَّ الشامل لبلاد المسلمين يَكْمُن في استقلالهم الكامل بذاتِهم، والعمل على التخلُّص من التبعيَّة الفكريَّة والاجتماعية، والاقتصادية والسياسيَّة للشَّرق أو للغرب، وليس عَبثًا أن يَختار عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه – التَّأريخَ للمسلمين بالْهجرة، ويقول: “الهجرة فرَّقَت بين الحقِّ والباطل”، فحَلُّ الأزمات بِيَدِ الله لا بيد غيره، إنْ نَحْن عقَدْنا العزم على التمكين لدينه، ونَشْر سُنَّة نبيِّه، والعمل علي النهوض ببلدنا والوقوف بجانب المخلصين للخروج من الأزمة وإيجاد حلول مدروسة ومتقنة لجميع الأمور سواء كانت أمنية أو اقتصادية أوسياسية ..:”  الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”)الحج/41).
 والهجرة تضحية لا طمعاً في مال أو عقارأوامرأة أو درهماً ودينار :
أخوة الإيمان :
ونتعلم من الهجرة أنها كانت تضحية في سبيل الله وهو ما تم تطبيقه عملياً  فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم يضطر إلى مغادرة بلده الذي وُلِد فيه وترعرع وترك أقرباءه وعشيرته، فقال وهو يغادرها بِنَبْرة من الحزنِ:”واللهِ إنَّك لَخيْر أرْض الله،وأحبُّ أرْض الله إلى الله ولوْلا أنِّي أُخْرِجْت منْك ما خرجْتُ” (الترمذي).
  • وهذه أمُّ سلمة – وهي أوَّل امرأة مهاجِرة في الإسلام – تقول: “لَمَّا أجْمَع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رَحَّل بعيرًا له، وحَملَنِي وحَمل معي ابنَه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلمَّا رآه رجالُ بني المغيرة بن مَخْزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفْسُك غلبْتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه، علامَ نترُكك تسير بها في البلاد؟ فأَخذوني، وغَضِبَتْ عند ذلك بنو عبدا لأسد، وأهوَوْا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزعتُموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنِي سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدا لأسد، وحبسَنِي بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتَّى لحق بالمدينة،ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني” فمكثَتْ سنة كاملة تبكي، حتَّى أشفقوا من حالِها، فخلَّوْا سبيلها،ورَدُّواعليها ابنها،فجمع الله شَمْلَها بزوجها في المدينة.
  • وهذا صُهَيب الرُّومي، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: “أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟” قالوا: نعم، قال: “فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي”، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلَّم – فقال: ((رَبِح صهيب))، والقصة في “صحيح السِّيرة النبوية”.
وكما كانت التضحية من المهاجرين كانت من الأنصار فقد كان الرجل الأنصاري يقول للمهاجري تعالي عندي زوجتان خذ زوجة بعد أن أطلقها و تنتهي عدتها ولي بيتان خذ أحدهما كما حدث من أبي أيوب الأنصاري لعبد الرحمن بن عوف ولكن الصحابي يأبي أن إلا أن يكون عزيز النفس يقول:”  بل دلونا علي السوق نبتاع ونبيع ونكسب ونأكل من كدنا “..-لذلك نأخذ أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه:فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
الهجرة صبراً علي البلاء و رضاً بالقضاء :
أخوة الإيمان :
فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً. فلقد مكثَ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، ومضى يبحث عن حلول بديلة، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثًا عن أرض صالحة للدَّعوة، لكنْ وُوجِهَ هناك بأقسى مِمَّا توقَّع، فأُوذي وأُهين، وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف مطرودًا مُهانًا وقد تَجاوز الخمسين، ولكن أشد ما يكون عزيمة على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، ويقول:”ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي ” .( ابن ماجه).
فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة، الذي هيَّأ التُّربة الصالحة لاستمرار الدَّعوة، وتكوين الدَّولة في المدينة النبويَّة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَل دؤوب، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.
الهجرة اقتداء بالعظماء حفاظاً علي  الرفقاء
أخوة الإيمان :
وضح لنا في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم كان يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، يُطارد كما يُطَاردون، يتعب كما يتعبون، يحزن كما يحزنون، يعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ينقل الله رسوله الكريم من مكّة إلى المدينة بالبراق الذي نقله في لحظة من مكّة إلى بيت المقدس، ولكن أين القدوة في ذلك؟ وأين الأسوة؟ لا بد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولا بد أن يسير في هذا الطريق رسول الله رغم كل المعاناة والتعب.
 حرص رسول الله على الصحبة
رأينا حرص رسول الله في كل مراحل حياته، وفي كل خطوات دعوته على مسألة الصحبة، عاش حياته في مكّة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عن صاحبه في الهجرة، كل هذا، وهو من هو، هو رسول الله ، ولكن كل الناس يحتاج إلى صحبة، وهو يعلمنا أن نبحث دائمًا عن الصحبة الصالحة، لقد سطَّر رسول الله قاعدة إسلاميّة أصيلة: “الشَّيْطَانُ مِعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ”.
وقد طبَّق رسول الله هذه القاعدة في حياته هو شخصيًّا، مع أن الشيطان ليس له سبيل مع رسول الله ، ومنذ أن شقّ صدره وقد أخرج من قلبه حظ الشيطان، وأعانه الله على الشيطان فأسلم فلا يأمره إلا بخير، ومع ذلك يحافظ على الصحبة، يعلمنا ويهدينا ويرشدنا .

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات