خطبة الوداع د. محمد عامر





العناصر
1- المقدمة
2- كرامات خطبة الوداع .
3- نص خطبة الوداع .
4- حرمة الدماء والأموال في الإسلام .
5- وضع كل أمور الجاهلية .
6- بدء النبي بتطبيق الشرع على نفسه .
7- وضع ربا العباس بن عبدالمطلب .
8- وصية النبي بالنساء .
9- التمسك بالكتاب السنة .

المقدمة

الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر وعبد فأثاب, وشكر, وعصي فعذب وغفر, جعل مصير الذين كفرو إلي سقر, والذين اقو ربهم إلي جنات ونهر, ليجز الذين كفرو بما عملو, والذين امنوا بالحسنى
واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير
يارب
رضاك خير إلي من الدنيا وما فيها يا مالك النفس قاصيها ودانيها
فنظرة منك يا سـؤلي ويـا أملى خير إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفس أمـآل تحققـها سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الظلمة وأحاط به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
يا سيدي يا رسول الله :
أنت الذي تستوجب التفضيل فصلوا عليه بكرة وأصيـلا
ملئت نبوته الوـجود فأظهرا بحسامه الدين الحديد فأسفرا
ومن لم يصلي عليه كان بخيل فصـلوا عليه وسلموا تسليما
وعلي اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين

أما بعد

خطبة الوداع
تلكم الخطبة العظيمة، التي لم يَعرف التاريخُ مثلَها، ولم يَنطق أحدٌ بأفصحَ منها، وهي التي ألقاها - عليه الصلاة والسلام - بين يدي الصحابة الكرام يومَ عرفة، ومنها ما ذكره بمنًى يوم النحر، من حَجَّته الوحيدة التي حَجَّها - في الإسلام - في السنة العاشرة.

وكان قد أذَّن في الناس أنه صلَّى الله عليه وسلَّم حاجٌّ - كما في صحيح مسلم - فاجتمع بين يديه أزْيَد من مائة وأربعين ألفًا، آمرًا إياهم أن يأخذوا عنه مناسكهم، بعد أن قال لجرير: ((استنصِتِ الناسَ))؛ مُتفق عليه

بل كان من الـكَرامــات أن هذا العدد الكبير من الناس كان يَسمع صوت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دون مُكبِّرات صوت، ولا أجهزة تسميع، إلا ما كان من ربيعة بن أمية بن خلف، الذي كان يُعيد أقوال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ليسمع الناس، قال عبدالرحمن بن مُعاذ التيمي رضي الله عنه: "خطبَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونحن بمنًى، فَفُتِّحَتْ أسماعُنا، حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار".


وإنما سُمِّيت بحَجَّة الوداع؛ لأنه لم يَحج بعدها، فكأنه ودَّعهم بهذه النصائح الجليلة، حيث لم يَمكث صلَّى الله عليه وسلَّم بعدها سوى ثلاثة أشهر في أشهر الأقوال حتى توفَّاه الله.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: "يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلتْ، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيُّ آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو قائم بعرفة يوم جمعة"؛ مُتفق عليه.

نص خطبة الوداع

صعد النبي صلى الله عليه وسلم منبر مسجد نمرة؛ ليعظ أمته موعظة بليغة، ويدلها على الطريق المستقيم في آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم؛ ليحدد في هذه الخطبة العصماء معالم هذه الأمة، وأمارات هذه الشريعة، فقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم من حديث جابر : (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارثكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، فإنه موضوع كله، والربا موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله، ألا فاستوصوا بالنساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله، وإنكم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء ينكتها إلى الناس، وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد).
انتهت خطبته عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، وجوامع ووالله إن هذه الخطبة لتصلح أن تكون ديناً كاملاً ينزل من السماء لا يحتاج الناس في حياتهم ولا معادهم إلى غير هذه الخطبة.
ولا غرو حين قال الشافعي رحمه الله في حق سورة العصر: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكفتهم. أي: لكفت المسلمين، وكذلك لو لم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الخطبة لكفت.
فقال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).

حرمة الدماء والأموال في الإسلام


إذا تكلمنا عن حرمة الدماء فإننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما يقضى بين الناس في الدماء)، هذا القضاء العام بين الخلائق.
وهناك قضاء خاص فيما يتعلق بالعبد مع ربه: (إن أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة صلاته، فإن صحت صح ما بعدها، وإن فسدت فسد ما بعدها) ولا تعارض بين الحديثين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر من هذه السبع المهلكات: (قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق).
فقتل النفس حرام بالكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر : (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق).
وقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
كأن النبي عليه الصلاة والسلام يضيق الحلقة جداً على إنسان سولت له نفسه أن يقتل إنساناً بغير حق؛ ولذلك كلمة الإسلام تعصم المرء في دمه وماله إلا بحقها.
والحق جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
والأنبياء جميعاً أتوا برسالة الإسلام والإيمان والتوحيد.
الدماء فظيعة يقبل عليها الناس بكل استهتار، فنرى في كل يوم وليلة فلاناً قتل أباه، وزوجة قتلت زوجها، وزوجاً قتل ابنه أو ابنته أو زوجته، وكأن الدماء ما أرخصها! وهي غالية، وأيما غلاء لهذه الدماء التي صانها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، حتى دماء المعاهدين من الكفار ما داموا قد التزموا بالعهد والميثاق، كما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) أي: لا يشم رائحة الجنة، كما يحرم على الإنسان أن يقتل نفسه، ولا يجوز أن يقول: هذا بدني وهذه نفسي، وأنا فيها حر، بل أنت عبد لله تعالى لا تصدر إلا عن قال الله وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فسمه في يده يتجرعه يوم القيامة خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).
وهكذا يحرم على المرء أن يصيب نفسه بأذى، وأنت مسئول عن بدنك هذا فيما عملت فيه.
لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن هذا السؤال، وحتى يجيب بإجابة مرضية مبنية على أصول الشريعة الغراء، هذه الدماء تراق في الداخل والخارج، دماء المسلمين ما أرخصها هنا وهناك؛ وذلك لأن المسلمين تخلوا عن دينهم، فكان لابد أن يتسلط عليهم الأعداء .

وضع كل أمور الجاهلية وتركها دلالة على عزة الإسلام وتمكينه


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع).
وانظروا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (تحت قدمي موضوع) أي: باطل مردود لا يحل لصاحبه أن يطالب به بعد الإسلام.
وقوله: (تحت قدمي) يدل على العزة، ويدل على السؤدد والرئاسة، ويدل على النصرة والتأييد من الله عز وجل لنبيه ورسوله.
ولذلك أخرج أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: أخلاق الجاهلية وآداب الجاهلية- وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي).
فهذا أمر مردود وباطل أن يتخلق بعض المسلمين ببعض أخلاق الجاهلية؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من ضلل أعمى عن الطريق) أي: أن ذلك من أفعال الجاهلية.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها) أي: أفسدها على زوجها؛ لتتحول إليه.
ليس منا هذا الخلق، إنما هذا من أخلاق الجاهلية، وآدابها وأعرافها،ليس منا من يعير الناس بلونه ففي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه حين عير بلالاً وقال له: (يا ابن السوداء! فلما رفع الأمر إليه عليه الصلاة والسلام قال: يا أبا ذر ! إنك امرؤ فيك جاهلية. قال: يا رسول الله! أو على ساعتي هذه؟ - أي: بعد هذه المدة الطويلة في الإيمان والإسلام-؟ قال: نعم) فقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) أي: فيك خلق من أخلاق الجاهلية.
وهذا لا يعني: الكفر والخروج من الملة، إنما هو الاتصاف بصفات أهل الجاهلية، والتخلق بأخلاق أهل الجاهلية .. وغير ذلك مما قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ليس منا، ليس منا، ليس منا، كلها أخلاق الجاهلية، ويجب الحذر منها.

بدء النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وأهله في تنفيذ أحكام الله تعالى لتحقيق الأسوة


قال: (ودماء الجاهلية موضوعة)، وبدأ بنفسه عليه الصلاة والسلام؛ ليحقق القدوة والأسوة، لأنه القائل - كما في مسلم -: (أما لكم في أسوة).
وعند أحمد : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتدى بي فإنه مني) أي: من هديي وسنتي وطريقتي.
قال عليه الصلاة والسلام: (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث) وهو إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصته: أنه كان طفلاً رضيعاً، وعلى عادة العرب حملته قريش إلى بني سعد ليرضع هناك، فإذا أتم مدة الرضاعة رجع إلى قومه وأهله، فقتلته هذيل، فقامت قريش بأسرها تطالب بدم هذا الطفل الرضيع قتل قبيلة هذيل بأسرها، فهل هذا دين؟ وهل هذه أخلاق؟ رجل أو طفل أو امرأة قتل على سبيل الخطأ ليس له إلا الدية، وديته على العاقلة، وليست على القاتل؛ لأنه قتله على سبيل الخطأ.
وهكذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجو الملبد بالمعاصي والأعراق البالية، وقد قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فوجد حروباً بين الأوس والخزرج؛ بسبب ناقة نزلت أرض الغير فأكلت منها، فقامت بين القبيلتين حروب طاحنة على مدار أربعين عاماً، ربما ذهب فيها العشرات، أو المئات، أو الألوف.
فكانوا في الجاهلية يقولون بظاهر النص: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).
فلما جاء الإسلام بين النبي عليه الصلاة والسلام أن نصر الظالم كفه عن الظلم، نعم هذا هو الدين الذي نزل من السماء دين الحق والعدل، دين المحبة والسلام؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179].
ومع أنه موت، وإراقة للدماء، وإقامة للحدود؛ لكن من قتل يقتل دون سواه، ولا تزال بعض الأعراف الفاسدة قائمة في بلاد الإسلام، خاصة في صعيد مصر، أن من قتل واحداً من قبيلة أخرى أو من عائلة أخرى يطالبون بأغلى الدماء في عائلة القاتل، ولا يطالبون بقتل القاتل، فيختارون ويمتازون من أسرة القاتل أفضل الناس، فهل هذا دين؟ وهل هذا عدل؟ ومنهم من يقول: قتيلي بعشرة، قتيلي بمائة، قتيلي بألف، وهذه الكلمات محفوظات ومسموعات في الصعيد .. وغيره، وهذا كله تحاكم إلى أخلاق الجاهلية، وعادات الجاهلية. فاحذروا أيها الإخوان! بارك الله فيكم.
إن كل رباً موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن كل رباً موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب).
فانظروا كيف يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أولاً قبل أن يقول الناس: لم حرم علينا كذا، وأحل لأهله وأحل لقومه وعشيرته وقبيلته؟
فالأسوة أن يبدأ المرء بنفسه.
والقدوة أن يدعو الإنسان الناس بعمله، لا بقوله فحسب، فلابد أن يرى الناس منك الخير والصلاح والاقتداء والأسوة.
فيا معشر الناس ! ويا معشر طلاب العلم! ادعوا الناس بأعمالكم وأخلاقكم، فإنكم لا تدعونهم بأموالكم ولا بألسنتكم، إنما تدعونهم بأعمالكم، فلأن تدعو الناس بعملك خير بألف مرة من أن تدعوهم بقولك، وتخالفهم بعملك.
ولذلك في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى، ويجتمع عليه الناس فيقولون: يا فلان! ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
فيا أيها الإخوان! عليكم بالالتزام والاقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، والإخلاص لله تعالى في القول والعمل، وليراجع كل واحد منا نفسه قبل أن يندم في يوم لا ينفع فيه الندم، في يوم لا ينفع نفساً إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.
قال عليه الصلاة والسلام: (وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله).
ربا العباس هو الربا الذي حرمه الله عز وجل في القرآن، وهو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فعمدته قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح يداً بيد، مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى).
و قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الربا اثنان وسبعون باباً، أقربه وأدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام).
وقال عليه الصلاة والسلام: (درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم -أي: وهو يعلم أنه رباً محرم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية).
وهكذا شدد المعصوم عليه الصلاة والسلام في أمر الربا، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً الفساد والهلاك الذي يلحق الأمم كلها إذا تعاملت أمة بالربا والزنا، وذلك مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا عمهم الله بعذاب) أي: شملهم جميعاً مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، يشملهم جميعاً ويبعثون على نيتهم بعد ذلك، والربا حرب مع الله عز وجل، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] أي: فإن لم تتوبوا من الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
والذي يدخل مع الله في حرب ومع رسوله فلابد أنه الخاسر ولا نزاع في ذلك؛ لأن الله تعالى هو القوي الملك الجبار المتكبر سبحانه وتعالى.
أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد.
.أقول ماتسمعون واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أعطى واجزل نحمده تبارك وتعالى حمد العارفين الشاكرين الطالبين لمزيد فضله والصلاة على إمام العارفين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالنساء


الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
ولا يجوز لكل زوج أن يضيق الخناق على امرأته، وأن يمنعها من صلة أرحامها ومن دخول محارمها، بل ينبغي أن يعقد حبه وبغضه في الله عز وجل، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، كل أقوالك وأعمالك صادرة عن الله عز وجل، وعن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22].
إن كثيراً من الشباب إذا تزوج بعد الزواج بأسبوع أو أسبوعين، وربما في ليلة الزفاف يصدر قراراً لامرأته لا يقبل النقاش، وهو ألا تدخل أحداً من أهلها، وألا يأتيها أحد من أهلها، إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذه أخلاق يقيناً لم تكن موجودة في الجاهلية، فما بال الشباب قد تخلقوا بأخلاق هي من أسافل الأخلاق وأردئها؟! ما بالهم قد فعلوا ذلك؟! ألا يحكمهم دين؟! ألا يحكمهم شرع؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
فلا يحل لرجل أن يمنع دخول محارم الزوجة في بيته خاصة في غيابه، إلا إذا خشي الفتنة على امرأته، أو على أولاده، وعرف من هؤلاء المحارم فجورهم، وتعديهم لشرب الخمر والقتل والاستهتار بالشرع ..

وصية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بالتمسك بالكتاب والسنة وإشهاده بتبليغ رسالة ربه


تأتي النصيحة الجامعة: (وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله هو حبله المتين، طرفه بيد الله، والطرف الآخر بأيديكم فتمسكوا به).
وقال في رواية عند مالك : (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).
والنبي عليه الصلاة والسلام يشير في نهاية هذه الوصية الجامعة بقوله: (وإنكم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: يا رسول الله! نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فأشار بسبابته إلى السماء -حيث الله تعالى- ينكتها إلى الناس في الأرض وهو يقول ثلاثاً: اللهم اشهد).
أخرج البخاري في صحيحه: (أنه يجاء بنوح يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيقول الله: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم. يا رب! ويؤتى بأمته: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، يا رب! ما جاءنا من بشير وما جاءنا من نذير) هذه أخلاق اليهود، يقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولا أعني بذلك: أن أتباع نوح هم يهود، فاليهود لا يعرفون إلا بعد موسى عليه السلام، ولكن هذه هي الأخلاق المعروفة عن المكذبين حتى بين يدي الله عز وجل، يوم يطمس على الأفواه، وتنطق الجوارح، ويكون لكل إنسان من نفسه شاهد. قال: (هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا. يا رب! ما جاءنا من بشير وما جاءنا من نذير، فيقول الله عز وجل لنوح: من يشهد معك؟ فيقول: محمد وأمته).
فنحن أمة الوسط وأمة العدل وأمة الشهادة. قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].
هذا مصداق الشهادة يوم القيامة لجميع الأنبياء والمرسلين أنهم قد بلغوا وأدوا الأمانة ونصحوا أممهم، حتى تقوم الحجة على جميع الخلائق بشهادة أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وبشهادة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا، وصلى الله على نبينا محمد.
عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56.

هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات