من دروس حجة الوداع التجرد في الحج للشيخ عبد الناصر بليح
الحمد لله
الذي ختم الرسالات والنبوات بنبيه محمد صلي الله عليه وسلم ، وشرف الأمة المحمدية
بإكمال الدين وإتمام النعمة عليهم على الدوام، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة
للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:فيا جماعة الإسلام .
يقول
الله تعالي :” “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ “(الحج /197).
إن حجة
الوداع التي كانت آخر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيت الحرام رسمت معالم
عظمى في حياة الناس، وبينت أحكاماً جليلة وأحقت حقوقاً وأبطلت شروراً، إن ما يميز
هذه الحجة النبوية عن غيرها من الزيارات للبيت الحرام أنها أعلنت أهم الحقوق
الثابتة الراسخة إلى قيام الساعة ..
ومن وقت أن
أعلن رسول الله صلي الله عليه وسلم نيته بالحج، وأشعر الناس بذلك حتى يصحبه
من شاء.
ونودي في
الناس بأن الرسول صلي الله عليه وسلم سوف يحج فمن أراد الحج فليأتي معه .. فجاء
الحجيج من كل حدب وصوب ونظر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الألوف
المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى
الإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمع الكريم ليقول
كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلَّفات في النفوس، وتؤكد ما يحرص الإسلام
على إشاعته من آداب وعلائق وأحكام.
وجاء لرسول
الله صلي الله عليه وسلم بناقة ووضع عليها سرج رث .. فمن حديث أنس” أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- حج على رحل رث وقطيفة كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، فلما استوت به راحلته،
قال: “لبيك بحجة لا سمعة فيها ولا رياء”، هذا لفظ الشمائل ورواه قبل ذلك عن أنس،
حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم،
فقال: “اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة”.( الترمذي وابن ماجه).
ولفظ ابن
ماجه عن أنس قال: حج النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة
دراهم أو لا تساوي، وقال: “اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة”
ومن هنا
نأخذ درساً من حجة الوداع ..وهو التجرد “.
*التجرد من الدنيا الفانية الغرورة “
فالحج تجرد
من الدنيا في أيام معدودات لتعرف حقيقتها وتستعد لأيام باقيات في جنة عرضها الأرض
والسموات.. والحكمة من التجرد من أجل أن يكمل ذل الإنسان لربه عز وجل ظاهراً
وباطناً ، لأن كون الإنسان في رداء وإزار ذل ، تجد أغنى الناس الذي يستطيع أن يلبس
أفخر اللباس تجده مثل أفقر الناس لكمال الذل ، وأيضاً : من أجل إظهار الوحدة بين
المسلمين وأنهم أمة واحدة حتى في اللباس ، ولهذا يطوفون على بناء واحد ، ويقفون في
مكان واحد ، ويبيتون في مكان واحد ، ويرمون في موضع واحد .
إن الإنسان يتذكر أنه إذا خرج من
الدنيا فلن يخرج إلا بمثل هذا ، لن يخرج بفاخر اللباس وإنما سيخرج في كفن ، فلا
يأخذ معه مال قد كد وتعب في جمعه .. ويتركه للورثة يتمتعون به ..
والحج دعوة
للتجرد وعدم التشبث بحطام الدنيا الزائل الذي انتقل من أيدينا إلى قلوبنا وتحولت
حياتنا إلى مادة وحسب وجفت الروح والمشاعر، فإلزام الحاج بارتداء ملابس الإحرام
التى تشبه كفن الموتي، يعمق فينا شعور الزهد فى الدنيا والإقبال على الآخرة،
فحينما تتجرد مما اعتدت عليه من أشخاص وثياب وممتلكات وتجد نفسك خاويا من المتاع
الزائل، لابد أن ينتابك شعور الآخرة، وساعتها تدنو فى عينك الدنيا وتعظم الآخرة،
فإذا عظمت لديك الآخرة سارعت إلى فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات والمعاصي
والذنوب وكانت لك غاية واحدة هي أن تلقى الله عز وجل يوم القيامة وهو عنك راض.
ومن كان هذا
حاله ماذا يريد من الدنيا إلا أن تكون سبيلاً أكيداً للوصول إلى هذا الهدف
الأسمى ، فلا خصومة ولا نزاع مع بشر ولا كبر ولا رياء ولا احتقار لأحد، ولا غيبة
ولا نميمة، ولا تمسك بحطام زائل… بل لا معاصي، صغائر كانت أم كبائر.
الحج رحلة
عظيمة تذكر بالآخرة , والسفر إلى الله ..وهو التجرد من الدنيا الفانية التي لا
تساوي عند الله شيئاً ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ماسقي كافراً منها شربة
ماء ”
الحج هي
المحطة الصغرى التي تربط الدنيا بالآخرة .. فكل شيء في رحلة الحج يذكر بالآخرة ,
أسماء ترفع في ليلة القدر , فلان بن فلان من حجاج بيت الله لهذا العام .
_ ذكر بعض أهل السير أن شفيق البلخي أبصر في طريق الحج مقعداً يتكأ على إليته
يمشي حيناً و يضعها حيناً يرتاح حيناً و يمشي أخرى كأنه من أصحاب القبور مما أصابه
من وعثاء السفر و كآبة المنظر قال له شقيق يا هذا أين تريد قال أريد بيت الله
العتيق قال من أين أتيت ؟ قال من وراء النهر قال كم لك في الطريق ؟ فذكر أعواماً
تربوا على عشر سنين قال فنظرت إليه متعجباً قال يا هذا مما تتعجب قال أتعجب من بعد
سفرك و ضعف مهجتك قال أما بعد سفري فالشوق يقربه و أما ضعف مهجتي فالله يحملها يا
شقيق أتعجب ممن يحمله اللطيف الخبير إذا شاء._ ** ذكر لي أحد الثقات
العاملين على استقبال الحجاج في مدينة جدة أن طائرة تحمل حجاجاً من إحدى الدول
الآسيوية وصلت في ثلث الليل الأخير أحدى الأيام. قال: كان أول الوفد نزولاً امرأة
كبيرة السن فما أن وطئت قدماها الأرض إلا وخرَّت ساجدة . قال: فأطالت السجود
كثيراً حتى وقع في نفسي خوف عليها. قال: فلما اقتربنا منها وحركناها فإذا هي جثة
هامدة . فعجبت من أمرها وتأثرت بحالها فسألت عنها فقالوا : منذ ثلاثين سنة وهي
تجمع المال درهماً درهماً لتحج إلى بيت الله الحرام.وسبحان الله من أجل أن تموت في
هذا المكان وتحصل علي ثواب الحج فهؤلاء الذين ماتوا في الحرم المكي منذ أيام تجردو
من دنياهم استعداداً لآخرتهم وليحصلوا علي أجر الحج ويبعثون يوم القيامة ملبين
كماورد عن عبد الله بنعباس قال :
( بينما رجل واقف
بعرفة ، إذ وقع على راحلته فوقصته : فقال النبي : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في
ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) البخاري ومسلم).
·
التجرد من الكبر والغرور “.
إنه يوم
شبيه بالآخرة فالكل يقف متجرداً من ثياب الدنيا يلبس ثياباً هو أشبه
بالكفن ليس فيه فخرة ولا تكبر فالجميع أمام الواحد واحد فلا كبرياء ولا غرور
الجميع يطلب من الله العفو والمغفرة كيوم القيامة تدنو الشمس من رؤؤس الخلائق
ويلجم الناس بعرقهم يطلبون من الله المغفرة والعفو .. يستوي في ذلك الحاكم
والمحكوم و الوزير والخفير والغني والفقير الكل أمام الواحد واحد ..
فكان أول
عملٍ يعملُه الحاجُّ قبل النية والتلبية أن يتجرَّد من لُبس المخيط، وكأن في هذا
التجرُّد إيذانًا بالصفاء، والخلُو من الغش، وكأن فيه نزعًا لاعتبارات المظاهر على
المخابِر، وأن تقوى الله والقُرب منه – سبحانه – هما المِعيارُ الحقيقي؛ فقد قال
المُصطفى – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله لا ينظرُ إلى أجسامكم ولا إلى صُوركم،
ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم” (رواه مسلم).
التجرُّدُ
من المخيط – عباد الله – يجعلُ الحُجَّاج على حدٍّ سواء، مهما اختلفَت أصنامُهم
شريفُهم ووضيعُهم، وغنيُّهم وفقيرُهم. فلو كان كلٌّ منهم على لباسِه المعهود
لطفِقَت الأفئدةُ والأبصارُ مُشرئِبَّةً تتأمَّلُها وتنظرُ إليها، فيدِبُّ إليها
الغيرةُ والحسد، والشحناء والبغضاء، فتتنافرُ القلوب حتى تبتعِد عن خالقها ومولاها.
فكان
التجرُّد من الثياب تجرُّدًا من الهوى، وحب الذات، والولَع بالدنيا، وتجرُّدًا من
الإحَن والضغائن، وتتبُّع العورات، وقلَّة الإنصاف، حتى تكون النفوس مُهيَّأةً
لتحمُّل أمانة العدل المُنافي للظلم والجَور، ليبلُغ المُتجرِّدُ بعد ذلكم كلِّه
درجةَ المخمُوم الذي هو أفضلُ الناس؛ حيث سُئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ
الناس أفضل؟ قال: “كل مخمُوم القلب، صدُوق اللسان”. قالوا: صدوقُ اللسان نعرفه،
فما مخمُوم القلب؟ قال: “هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه، ولا غلَّ، ولا حسَد”
(رواه ابن ماجه).
التجرُّد –
عباد الله – هو خلُوص الشيء من مُخالطة غيره له؛ فالتجرُّد من المخيط هو نزعُ
الثياب ليحلَّ الإحرام محلَّها، والتجرُّد من الشرك هو ترك كل عبادةٍ سوى عبادة
الله وحده، والتجرُّد من البدعة هو تركُ كل سبيلٍ غير سبيلِ النبي – صلى الله عليه
وسلم -، وألا يعبُد المرءُ ربَّه إلا بما شرَع.
ففي نزع
المخيط في الحج والتجرُّد منه دلالةٌ ظاهرة على أن من أرادَ تحصيلَ تحليةٍ صافية
لا بُدَّ أن يُسبِقها بتخليةٍ صادقة، فإن التحلية إنما تحلُّ في فؤاد المرء بعد
التخلية، ومن أرادَ اللبنَ الصريح فلينزِع عنه الرُّغوة، (وَمَنْ أَرَادَ
الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].
* التجرد من النفاق والرياء “
والحاصلُ –
يا عباد الله -: أن المردَّ في حقيقة التجرُّد يرجعُ إلى عُنصرين رئيسين لا ثالث
لهما: أحدهما: التجرُّد في الإخلاص. والآخر: التجرُّد في المُتابعة.
فعندما يلبي
الحاج ويلهج لسانه بهذا النداء :” لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ..”
فهو الإخلاص الحق فتجرُّد الإخلاص ينفي كل شائبةٍ
من شوائِب الشرك الأكبر والأصغر، الخفيِّ منه والجليِّ؛ فإن من تجرَّد في إخلاصه
لله لم يُشرِك معه غيرَه.
وفي الحج من
مظاهر التوحيد ما لا يتَّسع المقام لذكره، ويجمعُ مُتفرِّقها كلَّه قوله تعالى:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196]؛ أي: له وحده دون
سِواه.:” لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين “(
الحج /37).
َفإن
من الناس من يحُجُّ رياءً وسُمعةً، ومنهم من يحُجُّ لدنيا يُصيبُها أو رغبةٍ
يُحصِّلها، فكان التجرُّد لله قاطعًا كل سبيلٍ إلى غيره.
وأما تجرُّد
المُتابعة – يرعاكم الله – فهو عُنصرٌ عظيم، وسِياجٌ منيع، يتمُّ الحفاظُ من خلاله
على عُنصر التجرُّد في الإخلاص؛ إذ لا نفعَ في إخلاصٍ لا تتحقَّقُ فيه مُتابعةُ
النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يقعُ الإخلاص في موقعه اللائِق به، وهو أن يكون
مُوافقًا لهدي النبي – صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
إذا تحقَّق
هذان التجرُّدان – عباد الله – فلا تسألوا حينَئذٍ عن حُسن انتظام الناس في حياتهم
الخلوية والعملية؛ لأن من تجرَّد لله في إخلاصِه ومُتابعته فحريٌّ به أن يُصيبَ
الحكمةَ إذا نطَق، وأن يعدِل إذا حكَم، وأن يُنصِف إذا وصَف، وأن يُعرِض عن اللغو
إذا سمِعه، وأن يملأ الله قلبَه في الحُكم على الآخرين بالمنطق العدليِّ لا
العاطفيِّ.
فلا تمنعُه
عيُ الرضا عن الإقرار بالعيب، كما لا تدفعُه عينُ السخط إلى التجنِّي والبُهتان.
ولهذا قال
بعضُ السلف: “لا تكُن ممن إذا رضِي أدخلَه رِضاه في الباطل، وإذا غضِب أخرجَه
غضبُه من الحق”.
ألا والله
وبالله وتالله؛ لو تحقَّق في الأمة هذان التجرُّدان لما ظهر الفسادُ فيها، ولا
كثُرت الفتن، ولا عمَّت البغضاءُ والشحناءُ أفئدةَ المؤمنين، ولا اتَّسعت الفُرقةُ
بينهم، ولا سُفِكَت دماؤُهم واستُبيحَت أموالُهم وأعراضُهم في صياصِيهم، أو قريبًا
من دارهم.
*التجرد من المعاصي والكبائر “.
إنه اليوم
الذي خطب فيه الرسول صلي الله عليه وسلم خطبة الوداع ودعي الناس ان يتجردوا من
الكبر والجاهلية والربا والمعاصي ومن القتل وسفك الدماء :”أيها الناس إن دمائكم
وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ..
وأن من أعظم الحقوق التي يجبُ المُسارعةُ في التجرُّد الصحيح فيها هي دماءُ
المُسلمين؛ فإنها حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فقد قال
الصادقُ المصدوقُ – صلواتُ الله وسلامُه عليه -: “لا يحلُّ دمُ امرئٍ مُسلم يشهَد
أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفسُ
بالنفس، والتارِكُ لدينه المُفارِقُ للجماعة” (رواه البخاري ومسلم).
فبأيِّ حقٍّ
وأيِّ تبريرٍ يستبيحُ أحدُنا دمَ أخيه المُسلم؟! وبأيِّ حقٍّ وأيِّ ذنبٍ تُزهقُ
النفسُ المعصومة، ويُعبثُ بانتظام الحياة الآمِنة الهانِئة؟!
ألا يعلمُ
العابِثون بالدماء أن عِصمةَ الدم أعلى درجات الأمن الدنيوي، فإذا ضاعَ فما سِواه
من صُور الأمن أضيَع!
أ لأجل
الدنيا يُسفكُ الدمُ الحرام؟! أ لأجل حظٍّ دنيويٍّ زائِل تُزهقُ أرواحٌ دون
جَريرة؟!
ألا متى
تصحُو أمَّتُنا من غفلتها لتعِي خطورةَ ما يُدمِي القلوب، ويُبكِي العيون من مآسِي
إخواننا المُسلمين في كل مكان؛ حيث تُسالُ دماؤُهم بغير حقٍّ ولا هدًى ولا كتابٍ
مُنير.
يستنشِقُ
القاتِلون الطُّغيانَ والجبروت، فيستنثِرون الدماءَ والرقابَ والأشلاء! إنهم
قُساةُ القلوب، غِلاظُ الأكباد، من عصاباتٍ طاغيةٍ مُعتديةٍ أباحَت لنفسها أنواعَ
الإجرام من قتلٍ وسلبٍ وإخلالٍ بالأمن إلا لها وعليها، فهي في نظرها من يستحقُّ
الحياة لا غيرها، فتُبيحُ لنفسها الانقلابَ والقتلَ والاستِهتارَ بالأرواح وحقوق
الجِوار. حتى أدمنَت رؤية الدماء، فلا تنتشِي إلا بها.
ألا فبشِّر
القاتل بقتله ولو بعد حينٍ. فأيُّ خُلُقٍ يحملُ هؤلاء، وأيُّ ذمةٍ يلقَون بها
الحكمَ العدلَ “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ”[الشعراء: 88]، “ذَلِكَ
يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ” [هود: 103].
فإن أول ما
يُقضَى في ذلك اليوم الدماء. فالويلُ ثم الويلُ لمن قدِم على الله في ذلك اليوم
وفي رقبته دمُ امرئٍ مُسلم! فكيف بمن في رقبته ما لا يُحصَى من الدماء المعصُومة؟!
ذلك اليوم الذي سيتحقَّقُ فيه قولُ الله – ومن أصدقُ من الله قِيلاً -: “وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا” [النساء: 93].
الخطبة
الثانية:
الحمد لله
على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
ثم اعلموا –
رحمكم الله – وأن من أعظم الحقوق التي يجبُ المُسارعةُ في التجرُّد الصحيح فيها هي
دماءُ المُسلمين؛ فإنها حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فقد
قال الصادقُ المصدوقُ – صلواتُ الله وسلامُه عليه -: “لا يحلُّ دمُ امرئٍ مُسلم
يشهَد أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني،
والنفسُ بالنفس، والتارِكُ لدينه المُفارِقُ للجماعة” (البخاري ومسلم).
فبأيِّ حقٍّ
وأيِّ تبريرٍ يستبيحُ أحدُنا دمَ أخيه المُسلم؟! وبأيِّ حقٍّ وأيِّ ذنبٍ تُزهقُ
النفسُ المعصومة، ويُعبثُ بانتظام الحياة الآمِنة الهانِئة؟!
ألا يعلمُ
العابِثون بالدماء أن عِصمةَ الدم أعلى درجات الأمن الدنيوي، فإذا ضاعَ فما سِواه
من صُور الأمن أضيَع!
أ لأجل
الدنيا يُسفكُ الدمُ الحرام؟! أ لأجل حظٍّ دنيويٍّ زائِل تُزهقُ أرواحٌ دون
جَريرة؟!
ألا متى
تصحُو أمَّتُنا من غفلتها لتعِي خطورةَ ما يُدمِي القلوب، ويُبكِي العيون من مآسِي
إخواننا المُسلمين في كل مكان؛ حيث تُسالُ دماؤُهم بغير حقٍّ ولا هدًى ولا كتابٍ
مُنير.
يستنشِقُ
القاتِلون الطُّغيانَ والجبروت، فيستنثِرون الدماءَ والرقابَ والأشلاء! إنهم
قُساةُ القلوب، غِلاظُ الأكباد، من عصاباتٍ طاغيةٍ مُعتديةٍ أباحَت لنفسها أنواعَ
الإجرام من قتلٍ وسلبٍ وإخلالٍ بالأمن إلا لها وعليها، فهي في نظرها من يستحقُّ
الحياة لا غيرها، فتُبيحُ لنفسها الانقلابَ والقتلَ والاستِهتارَ بالأرواح وحقوق
الجِوار. حتى أدمنَت رؤية الدماء، فلا تنتشِي إلا بها.
ألا فبشِّر
القاتل بقتله ولو بعد حينٍ. فأيُّ خُلُقٍ يحملُ هؤلاء، وأيُّ ذمةٍ يلقَون بها
الحكمَ العدلَ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) [الشعراء: 88]، (ذَلِكَ
يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود: 103].
فإن أول ما
يُقضَى في ذلك اليوم الدماء. فالويلُ ثم الويلُ لمن قدِم على الله في ذلك اليوم
وفي رقبته دمُ امرئٍ مُسلم! فكيف بمن في رقبته ما لا يُحصَى من الدماء المعصُومة؟!
ذلك اليوم الذي سيتحقَّقُ فيه قولُ الله – ومن أصدقُ من الله قِيلاً -: “وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا” [النساء: 93].
هذا وصلُّوا
– رحمكم الله – على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحب الحوض
والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة
بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال – جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
**اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر،
وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر
صحابةِ نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم
الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم
أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام
والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك
وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم آتِ
نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها يا ذا الجلال
والإكرام.
اللهم فرِّج
همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن
المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم
آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمرنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك
واتقاك واتبع رِضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق
وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له
بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر
جنودَنا المُرابِطين في الثغور، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين في الثغور، اللهم
انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم ارحم شهداءَهم، ورُدَّ غائبَهم، اللهم قوِّ
عزائمهم، وسدِّد سِهامهم وآراءَهم يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ) [البقرة: 201].
سبحان
ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ
لله رب العالمين.