تقديم المصلحة العامة واثره في استقرار المجتمع وبناء الدولة للشيخ فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، أنزل كتابه نوراً وهدىً للمؤمنين، وسراجاً وقمراً
منيراً في قلوب المتقين، ورَوْحاً ورياحاناً في قلوب العارفين، وجعله نبع السعادة لكل
من آمن بالله وعمل به في الدنيا، وسرَّ الفوز والفلاح والنجاح يوم الدين.
سبحانه .. سبحانه،
ما ترك شيئاً يهمُّنا جماعة المؤمنين في دينٍ أو دنيا أو آخرة، للفرد أو
للجماعة أو المجتمعات إلا وبيَّن سبيل إصلاحه، وطريق رقيِّه، والمنهج الذي يصير به
أصحابه أعزِّةً بين خلق الله في الدنيا، وجهاء يوم الجمع الأكبر على الله عزَّ وجلَّ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقُّ الحقَّ ويبطل الباطل
ولو كره المجرمون.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، أيَّده الله عزَّ وجلَّ بنصره،
وقوَّاه بقوته، وأمدَّه بمدد لا يعدُّه من كائناته ومن جملته ملائكته عزَّ وجلَّ، حتى
أعزَّ الله عزَّ وجلَّ به الدِّين، ونصر به الإسلام، وجعله نبيًّا فاتحاً لجميع الأنام،
وفي الآخرة شفيعاً لجميع الخلق يوم الزحام.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد الذي كانت رسالته طُهرةً للقلوب،
وكتابه حياةً للمجتمعات، وهجرته فتحاً، وغزواته نصراً، وأخلاقه هي النموذج القويم الذي
ارتضاه المولى العظيم من عباده المؤمنين.
صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا
معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
إذا أردنا أن يُصلح الله عزَّ وجلَّ حال مجتمعنا، ونكون متعاونين متآلفين
متباذلين، ليس بيننا وبين بعضنا شحناء ولا بغضاء ولا أحقاد ولا أحساد.
وإذا أراد أيُّ رجلٍ منا أن يُربي أولاده وبناته على أن يكونوا كشخصٍ واحدٍ
في الحبِّ لله جلَّ في علاه، وفي تآلفهم وفي تكاتفهم، لا يسعون في النكد لبعض، ، ولا
يتنافسون من أجل حطام الدنيا الفاني ويبيعون النسب العزيز الذي ورَّثه لهم أبوهم، إذا
أردنا أن نصنع ذلك لأنفسنا أو لمجتمعنا، ماذا نصنع؟!!.
هذا هو المنهج الإلهي، الذي رسمه الله عزَّ وجلَّ للنبيِّ، وبه صلى الله
عليه وسلَّم ألَّف المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، فأصبحوا كما قال فيهم الله:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ الله وَرِضْوَانًا
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (29الفتح).
فكانوا نِعْمَ المجتمع الإيماني الذي يحرص على تغليب المصلحة العامة على
مصلحة الفرد .
مجتمعٌ عاش بلا مشكلة واحدة طوال عصر النبيّ، وعصر الخلفاء الراشدين، لا
يحتاجون إلى قضاةٍ يفصلون بينهم، ولا إلى محامين يدافعون عنهم، ولا إلى مجالس صُلحٍ
تقرِّب بينهم وتنزع الخلافات فيما بينهم، كان كل ما بينهم الأُلفة والمودة والمحبة،
والتعاون على البرِّ والتقوى - كما أمر الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم، لأنهم تربَّوا
على المنهج الإلهي الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ لنا، وكان أول من نفَّذه حضرة النبي
صلى الله عليه وسلَّم.
ما هو المنهج الذي يجعل العبد يحرص على روح الجماعة؟؟
منهج التربية الرباني الذي نحتاج إلى الرجوع إليه كلنا، فقد اعتمدنا على
المدارس، والمدارس تدرِّس العلوم العصرية، ولا تدرس الأخلاق الإلهية ولا التعاليم القرآنية،
لكن المنهج الإلهي ها هو ذا - ثلاث خطوات: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9الحشر).
هذه هي تربية النبي للمؤمنين أجمعين، أول حلقة في تدريس حضرة النبي كما
أمر ربُّ العالمين
أن يغرس فيهم المحبَّة؛ المحبة أولاً لله، ومن أحب الله عزَّ وجلَّ حرص
على العمل بشرعه وتنفيذ ما يحبُّه ويرضاه، فإذا مشي في الدنيا يستنكف في نفسه أن يعصى
مولاه، أو أن يراه ربُّه عزَّ وجلَّ على عملٍ أو فعل لا يرضاه.
مَنْ أحبَّ مولاه هل يغُشُّ مسلماً في بيعٍ أو شراء؟!!، مَنْ أحبَّ مولاه
هل يستهزئ بأبيه أو يعق أمه؟!!، مَنْ أحبَّ مولاه هل يؤذي جيرانه الأقربين؟!!. مَنْ
أحبَّ مولاه ويعلم أنه يسمع كلامه بل يعلم سرَّه ونجواه هل يقول قولاً فيه سبٌّ أو
شتمٌ أو لعنٌ أو شئٍ يُغضب الله؟!!،
أو يدبِّر في نفسه وفي قلبه مؤامرةً أو شرًّا لأحد من خلق الله؟!!، لا
يكون ذلك أبداً، لأن مَنْ أحبَّ الله يحرص على العمل الذي يحبُّه عزَّ وجلَّ ويرضاه.
وبيَّن لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم المنهج الذي يجعلون به ذويهم
وأحبابهم وأبناءهم يحبُّون الله،
وقال صلى الله عليه وسلَّم: (أحبوا الله لما يغذوكم من النعم والآلاء)
(روى الترمذي والحاكم والطبراني عن ابْنِ عَبَّاسٍ )
نعرفهم بنعم الله التي أفاءها عليهم، وآلائه التي وسعتنا جميعاً. نعمه
في حقيقتنا وفي أنفسنا، ونعمه في كونه التي تحيط بنا، ونعمه التي ملَّكها لنا من زوجة
وأولاد وخلافه، يعرفهم هذه النعم، ويأمرهم أن يشكروا واهب النعم عزَّ وجلَّ، لأن الشكر
باب للمزيد:
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ) (7إبراهيم).
وصاحب الرسالة الذي جاءنا بها من عند الله - ونذر نفسه وحياته وكلَّه لله،
لا يطلب من وراء ذلك جاه، ولا دنيا ولا أموال، ولا مُلكاً ولا منصباً، وإنما لا يبتغي
إلا رضا مولاه بالرسالة التي بلغنا بها من عند الله
ينبغي علينا أن نحبَّه، لأن الله عزَّ وجلَّ اختاره لأنه يحبُّه، وجمَّله
بالخصال النبيلة والأخلاق الكاملة، ولذلك أنبأ صلى الله عليه وسلَّم أنه لا يتم الإيمان
لأى عبدٍ أيَّاً كان إلا إذا كان الحبُّ الغالب على قلبه حبَّ النبي العدنان صلى الله
عليه وسلَّم.
فإذا كان حبُّ الدنيا في قلبه حاشا لله أكبر من حبِّ النبيّ، فهو في خطرٍ
عظيم، وعلى وشك أن تنزل به الخطوب وتحيط به المدلهمات،
وإذا كان حب شيء من الدنيا كزوجةٍ أو ولدٍ أو مال أو جاهٍ أكثر من حبِّ
النبيِّ، يتربَّص أن تنزل به عقوبات من الله، أو يتخلى عنه الله عزَّ وجلَّ بمعونته،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم:
(والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ونفسه والناس أجمعين)
(البخاري ومسلم عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه)
وقال لسيدنا عمر رضي الله عنه عندما قال له: يا رسول الله، إني أحبُّك
أكثر من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، قال: لم يكمل إيمانك يا عمر، فذهب ثم عاد وقال:
يا رسول الله، والذي نفسي بيده إني لأحبك أكثر من كل شيء حتى نفسي التي بين جنبي. قال:
الآن يا عمر .. الآن يا عمر)
وضرب لنا الأصحاب الكرام المثل في حبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛
فهذا الإمام عليٌّ - وكان لا يزال صبياً - بلغ من حبِّه للنبيِّ أن ينام
في فراش النبيّ، وقد أحاط الكافرون بمنزل النبي ومعهم أسيافهم، وكانت خطتهم أن يدخلوا
بعد منتصف الليل ويضربونه ضربة واحدة، ليتفرق دمه في القبائل، فلا تطالب قبيلته بنو
هاشم بديته لعجزها عن مواجهة كل هذه القبائل.
ونام عليٌّ وهو يعلم أنه مُعرضٌ لهذا الخطر، لكنه لحبِّه لرسول الله فداه
بنفسه، فكان أول فدائي في الإسلام، فدا بنفسه الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم
السلام. وليعلي مصلحة الجماعة ويقدم نفسه فداءً
وما فعله ابو بكر رضي الله عنه اثناء الهجرة ، فكان أبو بكر تارةً يمشي
أمام النبي، وتارةً يرجع ويمشي خلف النبي، وتارةً يمشي على يمين النبي، وتارةً يمشي
على يسار النبي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ما بك يا أبا بكر؟!!. قال: يا رسول
الله أتذكَّر الرصد يعني ربما يكون قومٌ على الطريق مترصدين لك
فأتقدم، فأقول: أنا فردٌ واحد فإذا متُ فأنا فردٌ واحد، لكنك لو متَ ضاع
هذا الدين.
ثم أتذكَّر الطلب الذين يسعون خلفك ليطلبوك فأرجع للخلف، ثم أقول: ربما
يكونوا مترصدين على اليمين، فأمشي على اليمين، ثم أقول: ربما يكونوا مترصدين على اليسار،
فأمشي على اليسار.
هؤلاء القوم لو أخذنا نحكي حكاياتهم في حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
وتغليبهم المصلحة العامة لضاق بنا الوقت وضاق بنا المجال، لكن أولادنا في أمَّس الحاجة
إلى هذه القصص والحكايات، لنشأوا على حبِّ النبي،
فإذا كانوا على حبِّ النبي، تمسَّكوا بسُنَّة النبي، وبأخلاق النبيّ، وبالعمل
الذي كان يدعو إليه ويعمل به النبي صلى الله عليه وسلَّم.
ثم بعد ذلك الحبُّ لجميع الأخوة المؤمنين، لأن النبي وضع شرطاً للإيمان
وقال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) ( البخاري ومسلم عن أنس
رضي الله عنه)
ونحن نحتاج أجمعين أن نقيس إيماننا بهذا المقياس النبويّ، كان مجتمع حضرة
النبي يُطبِّق هذه التعاليم الإلهية على اليقين، في يوم الأضحى ضحَّى رجلٌ وأخذ برأس
شاته وأعطاها إلى بيتٍ فيه رجلٍ فقير، فجلس الرجل وزوجه وقال: تعلمين يا أم فلان أن
أخي أخوه في الله وليس في العصب ولا النسب أخي فلانٌ أحوج إلى هذه الرأس مني،
قالت: إذهب إليه وأعطها له، فذهب وأعطاها له، وجلس الثاني مع زوجه وقال:
يا أم فلان تعلمين أن أخي فلانٌ أحوج إلى هذه الرأس مني، قالت: اذهب إليه وأعطها له.
فدارت الرأس على سبع بيوت، ثم رجعت لصاحب البيت الأول!!، وكلهم كما قال الله: (وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9الحشر).
هكذا كان الحب فيما بينهم، يحبون الخير لإخوانهم كما يحبونه لأنفسهم.
فإذا كان المؤمن تربَّى على هذه الخصال، فأنا لا أحب أن تؤذيني امرأة جاري،
فلم أرضى أن تؤذي امرأتي جاري؟!!، أنا لا أُحب أن يغتصبني أحدٌ، فلماذا أفرح إذا اغتصبت
أحداً؟!!،
أنا لا أُحب أن يغُشني أحدٌ، فلماذا أسعد إذا غششتُ أحداً؟!!.
إذا انتشرت بيننا هذه الأخلاق الكريمة؛ محبَّة الله عزَّ وجلَّ، ومحبَّة
رسوله، ومحبة المؤمنين، انصلح المجتمع، وانصلحت أحوال البيوت، وانصلحت أحوال العائلات
والأفراد، وصرنا مجتمعاً صالحاً ليس فيه بغضاء ولا شحناء، قال صلى الله عليه وسلَّم
لأنس بن مالك رضي الله عنه: (يا بُنيَّ، إن استطعت أن تبيت وليس في قلبك غلٌّ ولا غشٌّ
لأحدٍ من المسلمين فافعل، فإن ذلك من سنتي، ومن فعل سنتي كان معي في الجنة) (رواه الترمذي
عن أنس رضي الله عنه)
أو كما قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أكرمنا بتقواه، وملأ قلوبنا وكتب فيها الإيمان
وجعلنا من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الخير وهو على كل شيء
قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، الهادي البشير، والسراج المنير.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد وارزقنا هداه، ووفقنا أجمعين
للعمل بما تحبُّه وترضاه، وارزقنا شفاعته في الآخرة، وجواره في الجنة أجمعين يا ألله.
أيها الأحبة جماعة المؤمنين:
منهج الله هو منهج السعادة التامة للمؤمنين، إذا أردنا أن نكون في الدنيا
أغنياء بخيرات الله، وبما ينزله ويخرجه لنا من الأرض الله، ونستغني عن المعونات ومدِّ
اليد إلى جميع الدول وإلى جميع خلق الله، ونصير أعزِّة، فهذا منهج الله يوضِّح لنا
ذلك:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً) - هذا في الدنيا، أما في الآخرة:
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(97النحل).
إذا كان المجتمع - كما نرى - مليئاً بالمشكلات، وحب الذات ومعظم أفراده
يشكون ويعانون؛ منهم من يعاني من المرض، ومنهم من يعاني من ضيق الأرزاق، ومنهم من يعاني
من فساد الأخلاق، ومن يعاني من عقوق الأبناء، ومنهم من يعاني من عدم طاعة الزوجات.
إذن هناك سببٌ ذكره مسبب الأسباب، وهي أن طاعتنا إلى الله عزَّ وجلَّ ليست كما ينبغي،
ليست على المنهج الذي رسمه الله، أو الذي كان عليه حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه
وسلَّم.
فإذا أردنا السعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة، علينا بمراجعة
المنهج الذي جاءنا به الله على يد حبيبه ومصطفاه، ونحاول أن نطبق هذا المنهج كما طبقه
الحبيب صلى الله عليه وسلَّم وصحبه الكرام، ينصرنا الله كما نصرهم، ويُعزُّنا الله
كما أعزَّهم، ويُغنينا الله كما أغناهم، ويجعلنا الله عزَّ وجلَّ أعزِّةً على الخلق
أجمعين، لأن الله له العزِّة وحده:
(إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا) (139النساء)،
وقد تفضل بها على المرسلين والمؤمنين فقال عز شأنه:
(لله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (8المنافقون). ....
ثم الدعاء