الإيثار: الفضيلة الغائبة للشيخ السيد مراد سلامة
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: تعريف
الإيثار.
العنصر الثاني:
فضل الإيثار.
العنصر الثالث:
مجالات الإيثار.
العنصر الرابع:
الإيثار خلق النبي المختار.
العنصر الخامس:
إيثار الصحابة الأطهار.
الخطبة الأولى
أمة الإسلام: نعيش
في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر مع فضيلة من الفضائل الغائبة عنا في عصر المدينة
وفي عصر يسمى بعصر العلم و لكن قد غابت عن سمائه فضيلة من أجل الفضائل التي تكسوا المجتمع
بكساء الألفة و المودة و الرحمة أتدرون ما هي تلك الفضيلة؟
إنها فضيلة الإيثار.
فمن منا يعرف معنى
الإيثار؟
ومن منا يعرف فضله؟
ومن منا يعرف مجالاته؟
هيا أعيروني القلوب
والأسماع لنعيش في بستان الإيثار.
العنصر الأول: تعريف
الإيثار:
معنى الإيثار اصطلاحاً:
(الإيثار أن يقدم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه وهو النهاية في الأخوة).
وقال ابن مسكويه:
(الإيثار: هو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه)
• وقال بعضهم: الإيثار
لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك
بين أخ وصاحب ذي معرفة.
العنصر الثاني:
فضل الإيثار:
الإيثار خلق إسلامي
رفيع دعا إليه ربنا – سبحانه و تعالى- و حث و اثني على أهله في غير ما آية من كتابه
فقال الله تعالى مادحا أوليائه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
قال الطبري: يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.
مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُ: وَيُعْطُونَ
الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ. يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا
بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وقال ابن كثير:
أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
ويقول ابن تيمية:
(وأما الإيثار مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا
مؤثرا ولا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا
تبلغ به الخصاصة).
أحباب رسول الله
ولن تصلوا إلى ذروة الإيمان إلا عن طريق سلم الإيثار قال العزيز الغفار: ﴿ لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
يقول السعدي: يعني:
(لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة،
حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس،
من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل
الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق
بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من
أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل
بدون هذه الحالة).
والله تعالى أعد
النعيم المقيم و الدرجات العلى لمن اتصف بالإيثار فقال الرحيم الرحمن: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ
بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ
يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 6 – 9]
وقال الله تبارك
وتعالى: ﴿ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى
الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴾.
قال الفخر الرازي:
(والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل
هنيء وحريراً فيه ملبس بهي).
و لقد رغب نبينا
– صلى الله عليه وسلم - في الإيثار و حث أصحابه و مدح أهله فها هو –بابي هو وأمي –
صلى الله عليه وسلم يمد الأشعريين - عن أبي موسى الأشعري- رضي اللّه عنه - قال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام
عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسّويّة،
فهم منّي، وأنا منهم)).
يقول الإمام العيني:
(فيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما
شرفوا به كونه أضافهم إليه....وفيه فضيلة الإيثار والمواساة).
وقال أبو العباس
القرطبي: (هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار، والمواساة عند الحاجة،
كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت لهم بشهادة
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّهم علماء عاملون، كرماء مؤثرون).
و الإيثار سبيل
البركة في الطعام كما خبرنا نبينا الهمام - صلى الله عليه وسلم -وعن أبي هريرة- رضي
اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((طعام الاثنين كافي الثّلاثة،
وطعام الثّلاثة كافي الأربع)). وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين
يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثّمانية)).
قال المهلب: والمراد
بهذه الأحاديث الحض على المكارمة في الأكل والمواساة والإيثار على النفس الذي مدح الله
به أصحاب نبيه، فقال: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
﴾ [الحشر:9] ( ولا يراد بها معنى التساوي في الأكل والتشاح ؛ لأن قوله عليه السلام:
( كافي الثلاثة ) دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية، وقد هم
عمر بن الخطاب في سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم وقال: (لن يهلك أحد عن نصف
قوته).
و اعظم أنواع الصدقة
صدقة الإيثار التي يؤثر بها المرء وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح
شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان
كذا، وقد كان لفلان)).
قال ابن بطال:
(فيه أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشي الفقر، وأمل
الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق في هذه
الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه
الضرار بميراثه والجوار في فعله).
العنصر الثالث:
مجالات الإيثار:
واعلموا - علمني
الله تعالى وإياكم - أن للإيثار مجالين:
المجال الأول: إيثار
العزيز الغفار:
وهو أن يؤثر العبد
به على نفسه و هواه فيقدم طاعة ربه و مولاه.
وهذا من أفضل أنواع
الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيثار
المتعلق بالخالق أجل من هذا – أي من الإيثار المتعلق بالخلق- وأفضل وهو إيثار رضاه
على رضى غيره وإيثار حبه على حب غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه وإيثار
الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره وكذلك إيثار الطلب
منه و السؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره).
ولهذا النوع من
الإيثار علامات دالة عليه، وشواهد موضحة له، لا بد أن تظهر على مدعيه، وتتجلى في المتحلي
به وهي علامتان:
إحداها: أن يفعل
المرء كل ما يحبه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه، ثقيلاً
عليه.
الثاني: أن يترك
ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبباً إليه، تشتهيه نفسه، وترغب فيه.
يقول ابن القيم:
فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار.
صعوبة هذا الإيثار
على النفس:
جبلت النفس إلى
الراحة والدعة والميل إلى الملاذ والمتع، كما جبلت على البعد عن كل ما يشق عليها أو
ينغص متعتها أو يحد من ملذاتها، ولما كان هذا النوع من الإيثار يضاد ما جبلت عليه النفس
من الراحة والدعة كان صعباً عليها التلبس به، أو التخلق والتحلي بمعناه.
يقول الإمام ابن
القيم مبيناً صعوبة هذا النوع من الإيثار وثقله على النفس:
ومؤنة هذا الإيثار
شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة
والنفس عنه ضعيفة ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وإن كان هذا النوع
من الإيثار شديد على النفس صعب على الروح إلا أن ثمراته وما يجنيه الشخص منه تفوق ثمرات
أي نوع من الأعمال، فنهايته فوز محقق وفلاح محتوم، وملك لا يضاهيه ملك.
(فحقيق بالعبد أن
يسمو إليه وإن صعب المرتقى وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المحنة ويحمل فيه خطرا يسير
لملك عظيم وفوز كبير فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال
ويسير منه يرقي العبد ما لا يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة وذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء).
المجال الثاني:
إيثار يتعلق بالخلق:
وهو أن يؤثر الغير
على نفسه وهذا هو موطن الحديث فكم من إنسان فتح الله –تعالى عليه – ويرى الفقراء والمحتاجين
ولكنه تضن نفسه ويضعف إيمانه أمام البذل والعطاء فيمنع رفده، ولكن أصحاب النفوس الطيبة
السخية تسخوا أنفسهم وأيديهم وتعلوا هممهم فيتشبهون بأخلاق الأنبياء و الأولياء و هيا
لنقف مع مشاهد رائعة في البذل و الإيثار.
العنصر الرابع:
الإيثار خلق النبي المختار– صلى الله عليه وسلم -:
النبي – صلى الله
عليه وسلم-من وصفه ربه بالكمال والجمال و من اعتلى قمة الأخلاق حيث قال الله تعالى
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
فقد أخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من جميع الأخلاق أوفر الحظ والنصيب، فما من خلق إلا وقد تربع المصطفى
صلى الله عليه وسلم على عرشه، وعلا ذروة سنامه، ففي خلق الإيثار كان هو سيد المؤثرين
وقائدهم ، بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يشبع لا هو ولا أهل بيته
بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أنه صلى
الله عليه و سلم كان يؤثر بما عنده فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله
عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل
الله تعالى ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم
فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه).
الواقع التطبيقي
في حياة الحبيب النبي – صلى الله عليه وسلم -:
لقد كان رسولنا
الأسوة و القدوة الحسنة في كل عمل يحث عليه و يدعو اليه و هاك مشهد من مشاهد الإيثار
مشهد ينبض الإيثار.
• عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ:
هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا،
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، قَالَ يَعْقُوبُ: إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ
إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَارُهُ.
وقَالَ أَبُوغَسَّانَ:
فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله،
مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ قُتَيْبَةُ
عَنْ يَعْقُوبَ: فَجَلَسَ مَا شَاءَ الله فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا
ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ.
قَالَ أَبُوغَسَّانَ:
فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، فقَالَوا:
مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا
مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ
شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ لِبَرَكَتِهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا.زَادَ يَعْقُوبُ: يَوْمَ
أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. أخرجه البخاري.
المشهد الثاني مشهده
– صلى الله عليه وسلم - و قد ألم به التعب و الإرهاق و ظهر على وجهه- الكريم- علامات
الجوع فيذهب جبر – رضي الله عنه ليعد له طعاما له و لكن النبي – صلى الله عليه وسلم
- يأبي إلا أن يكل الجميع من ذلك الطعام - وعن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما
- قال: ((إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة
أيّام لا نذوق ذواقا فأخذ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المعول فضرب في الكدية فعاد
كثيبا أهيل أو أهيم فقلت: يا رسول اللّه ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت في
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير
وعناق فذبحت العناق وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم بالبرمة. ثمّ جئت النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج. فقلت:طعيّم
لي فقم أنت يا رسول اللّه ورجل أو رجلان.قال: كم هو؟ فذكرت له فقال: كثير طيّب قال:قل
لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي، فقال: قوموا. فقام المهاجرون والأنصار
فلمّا دخل على امرأته. قال: ويحك جاء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالمهاجرين والأنصار
ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت:نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل
عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه ثمّ ينزع فلم
يزل يكسر الخبز ويغرف حتّى شبعوا وبقي بقيّة. قال: كلي هذا وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم
مجاعة)).أخرجه البخاري.
أقول قولي هذا،
وأسأل الله سبحانه أن يمنّ علينا بالاستجابة له ولرسوله، وبالثبات على ما يرضيه إلى
أن نلقاه تعالى، وأن يغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين
ولا عدوان إلا على الظالمين وصلوات الله وسلامه على خاتم المرسلين أحمده سبحانه وأتوب
إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم
صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحابته إلى يوم الدين.
العنصر الخامس:
إيثار الصحابة الأطهار:
الصحابة – رضي الله
عنهم أجمعين -جيل فريد تخرج من أعظم جامعة عرفتها الدنيا انه تخرج من الجامعة المحمدية
من رباهم النبي – صلى الله عليه وسلم - على عينه فنهلوا من معين أخلاقه وأفعاله – صلى
الله عليه وسلم -.
ضرب الصحابة أروع
أمثلة الإيثار وأجملها، ومن يتأمل في قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربا من خيال لولا أنه منقول
لنا عن طريق الأثبات وبالأسانيد الصحيحة الصريحة.
ضيف رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
• عن أبي هريرة-
رضي اللّه عنه -((أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث إلى نسائه فقلن:
ما معنا إلّا الماء. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: من يضمّ-أو يضيف- هذا؟
فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم فقالت: ما عندنا إلّا قوت صبياني. فقال: هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي
صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثمّ قامت كأنّها
تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنّهما يأكلان فباتا طاويين فلمّا أصبح غدا إلى رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: ضحك اللّه اللّيلة- أو عجب من فعالكما- فأنزل اللّه
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9].
إيثار منبعه الإيمان:
المال للرجل الكريم
ذرائعٌ
يبغي بهن جلائل
الأخطار
والناس شتى في الخلال
وخيرهم
من كان ذا فضلٍ
وذا إيثار
أقبل المهاجرون
إلى المدينة لا يملكون من أمر الدنيا شيئاً، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم
وأقبلوا على ما عند الله عز وجل يرجون رحمته ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين
تبوؤا الدار، وأكرموهم أيما إكرام ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا بل قاسموهم
الأموال والزوجات... في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان:
• فعن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال: ((لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم فقالوا:
يا رسول الله ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أبذل في كثير منهم
لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة ولقد خشينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كله فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم)).
• وهذا عبد الرحمن
بن عوف ((لما قدم المدينة آخى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بينه وبين سعد بن الرّبيع
الأنصاريّ وعند الأنصاريّ امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك اللّه
لك في أهلك ومالك دلّوني على السّوق...)).
إيثار... حتى عند
الموت:
أُسد ولكن يؤثرون
بزادهم
والأُسد ليس تدين
بالإيثار
يتزين النادي بحسن
وجوههم
كتزيُّن الهالات
بالأقمار
أمة الإسلام:
لقد ضرب صحابة النبي
– صلى الله عليه وسلم-ورضي الله عنهم-أروع الأمثلة في مواطن لا يتخيلها إنسان بل هي
أروع من الخيال انه الإيثار عند الموت لنترككم مع المشهد و هو يلهب مشاعرنا.
• يقول حذيفة العدويّ،
انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته
ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار
ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به
آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا
هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات. رحمة اللّه عليهم أجمعين
• وفي غزوة اليرموك
قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم
؟ ثم نادى: من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة
من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل
منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم... فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء
إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت
إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا
جميعا ولم يشربها أحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين.
إيثار أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها:
لم يكن الإيثار
في يوم من الأيام مقصورا على الرجال وإنما يوجد الإيثار حيث يوجد الإيمان لذا ضربت
السيدة عائشة –رضي الله عنها أروع الأمثلة في الإيثار ولنذكركم بطرف من إيثارها.
إيثارها- رضي الله
عنها - عمر- رضي الله عنه - على نفسها:
• لما طعن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال لابنه عبدالله: (اذهب إلى أمّ المؤمنين
عائشة رضي اللّه عنها- فقل: يقرأ عمر بن الخطّاب عليك السّلام، ثمّ سلها أن أدفن مع
صاحبيّ. قالت كنت أريده لنفسي فلؤثرنّه اليوم على نفسي. فلمّا أقبل قال له: ما لديك؟
قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال:
ما كان شيء أهمّ
إليّ من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني، ثمّ سلّموا ثمّ قل: يستأذن عمر ابن الخطّاب
فإن أذنت لي فادفنوني، وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين).
إيثارها الفقير
على نفسها - ودخل عليها مسكين فسألها وهي صائمة وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة
لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إيّاه. قالت: ففعلت.
قالت: فلمّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها. فدعتني
عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك).
من إيثار السلف:
• عن أبي الحسن
الأنطاكيّ: أنّه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الرّيّ، ومعهم أرغفة معدودة
لا تشبع جميعهم، فكسروا الرّغفان، وأطفئوا السّراج، وجلسوا للطّعام، فلمّا رفع فإذا
الطّعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه
• قال عباس بن دهقان
ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه
الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوبا فمات فيه
الدعاء.....