فضل الإيثار للشيخ أحمد أبو عيد





















لتحميل الخطبة #pdf برجاء الدخول إلى الرابط التالي


ولتحميل الخطبة #word برجاء الدخول إلى الرابط التالي


الحمد لله العلي الكبير، يخلُق ما يشاء ويختار، وما كان للإنسان في الخلق تخيير، رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم، فهذا غني وذاك فقير، خلق الشر وقدره، وخلق الخير وقدره، وما لأحد في الأمور تدبير، أرسل رسله تترى،﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾"فاطر: 24"،

 فمَن أراد الهدى رُزق في سبيله التسخير، ومن اختار الضلالة وجد في طرقها التيسير، نحمَده تبارك وتعالى الحمد الكثير، ونعوذ بنور وجهه الكريم من الخسف والتدمير، ونسأله النصر والولاية؛ فهو نعم المولى ونعم النصير.

وأشهد أن لا إله إلا الله العليم القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾"الأنعام: 103"، يُحوِّل ولا يَتحول، ويغيِّر ولا يعتريه تغيير، يبدأ الخلق ثم يعيده، ﴿ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ "التغابن: 7"، كتب السعادة لمن أطاعه ووقاه عذاب السعير، وحقت على الكافرين الشقاوة، وما زادهم غير تخسير.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، النور المبين r والسراج المنير، أُعطيَ مجامع الكلم فما أخطأ التعبير، أنزل الناس منازلهم فوقر منهم الكبير، وخاطبهم على قدر عقولهم ورحم منهم الصغير، ما رد منهم سائلًا قطُّ، بل جاد بالقليل وبالكثير، هجر الفواحش كلها، وعفَّ عن الحَرام وهو صغير، ذاق طعم اليُتْم فما حسد ولا حقد على من لبس الحرير، لبس من الثياب الخشن وما نام على الوثير،
وربط الأحجار على بطنه وما شبع من خبز الشعير، دعا قومه لنجاتهم فتطاول عليه كل مَهِين وحقير، ودارت الأيام دورتها وبرك الطغاة بروك البعير، فأشار إليهم إشارة راحم ولم يعتب ولم يطلب التبرير، ومسح الجراح برأفة ودموع ندمهم على الخدود غزير، فالتأم شمل الجميع وقد علا صوت المؤذن على صوت النفير، الله أكبر الله أكبر الله أكبر فوق كل كبير.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه ما تردد نفَس بين شهيق وزفير، وكلما عسعس الليل وتنفس الصبح وفاح من الورود عبير.

العناصر
أولاً: تعريف الإيثار ودرجاته
ثانياً: فضل الإيثار
ثالثاً: مواقف خالدة في الإيثار
رابعاً: بعض الوسائل التي تعين
      على اكتساب الإيثار وترسيخه

الموضوع
أولا: تعريف الإيثار ودرجاته
الإيثار خير دثار، وأفضل شعار، ودليل على رسوخ الإيمان والثقة بما عند الرحمن، وهو علامة حب المرء لإخوانه، وبرهان على سلامة النفس من دغل الأثرة والجشع والأنانية، فالمؤمن الحقيقي والمحب والصادق لإخوانه هو الذي يجود بما في يديه وهو محتاج إليه، يجوع ليشبع غيره، ويكد ليرتاح إخوانه، ويسهر لينام أحبابه.

الإيثار لغة:
الإيثار لغة مصدر من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص، ومن ذلك قولهم: استأثر بالشيء: استبد به وخص به نفسه، واستأثر الله بفلان إذا مات ورجي له الغفران، وآثر على نفسه بالمد من الإيثار وهو الاختيار، ومنه الأثرة بمعنى التقدم والاختصاص، ويستعار ( الأثر ) للفضل والإيثار للتفضيل, وآثرت فلانا عليك بالمد فأنا أوثره.

الإيثار اصطلاحاً:
(الإيثار أن يقدم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه وهو النهاية في الأخوة).
وقال ابن مسكويه: (الإيثار: هو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه)
قال القرطبيّ: الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدّنيويّة رغبة في الحظوظ الدّينيّة، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين وتوكيد المحبّة، والصّبر على المشقّة
فهو أن يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه.
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله r ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا.

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود:
ذكر ابن القيم رحمه الله فروقاً بين كل من السخاء والجود والإيثار مع أنها كلها أفعال بذل وعطاء, قال ابن القيم رحمه الله: وهذا المنزل – أي الإيثار-: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة:
إحداها: ألا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء.
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود.
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار

درجات الإيثار:
لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسد عليك وقتًا، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.

الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن ، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا r، وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.

قال الشافعي رحمه الله: " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"، ومعلومٌ أن لا صلاح
للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد
أحسن من قال:
فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ

**
وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ 
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ

**
وبيني وبين العالمين خرابُ 
إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ

**
وكل الذي فوق التراب تراب
 







الثالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت، فكأنك سلمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المُعطي حقيقةً.

ثانياً: فضل الإيثار

1-من كمال الإيمان
وعن أنس t قال : قال رسول الله r : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "([1])

2-أمر به النبي r
عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله r إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله r : " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له " قال : فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل " ([2])

3-الِاهْتِمَامُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإيمَان:
عَنْ أَبِي مُوسَى t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ "ا([3])
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ([4])
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:" بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ r إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ؛ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ. قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ."([5])

4-أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة
قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "الحشر: 9"
قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ. مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ([6])

وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك([7])
ويقول ابن تيمية: ( و أما الإيثار مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا ولا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة) .

5-الوصول إلى البر
قال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ "آل عمران: 92".
يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها, ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة) ([8]).

6-محبة الله تعالى
عن أبي هريرة- t- قال: قال رسول الله r: إنّ الله قال: «من عادى لي وليّا فقد آذنته  بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها  . وإن سألني لأعطينّه، وإن استعاذ بي لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» ([9])
معنى قوله: "آذنته بالحرب: أي أعلمته بها ،«كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» : قال الحافظ في الفتح: وقد استشكل كيف يكون البارئ جل وعلا سمع العبد، وبصره ... إلخ. والجواب من أوجه: أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي ([10]).

7-يبقى جزاؤه عند الله تعالى
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ».  ([11])

8-إيثار الميت ورثته بماله
(عن أبي هريرة- t- عن رسول الله r، قال: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِى فَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالاً فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ »([12]).

9- ما نقص مال من صدقة
قال تعالى " ما عندكم ينفد وما عند الله باق"
وعن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي r : " ما بقي منها ؟ " قالت : ما بقي منها إلا كتفها قال : " بقي كلها غير كتفها " ([13])
10-إيثار الآخرة على الدنيا
قال تعالى" فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)"
وقال تعالى" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)"

11-تيسير الله عليه في الآخرة
عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r :  من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ....." ([14])

12-الوقاية من النار ودخول الجنة
قال تعالى"وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)"الإنسان
عن عائشة-رضي الله عنها- أنّها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلّ واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقّت التّمرة الّتي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الّذي صنعت لرسول الله r فقال: «إنّ الله قد أوجب لها بها الجنّة أو أعتقها بها من النّار» ) ([15])

13-الإيثار خُلق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام:
فإيثار رضا الله عز وجل على غيره ولو أغضب الخلق كلهم هو درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، فإبراهيم u سأل ربه الولد الصالح، فوهب له إسماعيل u، فامتحنه الله بذبحه، فما كان من سيدنا إبراهيم u إلا أن استسلم لأمر ربه فأقدم على ذبح ولده - الذي رزق به على كبر وهو وحيده حينذاك - إيثاراً لمحبة الله على محبة الولد، فكافأه الله سبحانه وتعالى عندما أراد تنفيذَ هذا الفعل بأن فداه بذبح عظيم. قال تعالى: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.........
علّق الإمام ابن القيم على هذه الآيات فقال: "لم يكن المقصودُ ذبحَ الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده، حصل المقصود فرُفع الذبح وفُدي الولد بذبح عظيم.

13-النهى عن الشح
عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ r، قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ" ([16])
الشح: أشد البخل وهو أبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع حرص، وقيل: البخل، في أفراد الأمور وأحادها، والشح عام، وقيل: البخل بالمال، والشح بالمال والمعروف. انتهي. (فإن الشح أهلك من كان قبلكم) كان سببًا في هلاكهم حرصوا على الدنيا (حملهم على أن سفكوا دماءهم) سفك الدم صبّه، (واستحلوا محارمهم) صيَّروا ما حرم الله عليهم حلالاً.
وقال تعالي﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ "الحشر: 9".

14-الشيطان يعد بالفقر
قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ "البقرة"

ثالثاً: مواقف خالدة في الإيثار

1-يوسف u
قال تعالى: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)"يوسف.
ولقد سجل التاريخ بأحرف من نور مواقف خالدة للمسلمين بلغوا فيها المرتبة العالية والغاية القصوى من الإيثار:

2-الرسول الله r
أخذ رسول الله r مِن جميع الأخلاق أوفر الحظِّ والنَّصيب، فما مِن خُلُقٍ إلَّا وقد تربَّع المصطفى r على عرشه، وعلا ذِروة سَنَامه، ففي خُلُق الإيثَار كان هو سيِّد المؤثرين وقائدهم، بل وصل الحال به r أنَّه لم يكن يشبع -لا هو ولا أهل بيته- بسبب إيثاره r، قال ابن حجر: (والذي يظهر أنَّه r كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصَّحيحين أنَّه كان -إذا جاءه ما فتح الله عليه مِن خيبر وغيرها مِن تمر وغيره- يدَّخر قوت أهله سنة، ثمَّ يجعل ما بقي عنده عُدَّة في سبيل الله تعالى، ثمَّ كان مع ذلك -إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف- يشير على أهله بإيثارهم، فربَّما أدَّى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه)
وعن سهل بن سعد، قال: ((جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟ فقيل له: نعم، هي الشَّملة منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إنِّي نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النَّبيُّ r محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها إزاره، فقال رجل مِن القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النَّبيُّ r في المجلس، ثمَّ رجع فطواها، ثمَّ أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إيَّاه، لقد علمت أنَّه لا يردُّ سائلًا. فقال الرَّجل: والله ما سألته إلَّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه))([17])
وعن أبي هريرة- t- أنّه كان يقول: الله الّذي لا إله إلّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع. وإن كنت  لأشدّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ أبو القاسم r فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمّ قال: «يا أبا هرّ» قلت: لبّيك رسول الله قال: «الحق» ومضى. فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللّبن؟» قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: «أبا هرّ» قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: «الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي» . قال- وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون  على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة؟ كنت أحقّ أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله r بدّ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: «خذ فأعطهم» . فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ r وقد روي القوم كلّهم. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: «أبا هرّ» ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: «بقيت أنا وأنت» ، قلت: صدقت يا رسول الله. قال: «اقعد فاشرب» ، فقعدت فشربت. فقال: «اشرب» ، فشربت فما زال يقول: «اشرب» . حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا. قال: «فأرني» فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة)([18])
لا يأوون: قال ابن حجر: «والأكثر إلى بدل على» والمعنى ليس لهم أهل ولا مال يأوون إليه.

3-ضيف رسول الله
فعن أبي هريرة t أن رجلاً أتى النبي r، فبعث إلى نسائه فقلن: " ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله r: " من يُضيف هذا ؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله r، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك (أوقديه) ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله r، فقال: " ضحك الله الليلة - أو عجب - من فعالكما، فأنزل الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)"الحشر:"([19])

4-أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
 لما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب t قال لابنه عبد الله: (اذهب إلى أُمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر ابن الخطَّاب عليك السَّلام، ثمَّ سلها أن أُدْفَن مع صاحبيَّ. قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنَّه اليوم على نفسي. فلمَّا أقبل، قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهمَّ إليَّ من ذلك المضجع، فإذا قُبِضت فاحملوني، ثمَّ سلِّموا، ثمَّ قل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإن أذنت لي فادفنوني، وإلَّا فردُّوني إلى مقابر المسلمين)([20])

5-ابن عمر
 مرض ابن عمر فاشتهى عنبًا -أول ما جاء العنب- فأرسلت صفيَّة -يعني امرأته- فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتَّبع الرَّسول السَّائل، فلمَّا دخل به، قال السَّائل: السَّائل. فقال ابن عمر: أعطوه إيَّاه. فأعطوه إيَّاه. ثمَّ أرسلت بدرهم آخر، فاشترت عنقودًا، فاتَّبع الرَّسول السَّائلُ، فلمَّا دخل، قال السَّائل: السَّائل. فقال ابن عمر: أعطوه إيَّاه. فأعطوه إيَّاه. فأرسلت صفيَّة إلى السَّائل، فقالت: والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثمَّ أرسلت بدرهم آخر فاشترت به، واشتهى يومًا سمكةً، وكان قد نَقِهَ مِن مرضٍ فالتُمِسَت بالمدينة، فلم توجد حتى وُجِدَت بعد مُدَّةٍ، واشْتُرِيَت بِدرهم ونصفٍ، فشُوِيَت وجيء بها على رغيف، فقام سائلٌ بالباب، فقال ابن عمر للغلام لفَّها برغيفها، وادفعها إليه. فأبى الغلام، فردَّه وأمره بدفعها إليه، ثمَّ جاء به فوضعها بين يديه، وقال: كُلْ هنيئًا -يا أبا عبد الرَّحمن-، فقد أعطيته درهمًا وأخذتها. فقال: لفَّها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدِّرهم([21]).

6-جابر بن عبد الله
عن جابر بن عبد الله- t- قال: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية  شديدة فجاءوا النّبيّ r فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: «أنا نازل» ثمّ قام وبطنه معصوب  بحجر ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقا فأخذ النّبيّ r المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا  أهيل  أو أهيم فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت في النّبيّ r شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق فذبحت العناق  وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم بالبرمة  . ثمّ جئت النّبيّ r والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافيّ  قد كادت أن تنضج. فقلت: طعيّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال: «كم هو؟» فذكرت له فقال: «كثير طيّب» قال: «قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي، فقال: «قوموا» . فقام المهاجرون والأنصار فلمّا دخل على امرأته. قال: ويحك جاء النّبيّ r بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» . فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه ثمّ ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتّى شبعوا وبقي بقيّة. قال: «كلي هذا وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة» ([22])
ومعنى : الكدية: القطعة الشديدة الصلبة من الأرض ، معصوب: مربوط ،  كثيبا: رملا. أهيل: غير متماسك. وأهيم بمعنى أهيل. العناق: أنثى المعز. البرمة: القدر، الأثافي: الحجارة التي توضع عليها القدور.

7-الأنصار يعرض أحدهم على أخيه من المهاجرين أن يناصفه أهله وماله فيأبى المهاجر ويقول: " بارك الله لك في أهلك ومالك ".

8-أبو طلحة
(عن أنس بن مالك- t- قال: قال أبو طلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله r ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير ثمّ أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولا ثتني  ببعضه ثمّ أرسلتني إلى رسول الله r. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله r في المسجد ومعه النّاس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله r: «آرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال: «بطعام؟» قلت: نعم. فقال رسول الله r لمن معه: «قوموا» فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله r بالنّاس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتّى لقي رسول الله r: فأقبل رسول الله r وأبو طلحة معه، فقال رسول الله r: هلمّي يا أمّ سليم ما عندك  ، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله r ففتّ، وعصرت أمّ سليم عكّة فأدمته  ، ثمّ قال رسول الله r فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: «ائذن لعشرة» فأكل القوم كلّهم حتّى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا)([23])
ومعنى" ولا ثتني ببعضه: أي لفتني به. يقال لاث العمامة على رأسه أي عصبها، والمراد أنها لفت بعضه على رأسه وبعضه على إبطه ... إلخ.
هلمي ... إلخ: أحضري الطعام الذي عندك. وعصرت أم سليم عكة فأدمته: أي صيرت ما خرج من العكة له إداما، والعكة بضم المهملة وتشديد الكاف إناء جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا والعسل

9-الأشعريين : عن أبي موسى الأشعريّ- t- قال: قال رسول الله r: «إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسّويّة، فهم منّي، وأنا منهم» ) ([24]).   ومعنى أرملوا: أي فني طعامهم.

10-سحرة فرعون
قال تعالى: "قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72)" طه.

11-من فوائد (الإيثار)
(1) دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(2) طريق موصّل إلى محبّة الله ورضوانه.
(3) حصول الألفة والمحبّة بين النّاس.
(4) دليل سخاء النّفس وارتقائها.
(5) مظهر من مظاهر حسن الظّنّ بالله.
(6) علامة على حسن الخاتمة.
(7) الإيثار دليل علوّ الهمّة والبعد عن صفة الأثرة الذّميمة.
(8) الإيثار يجلب البركة وينمّي الخير.
(9) الإيثار من علامات الرّحمة الّتي توجب لصاحبها الجنّة ويعتق بها من النّار.
(10) الإيثار طريق موصّل إلى الفلاح لأنّه يقي الإنسان من داء الشّحّ.

رابعا: بعض الوسائل التي تعين على اكتساب الإيثار وترسيخه:

أ-رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومَعاليها:
فإنَّ من أفضلِ أخلاقِ الرجلِ وأشرفِها وأعلاها خُلُق الإيثار، وبحسب رغبته فيها يكون إيثارُه. فكلما رغب العبد أن يزداد من مكارم الأخلاق ومَعاليها عليه أن يُبادرَ إلى التَّخَلُّق بهذا الخلق العظيم.

ب-مَقْتُ الشُّحِّ:
فإن العبد إذا مَقَتَ الشُّحَّ وأبغضَه التزم الإيثارَ وأحبَّه، فإنه يرى أنه لا خلاصَ له من هذا المقت البغيض (الشح) إلا بخلق الإيثار.

جـ-تعظيم الحقوق:
التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضِهم على بعض، فإن عُظِّمَت الحقوق عندنا قمنا بواجبها، ورعيناها حقَّ رعايتها، واستعظمْنا إضاعتها، وأصبح الغني منا يرعى الفقير، والقوي يحرص على الضعيف، وعلمنا أننا إن لم نَبْلُغْ درجةَ الإيثار لم نُؤَدِّها كما ينبغي، فنجعل إيثارنا احتياطاً لأدائها.

د-المواظبة على تَكَلُّفِ الإيثارِ مرةً بعد مرة:
حتى تَأْلَفَهُ النفس وتعتادَه ويصيرَ لها طبعاً وسَجِيَّة، وهذا يستلزم التَجَمُّل بالصبر، كالمريض الذي يصبر على تعاطي الدواء المر. فإن تحمّلنا المشقة التي يحتاجها الإيثار يصبح فيما بعد خلقاً نكتسبه نتيجة هذا التجمُّل والتَصَبُّر الذي نحتاج إليه في معاملتنا مع الناس.

هـ-إدمان مطالعة فضائل الإيثار، وترديدها على القلب:
وجمع الهمة على تحصيل الإيثار، والسعي الحثيث في التحلي به.

و-المواظبة على العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة:
كالصلاة التي قال الله سبحانه وتعالى في شأنها:"...إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ... "العنكبوت.
فهذه الواجبات المفروضة والمندوبات التي جاءنا بها النبي r تكون عوناً للمسلم على التخلُّق بهذا الخُلق العظيم.

ز-لُزومُ الصِّدقِ وتَحَرِّيه، وتَجَنُّبُ الكذب:
لأن الصدق يهدي إلى البر، قال r: "عليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة"([25]). والإيثار من جملة البر.
ح-الاقتداء بالمثل الأعلى للبشرية:
يكفينا أن نأخذ مثلاً وقدوةً سيدَنا رسول الله r، ومطالعة سيرته العطرة وشمائله الكريمة، فقد كان عليه الصلاة والسلام خيرَ من يُؤْثِرُ الناس، وخيرَ من يقدِّم لهم العونَ والمساعدة، وقد ضرب لنا r أمثلة كثيرة في حياته، وهو الذي أعرضَ عن دنياه، ولم يسترسل بها، وكان زاهداً فيها، مع أن الله سبحانه وتعالى أنزلَ عليه سيدَنا جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له: "يا محمد! إن شئتَ أن يُسِيَّرَ اللهُ معكَ الجبال حيثُ شئت فعل". فقال r: "بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر".
هذا هو خلق الإيثار، وهذه هي النماذج العظيمة من حياة سيدنا رسول الله r.
 ثم استحضار إيثار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ثم استحضار إيثار من تَبِعهم من أهل العلم والإيمان.

ط-تقوية رابطة الأخوة في الله:
التي تُوَلِّد في نفس المسلم أصدقَ العواطف النبيلة في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة والعفو عند المقدرة.

ي-النفرة من أخلاق اللئام:
والتحوُّل إلى الصحبة الصالحة؛ لأن الطباع سراقة، وفي حديث قاتل المئة نفس أن العالِم قال له: "… ومن يحول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبدِ الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء…"([26]) 
فأمره باعتزال بيئته الفاسدة التي تَصُدُّ عن الخلق الحسن، والتحول إلى الصحبة الصالحة التي تعينه على الخير.

أقوال وحكم في الإيثار.

قال أحدهم: لَا تُوَاكِلَنَّ جَائِعًا إلَّا بِالْإِيثَارِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ غَنِيًّا إلَّا بِالْأَدَبِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ ضَيْفًا إلَّا بِالنَّهْمَةِ وَالِانْبِسَاطِ
وقال أبو سليمان الدارني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له .- وقال أيضاً: إني لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي
وقال أبو حفص: الإيثار هو أن يقدم. حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة.
وقال يوسف بن الحسين: من رأى لنفسه ملكاً لا يصح منها الإيثار، لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق؛ فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.
عجبتُ لبعضِ النَّاسِ يبذلُ ودَّه

**
ويمنعُ ما ضمَّت عليه الأصابعُ 
إذا أنا أعطيتُ الخليلَ مودَّتي

**
فليس لمالي بعدَ ذلك مانعُ  



المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ

**
يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطار
ِ
والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ وخيرُهم
**
مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ



  












وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد

إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854

لتحميل الخطبة #pdf برجاء الدخول إلى الرابط التالي


ولتحميل الخطبة #word برجاء الدخول إلى الرابط التالي





([1]) متفق عليه
([2]) صحيح مسلم
([3]) متفق عليه
([4]) متفق عليه
([5]) صحيح مسلم
([6]) تفسير الطبري
([7]) تفسير ابن كثير
([8]) تفسير السعدي
([9]) صحيح البخاري
([10]) فتح الباري
([11]) متفق عليه
([12]) متفق عليه
([13]) صحيح سنن الترمذي
([14]) صحيح مسلم
([15]) صحيح مسلم
([16]) صحيح مسلم
([17]) صحيح البخاري
([18]) صحيح البخاري
([19]) صحيح البخاري
([20]) صحيح البخاري
([21]) تاريخ دمشق لابن عساكر
([22]) صحيح البخاري
([23]) متفق عليه
([24]) متفق عليه
([25]) متفق عليه
([26]) متفق عليه 
التعليقات
0 التعليقات