تحقيق مصالح العباد في ضوء ترتيب الأولويات وأثره في بناء الدول د. خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: قوام
الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد
العنصر الثاني:
نماذج تحقيق مصالح العباد في ضوء فقه الأولويات
العنصر الثالث:
حاجة المجتمع إلى تقديم المصالح العامة على الخاصة وأثره في بناء الدول
المقدمة:
أما بعد:
أما بعد:
العنصر الأول: قوام
الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد
من المبادئ الإسلامية
التي تعمل على جلب المصالح ودرء المفاسد ( فقه الأولويات ) في أمور الشريعة الإسلامية
.
إنه فقه ترتيب الأولويات
الغائب عن حياتنا والذى يدعونا إلى تقديم الأصول على الفروع، ومقاصد الشريعة على الوسائل
والآليات، والإيمان على بر الوالدين، وبر الوالدين على الجهاد، وفرض الكفاية والفرض
على السنة، والعلم قبل العمل، والكيف على الكم، والعمل الدائم على المنقطع، وعمل القلب
على عمل الجوارح، وترك الكبائر قبل الصغائر، والكفر والشرك قبل البدع.......إلخ
ولو نظرنا إلى نداءات
المؤمنين في القرآن الكريم لوجدناها جاءت لتحقيق مصلحة أو درء مفسدة والنهي عنها .
رَوى ابنُ أبي حاتم
أنَّ رجلاً أتى عبدالله بن مسعود فقال: اعْهَدْ إليَّ، فقال له: إذا سمعْتَ الله يقول:”يا
أيها الذين آمنوا” فأَرْعِها سَمْعك؛ فإنه خيرٌ يَأمر به، أو شَرٌّ يَنهى عنه. أ.ه
؛ فالشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد .
والمصلحة كما قال
الإمام الغزالي: المحافظة على مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم،
وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت
هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة.
ويقول الإمام الشاطبي
في الموافقات: ” ومجموع الضرورات خمس هي: حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال، والعقل،
هذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج ، وفوت
حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعمة، والرجوع بالخسران المبين.” ويقول – أيضاً -
: « وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل»[الموافقات].
ويقول الإمام ابن
القيم:« إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح
كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل
إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى
المفسدة وعن الحكة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل
»[إعلام الموقعين].
ويقول الإمام ابن
تيمية:" إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
الإمكان ، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين
إذا لم يندفعا جميعا " ." مجموع الفتاوى".
ولقد جاءت الشريعة
الإسلامية السمحة لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وهذا هو الهدف من بعثة الأنبياء
عليهم السلام؛ حيث كان الإصلاح هو سبيل أئمة
المصلحين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو منهجهم، فشعيب عليه السلام يقول
لقومه: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود: 88]، وأوصى موسى
عليه السلام أخاه هارون فقال: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف: 142]، فالله عز وجل نهى عن الإفساد فقال سبحانه:
{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56]، وأخبر جل وعلا
أنه لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين فقال مبيناً حال بعض الناس: { وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: 205]، وبين جل وعلا الفارق العظيم بين أهل الإصلاح
وأهل الفساد فقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28].
ونحن نعلم الفساد
المستشري في مكة قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ يصور ذلك سيدنا جعفر بن أبي
طالب – رضي الله عنه- في كلمته التي ألقاها
أمام النجاشي قائلاً: ” أَيّهَا الْمَلِكُ
كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي
الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا
الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا ، نَعْرِفُ
نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ
وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ
وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ وَنَهَانَا
عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ
وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا
بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ ؛ فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ “(سيرة
بن هشام). فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم تحقيقاً للمصالح ودرءاً للمفاسد .
ولهذا قاوم الرسول
صلى الله عليه وسلم المفسدين ونكل بهم وعاقبه أشد العقوبة؛ فعن أنس بن مالك قال:” سألني
الحجاج قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلت
: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا
رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عمدوا إلى الراعي فقتلوه واستاقوا الإبل، فأرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقاهم
في الرمضاء حتى ماتوا ”[البخاري ومسلم]. هذا في سياق من يقطعون الطريق أمام إعمار الأرض
وإصلاحها وازدهارها؛ ويسعون في الأرض فسادا !!
عباد الله: لقد
أوجب الإسلام على كل مسلم أن يسعى للإصلاح في الأرض لا للإفساد فيها، وهذا أمر الله
-عز وجل- قال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف
: الآية 56 ] ، وجاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك ؛ بل قد ربي النبي - صلى
الله عليه وسلم - صحابته على الإيثار وتحقيق مصلحة المجتمع على مصالحهم الخاصة؛ وهذا
ما سنعرفه في العنصرين التاليين إن شاء الله تعالى.
العنصر الثاني:
نماذج تحقيق مصالح العباد في ضوء فقه الأولويات
عباد الله: تعالوا
بنا في هذا العنصر لنقف مع حضراتكم مع صور ونماذج مشرقة لسلفنا الصالح وكيف كانوا يطبقون
مبادئ الإسلام في تقديم المصالح العامة على الخاصة في ضوء فقه الأولويات !!
فمن الأمثلة التطبيقية
في حياة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء في الحديث الشريف: عن أم المؤمنين السيدة
عائشة - رضي الله عنها - أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترئ عليه إلا أُسامة حِب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فَكَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أتشفع في حد من حدود الله
"،ثم قام فخطب، قال: " يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق
الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطع محمد يدها ".[البخاري ومسلم].
والحديث الشريف
يتضمن المحافظة على المصالح الخاصة، وتتمثل في عدم التعدي على حقوق الآخرين، وإيذائهم
بسرقة أموالهم، كما يتضمن المحافظة على المصالح العامة بتطبيق الحق العام، وهو إقامة
حد السرقة على السارق، وفيه ردع لكل من تسوّل له نفسه التعدي على حقوق الآخرين سواء
عامة، أو خاصة.
ومن الأمثلة المشرقة
في حياة سلف الأمة، ما قام به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المحافظة
الشديدة على المصالح العامة، فمن مواقفه المعروفة: إن ابنه عبد الله بن عمر - رضي الله
عنه -: اشترى إبلاً وأرسلها إلى الحمى حتى سمنت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً
فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ..
بخ.. ابن أمير المؤمنين، ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى،
أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا
إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال
المسلمين.[سنن البيهقي؛ وتاريخ دمشق] .
موقف في غاية الورع
والزهد، والمحافظة على المصالح العامة، وعدم تقديم المصالح الخاصة عليها، وفي الحقيقة
أن السيرة النبوية الشريفة، وسيرة الخلفاء الراشدين زاخرة بهذه المواقف المضيئة، والمشرقة
في سماء المجتمع المسلم، ولا شك أن هذا سر عظيم، ومفتاح أساس في المحافظة على المجتمع،
وتطوره، والرقي به، فحينئذ نحن بحاجة ماسة جداً للعودة الصادقة إلى سيرة سلف الأمة،
وتلمس أسرار نجاحها، وتفوقها حتى نستطيع أن نعيد للأمة مجدها وعزها.
ومن هنا كان فضل
العلم والدعوة إلى الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات، لذلك قرر الفقهاء
أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام،
ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة ! ، فقدم العمل المتعدي نفعه
إلى الغير؛ على العمل القاصر نفعه على صاحبه، فقيامه بتعليم الناس أولى من العبادة،
وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، وهذا الذي جعل الشيطان يفرح بموت العلماء أكثر مما يفرح
بموت العباد .
فروي أن جنود الشيطان
جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف
العُبَّاد؟!!! فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق،
لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بموت الواحد من العلماء. قال: نعم أنا أدلكم على هذا،
فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السماوات في جوف بيضة؟
قال العابد: لا. وهذا جهل كبير. ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السماوات
في بيضة؟. قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن
فيكون، فإذا قال للسماوات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال الشيطان لجنوده: انظروا الفرق
بين هذا وهذا.
أيها المسلمون:
ينبغي على فرد أن يوازن بين المصالح والمفاسد ؛ وأن يراعي فقه الأولويات في ذلك؛ فمثلاً
:
لو رأى إنسان يؤدي
الصلاة شخصًا غريقًا فعليه أن يقطع الصلاة وينقذ الشخص الغريق ثم يقضي الصلاة.
فهنا جمع بين مصلحتين: إنقاذ الغريق، وقضاء الصلاة.
ولو رأى إنسان شخصًا
صائمًا في رمضان غريقًا ولن يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر فإنه يفطر جمعًا بين المصالح.
ومعلوم أن الصلاة
إلى غير القبلة مفسدة محرمة، لكن لو سيطر الخوف بحيث لا يتمكن المقاتل من استقبال القبلة
سقط استقبالها . [انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لابن عبد السلام].
وهكذا جاءت مرونة
الشريعة في الموازنة بين المصالح والمفاسد ؛ لتحقيق الخير للمجتمع ودفع الشر عنه؛ في
ضوء فقه الأولويات؛ أما إذا غاب عنا فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد؛ فقد سددنا
على أنفسنا كثيرًا من أبواب السعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساسًا لكل تعامل،
والانغلاق على الذات تكأة للفرار من مواجهة المشكلات، والاقتحام على الخصم في عقر داره
؛ سيكون أسهل شيء علينا أن نقول: "لا" أو "حرام" في كل أمر يحتاج
إلى إعمال فكر واجتهاد.
أما في ضوء فقه
الأولويات فسنجد هناك سبيلًا للمقارنة بين وضع ووضع، وبين حال وحال، والأولويات بين
المكاسب والخسائر، على المدى القصير، والمدى الطويل، وعلى المستوى الفردي، والمستوى
الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة، ودرء المفسدة.
العنصر الثالث:
حاجة المجتمع إلى تقديم المصالح العامة على الخاصة وأثره في بناء الدول
عباد الله: إننا
في ظل هذه الظروف الاقتصادية يجب أن نعمل على تقديم المصلحة العامة على الخاصة؛ مع
التحلي بالإيثار وترك الأثرة والأنانية ؛ ولنا في سلفنا الصالح القدوة والأسوة .
فهذا عثمان رضي
الله عنه له الفضل في تجهيز جيش العسرة؛ فقد جاء إلى النبي بألف دينار في كمه فنثرها
في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقلبها ويقول : ” ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم
” مرتين . ( أحمد والترمذي ) .
وليس هذا هو الموقف
الوحيد المشرف لعثمان للإنفاق في سبيل الله، فقد قام بتوسيع المسجد النبوي ليسع العدد
المتزايد من المسلمين، واشترى بئر رومة من اليهود ووهبه للمسلمين، وتصدق بقافلة مليئة
بالطعام للمسلمين أيام القحط. هذا هو عثمان؛ والآن الأمة تعاني أكثر مما كانت تعاني
أيام عثمان بن عفان.. فهل من عثمان للأمة الآن؟
ومن أروع الأمثلة
في تقديم المصلحة العامة والنفع للمسلمين ما فعله عبدالرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع؛
” فعن أنس، قال: قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد
بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك
في أهلك ومالك، دلنى على السوق. فخرج إلى السوق وتاجر حتى أصبح من أغنى أغنياء المدينة؛
يقول عبدالرحمن بن عوف: فلقد رأيتنى ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة.” (السيرة
النبوية لابن كثير) ؛ فقد ضرب لنا سعد بن الربيع أروع الأمثلة في الإيثار والمواساة؛
وضرب لنا عبدالرحمن بن عوف أروع الأمثلة في العفة؛ وهذا تصديق لقوله صلى الله عليه
وسلم:” ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله.”(البخاري ومسلم) .
بل إن سعيه وكسبه
أصبح نفعاً وعوناً للمسلمين ؛ فله الفضل في المساهمة بمالٍ كبيرٍ – أيضاً – في جيش
العسرة ؛ حتى اتهمه المنافقون بالرياء من كثرة الإنفاق ؛ فعن أبي مسعود قال : لما نزلت
آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء عبدالرحمن بن عوف فتصدق بشيء كثير ، فقالوا
: مرائي . وجاء رجل اسمه ( أبو عقيل ) فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة
هذا الصعلوك. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ( التوبة: 79) قال ابن كثير:” وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا
يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء
أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة
هذا “.
وهذا أبو الدحداح
الأنصاري، لما نزل قول الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245] ؛ قال للرسول – صلى الله
عليه وسلم -: وإنّ الله ليريد منَّا القرض؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أبا الدحداح،
قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله النبي – صلى الله عليه وسلم – يده، فقال أبو الدحداح:
إني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي (أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة) وأم الدحداح فيه وعيالها،
فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط: يعني: أخرجي من البستان
فقد أقرضته ربي عز وجل. وفي رواية: أن امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج
التمر من أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم. تريد بفعلها هذا الأجر كاملاً غير منقوص من
الله. لذلك كانت النتيجة لهذه المسارعة أن قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “كم من
عذقٍ رداح (أي: مثمر وممتلئ) في الجنة لأبي الدحداح” [أحمد والطبراني].
وهذا أبو طلحة الأنصاري؛
جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى
في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:
92]؛ وإنّ أحب أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي – صلى الله عليه وسلم
-، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله – صلى الله عليه وسلم
-، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال – صلى الله
عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك،
فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه.”[البخاري ومسلم].
وعن عمر بن الخطّاب-
رضي الله عنه- أنّه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرّة، فقال للغلام: اذهب بها إلى
أبي عبيدة بن الجرّاح ثمّ تلهّ «تلبّث» ساعة في البيت حتّى تنظر ما يصنع، فذهب بها
الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله
ورحمه، ثمّ قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان،
حتّى أنفدها، فرجع الغلام وأخبره، فوجده قد أعدّ مثلها إلى معاذ بن جبل، فقال: اذهب
بهذا إلى معاذ بن جبل ثمّ تلهّ في البيت حتّى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول
لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله. تعالي يا جارية:
اذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا. فاطّلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن
والله مساكين فأعطنا ولم يبق في الخرقة إلّا ديناران، فنحا بهما إليها ورجع الغلام
إلى عمر فأخبره. وسرّ بذلك، وقال: إنّهم إخوة بعضهم من بعض» « الطبراني وأبو نعيم في الحلية » .
أحبتي في الله:
هناك فرق بين الإيثار والسخاء والجود؛ فإذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل
فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد. أما إن كنت ممن
يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار؛
ورتبة الإيثار من أعلى المراتب، وإنما ينشأ الإيثار عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر
على المشقة، مع الرغبة في الأجر والثواب؛ لذا أثنى الله على الصحابة الكرام، ومدح المتحلِّين
به، وبيَّن أنَّهم المفلحون في الدُّنْيا والآخرة. قال الله تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[الحشر: 9]. يقول ابن كثير في تفسيره: :" أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم،
ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك". ويقول ابن تيمية: " وأمَّا
الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق
محبًّا مؤثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه
ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة".
(منهاج السنة النبوية) .
وهكذا بالموازنة
بين المصالح والمفاسد ؛ ومراعاة فقه الأولويات ؛ مع تقديم المصلحة العامة على الخاصة
؛ والتحلي بالإيثار وترك الأثرة والأنانية؛ يتقدم المجتمع ؛ وتنهض الأمة ؛ ويعيش الجميع
في سعادة ورخاء وأمن وسلام .
نسأل الله أن يجعلنا
مفاتيح للخير مغاليق للشر؛ وأن يجعل هذا البلد أمناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين؛؛
الدعاء،،،،،،،
وأقم الصلاة،،،،،،،