وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ د. محمد عامر





العناصر
1- المقدمة
2- الكل مبتلى .
3- الإبتلاء يكون بالخير والشر.
4- الإبتلاء يكون للمؤمن نعمه وللكافر نقمه .
5- الأنبياء اشد بلاءاً .
6- ابتلاء سيدنا موسي عليه السلام .
7- ابتلاء يوسف عليه السلام .
8- الطريق طويل وشاق .
9- فوائد الإبتلاء

المقدمة

الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر وعبد فأثاب, وشكر, وعصي فعذب وغفر, جعل مصير الذين كفرو إلي سقر, والذين اقو ربهم إلي جنات ونهر, ليجز الذين كفرو بما عملو, والذين امنوا بالحسنى
واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير
يارب
رضاك خير إلي من الدنيا وما فيها يا مالك النفس قاصيها ودانيها
فنظرة منك يا سـؤلي ويـا أملى خير إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفس أمـآل تحققـها سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الظلمة وأحاط به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
يا سيدي يا رسول الله :
أنت الذي تستوجب التفضيل فصلوا عليه بكرة وأصيـلا
ملئت نبوته الوـجود فأظهرا بحسامه الدين الحديد فأسفرا
ومن لم يصلي عليه كان بخيل فصـلوا عليه وسلموا تسليما
وعلي اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين

أما بعد
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
الى كل مبتلى، إلى كل مَن أصيب بمصيبة، ونزلت عليه بلية، إلى كل مهمومٍ مغموم، إلى كل مكروبٍ منكوب، إلى كل مَن تعرضت له كارثة، وسَمِع بفاجعة، أوجه هذه الآية وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]
وهل منا إلا مبتلى بكربٌ، أو هم، أو غم!
التفت إلى مَن حولك مِن الناس جميعاً؛ هل تجد فيهم إلا منكوباً، أو مكروباً، أو مهموماً، أو مغموماً؛ إما بفقد حبيب، أو بحصول مكروه، أو بنزول مرض، أو بسماع فاجعة، أو بغيرها من البلايا، أوجه هذه الآية إلى كل مَن أوذي، إلى كل مَن ظُلم، إلى كل من قُهر، إلى كل من أصيب بمصيبة، أقول لهم: قال الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
أحسب الأبرار والأخيار، والصالحون والعلماء والدعاة والمسلمون أن الإسلام ادعاء، وأن لا إله إلا الله كلمة تقال فقط، إذاً كان يدّعيها المدّعي، ويفتري بها المفتري، ولا يُميز بين المؤمن والمنافق، والصادق والكاذب، ولكن أبى الله إلا أن يميز بين الصنفين: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].
ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] وقال جل اسمه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20] وقال جل اسمه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

الابتلاء يكون في الخير والشر
________________

الابتلاء يكون في الخير والشر , بالسراء والضراء , بالسعادة والشقاء , بالراحة والرفاهية والكد والتعب , فيبتلى الإنسان بما يسره وبما يسوؤه , ولا يكون بالضراء فقط , فلابد أن يكون صابراً على الضراء , شاكراً على السراء .
قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) { الأنبياء : 35 } .
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ){ الانعام : 42 } .

فالابتلاء بالشر معلوم ومشهور , أما الآخر فلا يظنه كثير من الناس ابتلاء , فهم لا يعلمون أن ما أنعم الله به عليهم من بركة في المال أو الأولاد أو الصحة , وما إلى ذلك من نعم الله التى لا تعد ولا تحصى , أنما هو اختبار وامتحان من الله , فالمنعم جل وعلا يستودع هذه النعم عند أصحابها ليرى كيف يتصرفون فيها , أيتكبرون ويفسدون في الأرض , مثل ما فعل فرعون , أم يبخلون ويمنعون ما أمر الله به . مثل ما فعل قارون , أم يسخرون علمهم الذى أنعم الله به عليهم , في الرياء , والاستعلاء على الخلق , ولا يتقون الله فيه , مثل ما فعل بلعام بن باعوراء .

إنَّ النعمَ إن لم يُقابلها العبدُ بالشكر، والاعتراف بفضل الله المنعِم، وتسخيرها في طاعته ورضوانه، انقلبَت وَبالًا عليه.

فكم من عالمٍ اغترَّ بعلمه فباهى به العلماءْ، ومارى به السفهاءْ!
وكم من داعيةٍ أعجبَته نفسُه؛ لإقبال الناس عليهْ، وازدحامهم بين يديهْ!
وكم من ثريٍّ أطغاه ماله؛ ففي سخَط الله بدَّدَهْ، وفي المنكرات والشَّهوات بذَّرَهْ!
وكم من صاحب جاهٍ ضنَّ بجاهه كِبْرًا وغرورًا!
وكم من ذي سلطان أعمَت عينيه قوَّتُه فبطش وظلم!

والسعيد مَن وفَّقه الله لالتزام الصبر في العُسرْ، والشكر له تعالى في اليُسرْ؛ ليكونَ فيمَن أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له) [صحيح مسلم.

فالابتلاء بالخير أشد وأثقل من الابتلاء بالشر , فقد زين الله سبحانه وتعالى الخير للإنسان وجبله عليه, وقال تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ) { ال عمران : 14 } .
وقال تعالى : ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ){ الكهف : 46 } .
فالخير دائماً مزين محفوف بالشهوات , تتطلبه النفس الامارة سواء أكان حلالاً أم حراماً , فهو من أهم حبائل الشيطان ومكايده , قال تعالى : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ){ الاسراء : 64 } , ولا يخفي على أحد مدى قوة إبليس في الإغواء والتزين .
فاالمبتلى بالضراء , يسهل عليه الصبر والاحتمال , فليس أمامه سوى الصبر , ولا يوسعه إلا الرضا, ولا تتحقق له الراحة إلا بالقناعة , والمبتلى بالفقر لا يستطيع شرب الخمر لأنه لا يملك ثمنها , وليس بإمكانه منع زكاة لأنها لم تجب عليه , ولا يستطيع التكبر , لأنه لا يملك , , هذا بخلاف من يستطيع أن يرتكب مثل هذه المعاصى , لأنها في إمكانه وتحت طائلته وفي مقدرته.

فكثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ولكن قليلون هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة, كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تزل ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء .

يقول ابن عوف ابتلينا بالضراء فصبرنا , وابتلينا بالسراء فلم نصبر , ويقول أحد السلف كنا فقراء متآخين فلما تغانينا وتغانينا حمل بعضنا السيف على بعض .

الابتلاء للمؤمن نعمة , وللكافر نقمة
____________________

قال تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) { ال عمران : 141 } , والتمحيص هو التنقية والتخليص
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه )(4), وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا , وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة بذنبه )(5)
فالابتلاء للمؤمن نعمة من ربه يلقيها عليه ليمحصه وينقيه ويزيل عنه بصبره عليه ورضائه بقضائه , ما قد يكون في صحيفته من الذنوب والآثام , حتى يأتى يوم القيامة بصحيفة بيضاء نقية لا يرى فيها إلا الخير , فيكون من أهل اليمين , ولا يخلوا إنسان من الذنوب الصغيرة , على الأقل , لذلك فهى رحمة من الله لان المؤمن يستطيع الصبر وتحمل ابتلاء الدنيا , ولا يقدر عليه في الآخرة , لذلك كان بعض السلف يسألون الله الابتلاء , لينالوا جزاء الصبر عليه .


الأنبياء أشد بلاءاً
___________

يا من أصيب بالمرض! يا من فجعه المرض! يا من سقط على فراش المرض طريحاً لا يستطيع أن يتقلب يمنة أو يسرة! يا من أصابته الحمى فأنهكته وأهلكته وجلس على الفراش لا يدري هل هو حيٌ أم ميت؟ أوجه إليك هذا الحديث، فاسمع وانبته!
إن أيوب عليه السلام كان يملك مالاً عظيماً، وجاهاً، وأهلاً، وأولاداً، وأنعاماً، وصحةً، وبدناً قوياً، خسر كل هذا، ما الذي بقي له؟
بقي له لسانٌ يذكر الله به، وقلبٌ يعقل، هذا الرجل العظيم جلس على الفراش سبع عشرة سنة يقاوم المرض، ليس عنده إلا زوجته تطببه وتداويه، سبع عشرة سنة على فراش المرض، ماذا قال؟
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:84] مَن الذي مَرِض؟ مَن الذي ابتُلِي؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء) أبشر! إذا أحب الله عبداً ابتلاه، بل إن دليل الإيمان البلية وشدتها، مَن أشد الناس بلاءً؟ (... الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل) ماذا سَمَّى الله عز وجل أيوباً؟ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] (إن الله عز وجل يُذْهِب عن العبد خطاياه كلها بحُمَّى ليلة واحدة) حمى وحرارة ليلة واحدة يُذْهِب الله ويكفر جميع الخطايا.
يا من أبنلي بالمرض فجزع، ويا من أتاه خبر المرض فلم يصبر! اسمع إلى الحديث الصحيح: (إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعواده فإن هم إذ جاءوه حمد الله، وأثنى عليه ...) هل رأيت مريضاً لما يُسأل كيف حالك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على كل حال، الحمد لله أخذ مني شيئاً وأعطاني أشياءً، الحمد لله الذي لم يجعلني مثل فلان وفلان، الحمد لله إن كان قد ابتلى فقد أنعم: (... فإذا هو قد حمد الله، وأثنى عليه يخبران الله عز وجل وهو أعلم، فيقول الله جل وعلا: لِعَبْدي -اسمع وعُد إلى الله- لِعَبْدي إن توفيته أن أدخله الجنة -إن مات بهذا المرض أدخله الجنة، يحمد الله على هذا المرض، ويصبر، ويحتسب الأجر، لو مات في هذا المرض يدخل الجنة- قال: وإن شفيته له علي أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته) هل لك بعد هذا الأجر من أجر؟!

ابتلاء موسى عليه السلام
_____________

أما موسى فذاق الأمرين، رسول التوحيد أنقى وأوضح من الشمس في رابعة النهار، الذي أتى إلى الطاغية فرعون في القصر يقول له لما قال: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50] ولكن على صدقه ونصحه وعصمته ماذا فعل به؟
قال أهل التفسير وأهل التاريخ: أتى قارون بكنـز عظيم -جرةً مملوءةً ذهباً- إلى امرأةٍ زانيةٍ من بني إسرائيل فقال: خذي هذه الجرة، فإذا اجتمع الناس وقام موسى فينا خطيباً، فقومي وابكي ومزقي شعرك، وأقسمي أن موسى زنا بك، واجتمع الناس وموسى يتكلم عن التوحيد والإيمان، وقارون يريد أن يمرغ دعوة التوحيد والإيمان، يريد أن يمرغ دعوة موسى عليه السلام في التراب، وأن يمرغ منهجه لئلا يثق به الناس مرة ثانية، ولئلا يصدقه الناس مرة ثانية، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالنور نوره، والرسالة رسالته، والرسول رسوله، والمنهج منهجه، فبينما موسى يتكلم، وإذا بالبكاء يرتفع من تلك المرأة تلطم وجهها؛ إنها الخطط البائسة؛ إنها الأكاذيب من بعض المغرضين الحاقدين على الإسلام وعلى علمائه ودعاته.
سكت موسى والتفت إلى المرأة، قالت: أنت فعلت الفاحشة بي، فتلعثم وبكى، ليس في الأرض إلا موسى الذي أرسله الله بالرسالة يفعل هذه الفعلة، فوقف يبكي، ولكنه صمد وعرف أنه ابتلاء؛ فرفع عصاه ووقف أمام المرأة وقال: أسألك بالذي شق البحر لي أفعلت ذلك؟ قالت: لا. ثم بينت أمرها، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] فزاد وجاهةً وقوةً، وإثباتاً لمنهجه أنه صادق.

ابتلاء يوسف عليه السلام
_______________
ومن يشك في يوسف! ومن نحن مع يوسف وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، نحن لا نساوي غبار أقدامهم، نحن لا نساوي الشعرات التي تتساقط من رءوسهم، نحن لا نصلح خدماً لهم.
هم أصفى الخلق، وأخلص الناس، وأبر الناس، وأوفى الناس، رموا به في السجن: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] ومكث في السجن، وعلم الله أنه صادق ومخلص.
أيزني يوسف؟ أيمكن أن يلطخ دعوته؟ أينسى ربه؟ أين رقابة الله؟
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإلـه وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
ولكن الصبح قريب وأتى الفرج من الله، ولا يأتي الفرج إلا منه سبحانه وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء أبداً لأن الله معه

أقول ماتسمعون واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أعطى واجزل نحمده تبارك وتعالى حمد العارفين الشاكرين الطالبين لمزيد فضله والصلاة على إمام العارفين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله
_____

الطريق طويل وشاق
___________


الطريق شاق طويل، ناح فيه نوح، وذبح يحيى، واغتيل زكريا، وطُعن عمر، وضرج عثمان بدمائه، وقُتل علي، وجلدت ظهور الأئمة، وحبسوا لماذا؟ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] ولكن من الحق؟ من القوي إلا الله؟
كان عليه الصلاة والسلام يبتهل في الليالي ويقول: {اللهم أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] حسبك أن يكفيك الله.
فالـزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
عز جاهه ما أقواه! وما أعظمه! وما أعز جنده! إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].

فوائد الابتلاء

يبتلي الله العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه
___________________________

اسمع يا عبد الله إلى بعض الأقوال المأثورة في فضل البلاء، تقول: لم يبتليني الرب جل وعلا؟ ولم يُنزل علي هذه المصيبة؟ ولم يعاقبني الرب جل وعلا؟
اسمع ماذا يقول بعض العلماء! يقولون: إن الله يبتلي العبد وهو يحبه -أتعرف لِمَا؟- ليسمع تضرعه، يحب الله جل وعلا أن يسمع تضرع العبد إليه سبحانه وتعالى.
هل فكرت قبل أن تطرق الأبواب، وقبل أن تستغيث بالناس، وقبل أن تلجأ إليهم أن تفر إلى الرب الغفور الرحيم، أن تلجأ إلى ذي الجلال والإكرام، قيل: البلاء يَسْتَخْرِج الدعاء، تجد الرجل لا يذكر ربه، لا يدعو الله، لا يقوم الليل، لا يقرأ القرآن، لا يتصدق، لا يفعل شيئاً، فإذا نزل البلاء اسْتُخْرِجَ هذا كله، فدمعت عينه، ورفع يديه، خشع قلبه، سكنت نفسه، وتاب إلى الله.

من فوائد الابتلاء: تكفير الخطايا والذنوب
_____________________


المسألة الثالثة: من أسرار الابتلاء التي ينـزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأرض: تمحيص الخطايا والذنوب التي تعلق بالأخيار، والتي لا يسلم منها الأبرار، فيحتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتاً، فنسأله سبحانه أن نكون ممن إذا أذنب استغفر وإذا أُنعم عليه شكر، وإذا اُبتلي صبر، إن منازل الصادقين ثلاث منازل، إذا ابتلي العبد صبر، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا لـعثمان: ادخل على الرسول عليه الصلاة والسلام يبشرك بالجنة على بلوى تصيبك، قال: الله المستعان! وما هي البلوى؟ ضرج في التراب وذبح في بيته على المصحف.
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
وتقدم المغرضون في الصف وقالوا: ظالم، وطعنوه بالخنجر؛ فوقع وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وهذه سنة ماضية.:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
الابتلاء تمحيص، قال عليه الصلاة والسلام: {ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} الابتلاء غسل للقلب وللمنهج، وغسل للطريق من القاذورات التي تعلق به، إما شهرة وإما سمعة وإما رياء لا يسلم منها العبد، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.
عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56.

هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات