الابتلاء .... سنة الله الباقية للشيخ محمد جودة عيد
عناصر الموضوع :-
أولاً : الابتلاء هو جوهر العبودية وحقيقتها :
ثانياً : من أصناف البلاء :
ثالثاً : الأنبياء و الأولياء و والابتلاء .
رابعاً : رؤية نعمة الله في الابتلاء بخمسة أمور :
خامساً : من حكم وثمار البلاء :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجاً ، وبعد الضر والضيق سعة ومخرجاً ، ولم يخل محنة من منحة ، ولا نقمة من نعمة ، ولا نكبة ورزية من موهبة وعطية
أكرم مسئول ، وأعظم مأمول ،،،،،،،،،،،،،،، عالم الغيوب ، ومفرّج الكروب ، ومجيب دعوة المضطر المكروب .
سهرت أعينٌ ونامت عيــون *** في شئون تكون أو لا تكونُ
فاطرح الهم ما استـــــطعت *** فحملانك الهموم جنــــــونُ
إن ربا كفاك ما كان بالأمس *** سيكفيك في غدٍ ما يكــــونُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ كثير الخير دائم السلطان .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان ،,,,,,,,, اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد :
أولاً : الابتلاء هو جوهر العبودية وحقيقتها :
فيا عباد الله : إن أول واجب ينبغي للإنسان أن ينهض به هو : أولا : التعرف على ذاته وهويته . ومن المعلوم أن هوية الإنسان تتمثل في كونه عبداً لمن قد خلقه ، وأنشأه في أحسن تقويم ، فإذا عرف الإنسان هويته وأنه عبد مملوك لله عز وجل ، جاءت المرحلة الثانية .
والمرحلة الثانية : هي أن يتبين وظيفته في هذه الحياة الدنيا . وإن الوظيفة التي أقام الله عز وجل الإنسان عليها تتلخص في أن يمارس عبوديته لله عز وجل بسلوكه الاختياري ، كما قد فُطِرَ عبداً له بواقعه الاضطراري . ولكن كيف ينهض الإنسان بممارسة عبوديته لله عز وجل بسلوكه الاختياري؟ الجواب عن هذا يا عباد الله أن هذه الممارسة تتلخص في أمرين اثنين لا ثالث لهما هما : الصبر عند الابتلاء ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، وشكر الله سبحانه وتعالى عند الرخاء، فبهما يرقى الإنسان إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وبهما يحقق الإنسان هويته ، ويمارس عبوديته لله سبحانه وتعالى بسلوكه الاختياري، ولنتأمل يا عباد الله كيف يركز بيان الله سبحانه وتعالى كثيراً على هذين الأمرين اللذين يؤول إليهما ممارسة عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى . ففي الصبر، يقول عز من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200 ويقول {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: من الآية90 ويقول {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: من الآية127 ، وهذا الكلام - الدعوة إلى الصبر- مكرر في كتاب الله عز وجل في مناسبات شتى . أما الشكر ، فلنصغ إلى نماذج من ذلك في بيان الله سبحانه وتعالى يقول : {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:151-152]، ويقول في مكان آخر: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سـبأ: من الآية13 ويقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [ابراهيم: من الآية7 . هما إذاً : صبر ، وشكر : بهما يحقق الإنسان هويته ، وبالنهوض بهما يتحقق بالوظيفة التي أقامه الله عز وجل عليها وهي ممارسة العبودية لله عز وجل بعمله وسلوكه الاختياري . من هنا يا عباد الله : شاء الله عز وجل أن تكون الحياة التي يتقلب الإنسان في غمارها مزيجاً من الشدة والرخاء ، مزيجاً من المصائب والنعم ، لماذا ؟ لأن المناخ الذي يتجلى فيه صبر الإنسان ، ويتجلى فيه شكره لله سبحانه وتعالى ، لابد أن يكون فيه أسباب لهذا الصبر، وأن تكون فيه أسباب للشكر أيضاً، فلو أن الحياة التي نعيشها اليوم ، كانت نعيماً لا توجد شوائب فيه إذاً لما كان هنالك معنى للصبر الذي هو أحد المظهرين لممارسة العبودية لله ، ولو كانت هذه الحياة ابتلاءات وسلسلة من المصائب فقط ، لما كان هنالك مناخ لظهور الشكر أيضاً، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يعاني الإنسان في حياته الدنيا هذه مرة آلام المصائب والمحن ، وأن يتلقى آناً آخر المنح والنعم من الله سبحانه وتعالى ، وانظروا إلى قوله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: من الآية35 {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: من الآية20 ولذلك عباد الله : جبلت الدنيا على كدر؛ فكم من مصائب وكوارث وأزمات ؛ يتعرض لها الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في نفسه، أو في أهله وماله وأولاده، أو في جسده، أو في دينه، ومجتمعه وأمته، وقد يبتلى المرء في طعامه وشرابه وحريته، وقد يبتلى العالم في علمه، والتاجر في تجارته، وَقد يُبْتَلَى الناس ببَعْضِهمْ البِعْضٍ، فِي تَفَاوُتِ أَرْزَاقِهِمْ ، وَرِفْعَةِ دَرَجَاتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْضَى وَيَقْنَعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْخَطُ وَيَطْمَعُ؛ ومنهم من يشكر النعمة، ومنهم من يجحد ويتكبر ويتنكر لها، وينسى أن المنعم هو الله ؛ حتى ظهرت الخصومات بين الناس، وسفكت لأجل ذلك الدماء، وحل التقاطع والهجران، قال – تعالى -: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ)[الأنعام: 165] وهذا الابتلاء جعله الله سنة في خلقه لم يستثن منه أحدا، حتى أنبياءه ورسله، وهم أقرب الخلق وأحبهم إليه ؛ روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أنّه قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة"[السلسلة الصحيحة (143)] . وقال – تعالى -: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ)[العنكبوت: 1-3]. وذكر – سبحانه وتعالى – الابتلاء وقرنه بخلق الإنسان، وهو مازال نطفة ليدرك حقيقة الابتلاء، وكيف يتعامل معه ويستفيد منه ؟ وكيف يستثمره ليواصل مسيرة الحياة ، قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 2-3]. وجعل سبحانه وتعالى الابتلاء في الدنيا بما فيها سنة ماضية في الأمم والأفراد والشعوب، وجعل الآخرة للجزاء، قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف: 7].
ثانياً : من أصناف البلاء :
يدعي كثير من الناس قوة الإيمان والدين، ويظهرون تحليهم بالصبر واليقين، ويظنون من أنفسهم شكرا على نعم تسبغ عليهم ، ورضا بمصائب تحل بهم ؛ فإذا نزل البلاء تمايز الناس ، وظهروا على حقيقتهم ، وانكشف غطاء قلوبهم ، فعُرف قدر ما فيها من صلابة الإيمان وقوة اليقين .
جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها *** صفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
الأول : البلاء بالسراء والنعم :
إن هذه الدنيا ميدان البلاء؛ لتكون الآخرة جزاء على الابتلاء وذلك أن الله تعالى خلق الحياة للابتلاء، وخلق الموت للبعث والجزاء ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف:7] ولولا ما في الدنيا من زينة الشهوات وما في النفوس من ميل لها لما كانت ابتلاء للعباد ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ﴾ [آل عمران:14] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ’’ إِنَّ أَكْثَرَ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ ما يُخْرِجُ الله لَكُمْ من بَرَكَاتِ الأرض ، قِيلَ : وما بَرَكَاتُ الأرض؟ قال: زَهْرَةُ الدُّنْيَا’’ رواه الشيخان ، وهذا ابتلاء السراء الذي قلَّ في الناس من يشكره ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ:13] وقد كان سليمان عليه السلام ممن بُلي به فعرف أنه ابتلاء فشكر وقال : ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل:40] ، وقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه: { ابْتُلِينَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فلم نَصْبِرْ }. وهذا من تواضعه رضي الله عنه وإزرائه على نفسه ، وإنما أراد مزيدا من الشكر، ولا نحسبه إلا من الشاكرين، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة.
عبادَ اللهِ: إن مما يخفى على كثير من الناس أن النعم ابتلاء، فيظنونها تكريماً من الله لهم، لا اختباراً لشكرهم ، فيسيئون استخدامها ، ويغترون بها ، ولا يبالون إن كان ذلك يسخط الرب أم لا، فيفسدون ولا يصلحون، وعلى الله يستعلون، وبالله ونعمه يجحدون، وبآلائه يكذبون، هذا قارون: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) القصص .76- 78 . كم هو جميل بنا -معاشرَ المؤمنين- أن نتأمل قول الله - تبارك وتعالى- : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف: 7-8].
الثاني : البلاء بالضراء :
عباد الله : وكما أن الله عز وجلّ يبتلي عباده بالسراء ؛ ليميز الشاكر من الكافر، فإنه تبارك وتعالى يبتلى العبد بالضراء في نفسه أو ماله أو ولده ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران:186] فأرشد سبحانه إلى مقابلة ذلك بالصبر والتقوى؛ فبالصبر يتجرع ألم المصيبة ، وبالتقوى يثبت على الإيمان ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران:186] وفي آية أخرى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة:155]، وبهذا الابتلاء يميز الجازع من الصابر؛ ويُستخرج من قلب العبد الإيمان بالقضاء والقدر، فيزاد إيمانه بالرضا والتسليم ؛ ويستخرج من صاحبه الدعاء والاستكانة والخشوع ، ويكسر ما في قلبه من الكبر والعلو والغرور ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام:42] فيا له من ابتلاء ما أعظمه ! وما أكثر أجره ! ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن:11].
فإلى كل مبتلى، إلى من ابتُلِيَ في نفسه، وماله، وولده، ورزقه، وصحته، وزوجه، وأسرته، إلى كل من تعرض لأي نوع من أنواع البلاء ، فصبر جميل . فالصبر مثل اسمه مر مذاقته ..... لكن عواقبه أحلى من العسل ، فالصابرون.. في معية الملك ، ويا لها من معية !. إنها معية الحفظ ، والنصر، والمدد، والتأييد، إنها معية الرزق، والبركة،والرحمة [..وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]الأنفال 46. والصابرون محبوبون لرب العالمين ،قال جل وعلا: [..وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ..]آل عمران 146. بل ويبين الحق جل جلاله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا إذا تزوج الصبر باليقين. قال رب العالمين : [ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ]السجدة 24.. وبين كرامة الصابرين حين تدخل الملائكة عليهم الجنة لتهنئهم ولتبارك لهم مكانتهم عند ربهم فقال سبحانه: [..وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)]الرعد. بل وأعطاهم ما لم يُعط غيرهم جل جلاله، قال سبحانه :[ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)]. البشرى لك من الله أيها الصابر، أيها المبتلى الصابر، البشرى لك من الله[..وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)]البقرة. أيها المبتلى.. اصبر فلقد جمع الله لك من البشريات ما لم يجمعه لغيرك من أمة محمد. [أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)]البقرة. بل وبين جل جلاله أنه لا يعلم أجر الصابرين إلا الله فقال جل علاه :[..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)]الزمر. وإذا جاءت الهدية من عند الملك جاءت مضمخة بطيبه فكيف إذا كان العطاء ممن لا تنفد خزائنه جل جلاله:[..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ]الزمر
الثالث : البلاء بالتكاليف الشرعية : من أنواع الابتلاءات ، الابتلاء بالأمر والنهي ، بالتكاليف الشرعية ، كلفك الله أن تعبده ، بل جعل الله علة وجودك في الأرض أن تعبده ، قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[ سورة الذاريات الآية56] وقال تعالى﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾[ سورة هود: 7]
ولقد ابتلي الخليل إبراهيم عليه السلام بأثقل شيء على النفوس ، وهو ذبح ابنه على كبر، فاستسلم لأمر الله تعالى واستجاب : ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ ﴾ [الصَّفات:104 - 106] فكانت حكمة التكليف مترددة بين الابتلاء والامتثال .
الرابع : البلاء بالذنوب والمعاصي :
وقد يبتلى العبد بالمعصية لتستخرج منه التوبة ؛ كما استخرجت من أبينا آدم عليه السلام بذنبه ﴿ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه:121 - 122] ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إلى الله سبحانه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه ؛ فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي كما كان كمال آدم بها .
وقد يكون هذا الابتلاء عقوبة على ذنوب ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف:163] وبسبب هذا البلاء قد يرجع المذنبون إلى ربهم سبحانه وتعالى ، فيمحو أثر ذنوبهم ، ويزيل درنها من قلوبهم ، إلا من جهل منهم حكمة الابتلاء ، واستكبر عن عبادة مولاه ، فلا يزيدهم الابتلاء إلا صدودا عن الحق ، واستكبارا على الخلق ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [المؤمنون:76].
الخامس : البلاء بالمنصب والسلطان :
وأصحاب الولايات في ابتلاء عظيم بإقامة شرع الله تعالى في ولاياتهم ، والحكم بالعدل في رعاياهم، كما أن رعاياهم مبتلون بالسمع والطاعة لمن أقام حكم الشريعة فيهم ، وبرهان ذلك أن داود عليه السلام لما حكم بين الخصمين علم أنه قد ابتلي بذلك ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ [ص:24 - 25].
السادس : بلاء الناس بعضهم ببعض :
والناس يُبتلى بعضهم ببعض ، في تفاوت أرزاقهم ، ورفعة درجاتهم ، فمنهم من يرضى ويقنع ، ومنهم من يسخط ويطمع ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾ [الأنعام:165] وهذا التفاوت بينهم اعتلى أعلى درجات الابتلاء حتى صار فتنة للناس ، فأكثر ما يسفك من الدماء ، ويستحل من الحرمات بسببه .
ويبتلى الناس بعضهم ببعض في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾ [المائدة:48] فأهل الحق يدعون غيرهم لما عندهم من الحق، وأهل الباطل يفتنون الناس عن الحق بباطلهم ، وهذا أعظم ابتلاء في الأرض؛ لما يسببه من فتنة القلوب وزيغها إلا من ثبته الله تعالى على الحق : ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [الأنعام:53] ، ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ [الفرقان:20].
السابع : بلاء الدول و الأمم :
ومن السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال ، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في كل الأحياء على الأرض، وتجري على الأفراد والأمم والدول ، بل وعلى النظريات والأفكار ، والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران ، قال تعالى (سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62] , وفي آية أخرى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلا) [فاطر: 4. فالأفراد والدول والأمم تتقلب أحوالها، وتنتقل من طور إلى طور، قوة وضعفا، وصحة ومرضا، وغنى وفقرا، وعزا وذلا، بأسباب كونية قدرية، وبأسباب شرعية مَرْضِيَّة: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]. وهذه السنّة العظيمة في تقلب الأحوال ، بالأفراد والدول والأمم, جاءت في كثير من قصص القرآن للتذكرة والاعتبار، فأمة بني إسرائيل كانت مستضعفة مستخدمة للفراعنة ، فقلب الله تعالى حال الفراعنة إلى الذل والهوان بهلاك فرعون وجنده ، وقلب حال بني إسرائيل إلى العز والتمكين: (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف :17]، وفي آيات أخرى يقول الله تعالى عن آل فرعون: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: 59]. فما أعجب سنن الله تعالى في عباده، وما أسرع تقلبهم من حال إلى حال!! وفي قصة بني النضير، قلب الله تعالى حالهم من الاستقرار إلى التشرد، ومن السعة إلى الضيق، كانوا يعمرون بيوتهم وحصونهم لبقائها، وبقائهم هم فيها، فإذا حالهم ينقلب فيخربونها بأيديهم: (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) [الحشر:2]، فما أسرع النقمة التي حلت بهم بعد النعمة! ومن سنن الله تعالى في عباده أيضاً ، أن الاستقامة على أمره وإقامة دينه، وتحكيم شريعته ، سبب للأمن والرزق والبركة، والعز والرفعة والتمكين: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [النور:55]، وفي آية أخرى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] ، وفي ثالثة : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجنّ:16] ، وحين قلب الله تعالى نعم آل فرعون إلى نقم ؛ علل ذلك بقوله سبحانه : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال:53 ، وفي تاريخِ أمَّتِنا الطويلِ أحداثٌ جِسام، وواقِعاتٌ عِظام، كشَفَها الله تعالى بالتوبةِ إليه والرُّجوعِ إلى كتابِه وسُنَّة رسولِه – صلى الله عليه وسلم -، في القرآن الكريم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]. والمُؤمنُ – يا عباد الله – قد يشتَدُّ عليه الكربُ والخَطبُ، وتُحيطُ به الفتنُ والمِحَن، ويُخيِّمُ عليه الهمُّ والغمُّ، ولكنَّه مُؤمِّلٌ في ربِّه، واثِقٌ بنصرِه، مُستبشِرٌ بتأيِيدِه، مُترقِّبٌ لفرَجِه وكرَمِه، آخِذٌ بأسبابِ النصر والتمكينِ كما أمرَه.
أمة الإسلام : إن ما يحدُثُ في بلاد المُسلمين اليوم ، يُوجِبُ عليهم أن يقِفُوا بكل حزمٍ وعزمٍ أمام كل ما يُهدِّدُ استِقرارَهم ، أو يعتَدِي على مُقدَّساتهم ، أو يُسبِّبُ الفُرقةَ بينهم.
وصدَقَ الله إذ يقولُ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]. وعلى الجميع التضرع إلى الله والدعاء بأن يرفع البلاء، ويلطف فيه، ويكتب الأجر والثواب ، قال -تعالى-: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام43].
ثالثاً : الأنبياء و الأولياء و والابتلاء .
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه ، ومراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تبعهم من الأولياء و الصالحين .
و لو تأملنا ما قصه الله تعالى علينا من معاناة الأنبياء لوجدنا ما يذيب الحديد ، و يشيب الوليد .
1- ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عدن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
2- وابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم ، وصدهم عن سبيل الله ، و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .
3- و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 142 ] . و يالها من أمانة ثقيلة و ابتلاء عظيم على من تصدر له ، فأناط بعنقه مسؤولية أمة أو طائفة من العباد .
4- ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة ، و بالفراعنة الأشداء من جهة أخرى ، فيهدد بالقتل ، و يخرج من بلدته خائفاً يترقب ، و الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، و تتوالى عليه الأيام ؛ و هي حبلى بالأحداث ، و صنوف البلاء بعد بعثته ، من ملاحقة فرعون و ملأه لموسى و من معه إلى اليمّ ، إلى ارتداد قومه و اتخاذهم العجل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته ، التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها ، من صنف من صنوف الابتلاء .
5- و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة ، فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
6- و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] ، و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن ، و لا يخرج عن ذلك ، إلا في صور معدودة ، جاءت مقرونة بالعز والتمكين كما في قصتي داود و سليمان عليهما و على نبينا الصلاة و السلام .
• و من الملاحظ أيضاً أن ابتلاء الكثيرين منهم في ولده !! ،لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل
- فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه ، في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
- و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
- و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل ، فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه ، لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .
- و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .
- و تُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب ، و تؤذى بسببه ، فيتسلط عليها اليهود ، ويتهمونها في عرضها ، و هي الصديقة الطاهرة المطهرة .
- و يُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد ، حتى سماه المشركون أبتراً ، و هو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، و هو لا يزيد على أن يقول و عيناه تذرفان الدموع : ( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليجزع ، و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا )
نعم أيها الأحباب الكرام ... هكذا يبتلي الله أولياءه ، و من أشدهم بلاءً نبيّه المختار ، و صحابته الأخيار رضوان الله عليهم ؛ جرياً على سنّة مضت و تمضي { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] و لا محيص لأحدٍ عن التمحيص ، و لذلك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
- و عانى الصحابة مع نبيهم أشد أنواع الابتلاء ، فقُتِّلوا ، و شُرِّدوا ، وأخرجوا من ديارهم ، حتى قال رسول الله ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله ) [ رواه أبو نعيم في الحلية و رواه بنحوه الترمذي و حسّنه – و هو كما قال ، و ابن ماجة و أحمد ] .
- و اختص الله تعالى المجاهدين و المرابطين في سبيله بأصناف البلاء ، و لم يذكر غيرهم على سبيل التخصيص رغم عموم سنة الابتلاء لعموم البشر .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُـجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31] .
و قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] .
و قال و هو أصدق القائلين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
و ليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، و لكنها سنّة مضت ، وتمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، و لا يتعدَ الابتلاء أن إلا أن يكون : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، كما دلّ عليه صدر سورة العنكبوت ، و قد تقدم .
- ومما ذكره الحافظ ابن كثير في ابتلاء أحد أولياء الله : قال : ذكر غير واحد ، أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد ، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة ، و كان مبدؤها هناك ، فظن أنها لا يكون منها ما كان ، فذهب في وجهه ذلك ، فما أن وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه ، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك ، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها ، و ربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته . فطابَتْ نفسُه بنشرها . و قالوا له : ألا نَسقيك مُرَقِّداً حتى يذهب عقلك منه ؛ فلا تُحس بألم النشر ؟ فقال : لا ! و الله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يُذهِب عقله ، و لكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك و أنا في الصلاة ، فإني لا أحس بذلك ، و لا أشعر به . قال : فنشروا رجله من فوق الأكلة ، من المكان الحي ؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء ، و هو قائم يصلي ، فما تضوّرَ و لا اختلَج ، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله . فقال : اللهم لك الحمد ، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً ، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت ، و إن كنت قد أبليت فلطالما عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت و على ما عافيت . قال : و كان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد ، و كان أحبهم إليه ، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات ، فأتوه فعزَّوه فيه ، فقال : الحمد لله كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحداً و أبقيت ستةً ، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت ، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت . فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة . قال : فما سمعناه ذكر رجله و لا ولده ، و لا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى ، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال : (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ) [ الكهف : 62 ] ، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ، و يُعزُّونه في رجله و ولده ، فبلغه أن بعض الناس قال : إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه . فأنشد عروة في ذلك أبياتاً لمعن بن أوس يقول فيها :
لعمـرك ما أهويـت كفي لريبــــــة *** و لا حملتنـي نحو فاحشة رجلي
و لا قادني سمعي و لا بصري لـها *** و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي
و لسـت بماش ما حييـت لمنكــــر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
و لا مؤثـر نفسي على ذي قرابـة *** و أوثر ضيفي ما أقام على أهلي
و أعلـم أني لـم تصبني مصيبـــة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
رابعاً : رؤية نعمة الله في الابتلاء بخمسة أمور :
إن العبد المؤمن إذا ابتلاه الله رب العالمين يحمد الله ، إذا مرضت ، إذا افتقرت ، إذا أقلت من منصبك ، إذا حدثت لك ضائقة سواء في المال، أو سوء أدب من زوجة ، أو من ولد ، أو من جار أو من رئيس في العمل، أو ابتليت ابتلاء عاماً من إنسان مسئول ، لا يتقي الله رب العالمين فيك ، فاحمد الله في هذه البلية على أمور خمسة :
الأول : أن البلية ليست في الدين . فقد جاء في الحديث: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) يجب أن يكون دعاؤك هكذا ليل نهار، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا، فطالما أن المصيبة بعيدة عن الدين فاحمد الله رب العالمين. لكن لو كانت لك زوجة تطيعك بحيث إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وعرضك ، ثم إذا بها صارت لا تصلي والعياذ بالله، وخلعت حجابها، وصارت إنسانة بذيئة اللسان، صارت ناشزة فهذه بلية في الدين والعياذ بالله رب العالمين، فاحمد الله رب العالمين في البلية التي تحصل أنها لم تكن في الدين، هذا هو الأمر الأول. فنحمد الله أن جميع ابتلاءاتنا ليست في الدين. كذلك إذا رأيت إنساناً له ابن عاق، فاعلم أن هذا ابتلاء في الدين، وإذا رأيت إنساناً كان يصلي وأصبح لا يصلي هذا ابتلاء في الدين، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، اللهم أجرنا من غضبك يا رب العالمين.
الثاني: أن البلية لم تكن أكبر مما حدث . ربما تصاب بمرض في بدنك، فصارت يدك لا تتحرك، أو أن قدمك لا تخطو، أو أن عينك بدأت تفقد القدرة على الإبصار، فاعلم أن الله ابتلاك في الوقت الذي يريده هو لمصلحتك أنت ؛ لأنه ربما يفقد الواحد منا نعمة المشي ؛ لأن الله يعلم في سابق علمه أن لو ظلت هذه النعمة معك لاستخدمت قدميك في غضبه عز وجل ؛ لأنك سوف تذهب بهما إلى مكان لا يحبه الله رب العالمين، فيمقتك الله مع من يمقت ، فاحمد الله رب العالمين أن رزقك نعمة فقد القدرة على المشي . إذاً: الله عز وجل عندما يبتلي عبداً ببلية معينة فإنما يختار له خيراً، فاحمد الله رب العالمين في البلية أنها ليست في الدين، واحمد الله رب العالمين أنها ليست أكبر من ذلك ، فإذا فقدت حركة اليد فاحمد الله رب العالمين أن لك يداً أخرى تتحرك، وإذا فقدت حركة اليدين فاحمد الله على حركة الرجلين، إذا فقدت حركة الجسد كله وأصبحت لا تستطيع الحراك فاحمد الله أن لك قلباً شاكراً ولساناً يذكر الله رب العالمين ويوحده.
الثالث : أن الله رزقك الصبر والدعاء . احمد الله في البلية أنه رزقك أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها ، قالت أم سلمة : عندما مات أبو سلمة أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول هذا الدعاء ، فقلت : وهل هناك خير من أبي سلمة يا رسول الله ؟! فقال: اسمعي لله ولرسوله يا أم سلمة ، قولي : سمعنا وأطعنا ، فدعت أم سلمة هذا الدعاء : اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها ، فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يخلفها رب العباد خيراً؟ فأنت في كل مصيبة تدعو الله هذا الدعاء : اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها ، فما من عبد دعا بهذا الدعاء إلا وأعطاه الله الاثنين: أخلفه خيراً، وآجره في مصيبته.
الرابع: أنها اختيار الله لك .
يخرج قوم من قبورهم يوم القيامة إلى أبواب الجنات يوقفهم رضوان: إلى أين تذهبون؟ كيف تدخلون الجنة وأنتم لم ينشر لكم ديوان ولم ينصب لكم ميزان؟ قالوا: يا رضوان نحن لا نقف لنصب ميزان ولا لنشر ديوان، يا رضوان أو ما قرأت القرآن؟ يقول : وما في القرآن؟ يقولون: نحن أهل الصبر: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، قال: كيف كان صبركم؟ قالوا: نحن كنا إذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جهل علينا حلمنا، وإذا ابتلينا صبرنا، وإذا أعطينا شكرنا، قال: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فهؤلاء يوفون أجرهم بغير حساب؛ ولذلك كثيراً من الصالحين عندما يبتلى بالبلية كان يقول: مرحباً بشعار الصالحين.
الخامس: أنها قدر من الله .
اعلم أن البلية قدر وقضاء من الله عز وجل ، وأن الله يريد أن يضعك في زاوية معينة من القرب منه ، ولكن عملك لا يرقى إلى هذه الدرجة ، عندئذ يبتليك رب العباد ببلية معينة ليرفعك عنده درجات ودرجات ، إن في الجنة درجات لا يبلغها إلا الذين ابتلاهم رب العباد سبحانه وتعالى .
خامساً : من حكم وثمار البلاء :
1- تمييز وتمحيص الخبيث من الطيب :
قال الله تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون ) فهذه المرتبة الأولى من بين الغايات التي تترتب على جريان سنة الابتلاء، هو تمييز الخبيث عن الطيب ، (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) آل عمران/ 179. والهدف من ذلك هو كما قال تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، النساء/ 165.
فيريد الله بهذه الابتلاءات وهذه الفتن أن يمحص الصفوف، وأن يعرف من هو الصادق الذي يغتاظ ويتلمظ ويغار على دينه ورسالته يوم تمرغ في التراب ، أو الآخر: المعربد السكير الذي يضحك ويفرح ويرقص على موت الإسلام وذبحه، ولكن الإسلام -والله- لا يموت. فهناك من الناس ما تعجبك أقواله في الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه هو ألد الخصام ، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) ، البقرة/ 204 . وقد جاء في جملة الغايات والعلل التي من أجلها يبتلي المؤمنون، قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) محمد/ 31. الابتلاء أن تمحص أن تختبر أن تبتلى هل ستثبت على طريق الله جل وعلى ، أم ستنكص على عقبيك وتتخلى عن الطريق ، فإن ثبت وصبرت رقيت إلى المرتبة الثانية وهي:
2- التطهير من الخطايا والذنوب :
من أسرار الابتلاء التي ينـزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأرض : تمحيص الخطايا والذنوب التي تعلق بالأخيار، والتي لا يسلم منها الأبرار، فيحتها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتاً، فالابتلاء غسل للقلب وللمنهج ، وغسل للطريق من القاذورات التي تعلق به ، إما شهرة ، وإما سمعة ، وإما رياء ، لا يسلم منها العبد، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك إلا للمؤمن }. روى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا حزن ولا أذى, حتى الشوكة التي يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"
3- رفع الدرجات :
طهرت من البلاء " وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة " ولا زال البلاء واقعاً بك, يريد الله أن يرفع بهذا درجتك عنده سبحانه وتعالى إنها درجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فما أبتلى الله نبيه ليمحصه ، وما أبتلى الله نبينا ليطهره بل قال له تعالى : ’’ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..’’ [لفتح : 22] وإنما ابتلاه ليرفع درجته عنده, وهذه المرتبة الثالثة من أنواع البلاء روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): " من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه " أي: يبتليه بالمصائب والمحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناته على ما يكون من صبره واحتسابه.
4- إظهار محبة الله للعبد :
إنّ من يقرأ في سيرة الأنبياء والأولياء الكمل ، من عباد الله تعالى ، تكن لديه الصورة واضحة ، عن مدى ابتلائهم بأشد أنواع البلاء الإلهي، وهذا لا يعني أنّهم بذلك البلاء غير مرضيين أو غير محبوبيين لله سبحانه وتعالى ، إنّما هكذا اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الدنيا سجن المؤمن ، ودار اختبار وابتلاء للمؤمنين ، والكافرين على حد سواء، إلاّ أن ابتلاء المؤمن رحمة به ، وابتلاء الكافر نقمة عليه ، ولولا لطف الله تبارك وتعالى على بعض المؤمنين ، لجعل الدنيا جنة للكافر قال تعالى : (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ثم إنّ هناك دواعي إلهية لحب الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن الصابر على بلائه وامتحانه واختباره ، من قبيل رفع صيته بين الناس ، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) ، الأنبياء/ 84 : (أي: وتذكيراً للعباد ، لأنّهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له ، وهو أفضل أهل زمانه، وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب ، فيكون هذا تنبيهاً لهم على إدامة العبادة ، واحتمال الضرر) (القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص327
روى أَبَو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، (وفي رواية: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ" رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث دليل على ما في النفوس البشرية من الجحود والاستكبار الذي لا يعالج إلا بالإيمان والذل والخضوع لله تعالى، وكسر كبرياء النفس وعلوها حتى لا تكون سببًا في هلاك صاحبها.
الدعاء ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،