أيها الشباب: احذروا الذنوب والمعاصي للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي أسعد قلوب الأصفياء بالمجاهدة، وأسعد قلوب الأولياء بالمشاهدة، وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر، وجلى خواطر العارفين بالفكر، وحرس سواد العباد عن الفساد، وحبس مراد الزهاد على السداد، وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات، وصفى أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات، وقبل أعمال الأخيار بأداء الصلوات، وأيد خصال الأحرار بإسداء الصلات.
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير
يا رب قد تبت فاغفر زلتي كرما
لا عدت أفعل ما قد كنت أفعله عمري هذا مقام ظلوم خائـف وجـل فاصفح بعفوك عمن جاء معتذرا |
**
**
**
**
|
وارحم بعفوك من أخطأ ومن ندما
فخذ بيدي يا خير من رحما لم يظلـم الناس لكـن نفسه ظلما واغفر ذنوب مسيء طالما اجترما |
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، بعثه لأصلاب الفسقة والفجرة قاسماً، ولعرى الجاحدين والمارقين قاصمًا، ولباغي الشك والشرك قاهرًا، ولأتباع الحق والإحسان ناصرًا؛ فصلوات الله عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولاً: بعض آثار الحسنات ثانيًا: احذر الذنوب والمعاصي
ثالثًا: آثار الذنوب والمعاصي
الموضوع
أولاً: بعض آثار الحسنات
مغفرة السيئات ومضاعفة الحسنات: قال تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) "هود ، وقال تعالى: " إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)" الفرقان.
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} {النساء40}
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -r- فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً »([1]).
ضياء الوجه: يقول ابن عباس: "إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وقوة في البدن وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق" ([2])
بالله عليك يا أخي عندما تنظر إلى وجه رجل وتقول له: وجهك منير، وقد يكون أسمر اللون، بشرته سمراء ومع ذلك تقول له: أرى في وجهك نوراً، هذا الرجل يقيناً كان يعمل في الليل كان في ذكر وكان في صلاة وكان في طاعة وكان في تسبيح وكان في بكاء وكان في تذلل وتضرع، كان يصلي الفجر، عندما ترى وجهه تقول له: يا أخي وجهك له نور، أي ورب الكعبة أنت صادق، والله وجهه ينير نوراً حقيقياً ببركة الطاعة وبفضل الطاعة، نعم، الله! اللهم لا تحرمنا من هذه كلها.
محبة الله له: قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {آل عمران} وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r-«إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّى أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِى السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ - قَالَ - ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ..." ([3])
محبة الخلق له: قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً "مريم.
أي محبة في قلوب عباده المؤمنين
حسن الجزاء: قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {الزلزلة7}.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} {آل عمران30}
الفوز بالجنة: قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ "الحج.
ثانيًا: احذر الذنوب والمعاصي
الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمًا مُشَبَّهَاتٌ : عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r
يَقُولُ: الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمًا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ؛ أَلاَ وَإِنَّ لِكلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ" ([4])
الله يغار ان يأتي المؤمن ما حرم الله: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يأتي الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» ([5]).
لا تجعل الله أهون الناظرين إليك: يتجرأ أحدنا على المعصية ولا يعاقبه الحليم جل جلاله على معصيته في التو واللحظة فينسى، ثم يرتكب معصية أخرى فيمهله الكريم جل وعلا فينسى الذنب الأول والثاني، ثم يرتكب معصية ثالثة فيمهله الحليم جل جلاله فينسى الذنب الأول والثاني والثالث والألف والألفين، وتتراكم الذنوب على العبد حتى تهلكه في الدنيا والآخرة، وأحذر نفسي وإياكم، يبدأ الإنسان بالمعصية في الخلوة وفي الستر حيث لا يراه أحد، يا للعار! لو أغلق على نفسه باب حجرته وأغلق النوافذ وأرخى السائر وهو يرتكب معصية، والله الذي لا إله غيره لو تحركت قطة لأرتجف قلبه وإضطربت أعضائه، وقام ينظر من ثقب الباب هل استيقظت طفلته هل استيقظ ولده، وهو في حجرته يبارز الملك الذي يعلم السر وأخفى بالمعصية، هو في حجرته يشاهد فلماً داعراً فاضحاً، أو في مكتبه، أو في شقته التي أخرج منها زوجته يرتكب الزنا، أو يشرب الخمر، أو يعمل عمل قوم لوط، أو يأكل الربا، أو يأكل أموال اليتامى، أو يغتاب... إلى آخره، هو في معصية لو سمع صوت قطة أو لو حرك الهواء ستارة نافذته والله لأرتجف قلبه ولارتعدت فرائسه وقام وأغلق الجهاز ثم قام لينظر من ثقب الباب، هل استيقظ ابنه ابن الثالثة؟ هل استيقظن بنته بنت الرابعة، يا مسكين! تخشى من أن تراك ابنتك ولا تخشى أن يراك الملك الذي يعلم السر وأخفى، يا مسكين! جعلت الله أهون الناظرين إليك، تجرأت عليه بالزنا وتجرأت عليه بشرب الخمر، وتجرأت عليه بسب أمك وضرب والدك، وتجرأت عليه بأكل أموال اليتامى، وتجرأت عليه بعري امرأتك على شاطئ من شواطئ البحار، وتجرأت عليه بالظلم في منصبك الذي أنت فيه، وتجرأت عليه بأي صورة من صور الذنوب والمعاصي، وجعلته جل جلاله أهون الناظرين إليك، آهً يا نفس إن كنت تعتقدين أن الملك لا يراكٍ -وأنت مصرة ومقيمة على معاصيه- فما أعظم كفرك به جل جلاله، وأنت
كنت تعلمين يقيناً أنه يراكٍ -وأنت مصرة ومقيمة على الذنوب والمعاصي- فما أقل حيائك منه جل جلاله.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني ؟
فكيف أجيبُ يا ويحي ومن ذا سوف يحميني؟ وأنسى ما وراء الموت ماذا سوف تكفيني وجاءت سكرة الموت الشديدة من سيحميني؟ سأُسأل ما الذي قدمت في دُنياي ينجيني ويا ويحي ألــــم أسمع كلام الله يدعوني؟ ألــم أسمع بيوم الحشر يوم الجمع والدين فيا ربــــاه عبدُ تــائبُ من ذا سيأويني ؟ أتيتُ إليكَ فارحمني وثقــّـل في موازيني |
**
**
**
**
**
**
**
**
**
|
وتُـخفي الذنبَ عن خلقي وبالعصيانِ تأتيني
أُسلي النفس بالآمالِ من حينٍ الى حيني كأني قد ضّمنتُ العيش ليس الموت يكفيني نظرتُ الى الوُجوهِ أليـس منهُم سيفدينـــي؟ فكيف إجابتي من بعد ما فرطت في ديني ألــــم أسمع بما قد جاء في قاف ويسِ ألـــم أسمع مُنادي الموت يدعوني يناديني سوى رب غفور واسعُ للحقِ يهديني وخفَف في جزائي أنتَ أرجـى من يجازيني |
كان الصالحون إذا نزل البلاء بهم يقول قائلهم: لابد أني قد أذنبت ذنبا، لا بد أني فرطت في جنب الله تعالى، قصرت في حق الله ظلمت عبدا، ضيعت فريضة، انتهكت حرمة فيرجع تائبا مستغفرا متندما كما قال أبوه آدم وأمه حواء﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
[الأعراف: 23]، وبعضهم يقول: (إني لأرى شؤم معصيتي في سوء خلق امرأتي ودابتي)، وشأن المؤمن أن يرد الخير إلى الله وأن أساء يقول فمني ومن الشيطان.
لو آمن الناس واتقوا واستقاموا لتنزلت عليهم بركات من السماء : قال تعالى:﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾[الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدً ﴾[الجن: 16، 17].
ثالثًا: آثار الذنوب والمعاصي
المعصية سبب كل مصيبة: فالذنوب شؤم علينا في الدنيا والآخرة، وشؤم على الشعوب في الدنيا والآخرة، وشؤم على الأمم في الدنيا والآخرة، أقسم لكم بالله على منبر رسول الله لا تقع مصيبة في الأرض -مهما كان حجمها على المستوى الفردي أو الجماعي أو الأممي- إلا بسبب الذنوب والمعاصي ، حتى ما يحدث ويسموه المتخصصون "بغضب الطبيعة"، حاشا وكلا، يقولون لك "غضب الطبيعة"، زلزال هنا وثلوج هنالك وبرد قارص هنا وحرارة شديدة هنالك، ويسمي بعض المتخصصون في الوسائل الإعلامية هذه الظواهر الطبيعية بقولهم "غضب الطبيعة"، حاشا وكلا، بل أُصدق وقل غضب الله جل جلاله، وربي الكعبة لو يؤاخذ الله الخلق على الأرض بذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة.
قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"الروم:41، وقال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"الشورى:30، وقال جل وعلا "ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ"الأنعام:146
فلا تسقط حبة مطر بل لا تسقط ورقة في نخلة أو شجرة، بل ولا تتزلزل الأرض هنا بل ولا تخسف الأرض هنالك، ولا يسقط جليد أو ثلج ولا ينزل صقيع بارد ولا تنتشر في الأرض حرارة محرقة، ولا تغلو الأسعار ولا تكثر الفتن والمحن إلى آخر هذه الصور إلا بتقديره جل جلاله بسبب ذنوب الخلق ومعاصيهم.
الضنك والضيق: فما تعيش فيه البشرية الآن من ضنك، وما يحياه الأفراد الآن من هم وحزن ونكد وغم وضيق رزق وأمراض وأوبئةٍ وبلاء إلى غير ذلك، لو سألتومني عن كلمة واحدة كسبب رئيس لكل هذه المحن والفتن لأجبتكم بهذه الكلمة إنها الذنوب والمعاصي.
أيها المسلمون: ما الذي طرد إبليس من رحمة الله ولعنه؟، ما الذي أهلك فرعون وقومه؟ ما الذي أهلك قوم ثمود؟ ما الذي أهلك قوم صالح؟ ما الذي أهلك قارون وخسف به الأرض؟ ما هو السبب الرئيسي لما تحياه البشرية الآن من قلق واضطراب وأزمات نفسية واقتصادية مروعة؟ وأظن أن الفضائيات الآن قد حولت العالم كله إلى قرية صغيرة، فما يحدث هنا تراه هنالك، وما يحدث هنالك تراه هنا في التو واللحظة، البشرية الآن تعيش معنى الضنك، قال تعالى: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ (طه)
إنه الضنك، الضنك في الصدور، الضنك في الأموال والأسواق، الضنك في البيوت، الضنك في القلوب، الضنك في المعاملات، كل نعيم بين يدي المبتعد والمعرض عن الله جل وعلا سيتحول إلى شقاء وضنك، وإن رأيته في الظاهر يتقلب في ألوان النعيم، المعصية شؤم على أصحابها من الأفراد والأمم والشعوب، شؤم عليهم في الدنيا والآخرة.
لعن الله تعالى لفاعلها: حينما ينزل شؤم المعصية على الناس يصيب الجميع الصالح والطالح،
الطالح لظلمه والصالح لسكوته على المنكر﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[المائدة: 78، 79]
إستدراج الله للعاصي: وان ما تراه الان من كثرة الرزق للعاصين ما هو الا استدراج لهم من الله حتى إذا اخذهم اخذ عزيز مقتدر، فعن عقبة بن عامر y أنه r قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فأعلم بأنه إستدراج له من الله عز وجل إقرأوا إن شئتم قوله تعالى " فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"الأنعام:445"([6])
الإهانة في الدنيا والآخرة: قال جل وعلا: "وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ"الحج:18
يعني من أهانه الله بسبب ذنوبه ومعاصيه لن يكرمه الخلق ولو أجمعوا على إكرامه، بل سيهينك الله على يد طفلك وعلى يد امرأتك، وسيهينك الله على يد قوتك أنت، تخونك قوتك أحوج ما تكون إليها، تدبر مني كل لفظة اليوم ورب الكعبة تخونك قوتك في لحظة تكون أحوج ما تكون إلى قوتك تخونك، لأن القلب فسد وضعفت إرادته وانقطع سيره عن ربه جل جلاله، فهذه القوة قوة البدن إنما هي ثمرة حتمية لقوة القلب ولطاعة الرب.
بغض الله والخلق له: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « ......... وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّى أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِى الأَرْضِ »([7]).
سواد الوجه: يقول ابن عباس: وإن للمعصية سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن وضيق في الرزق وبغض في قلوب الخلق ([8])، فالعاصي لو رآه واحد من الصالحين لعرفه، والله لو نظر أهل البصائر لأهل المعاصي لعرفوهم ،قد يتصور البعض أن السواد سيصبح سواداً حقيقياً يعني الأبيض يصبح أسود وهذا قد يقع ولا أستبعد ذلك، لكن على البشرة غضب، على الوجه غبرة وقتره، فتنظر إلى وجه العاصي له سحنة معينة، وجه الزاني ووجه شارب الخمر أعوذ بالله عليه غضب وعليه سحنه معينة يعرف بها أهل البصيرة أولئك من أهل الذنوب، عصمني الله وإياكم من الذنوب صغيرها وكبيرها.
الوحشة بين العبد وربه: والوحشة أمرها عجيب، ونبأها غريب وسرها ومكمنها أنها تنسي العبد حلاوة الحياة وسعادتها، لا تنعم -والله-بأطفال ولا تهدأ -والله-في بال، ولا تعيش في خير حال، تبدو دائماً قلقاً مشذباً مندداً مزعزعاً حتى يقول ابن القيم: إن العاصي دائماً إذا سمع نفحة من ريح يظن أن الصوت عليه،قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4] ولذلك هو في وحشة، العاصي لو تحرك الباب خاف، لو سمع البوليس انتفض، لو أتت دعاية قال: ضدي، ولذلك: كاد المريب أن يقول خذوني فهي وحشة بينه وبين الله لأنه كما قيل: أوصدتم طرق الإجابة والقبول بينكم وبين الله، فكيف تطلبون حلاوة؟
قيل لـأبي معاذ الرازي: أيجد العبد حلاوة الطاعة إذا هم بالمعصية؟ قال: لا والله، ولو فكر فيها، أي: إذا عمل معصية هل يجد حلاوة الطاعة؟ قال: لا والله، حتى ولو هم بها، مجرد هم لا يجد حلاوة الطاعة من الوحشة.
ضياع العمر: كل شيء يتعوض إلا العمر، وكل شيء إذا ذهب ربما تستعيده من طريق أو أخرى إلا العمر
ما مضى فات المؤمَّلُ غيب ** ولك الساعة التي أنت فيها
قال سبحانه: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]
وما تذكر فيه من تذكر موصولة بمعنى: الذي يتذكر ما تذكر، أو مصدرية أي: تذكر من يتذكر في هذه الحياة، وقال سبحانه: "قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون] فلامهم الله عز وجل فقال: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون]، وعن ابن عباس y قَالَ: قَالَ رَسُول الله -r -: ((نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ)) ([9])
وأعظم ما يضيع العمر الغالي المعاصي، وأحرص ما حرص عليه السلف الصالح العمر، وإذا أتت المعاصي ذهبت الدنيا والآخرة والعياذ بالله، إن السلف كانوا يخافون من المباحات على الأوقات، والآن نحن أخذتنا المعاصي لا المباحات في الأوقات، فأسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
نروح ونغدو لحاجاتنا
تموت مع المرء حاجاته أشاب الصغير وأفنى الكبير إذا ليلة هرمت يومها |
**
**
**
**
|
وحاجة من عاش لا تنقضي
وتبقى له حاجة ما بقي كر الغداة ومر العشي أتى بعد ذلك يوم فتي |
وقال آخر: دقات قلب المرء قائلة له ** إن الحياة دقائق وثواني
وإن من المآسي التي شهدها كثير من المسلمين -فأنا لا أتحدث عن الكفار، فهؤلاء لا حسبان لهم في هذا الكلام، وهؤلاء في منأى، هؤلاء لا يوجه لهم الكلام؛ لأنهم أبطلوا وصولهم وضيعوا اتجاههم مع الله عز وجل، لكن على المسلمين-أعظم ما مني به المسلمون -إلا من رحم ربك-ضياع الوقت، ضياع العمر، فكيف إذا كان في المعاصي؟! كيف إذا كان في الخطايا؟!
حِرْمانُ الطاعة: يقول ابن القيم: حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغناء في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعـان. وذلك أن الطاعة قُربةٌ إلى الملك الديان، فلا يجد عبدٌ لذة الطاعة إلا بابتعاده عن المعصية، ولذا قال سبحانه في المنافقين:﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾(التوبة:46).
قال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
وقال شابٌ للحسن البصري: أعياني قيام الليل، فقال: قيدتك خطاياك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الأخرة.
حرمان العلم : فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور.
ولما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه الموطأ كاملا وكان قد حفظه في ثلاثة أيام فقط وما زال صغيرا، فرأى فيه قوة الحفظ وتوقُّد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تُطفئه بظلمة المعصية.
فقال الإمام الشافعي:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ |
**
**
|
فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
ونورُ الله لا يهدى لعاصي |
ضياع الحسنات: وعن ثوبان y عن النبي r أنه قال لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا، قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون
ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" ([10])
تحبط هذه الحسنات وتضيع، توحيدي يضيع!، صلاتي تضيع!، صيامي وزكاتي وحجتي وعمرتي ونفقتي وقيامي بالليل وذكري واستغفاري وإحساني وبري كل هذا يضيع! جبال حسنات تضيع تصبح هباءً منثورا لماذا، هل هؤلاء ليسوا من الأمة يا رسول الله، لا يمكن أن يكون هؤلاء من الأمة... لا إنهم من الأمة بل ومن خواص الأمة كيف؟ قال r: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون" -هؤلاء يصلون في الليل، ويقيمون الليل إنهم من الخواص، إذن ما الذي أضاع هؤلاء وجعل حسناتهم هباءً منثورا؟ اسمع ماذا قال الصادق، قال: "ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"، المنتهك محارم الله مستخف بالملك، -انتبه إلى هذا حتى تعرف خطر الذنب من أين أتى لماذا هذا؟ لماذا هذه العقوبة البشعة؟ لأن المنتهك محارم الله مستخف بقدر الملك، فأنا وأنت لا نستطيع أن نفكر في انتهاك حرمة رئيس جمهورية أو أمير من الأمراء أو ملك من الملوك في قصره أو في مكتبه، لا نجرأ لا يخطر في فكرك أصلاً، فالمنتهك لحرمة الملك وهو يعلم مستخف بقدر الملك وبجلال الملك وبعظمة الملك سبحانه وتعالى، وفرق بين المستخف وبين المذنب الضعيف مثلي الذي يزل في الذنب لبشريته دون استخفاف منه بقدر ربه، قد أزل وقد تزل ولكن فرق بين زلة هذا وزلة ذاك، "قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" أسألكم بالله كم تنتهك حرمات الملك في الليل والنهار على ظهر الأرض ولولا حلم الله وستره لخسف بأولئك الذين ينتهكون حرماته ويتعدون حدوده، فلا يآخذه الله بالذنب الذي إنتهك به حرمة الملك في الخلوة، يمهله.
فأنت شاهدت فلماً وشاهدت غيره ولك شهر ولك سنة وأنت لا تريد أن ترجع والملك يسترك، هذا أكل الحرام وأخذ الرشوة مرة وعشرة والملك يستره فينسى، والآخر يأكل الربا من سنوات والملك يمهله فينسى، والرابع يزني بزوجة جاره أو صاحبه والملك يسترها ويستره فتنسى وينسى، ويتصور أن الذنب هين على الله وأن الله لا يغار وأن الله لا يغضب، فيتمادى المسكين في الذنب، فيفعل الذنب بعد الذنب في الخلوة، ثم بعد ذلك يصل به الأمر من الجرأة على الله عز وجل وقلة الحياء من سيده ومولاه جل جلاله إلى ارتكاب نفس المعاصي والذنوب في الجلوة فلا يستحيي ولا يتورع بعد ذلك أن يجهر بذنبه ومعصيته، فيبرز من الخلوة إلى الجلوة، يا فلان! تعال يا فلان! ثم يقول بأنه قد زنى بفلانه بالأمس، وقد شاهد الفلم الإباحي القذر الفلاني بالأمس، ثم يبدأ يدل الآخرين على الذنب وييسر على الآخرين فعل الذنب، يا الله! اسمع ماذا قال النبي r في حق هذا الصنف الخبيث المخذول المهان في الدنيا والآخرة إن لم يتدارك ويتعجل بالتوبة إلى الله
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى، إِلاَّ الْمُجَاهِرينَ وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ، وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ "([11])
هذا مخذول وأظنكم تعلمون يقيناً أن هذا الصنف قد كثر، الصنف الذي يتباهى بالمعصية، الصنف الذي يردد المعصية والذنب، يعتبر المعصية بطولة ويعتبرها رجولة، هذه بطولة جوفاء ورجولة كذابة، فلا يستحيي بعد ذلك لجرأته على الله بسب فساد قلبه بسب الذنب والمعصية.
تفسد القلوب وتقطع سير القلب للرب: والله لو تدبرت هذا لفزع قلبك، فأنت تسير إلى الله بالقلب لا بالبدن، قال ابن القيم رحمه الله: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله تعالى بقلبه وهمته لا ببدنه فالتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال تعالى: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب"الحج ، وقال تعالى: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ "الحج ، وأشار الحبيب r يوماً إلى صدره الشريف وقال: "التقوى ها هنا، ثلاثاً"([12])،
فالعبد إذا انقطع قلبه عن ربه أقبلت سحائب البلاء والشرور عليه من كل ناحية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في حنادس الظلام، والقلب إن أشرق بنور الإيمان أقبلت وفود الخيرات والبركات والرحمات إليه من كل ناحية فينتقل صاحب هذا القلب المشرق بنور الإيمان من طاعة إلى طاعة ومن حسنة إلى حسنة ومن فضل إلى فضل، حتى يسعد بالنظر إلى من تفضل عليه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إلف المعصية: يتجرأ على الله في الخلوة ثم يجاهر بالمعصية، ثم يألف المعصية، يألفها، لا تؤثر الذنوب بعد ذلك في قلبه، ولا يستحيي من الله ولا من الخلق أن يراه على المعصية، فهو جالس على المقهى أو في الشارع أو في السوق الآن وأمة محمد تصلي الجمعة وهو منذ أكثر من مئات الجمع لا يستحيي من ربه ولا يستحيي من الخلق ولا من نفسه، فالجمعة بعد الجمعة بعد الجمعة وهو في السوق يبيع ويشتري لا حياء من الله ولا من الخلق، ألف المعصية، صارت عادةً قبيحةً له، يسمع الآذان يؤذن للظهر والعصر والمغرب والعشاء وهو لا يتحرك ألف المعصية، لا يستحيي من ربه ولا من الخلق، وهذه تخرج عارية كشفت عن صدرها وعن عوراتها ولا تستحيي من ربها ولا من الخلق، ألفت المعصية، وهذا يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ويأكل الحرام ولا يستحيي من ربه ولا من الخلق، ألف المعصية، وهذا يشتم أمه ويسب أباه ويراه الناس من جيرانه ويعرف ذلك أصحابه ولا يستحيي من ربه ولا من الخلق، ألف المعصية، هذا يُخشى عليه أن يختم على قلبه وأن يطبع على قلبه فيهلك في الدنيا والآخرة، إلف المعصية خذلان وخسران في الدنيا والآخرة، ضاع الحياء من هذا العبد، ضاع حياءه من ربه، أولئك الذين ترونهم على المعاصي يكررونها ويفعلونها برتابه، هؤلاء ألفوا المعصية فصارت المعصية بالنسبة إليهم عادة لا تجرح مشاعرهم، المؤمن والله الذي لا إله غيره لو نظر نظرة في الحرام بحيث لا يطلع عليه إلا الله ينكس رأسه في الأرض بعدها خجلاً وحياءً من ربه، لأنه صاحب قلب حي يعرف جلال الله وعظمة الله، فلا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر في حق من عصيت.
من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ»([13]). ماذا يعني؟ يعني من عمل عملاً يبغي به السمعة لا يبتغي به وجه الله سيجعل الله نيته وسره علانية وستسمع أنت بأذنيك ألسنة الخلق تردد الحق وتقول: فلان هذه صاحب شهرة، ويبتغي سمعة، ويبتغي مركزاً، ويبتغي كرسياً، ويبحث عن منصب، وهو منافق ونصاب وكذاب، وآخر إذا ذكر اسمه ورُؤي وجهه ذكر الملك هذا ولي من أولياء الله، "أولياء الله الذين إذا رُأوا ذُكر الله" اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين، اعلم يقيناً أن سريرتك إن كانت خيراً سيظهرها ربك، وإن كانت شراً سيظهرها ربك، فألسن الخلق أقلام الحق، "من سَمّع، سَمّع الله به ومن يرائي يرائي الله به"، فمن خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية، اللهم استرنا ولا تفضحنا في الدنيا والأخرة وأكرمنا ولا تهنا.
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا تَقُلْ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعة لهَوْنَا، لَعَمرُ اللّهِ، حتى تَتابَعَتْ فَيا لَيتَ أنّ اللّهَ يَغفِرُ ما مضَى إذَا ما مضَى القَرْنُ الذِي كُنتَ فيهمِ وإنَّ أمرءًا قَدْ سارَ خمسِينَ حِجَّة فأحْسِنْ جَزاءً ما اجْتَهَدتَ فإنّما |
**
**
**
**
**
**
**
**
|
خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ ويأْذَنُ فِي تَوْباتِنَا فنتُوبُ وخُلّفْتَ في قَرْنٍ فَأنْت غَريبُ إلى مَنْهِلِ مِنْ وردِهِ لقَرِيبُ ولَيسَ لمَنْ تَحتَ التّرابِ نَسيبُ بقرضِكَ تُجْزَى والقُرُوضُ ضُروبُ |
قلة الرزق ومحق البركة: عن أنس y قال قال رسول الله r من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" ([14])
فيا من تعيش في ضنك وضيق من الرزق فتش عن ذنوبك، ويسأل سائل فيقول: لا يوجد مكان أفتحه إلا وأجد الدنيا مغلقه في وجهي، أقول لك أبحث عن ذنوبك، لا يوجد عمل أذهب إليه إلا ويتوقف، أقول لك أبحث عن ذنوبك، لي زمن لا أستطيع أجمع في يدي عشرة آلاف جنيه، أقول لك أبحث عن ذنوبك، أسئلة كثيرة... أقول لك أبحث عن ذنوبك، قال الله تعالى "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "الأنفال
أنت الذي غيرت، أنت الذي تركت طريق الطاعة، أنت الذي سلكت سبيل المعصية، أنت الذي شككت في وعد ربك وتسرعت وتعجلت لأخذ رزق قدره لك الله لأكنك صممت أن تأخذه بالمعصية ولو صبرت لأخذته بطاعة، وعن أبي أمامة قال قال رسول الله r " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته "([15])
فهو رزقك لا يأخذه أحد أبداً لكنك تسرعت وحصلت عليه بالحرام، لم تحرص على الحلال قال تعالى:﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾[النحل: 112].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم ** وصـنها بطاعة الله فإن الإلــه ســريع الــنقم
وقال آخر
رأيت الذنوب تميت القلوب** وقد يورث الذل إدمـانها
وترك الذنوب حياة القلوب** وخير لنفسك عـصيانها
كثرة الأمراض وقلة الأمطار وتسلط العدو عليهم: عن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله r فقال يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" ([16])
فهو يدل على التوعد بالابتلاء بخمس عقوبات إذا حصل بعض المعاصي:
أولاها: الابتلاء بالطاعون والأمراض التي لم تعرف سابقاً إذا انتشرت الفواحش وظهرت ومن ذلك: السيدا -الإيدز -الذي ظهر مؤخراً.
والله أعلن عن الفاحشة وخصص لها فضائيات كاملة، وجند لها جنود، وخصصت لها أكثر من 3 مليون موقع إباحي على الشبكة العنكبوتية تصور أفلام الزنى، والحليم لا يعجل وهو يغار.
والثانية: الابتلاء بالقحط والجفاف والغلاء وظلم السلاطين، إذا حصل نقص المكيال والميزان.
والثالثة: انقطاع الأمطار إذا تركت الزكاة.
والرابعة: تسليط العدو علينا بأخذ بعض أموالنا أو أراضيناً إذا حصل نقض عهد الله ورسوله.
والخامسة: وقوع الحروب بين المسلمين، وتسلط بعضهم على بعض إذا ترك الولاة الحكم بكتاب الله.
حب الدنيا وكراهية الموت: عن ثوبان قال قال رسول الله r يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت " ([17]).
واحتضر رجل ممن كان يجالس شاربي الخمور، فلما حضره نزع روحه أقبل عليه رجل ممن حوله وقال: قل: لا إله إلا الله، فتغير وجهه وتلبد لونه وثقل لسانه، فردد عليه صاحبه: يا فلان قل: لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا.. اشرب أنت ثم اسقني، ثم ما زال يرددها حتى فاضت روحه.
وذكر ابن القيم الجوزية قصة لأحد الأشخاص عن سوء خاتمته في آخر لحظات من حياته حينما نزل به الموت قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه خدعها أظهرت له البشر والفرح باجتماعها معه وقالت خدعة منها له وتخيلاً لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفاً من فعل الفاحشة: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع، فوجدها قد خرجت وذهبت، ولم تخنه في
شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها وجعل يمشي في الطريق والأزقة ويقول:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت *** أين الطريق إلى حمام منجاب؟
ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا
إذا كانت هذه هي آثار المعاصي فهل من توبة
اعلم ان باب التوبة مفتوح لا يغلق في أي لحظة من ليل أو نهار، ما عليك الآن إلا أن تعاهد ربك وأنت بين يديه على التوية، عاهد ربك بصدق على التوبة من أي ذنب ومن كل كبيرة ومن كل صغيرة -اسمع- وأنت على يقين مطلق بأن الملك سيفرح بتوبتك إليه الآن، الآن سيفرح الملك بك وهو أعلم بك مني وأعلم بك من نفسك، الآن وأنت جالس، منا الآن من صدق الله في التوبة وخرجت أنفاس التوبة ملفوحة بحرارة الصدق والإيمان من قلبه، والله لا يحجبها الآن شيء حتى تصعد إلى الملئ الأعلى ليفرح بها الملك الأعلى، هيا الآن، قال تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)" الزمر.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -r- أَنَّهُ قَالَ « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِى وَاللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلاَةِ وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَىَّ يَمْشِى أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ » ([19]).
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -r- بِسَبْىٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ تَبْتَغِى إِذَا وَجَدَتْ
صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -r- « أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ». قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» ([20]).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: عشرة أسباب لمغفرة الذنوب ومحو آثار السيئات، فالمؤمن إذا فعل سيئة فإنّ عقوبته تندفع بعشرة أسباب:
الأول: أن يتوب فيتوب الله عليه، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له
الثاني: أو يستغفر فيغفر الله له
الثالث: أو يعمل حسنات تمحوها فإنّ الحسنات يُذهبن السيئات
الرابع: أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويشفعون له حيّا وميتا
الخامس: أو يهدون له من ثواب أعمالهم لينفعه الله به
السادس: أو يشفع فيه نبيّه محمد r يوم القيامة
السابع: أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تُكفّر عنه
الثامن: أو يبتليه في البرزخ والصعقة، فيُكفّر بها عنه
التاسع: أو يبتليه في عرصات يوم القيامة من أهوالها بما يُكفّر عنه
العاشر: أو يرحمه أرحم الراحمين
فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومنّ إلاّ نفسه كما قال تعالى كما يرويه عنه رسوله محمّد r (يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فَلاَ يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ) ([21])
فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم