خطبة الجمعة القادمة بإذن الله بعنوان: جوهر الإسلام ورسالته السمحة
خطبة الجمعة القادمة بإذن الله بعنوان:
جوهر الإسلام ورسالته السمحة
3/8/20118
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: يريد الله
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر...}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن سدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
لقد أرسل الله (عز وجل) رسوله (صلى الله عليه وسلم) ليخرج
الناس من الظلمات إلى النور ، وليأخذ بنواصيهم من طريق الضلالة إلى سبيل الهداية ،
فجاء (صلی الله عليه وسلم) برسالة تتميز بالسمو
والحكمة والسماحة والمرونة ، والسعة؛ لأنها رسالة تجمع ولا تفرق ، توحد ولا تشتت ،
فالإسلام عدل كله ، رحمة كله ، سماحة كله ،
تیسیر كله ، إنسانية كله ، وأهل العلم قديما وحديثا على أن كل ما يحقق هذه الغايات الكبرى هو من صميم الإسلام ، وما
يصطدم بها أو يتصادم معها إنما يتصادم مع الإسلام
وغاياته ومقاصده .
ومما لا شك فيه أن فهم جوهر الإسلام
، ومعرفة أسرار رسالته السمحة ، والوقوف على مقاصده وغاياته السامية ، وتطبيق ذلك كله
في ضوء مستجدات العصر ومتطلباته، يعد ضرورة ملحة لمواجهة التحديات المعاصرة ، وكبح
جماح الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ومحاصرة
الفكر المتطرف ، وكسر دوائر التحجر والجمود والانغلاق وسوء الفهم وضيق الأفق ، والخروج من هذا
الضيق إلى عالم أرحب وأوسع وأيسر ، وأكثر نضجا ووعيا ، وبصرا وبصيرة ، وتحقيقا لمصالح
البلاد والعباد ، ونشر القيم الإنسانية الراقية التي تحقق أمن وأمان وسلام واستقرار
وسعادة الإنسانية جمعاء.
إن من يتحدث بلسان الحق ومنطق
الإنصاف يقر ويشهد أن الإسلام دین مکارم الأخلاق ، ورسالته أتت لإتمام هذه المكارم ، حيث
يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فحيث يكون
الصدق ، والوفاء ، والأمانة، والبر ، وصلة الرحم ، والجود ، والكرم ، والنجدة ،
والشهامة ، والمروءة، وكف الأذى عن الناس، وإماطة الأذى عن الطريق ، وإغاثة
الملهوف ، ونجدة المستغيث ، وتفريج کروب المكروبين ، يكون صحيح الإسلام ومقصده .
وحيث وجد الكذب ، والغدر ، والخيانة
، وخلف الوعد ، وقطيعة الأرحام ، والفجور
في الخصومة ، والأثرة ، والأنانية ، وضيق الصدر، فانفض يدك ممن يتصف بهذه الصفات ومن تدينهم الشكلي ، واعلم أنهم عبء
ثقيل على الدين الذين يحسبون أنفسهم عليه ؛ لأنهم بهذه الأخلاق وتلك الصفات منفرون
غير مبشرین ، صادون من دين الحق لا دعاة إليه ، وإن زعموا عكس ذلك وأقسموا
واجتهدوا ، فلا خير فيهم ولا وزن لقسمهم ، وإن أعجبك قولهم وأدهشتك بلاغتهم فتذكر
قول الله تعالى : {وين الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في
قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولی سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله
لا يجب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذه العزة بالإثم قحيبه جهنم ولبئس المهاد ، وقوله سبحانه: {إذا جاء المنافقون قالوا نشهد
إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا
أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم أمنوا ثم
كفروا قطيع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع
قولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون گل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى
يؤفكون}.
لقد رسخ النبي (صلى الله عليه وسلم)
تعاليم الإسلام السمحة ، وأخلاقه الكريمة وقيمه النبيلة في قلوب أصحابه حتى أصبحت
منهج حياة يعيشون ويتعايشون به مع الناس جميعا ، فهذا جعفر بن أبي طالب (رضي الله
عنه) يقف أمام النجاشي ملك الحبشة موضحا ومبينا شيئا من هذه القيم ، وتلكم الأخلاق
بأسلوب راق ، وكلمات واثقة قائلا: (أيها الملك ،كنا قوما أهل جاهلية ، تعبد
الأصنام ، وتأكل الميتة ، وأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ، وسيء الجوار ، ويأكل
القوي ما الضعيف ، وكنا على ذلك حتى بعث الله تعالى إلينا وا ا ، عرف نسبه وصدقه
وأمانته وعقاقه ، فدعانا إلى الله تعالی لوحده ونعبده ، وتخلع ما كنا نعبد نحن
وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة
الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفحش ، وقول الزور ،
وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا
أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاۃ والام ...).
وقد حفل القرآن الكريم بدعوة
المسلمين إلى التسامح وحسن الصلة مع الناس جميعا ، يقول الحق سبحانه وتعالى:
{وقولوا للناس حسنا} فهذه دعوة لحسن التعامل مع الناس جميعا على اختلاف ألوانهم
وأجناسهم ومعتقداتهم ، ويقول سبحانه: {لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا
إليهم إن الله يحب المقسطين.
وليس هناك أدل على هذا التسامح من
دعوة الإسلام إلى الإيمان بجميع الأنبياء (عليهم السلام) دون تفريق بين نبي ونبي ،
فكلهم جاءوا بدعوة واحدة، ورسالة واحدة، وهدف واحد ، قال تعالى: {آمن الرسول بما
أنزل إليه من ربه
والمؤمنون
كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعناغفرانك
ربنا وإليك المصير)، ويقول (صلی الله عليه وسلم): (أنا أولى الناس بعیسی بن مريم في
الدنيا والآخرة ، ليس بيني وبينه نبي ، والأنبياء أولاد علات ؛ أمهائهم شتی ، ودينهم
واحد).
إن
البشرية على مدى تاريخها لم تعرف دينا ولا نظاما اشتملت مبادئه على السماحة واليسر
كالإسلام ؛ فالإسلام سمح كله ، سمح في عباداته ، سمح في معاملاته، سمح في أخلاقه ؛
لأن تعاليمه جاءت بما يتناسب مع طبيعة الإنسان وفطرته؛ لذا يقول الحق سبحانه: { يريد الله أن يخفف
عنكم وخلق الإنسان ضيفا}.
ففي
العبادات تتجلی سماحة الإسلام ويسره في أنها مشروطة بالقدرة على أدائها، مع مراعاة الحالات المختلفة عند عدم القدرة
أو العجز ، فصلاة المسافر غير
صلاة
المقيم في عدد ركعاتها ؛ وصلاة الحرب والخوف غير صلاة الأمن والاستقرار في كيفيتها،
وهذا من تجليات الشماحة التي لا يجاری فيها الإسلام ولا يباری، ولعل من أشهر القواعد
الفقهية التي بنيت عليها الأحكام الشريعة (المشقة تجلب التيسير) ، فحيثما وجدت المشقة
في الفعل جاء التيسير من الشارع الحكيم، وهذا نبينا (صلی الله عليه
وسلم يوجه عمران بن حصین (رضي الله عنه) في مرضه قائلا له: (صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلی
جنب).
وفي مجال المعاملات جعل الإسلام السماحة والتيسير مبدأ عاما
في صور المعاملات المالية المختلفة ، ففي البيع والشراء ، والاقتضاء حث النبي (صلى
الله عليه وسلم على السماحة ، فقال : (رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا
اقتضى) ، كما حث الإسلام على السماحة في القرض وإنظار المعسر ، فقال تعالى:
{وإن كان دو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا
خير لكم إن كنتم تعلمون} ، ويقول نبينا (صلی الله عليه وسلم : ( من أنظر معسرا أو
وضع عنه أظله الله في ظله).
ومن أعظم صور السماحة والتعايش
الإنساني في حياته (صلی الله عليه وسلم) أنه صلی الله عليه وسلم) مات ودرعه مرهونة
عند يهودي في المدينة ، فعن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اشترى من
يهودي طعاما إلى أجل ، ورهنه درعا له من حديد . وعن ابن عباس (رضي الله عنهما قال:
توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) ودرعه مرهونة بعشرین صاعا من طعام أخذه لأهله ،
وما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك
من فقر أو حاجة ، وإنما فعله ليبين لنا جواز التعامل مع غير المسلمين ، وليضرب لنا مثلا عمليا في التسامح ،
وحسن المعاملة بين المسلمين وغير المسلمين.
ومن مظاهر سماحة الإسلام تشریعه
للتكافل الاجتماعي والأمر به من باب التعاون والتراحم ، فالمجتمع الإسلامي لا يعرف
أنانية ، ولا سلبية ، فديننا دين العطاء ، والبذل ، والتضحية والفداء والإيثار لا الأثرة ،
ولا الشح ، ولا البخل ، فالمؤمن سمح جواد کریم، قال الله تعالی واصفا الأنصار (رضي
الله عنهم): {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح
نفسه فأولئك هم المفلحون }.
ويوم أن جاءت امرأة إلى النبي (صلى
الله عليه وسلم) يبردة منسوجة، نسجتها بيديها ليلبسها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
وأخذها النبي (صلى الله عليه وسلم) محتاجا إليها ، فخرج إليهم وإنها إزاره ، فقال
له رجل من القوم : اگسيها، ما
أحسنها، فرجع النبي (صلى الله عليه
وسلم) فطواها ، ثم أرسل بها إليه ، فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها البي (صلى الله
عليه وسلم) محتاجا إليها ، ثم سألته ، وعلمت أنه لا يرد سائلا ، فقال: إني والله ، ما
سأله لألبسها ، إنما سألته لتكون كفني ، فكانت كفته .
إن الإسلام كما أمر بالتسامح وحسن
المعاملة ، نهی عن التشدد والغلو، وحذر من خطورته وآثاره ، فقال (صلی الله عليه
وسلم): ( إياكم والغلو في الدين ، فإما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) ، وعن
عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( هلك
المطعون . قالها ثلاثا) ، والمتنطعون هم: الغالون ، المجاوزون الحد في أقوالهم
وأفعالهم .
فحري بكل مسلم صادق في محبته لدينه
ووطنه أن يتخذ من التسامح والاعتدال والوسطية منهجا يطبقه في كل أقواله وأفعاله
وسائر تصرفاته وأحواله ، مقتديا في ذلك برسولنا الكريم (صلی الله عليه وسلم)
متجنبا كل مظاهر التطرف الفكري والتشدد والغلو التي نهى عنها ديننا الحنيف ، وأن
يكون صورة مشرفة لدينه بنشر سماحة الإسلام
، وترسيخ أسس المواطنة الكاملة والعيش الإنساني المشترك ، بعيدا عن كل ألوان
التشدد والغلو والتطرف.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سیدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه ،
وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام :
إن المقاصد العليا للشريعة
الإسلامية تدور في جملتها حول تحقيق مصالح العباد، فحيث تكون المصلحة فثمة شرع الله (عز
وجل) ، فالتكليف كله إما لدرء
مفسدة، وإما لجلب مصلحة ، أو هما
معا ، يقول العز بن عبد السلام (رحمه الله): لا لا يخفى على عاقل أن تحصيل المصالح
المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح
المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم
المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح
المرجوحة
محمود حسن ، واتفق الحكماء أيضا ،
وكذلك الشرائع كلها على تحريم الدماء، والأعراض، والأموال ، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل
من الأقوال والأعمال.
إن الإسلام دين العمل والإنتاج
والإتقان ونفع البشرية ، فحيث يكون العمل والإنتاج والإتقان ونفع البشرية يكون
التطبيق العملي لمنهج الإسلام ، وحيث تكون البطالة والكسل والتخلف عن ركب الحضارة
فكبر على من يتصف بذلك أربعا ، وإن تسمى
بأسماء المسلمين وحسب نفسه عليهم ، فهو عبء على دين الله (عز وجل) وعالة على خلقه
، وهذا توجيه النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه وأمته : (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن
لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه
، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه