خطبة الجمعة القادمة بإذن الله بعنوان الوفاء بالحقوق والالتزامات وتحري الحلال شرط أساس لقبول الطاعات
٢٩ من ذي القعدة ١٤٣٩هـ الموافق١٠ أغسطس٢٠١٨م .
---------------
الحمد لله رب العالمين ، القائل في
كتابه العزيز : {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم
إياه تعبدون}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا
عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى
آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد:
فإننا على وشك استقبال موسم من أعظم
مواسم الطاعة عند الله (عز وجل)، ألا وهو أيام
العشر الأول من شهر ذي الحجة ، حيث يتجلى الله (عز وجل) على عباده بالنفحات ، ويضاعف
لهم الحسنات ، ويجمع لهم فيها ألوان الطاعات ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما ) ، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله
( وجل) من هذي الأيام - يعني أيام العشر -)، قالوا: يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل
الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك
بشيء)، وفي رواية قال (صلی الله عليه وسلم): (ما من عمل أزکی عند الله (عز وجل) ولا
أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحی)، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد
في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء).
لقد تعددت مظاهر تکریم الله (عز وجل)
لهذه الأيام الطيبة المباركة؛ لبيان عظمتها ، ورفعة مكانتها ، وتنويها بشأنها وفضلها
، ومن ذلك:
* أن الله عز وجل أقسم بها في كتابه
الكريم ، فقال سبحانه: {والفجر وليال عشر * والشفع والوتر}، وما عليه جمهور المفسرين
أن الليالي العشر هنا هي عشر ذي الحجة .
ومنها ان الله
تعالى سماها في القرآن الكريم وأمر عباده بكثرة ذكره وشكره فقال سبحانه ويذكروا
اسم الله في أيام معلومات (الأيام المعلومات): (هي أيام العشر) ، ويقول نبينا (صلى
الله عليه وسلم : (ما من أيام أعظم عند الله ، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذ
الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير والتحميد) ، وكان ابن عمر، وأبو
هريرة رضي الله عنهما): (يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الاس
يتكبيرهما) ، فيستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام إعلائا بتعظيم الله
تعالی.
*ومن مظاهر تكريم
الله عز وجل لهذه الأيام المباركة -أيضا- أن اختصها الله (عز وجل) لتكون زمانا
تؤدي فيه عبادة الحج ، تلكم العبادة العظيمة التي يتربي فيها المسلم على تقوى الله
(عز وجل)، والتحلي بمكارم الأخلاق ، والانضباط والالتزام والدقة في الأقوال
والأفعال ، والتحكم في غرائز النفس وشهواتها ؛ ليخرج من مدرسة الحج وقد تحققت له
أهدافه الإيمانية والأخلاقية؛ لأجل ذلك ربط القرآن الكريم بين أداء الحج واستقامة
السلوك الإنساني؛ فقال سبحانه: {الحج أشهر معلومات من فرض فيهن الحج فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج، ويقول نبينا (صلی الله عليه وسلم : (من حج ، فلم يرفث، ولم
يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، فالحج عبادة سلام ، سلام مع الرفقة لا يجادل ولا يماري
، ويكون سهلا ليا مع الناس في كل شئونه ، سلام مع الحيوان ، حيث يقول الحق سبحانه:
{يا أيها الذين آوا کا تقتلوا الصيد وأنتم
محترم ، سلام مع النبات ، يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم) عن مكة: (... ولا يعضد
شجها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا معرفي).
* وكذلك من مظاهر
تكريم الله عز وجل لهذه الأيام أن شرع فيها الأضحية، التي هي علم على الملة
الإبراهيمية ، ودليل على السنة المحمدية ، ومن أعظم شعائر الله (عز وجل) التي
يتقرب بها العبد إلى ربه في يوم النحر ، قال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله؛
فإنها من تقوى القلوب} ، ويقول سبحانه: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن
يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}.
لقد حثنا النبي
(صلى الله عليه وسلم) على اغتنام هذه الأيام المباركة ؛ والتقرب فيها إلى الله (عز
وجل) بالأعمال الصالحة قدر المستطاع ، لما لها من مكانة عظيمة عند الله (عز وجل) ؛
يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم): (إن لربكم عز وجل في أیام دهركم نفحات، فتعرضوا
لها، لعل أحدكم أن تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا) ، ويقول (صلی الله عليه
وسلم): (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته ،
يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم).
على أنه ينبغي على
المسلم الحقيقي أن يحرص على أن يكون عمله مرضيا عند الله (عز وجل) حتي ينال القبول
، وهذا دعاء نبي الله سلیمان (علیه السلام): {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت
علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} ، وإن من
أهم أسباب قبول العمل عند الله عز وجل تحري الحلال ، في المطعم والملبس والمسكن ،
وسائر التصرفات ، وفي كل الأحوال ، ذلك أن الله (عز وجل) طيب لا يقبل إلا طيبا ،
فعن أبي تري (رضی الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : ( أيها الناس،
إن الله طيبا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمير المؤينين يما أمر به المرسلين، فقال:
{يا أيها الرسل كلوا اين الطيبات واعملوا صالحا إلي بما تعملون عليه ، وقال تعالى:
{يا أيها الذين آموا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن تم إياه تعبدون} ،
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، یا رب، یا رب، ومطعمه
حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وذي بالحرام، فأني يستجاب ذلك؟ ) ، وعن أبي هريرة
رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من تصدق بعدل تمرة من
کسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها يمينه، ثم يربيها لصاحبها،
كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل).
لقد جعل الإسلام
الوفاء بالحقوق والالتزامات ، وتحري الحلال وترك الحرام سببا القبول الطاعات ،
ومرضاة لرب الأرض والسموات ، والعجب كل العجب ممن يأكل الحرام ، ويتعدي على حقوق
الآخرين ، ثم يزعم أنه يتقرب بهذا المال إلى الله (عز وجل) ويسأل الله قبول عمله ،
واستجابة لدعائه ، قال (صلی الله عليه وسلم): (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك فيه، ومن جمع
مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه) ، وعن ابن عمر (رضي
الله عنهما قال: " من اشتری ثوبا يعشرة دراهيم، وفيه درهم حرام، لم يقبل الله
له صلا مادام علیه " ، يقول سفيان الثوري (رحمه الله) : "من أنفق الحرام
في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا
الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل أو يرفع له دعاء والله -تعالى- يقول { إنما
يتقبل الله من المتقين}.
على أننا نؤكد أن
الإنسان مأمور بضرورة تحري الحلال ، والوفاء بالحقوق والالتزامات سواء أكان ذلك في
حق الأفراد بسداد الديون ، ورد المظالم إلى أهلها، وعدم التعدي على حقوق الآخرين ،
أم كان في حق الدولة بعدم التهرب من الضرائب أو الجمارك وسائر الرسوم والالتزامات
التي أقرتها الدولة حتى تستطيع القيام بدورها في توفير الخدمات الصحية والتعليمية
ومجال البنية التحتية ودعم من يستحق الدعم من أبنائها، وتوفير الحياة الكريمة له،
مع الحفاظ على كرامته وآدمیته، من خلال البرامج التكافلية التي تقدم دعما نقديا
تستفيد منه الأسر الأولى بالرعاية ، وكذلك العمل على خلق فرص عمل لأبناء المجتمع
ليتحول إلى مجتمع منتج.
إن الوفاء بالحقوق
والالتزامات المتعلقة بالمال العام ضرورة شرعية ووطنية ، إذ به تقوم شئون البلاد والعباد ، ومنفعته تعود على
الناس كافة ؛ لذا كان الاعتداء عليه اعتداء على مجموع الأفراد والمجتمع ؛ لأن الذي
يستبيح المال العام إنما يسرق من الشعب كله ، وعليه إثم كل من له حق في هذا المال
، فسرقته أعظم جرما من سرقة المال الخاص
وهذا عمر بن
عبدالعزيز كان يقسم شيئا من تفاح أفاء الله به على المسلمين ، فجاء ولد صغير من
أبنائه وأخذ تفاحة قبل القسمة ، فما كان من عمر بن عبد العزيز إلا أن أخذ التفاحة
من فم ابنه ، فذهب الصبي يبكي إلى أمه ، فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحا من خالص
مالها، فلما رجع عمر وجد ريح التفاح ، فقال : يا فاطمة ، هل أتیت شیئا من هذا
الفيء؟ قالت : لا ، ثم قصت له ما حدث ، فقال : والله لقد انتزعتها من ابني وكأنما
نزعتها من قلبي ، ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله (عز وجل) بشيء من فيء المسلمين
.
ألا فليعلم كل من
تعدي على حق الدولة أنه يضر بمسيرة التقدم في وطنه ، ويتعدي على حق الفقراء والمحتاجين سواء أكان
هذا التعدي بسرقة الكهرباء أو المياه أو التلاعب في وحدة قياس أي منهما للتهرب من
بعض التزاماته ، أو بالاعتداء على المال العام كأملاك الدولة التي هي حق للشعب ،
أو مال الوقف الذي هو مال أناس صالحين أوقفوه على سبل الخير وقضاء حوائج المحتاجين
، فضلا عن أن المتهرب من سداد واجباته تجاه الدولة يسهم في تعطيل عجلة التنمية
الاقتصادية والاجتماعية التي سيعود مردودها عليه وعلى أبنائه من إنشاء طرق
ومستشفيات ومدارس وجامعات تليق بهذا الوطن الأبي الذي يعيش فينا ، والذي سيبقی
محفوظا بحفظ الله (عز وجل) له - إن شاء الله - ، وربما ترى بعض من يقوم بمثل هذه
التعديات حريصا على تكرار الحج بعد الحج ، والعمرة بعد العمرة مستهينا بما يقوم به
من غصب وتعدي على المال العام ، ولا يعلم أن الله (عز وجل) لا يقبل نافلة حتى تؤدي
الفريضة .
أقول قولي هذا
وأستغفر الله لي ولكم
*
الحمد لله رب
العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين. إخوة الإسلام :
كما أن في التعدي
على حقوق الآخرين – سواء أكانت حقوقا خاصة لأفراد ، أم كانت عامة كحق الدولة -
آثار سلبية تعود على الفرد والمجتمع ، فإن فاعل ذلك آثم مستحق لعقاب الله (عز وجل)
ما لم يتب ويرد المظالم إلى أصحابها ، ويسارع
بسداد ما عليه من حقوق والتزامات للآخرين ، سواء أكانت تجاه بعض الأفراد ،
أم تجاه المال العام ، فعن أبي هريرة (رضی الله عنه) : أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) قال: ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم،
قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) ،
فهذا أبرأ للذمة وأرجی للقبول ، ويقول (
صلى الله عليه وسم): (إن رجال يتخوضون في مال الله يغير حق، فلهم النار يوم
القيامة).
ولقد أخبرنا النبي
(صلى الله عليه وسلم) أن من عزم على قضاء الدين والوفاء بالحقوق والالتزامات أعانه الله (عز وجل) على
ذلك ، فقال (صلی الله عليه وسلم) : من أخذ
أموال الناس يريد أداءها أدي الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
فحري بكل مسلم
يرجو ثواب هذه الأيام ، ويتقرب إلى الله (عز وجل) فيها بالطاعات أن يدرك أن الوفاء بالحقوق
والالتزامات ، وتحري الحلال شرط في قبول
العمل عند الله ، مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا تقبل صلاة
بغير طهور ولا صدق من غلول )
اللهم أرنا الحق
حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
وارزقنا الحلال
وبارك لنا فيه وباعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب .