خطبة الجمعة القادمة بإذن الله بعنوان الجوانب الإنسانية في خطبة حجة الوداع
خطبة الجمعة القادمة بإذن الله بعنوان الجوانب الإنسانية في خطبة حجة الوداع
بتاريخ 6 من ذي الحجة 1439هـ الموافق 17 من أغسطس 2018م
تحميل pdf
الحمد لله رب العالمين ، القائل
في كتابه العزيز : { اليوم أكملت لكم دينكم | وأتممت عليكم بنعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده
ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
. .
وبعد
فإن الدين الإسلامي هو دين
القيم في أسمى معانيها ، دین يحترم آدمية الإنسان وإنسانيته بغض النظر عن دينه أو لونه
، أو عرقه ، أو جنسه ؛ حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ولقد كرمنا بني
آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
ولقد أرسل الله (عز وجل) رسوله
(صلی الله عليه وسلم) برسالة إنسانية ، تدعو إلى القيم الفضلي ، والمثل العليا ، فقام
(صلی الله عليه وسلم) بتبليغ رسالة ربه (عز وجل) على أكمل وجه ، وأتم صورة ، فظل طوال
حياته يرسخ للقيم الإنسانية بقوله وفعله وتقريره ، وفي حجة الوداع وبعد أن استقر التشريع
، وكمل الدين ، وتمت النعمة، ورضي الله لنا الإسلام دينا ، أكد النبي (صلى الله عليه
وسلم) على ترسيخ هذه القيم الإنسانية في نفوس المسلمين وقلوبهم من خلال خطبته (صلی
الله عليه وسلم)| التي أرسى فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها مبادئ الجاهلية ، وعظم
فيها الحرمات ، وأعلى فيها من شأن الإنسان وقيمته .
ولا شك أن خطبة حجة الوداع
تعد أول وثيقة وإعلان عالمي للحفاظ على حقوق الإنسان ، لما اشتملت عليه من قيم إنسانية
تحفظ للإنسان كرامته ، وتحقق له أمنه وسلامته ، فقد وقف النبي (صلى الله عليه وسلم)
في جمع من الصحابة في لقاء مشهود بين أمة ورسولها ، وهو يستشعر مع كل حرف من كلماته
دنو أجله بعد هذه المناسك ، ليضع اللمسات الأخيرة لدستور المسلمين الإنساني ، فعن محمد
بن جبير بن مطعم ، عن أبيه (رضي الله عنه) أنه شهد خطبة رسول الله (صلى الله عليه وسم)|
في يوم عرفة في حجة الوداع ، فقال فيها: (أيها الناس إلي والله لا أدري لعلي لا ألقاكم
بعد يومي هذا بمكاني هذا، فرحم الله من شيع مقالتي اليوم فوعاها فرب حامل فقه ولا فقه
له ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فتعالوا بنا لنقف مع بعض الجوانب الإنسانية
التي اشتملت عليها هذه الخطبة الجامعة.
فمن هذه الجوانب الإنسانية
، ترسيخ مبدأ المساواة والكرامة الإنسانية بين الناس جميعا كحق أصيل للإنسان يحفظ كرامته
في المجتمع الذي يعيش فيه ، فقال | (صلی الله عليه وسلم) في خطبته : (يا أيها الناس،
إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، أنا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ، ولا
لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أثقاكم
...) ، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) معيار التفاضل هو التقوى والعمل الصالح ؛ امتثالا
لقول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل يتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير.
فالبشرية كلها سواسية دون
تمييز طبقي ، أو تعصب قبلي ، أو مذهبي ، فالناس جميعا ينتمون لأصل واحد ، وأب واحد،
هو آدم (علیه السلام)، فمبدأ المساواة بين الناس مبدأ شرعي ، وقيمة إنسانية تحقق التوازن
في الأسرة والمجتمع ، فإذا انتهك هذا المبدأ بين أفراد الأمة عمت الفوضى في المجتمعات
، وانتشر الفساد بین الناس.
ولقد كان النبي (صلى الله
عليه وسلم) حريصا على ترسيخ هذا المبدأ طوال حياته ، فقد أزال (صلی الله عليه وسلم)
فوارق العصبية ، والقبلية بين أطياف المجتمع ، حين قال (صلی الله عليه وسلم): (سلمان
مما أهل البيت) ، وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: (أبو بكر سيدنا ،
وأعتق سيدنا) ، يعني سيدنا بلانا (رضي الله عنه) ، وكان (رضي الله عنه) يقول: (لئن
جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بلا عمل لهم أولی برسول الله (صلى الله عليه وسلم) منا
يوم القيامة) .
وكما رسخ النبي (صلى الله
عليه وسلم) هذا المبدأ بقوله جعله واقعا عمليا يتعايش به مع جميع الناس على اختلاف
معتقداتهم ، ولا أدل على ذلك من قيامه (صلی الله عليه وسلم) حينما مرت به جنازة، قيل
له: إنه يهودي، فقال (صلی الله عليه وسلم): (أليست نفسا)، وعن أنس رضي الله عنه)، قال:
كان غلام يهودي يخدم النبي (صلى الله عليه
وسلم) فمرض ، فأتاه النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوده، فقعد عند رأسه ، فقال له: (أسلم)
، فنظر إلى أبيه وهو بيده ، فقال له: أطع أبا القاسم
صلی الله عليه وسلم ، فأسلم
، فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول: | الحمد لله الذي أنقذه من النار).
ومن هذه الجوانب الإنسانية
التي أرستها خطبة حجة الوداع حرمة الدماء والأموال والأعراض ، فعن عبد الرحمن بن أبي
بكرة ، عن أبيه (رضي الله عنه) ذكر أن النبي (صلى الله عليه وسلم قال: (أي يوم هذا؟
فسكتنا حتى ظنا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: في شهر
هذا؟ فسكتنا حتى ظنا أنه سيسميه يغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال:
فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
يبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له به ، فقد دلت هذه الكلمات
البليغة ، بهذا الأسلوب النبوي البديع على عظم حرمة الدماء ، والأموال ، والأعراض وعصمتها
، وأنه لا يحل الاعتداء عليها بأي نوع من أنواع الاعتداء ، فكل الدماء حرام ، وكل الأعراض
مصانة ، وكل الأموال محفوظة .
فقد لفت النبي (صلى الله عليه
وسلم) انتباه أصحابه (رضي الله عنهم) لهذا اليوم العظيم ، وذكرهم بحرمته ، وحرمة الشهر
، وحرمة البلد تقريرا لما ثبت في نفوسهم من تعظيمها ؛ ليبني عليه ما أراد تقريره وتأكيده
من عظم حرمة الدماء والأموال والأعراض ، وليؤسس
لمجتمع حضاري مستقر ، تسوده الألفة ، وتراعي فيه الحرمة ، ويأثر فيه كل ذي حق حقه ،
وتقوم العلاقة بين أفراد على التعاون والتراحم ، لينهضوا في نسيج واحد متلاحم ، لا
يحل فيه لأحد أن يعتدي على أحد بأي شكل من أشكال الاعتداء.
ومن المعلوم أن حفظ الدماء
والأعراض والأموال لا تمييز فيه في الإسلام بين مسلم وغيره ؛ لأن الشريعة كفلت ذلك
لكل إنسان بغض النظر عن دينه ، أو جنسه ، أو لونه ، قال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق لكم وصاكم به لعلكم تعقلون}، بل جعل الله (عز وجل) قتل نفس واحدة
بغير حق كأنه قتل للبشرية كلها، قال تعالى: {... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}، فلا يحل لإنسان أن يعتدي
على أخيه بأي نوع من أنواع الاعتداء ، أو أن يتعرض له بأي لون من ألوان الإيذاء ،
لقوله (صلی الله عليه وسم)
: ( المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) ، فأمر الدماء في الإسلام عظيم، لدرجة
أن النبي (صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قثل مؤمن بغير حق)
، فالإسلام يدعو إلى الأمن والأمان ، والسلم والسلام ، ويريد للناس جميعا أن يحيوا
حياة مستقرة ، ولا يتحقق لهم ذلك إلا بحقن
الدماء والحفاظ على الأعراض والأموال.
ومن الجوانب الإنسانية في
خطبة حجة الوداع وصيته (صلى الله عليه وسلم)| بالمرأة ، والحفاظ على حقها ، فقد أوصى
(صلی الله عليه وسلم) بالمرأة تقديرا لها ، وبيانا لمكانتها ، فالنساء شقائق الرجال
، والحقوق والواجبات متبادلة ، حيث يقول الحق سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف
، ثم أوصي الله (عز وجل) الرجل بحسن العشرة مع المرأة حتى وإن حدث منها ما يغضبه ،
أو رأي منها ما يكرهه ، فقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا
شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، ويقول نبينا (صلی الله عليه وسلم): (إن لكم على نساؤكم
حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليه أن لا يوطن فرشكم أحدا تكرهوئه، وعليه أن لا يأتين يفاجئة بيئة).
ولا شك أن الإسلام قد أكرم
المرأة أما و أختا و بنتا و زوجة ، وجعل لها من الحقوق ما يكفل سعادتها في الدارين
ويصونها ويحافظ على كرامتها الإنسانية ، فعندما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) : من
أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم
أمك) قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)، وقال: (صلی الله عليه وسلم : (من كان له ثلاث بنات
، فصبر عليهن | وأطعمهن وسقاهن وكساهن وجدته ، گن له حجابا يوم القيامة من النار) ،
وفي رواية : (من عال ابنتين أو ثلاث بنات ، أو أختين أو ثلاث أخوات ، حتى يبن أو يموت
عنهن ، كنت أنا وهو كهاتین ، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى) ، وعن أبي هريرة (رضي
الله عنه) ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (استوصوا بالنساء ، فإن المرأة
خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم
يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا) فكلمة (خيرا) الواردة في الحديث كلمة جامعة مانعة
توحي بوجوب التخلق بأسمى معاني الرجولة حين يتعامل الرجال مع المرأة.
كانت هذه بعض الجوانب الإنسانية
من خطبة حجة الوداع التي احتوت على الكثير من المبادئ السامية ، والمشاهد الإيمانية
الراقية ، والتي يضيق المقام عن ذكرها أو استقصائها، فما أجدر البشرية جمعاء أن تقف
أمام هذا الهدي النبوي العظيم المتمثل في خطبة حجة الوداع التي جمعت في كل ألفاظها
ومعانيها الخير للبشرية كلها ، فقد كانت بحق سبقا في تاريخ البشرية حين أرست قواعد
حقوق الإنسان ، ورسمت المبادئ والقيم الأساسية الإنسانية والخلقية، فلو تدبرها الناس
وعملوا بما فيها ، لكانت سببا في إسعادهم في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله
لي ولكم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سیدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم
صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام :
ما أحوجنا إلى الاقتداء برسول
الله (صلى الله عليه وسلم) وخاصة في الجوانب الإنسانية التي لم تعرف الدنيا لها مثيلا
لتستقيم حياتنا ، فلقد كانت بعثة النبي (صلی الله عليه وسلم) مفعمة بالفضائل الإنسانية
، ومكارم الأخلاق ، حيث يقول الحق سبحانه : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وأخبر
(صلی الله عليه وسلم) عن هذه الرحمة فقال: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) ، وبهذه
الرحمة والرأفة نجح (صلی الله عليه وسلم) في تألیف قلوب من حوله ، وصدق الله حيث قال:
{فبما رحمة من الله نت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك .......
وفي الختام ونحن في هذه الأيام
الطيبة المباركة نذكر بسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) بصيام يوم عرفة ، حيث قال (صلی
الله عليه وسلم): (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي
بعده).
وكذلك من سنته (صلى
الله عليه وسلم) الأضحية على القادر المستطيع ، حيث قال (صلی الله عليه وسلم): (ما
عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله ع وجل
من إهراقة دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها ، وأشعارها، وإن الدم
ليقع من الله (عز وجل) بمكان ، قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا).
اللهم تقبل منا ، واقبلنا،
واجعلنا من المتقين