خطبة الجمعة القادمة بإذن الله عن أمانة الكلمة


 بتاريخ 13 من ذي الحجة 1439هـ الموافق 24 من أغسطس 2018م

تحميل pdf


أمانة الكلمة
 الحمد لله رب العالمين ، القائل في كتابه العزيز: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا  محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد:
فإن الكلمة هي عنوان الإنسان ، ووسيلة اتصاله بالآخر ، وبها يكاد يكون كل شيء في حياته ، فبكلمة تسعد أمة ، وبكلمة تشقى أمم وشعوب ، بكلمة تحفظ وتصان  الأعراض ، وبكلمة تهدر وتراق الدماء ؛ لذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بها في كل الأحوال.
ونظرا لخطورة الكلمة على الإنسان ، جاء الأمر الإلهي بضرورة ضبط اللسان وحفظه ، وعدم إطلاق العنان له في أعراض الناس ، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، فجوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان ، فإن استقام استقامت وإن اعوج اعوجت ، فعن أبی سعید الخدري رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فانما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا).
ولقد بين (صلی الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) أن اللسان يكون سببا في دخول الإنسان الجنة أو النار ، يقول (رضي الله عنه): كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في سفر، فأصبحت قريبا منه فقال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)، قال: قلت: بلى يا نبي الله، فأخد بلسانه قال: (أمسك عليك هذا) ، فقلت: يا رسول الله، أو نحن مآخذون يما نتكلم؟ قال: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألستهم).
إن الكلمة سلاح خطير ذو حدين ، إما أن تكون سببا في دخول صاحبها الجنة ، وإما أن تكون سببا في دخوله النار ، وإما أن تكون سببا في البناء والإعمار إذا كانت صادقة أمينة صالحة ، وإما أن تكون سببا في الهدم والفساد والدمار إن كانت كاذبة باطلة فاسدة ، فليست الكلمة أمرا هینا ، بل لها أهمية عظيمة في حياة الإنسان ، وفي تعامله مع الناس ، من بيع وشراء، وعقود ومعاهدات ، ونحو ذلك مما يتطلب الصدق في الحديث .
فحري بالمسلم أن يضبط لسانه، ويحفظه من الزلل وأن يستعمله فيما فيه مصلحة، فإن كان خيرا تكلم وإلا سکت ، فالسكوت في هذه الحالة عبادة ، ولقد ذكر الحق سبحانه وتعالی من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو ، وهو الكلام الذي لا  نفع فيه ، فقال : {والذين هم من اللغو معرضون} ، فالكلمة أمانة ، يجب على قائلها أن يتقي الله (عز وجل) فيها، لما لها من خطورة وما يترتب عليها من خير كبير أو شر مستطير ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم قال: ( إن  العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم) ، فليدرك كل إنسان مسئوليته الكاملة أمام الله (عز وجل) وأمام ضميره وأمام الخلق عن كل ما يتحدث به ، حتى لا يكون سببا في الفرقة والتنافر بين أبناء المجتمع الواحد، وحتی لا يكون سببا في قطع الأرحام ، وإفساد العلاقات بين الناس.
ولا يخفى ما للكلمة من أثر طيب في العلاقة بين الناس ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه) قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم): یا رسول الله إن فلانة تقوم الليل  وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( لا خير فيها، هي من أهل النار ، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق  بأثوار، ولا تؤذي أحدا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسم) : (هي من أهل الجنة).
والكلمة منها الطيب ومنها الخبيث ، ولقد ضرب الله (عز وجل) مثلا لكل منهما  وما تحدثه من آثار ، فقال سبحانه: { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة  أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال  للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها  من قرار} ، فالكلمة الطيبة كشجرة طيبة ، ضربت في باطن الأرض جذورها ، وتمددت في الآفاق فروعها وأغصانها ، فهي تثمر الخير ، وهي دليل على طيب المنبت ، وسلامة النفس، وكمال العقل ، ونضوج الفكر ، وهي التي تسر السامع ، وتحدث أثرا طيبا في نفوس الآخرين ، وهي سمة لخطاب الإنسان مع غيره.
وكذلك الكلمة الطيبة تؤلف القلوب، وتصلح النفوس، وتذهب الأحزان ، وتزيل الغضب ، وتشعر بالرضا والسعادة ، لا سيما إذا رافقتها ابتسامة صادقة ، فعن أبي ذر (رضي الله عنه) قال رسول الله (صلى الله عليه وسم) : ( تبسمك في وجه أخيك لك  صدقة)، والنبي (صلى الله عليه وسلم) جعل الكلمة الطيبة دليلا على إيمان صاحبها فقال: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
وقد أمرنا الله تعالى بأن نقول الكلمة الطيبة لجميع الناس دون تفرقة ، وألا  ننطق إلا بالقول الرشيد الذي يصلح ولا يفسد ، يبني ولا يهدم ، يعمر ولا يخرب ، فقال تعالى: {وقولوا للناس حنسا...}، وقال: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)، فالكلمة الطيبة تحفظ المودة ، وتديم الصحبة ، وتحول العدو إلى صديق ، وتقلب الضغائن إلى محبة ، وتمنع كيد الشيطان ، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون}. : أما الكلمة الخبيثة فهي تسبب الفرقة والتنافر بين أبناء المجتمع الواحد ، وهي  التي تهدم ولا تبني ، وتخرب ولا تعمر ، وتحرض على الفتن ، وتدعو للعنف ، وتحث  على الفرقة .
ويظهر خطر الكلمة الخبيثة في الشائعات التي تطلق في المجتمع والتي تستهدف وحدة الأمة وتماسكها ، أو النيل من مقدراتها ، وبث الإحباط في نفوس  أبنائها ، أو العمل على إسقاطها أو إضعافها أو تمزيقها أو تفتيت كيانها.
وللشائعات خطورة بالغة على المجتمع ، بسبب سرعة انتشارها وتأثيرها على  الناس، لأن من آثارها: تضليل الرأي العام ، وإثارة الفتنة ، ورمي الناس بالباطل، ولقد عظم الإسلام من خطورتها ، فعلى الإنسان أن يتحرى الصدق ، ويتجنب الكذب ، وأن  نعمل على إشاعة قيمة الصدق ، حيث يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم : (إن الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب بيد الله كذابا) .

إن الشائعات ليست مجرد كذب ، بل هي كذب متعمد ، وافتراء ممنهج ، يؤكد أن صاحبها لا دين له ولا خلق ، وبث الشائعات أحد وسائل حروب الجيل الرابع والجيل الخامس لتدمير المجتمعات من داخلها ، من حيث التركيز على الإثارة وتشويه  الرموز الوطنية والإنجازات الكبرى ، والتهوين من شأنها ، والتركيز على السخرية والتهكم ، والعمل على نشر اليأس والإحباط وخلق الأزمات ، وفق خطط مدروسة وممنهجة وممولة قائمة، حيث لا وازع من دين ولا خلق ، ولا وطنية ولا إنسانية .
لذا ينبغي التصدي للشائعات بالتحري والتثبت من الأخبار ، فليس كل ما يسمع ينقل أو يقال ، حيث يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم) : (كفى بالمرء كذبا ، أن يحدث بكل ما سمع)، ويقول الحق سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم ناديين}، ذلك أن الكذب يعد أهم علامات النفاق ، حيث يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم) : (آية المنافق ثلاث ، إذا  حدث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، ويقول (صلی الله عليه وسلم) :: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم  فجر). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن  سیدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
إخوة الإسلام:
إذا كان نشر الشائعات وترويجها يهدف إلى زعزعة الأمن ، واستهداف وحدة الوطن ، وإضعاف نمو اقتصاده ، والنيل من استقراره وسلامته ، وبث روح الإحباط واليأس في نفوس المواطنين ، فإن علينا التثبت والتحقق من صحة ما ينقل أو يقال ، حتى لا نشارك في نشر وبث الشائعات أو الأكاذيب بقصد أو بغير قصد ، فالشائعات تزداد انتشارا إذا وجدت ألسنة ترددها ، وآذان تصغي إليها ، ونفوس تتقبلها وتصدقها ، وترددها دون وعي أو إدراك ، يقول سبحانه : {إذ تلقونه بألسنتم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}، ويقول سبحانه : {لولا إذ  سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين}.
.فالمسلم مأمور بأن يحسن الظن ، وأن يحمل ما يصدر عن الآخرين على محمل حسن ؛ لأن سوء الظن مرض فتاك يؤدي إلى اضطراب الحياة ، ونشر الخصومة  بين الناس ، ولقد حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من ذلك بقوله: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسواا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا).
وعلينا أن نواجه تلك الشائعات وندحضها ببيان الحقائق الراسخة ، فكل من علم الحقيقة ووقف عليها فإن عليه بيانها قدر استطاعته ، وفي حدود ما يتاح له ، فيتصدى كل وطني مخلص للشائعة بيان الحقيقة ، حيث يقول نبينا (صلی الله عليه وسلم) : من رد عن عرض أخيه يرد الله عن وجهه النار يوم القيامة، ولنعلم أن الكلمة أمانة ستسأل عنها أمام الله تعالی یوم القيامة.
ولندرك جميعا أن أعداءنا قد اتخذوا من حروب الجيل الرابع والجيل الخامس،  ومن حرب الشائعات وتشويه الإنجازات والرموز الوطنية ، ومحاولات النيل من كل ما هو وطني سبيلا لإفشال دولنا ، أو إسقاطها ، أو تفتيتها ؛ لتحقيق أغراضهم ومآربهم ،  فعلينا أن ندرك أننا أمام حرب ضروس تحاك لنا ، والشائعات وقودها ، فيجب أن نتحقق  وأن نتثبت حتى لا نسقط في مكائد أعدائنا ، ويجب أن ندرك أن الكلمة أمانة ، وأن نثق في أنفسنا وفي قيادتنا وفي جيشنا وشرطتنا ، وألا نعطي أسماعنا لأعداء الوطن ، ومن يعملون على النيل منا ، أو من معنوياتنا ، أو يفكرون في إحباطنا وبث روح اليأس بيننا ، مؤكدين أن ثقتنا في الله (عز وجل) وفي أنفسنا كفيلة برد كيد أعدائنا في نحورهم بإذن الله تعالی .  اللهم حسن أخلاقنا ، واحفظ مصرنا ، ووفقنا لما تحب وترضى
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات