القـرآن الكريم، وأثره في تقوية الجوانب الإيمانية وترسيخ القيم الإنسانية للشيخ / محمد حســـــن داود






الموضـــــوع : الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز(إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )الإسراء9) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل في حديثه الشريف " "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" متفق عليه ). اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم، بكثير من المعجزات، لكن يظل القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" متفق عليه ) من قرأه أُجر، ومن تدبره تذكر، ومن قال به صدق، ومن نطق به أصاب، ومن تمسك به نجا، ومن اتبعه هُدي إلى صراط مستقيم قال تعالى (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً )الإسراء9) يبهر ذوي النهى، وأرباب الحجا، يحيي قلوباً ميتة، وينير عقولاً، مظلمة، ويبصر عيونا عميا ،قال تعالى (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )إبراهيم1) هو أساس الفضائل، وقوام الضمائر، هو حياة القلوب وسر السعادة، قال تعالى(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الشورى52) .
في جملته وتفصيله إرشاد وتوجيه لإصلاح النفوس وتهذيب السلوك ، يقول جعفر بن أبى طالب " كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُحْشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنَّ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ " .
ولما صرف الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم طائفة من الجن يستمعون القرآن، فما كان منهم إذ سمعوه إلا أن قالوا كما أخبر الله عنهم ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾الأقحاف29-32).
فالمتتبع لآيات القرآن الكريم أمرا، أو نهيا، أو قصصا عن الأمم الماضية يجد أن من أهم مقاصده وغاياته العظمى، تهذيب السلوك والأخلاق وتزكية النفس والرقي بها من خلال تقوية الجوانب الإيمانية وترسيخ القيم الإنسانية جميعها، ولنا أن نقف وقفة متأنية لنرى كيف حول القرآن قساة قلوب غلاظ أكباد، إلى أصحاب قلوب رحيمة، وطباع سليمة، وحاشية رقيقة، يسعد الناس بصحبتهم، وينعمون بجوارهم، ويشرفون بذكرهم، يقول الأصمعي" أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة ، فبينا أنا في بعض سككها ، إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له ، متقلد سيفه ، وبيده قوس ، فدنا وسلم ، وقال لي : ممن الرجل ؟ قلت : من بني الأصمع. قال : أنت الأصمعي ؟ قلت : نعم. قال : ومن أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت : نعم. قال : اتل علي شيئا منه ، فقلت له : انزل عن قعودك ، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات ، فلما انتهيت إلى قوله تعالى ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) الذاريات آية )22 قال : يا أصمعي ، هذا كلام الرحمن ؟ قلت : إي والذي بعث محمدا بالحق ، إنه لكلامه، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : حسبك ، ثم قام إلى ناقته ، فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال : أعني على تفريقها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه ، فكسرهما وجعلهما تحت الرحل ، وولى مدبرا نحو البادية ، وهو يقول ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )الذاريات آية 22) . فأقبلت على نفسي باللوم ، وقلت : لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي. فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة ، فبينا أنا أطوف بالكعبة ، إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا ، فسلم علي ، وأخذ بيدي ، وأجلسني من وراء المقام ، وقال لي : اتل كلام الرحمن ، فأخذت في سورة الذاريات ، فلما انتهيت إلى قوله تعالى ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) الذاريات آية 22) صاح الأعرابي : وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ قلت : نعم يقول الله عز وجل ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) الذاريات آية 23) ، فصاح الأعرابي ، وقال : يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ، ألم يصدقوه حتى ألجئوه إلى اليمين ، قالها ثلاثا ، وخرجت فيها روحه " التوابين لابن قدامه )
ومن اجل القيم التي دعا القران أتباعه إلى التمسك بها " قيمة الرحمة " فلقد انفردت قيمة الرحمة في القرآن الكريم بالصدارة، وبفارق كبير عن غيرها، إذ ذكرت بمشتقاتها ثلاثمائة وخمس عشرة مرة ،وان من هذا ليتضح أنها من اجل القيم التي دعانا الإسلام إليها ، ومما زادها شأنا ورفعة أنها صفة من صفات الله جل وعلا، قال تعالى (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ )الأنعام)12وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي " رواه البخاري) وهى من اخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويكفى في ذلك قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )الأنبياء107) ولا يعرف سببا أعظم في تالف القلوب ونشر المحبة والمودة منها، إذ يقول الله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران 159) لذلك ولغيره كانت دعوة الإسلام واضحة جلية في التخلق بها فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ " . مسند احمد)فمن ابتغى رحمة الله تعالى، فليكن بعباده رحيما، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، " .
ومن الجوانب الإيمانية التي رسخها القران في نفوس البشرية قيمة الصدق قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )التوبة 119) فحرى بالعبد أن يكون صادقا مع الله، بإخلاص الإيمان به والطاعات والعبادات له سبحانه، ومع النفس بمحاسبتها معترفا بأخطائها وتقصيرها، وإلزامها طريق الفلاح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دع ما يُرِيبُك إلى ما لا يُرِيبُك، فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة" رواه الترمذي) ومع الناس في الحديث، والأمانات والتجارة و نقل الأخبار، فقد قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم " كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ". فالصدق من صفات أهل الإيمان وإن من أجل النعم على العبد،أن يحبب الله إليه الصدق، فلا ترتاح نفسه إلا إليه، ويكفى في فضله وثمرته ما جاء عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه، عن النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم انه قال " إِنَّ الصَّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ ليصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً ، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفجُورِ وَإِنَّ الفجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً " متفقٌ عليه )
ومن القيم الإنسانية التي رسخها القران في قلوب أتباعه: مراعاة مشاعر الناس فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ" رواه البخاري) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ " رواه مسلم) فلقد نهى الإسلام عن إيذاء الغير بأي صورة حتى في مشاعره ، فنهى عن السب وتتبع العورات وما زال القران يؤكد على ذلك حتى نهى عن السخرية وسوء الظن والغيبة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات11-12) وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ" يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" رواه الترمذي) ومن أعظم ما يظهر دعوة الإسلام إلى احترام مشاعر الغير قوله صلى الله عليه وسلم لرجلٌ جاء يتخطّى رقابَ النّاس يومَ الجمعة والنبيّ يخطب،" اجلِس فقد آذيت " رواه أبو داود والنسائي) و ما جاء عن بن مسعود رضي الله عنه كان على شجرة فهبت الريح فكشفت ساقيه فضحك الصحابة من دقتهما, أي من نحالتهما, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا يُضْحِكُكُمْ " ؟ قَالُوا : دِقَّةُ سَاقَيْهِ . قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؛ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مُنْ أُحُدٍ ". وتدبر قوله صلى الله عليه وسلم " إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ "
فالإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، إذ تشغل مكانة عظيمة في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية، وقد ربطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطا محكما، فهي ليست مجرد أمنية شاعرية تهفو إليها بعض النفوس، وليست فكرة تتخيلها بعض العقول، وليست حبرا على ورق سطرته بعض الأقلام، بل هي واقع تطبيقي، فترى القران الكريم ينبذ العنصرية فالبشرية جميعها على اختلاف الوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم مردها إلى أصل واحد إذ يقول الحق سبحانه ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )الحجرات13)ولقد خطب النبي في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت هذه القيمة الإنسانية النبيلة، فقال "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى". فلقد رفع القرآن الكريم من مكانة الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين , فقد قال تعالى(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) الاسراء70)
ومن ثم نقول أن من اجل القيم الإنسانية التي رسخها القران في قلوب أتباعه : التعايش السلمي بين كافة أبناء المجتمع والوطن الواحد مهما اختلف اللون أو الثقافة أو الجنس بل حتى وان اختلفت المعتقدات؛ فقد قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ) هود 118/119)وقال سبحانه (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )يونس99) فمما لا شك فيه أن الأديان بحكم انتمائها إلى السماء،لا تأمر إلا بالخير والحق والصلاح ولا تدعو إلا إلى البر والحب والرحمة والإحسان، ولا توصي إلا بالأمن والسلم والسلام،وما كانت يوما في حد ذاتها عائقا أمام التعايش والتعارف والحوار والتماسك والترابط، وإنما العائق هو وهم يكمن في عقول سفهاء الأحلام أحداث الأسنان الذين يتوهّمون أنهم يمتلكون الفهم المطلق والعلم الذي لم يأت به احد قبلهم فضلوا وأضلوا بأفكارهم المتطرفة وافهماهم المنحرفة، إذ أن القران دائما ما يدعونا إلى التسامح والتعايش السلمي، والإسلام دين جاء بالتسامح والتعايش السلمي، دين يعترف بصورة واضحة بوجود الغير المخالف في العقيدة، وحقه في الاعتقاد والتصوّر والعبادة والعمل والكسب، فلقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، ولقد رأينا كيف استقبل النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وكف اشتمل عهده إليهم، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، ولما حانت صلاتهم سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة صلاتهم في مسجده المبارك فأراد الناس منعهم فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم " دعوهم " فاستقبلوا المشرق وصلوا .
كما أن الناظر في القران الكريم يجد بابا عظيما يهدف إلى التعايش السلمي باسمي معانيه ، فقد أباح مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة إذ يعد ذلك مفتاحا لصورة عظيمة مشرقة تدعو إلى التواصل والمودة والتزاور والتالف والتماسك بين أبناء الوطن الواحد، قال تعالى ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ وفى ذلك كله دعوة إلى التماسك والترابط من جميع أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد ونشر الود والتالف بينهم .
كما أوجب الإسلام على المسلمين سلوك العدل في التعامل مع غيرهم؛ مهما اختلفت الأجناس أو الألوان أو العقائد، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾المائدة 8). وفي تاريخ القضاء أمثلة ووقائع كثيرة تؤيد لنا هذا الفهم القرانى بعيدا عن التطرف وأصحاب الأفكار المنحرفة والأقوال المغلوطة، بل والأعظم أن الإسلام لم يقف عند ذلك بل تراه يدعونا إلى البر والإحسان،ويتوعد المعتدى بخزي وشدة عقاب ، يقول الحق تبارك وتعالى ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )الممتحنة 8)
إن القران الكريم يدعونا دائما إلى التحلي بالقيم السامية النبيلة في كل قول أو فعل حتى ننعم بحياة هادئة مستقرة في تواد وألفة، حياة تحوطها القيم الإيمانية والإنسانية، فما أحوجنا إلى أن نعيش بالقلب والجوارح هذه القيم النبيلة السامية بكل معانيها .


(فاللهم ارزقنا فهم كتابك وتدبر آياتك والعمل بها على الوجه الذي يرضيك عنا )
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات