القرآن الكريم وأثره في الجوانب الإيمانية والإنسانية د/ خالد بدير
عناصر
الخطبة:
العنصر الأول: واجبنا نحو القرآن الكريم العنصر
الثاني: القرآن الكريم وأثره في الجوانب الإيمانية
العنصر الثالث: الجوانب الإنسانية
في القرآن الكريم
المقدمة: أما بعد:
عباد الله:
في الحقيقة حينما أتحدث عن القرآن الكريم وواجبنا نحوه وأثره في القيم الإنسانية
والجوانب والإيمانية، لا يسعني هذه الدقائق في هذه الوريقات!! لأن فضل القرآن عظيم
وأكثر من أن يحصى!! أما أثره في الجوانب الإيمانية وترسيخ القيم فهو حياة كاملة تُصلح
للبشر حياتهم إذا امتثلوا به في حياتهم، لذلك سأتعرض بمشيئة الله تعالي في هذا
اللقاء واجبنا نحو القرآن الكريم وأثره في الجوانب الإيمانية وترسيخ القيم
الإنسانية، وليعرض كل واحد منكم نفسه على كل واجبٍ من هذه الواجبات؛ فإن وجد خيراً
فليحمد الله؛ وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ وليستدرك ما فاته قبل فوات
الأوان؛ والآن نشرع في المراد والله المستعان وعليه التكلان!!
العنصر الأول: واجبنا نحو القرآن
الكريم.
واجبنا نحو القرآن كبير وكثير، ولكن
سنكتفي هنا بذكر ثلاثة عناصر فقط وهي التي تخدم موضوعنا "القرآن الكريم وأثره
في الجوانب الإيمانية والإنسانية":
أولاً: تعاهد القرآن واستذكاره
من أهم حقوق القرآن علينا تعاهده
واستذكاره خوفا من ضياعه ونسيانه؛ وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تعاهد
القرآن الكريم وضرب لذلك مثلاً رائعاً. فعَنْ أَبِي مُوسَى؛ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ
فِي عُقُلِهَا." (مسلم)؛ وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّمَا مَثَلُ
صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ
عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ"( البخاري) ؛ قال الحافظ
ابن حجر في الفتح في شرحه لهذا الحديث: "ما دام التعاهد موجوداً فالحفظ موجود
، كما أن البعير ما دام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ ، وخصّ الإبل بالذكر لأنها أشد
الحيوان الإنسي نفوراً ، وفي تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة."أ.ه وقال ابن
عبد البر في الاستذكار: " في هذا الحديث الحض على درس القرآن وتعاهده
والمواظبة على تلاوته والتحذير من نسيانه بعد حفظه"
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم
شديد العناية بحفظ القرآن، وحريصا على تلقفه من جبريل عليه السلام؛ حتى بلغ من شدة
عنايته به، وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه أكثر من المعتاد عند قراءته، خشية أن
تفلت منه كلمة، أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه، ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يُقرِأَهُ
لفظه، وأن يفهمه معناه وتفسيره. فأنزل عز شأنه قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} [القيامة: 16- 19].
فينبغي على كل مسلم أن يجعل له وردا
ثابتاً كل يوم من القرآن؛ فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو شراب؛
فكذلك لابد له من غذاءٍ روحي يومي ألا وهو القرآن!! وأنا أسألك أيها القارئ
الكريم: أتذكُر آخر مرة ختمت فيها القرآن؟! أخشى أن تكون ختمة رمضان الماضي؟!..
وأن يكون مصحفك قد وُضع على الرف بعد رمضان أو على طبلوه السيارة وعلاه التراب!!..
واحذر أن يشهد عليك القرآن أنك هجرته يوم القيامة!! وماذا تفعل لو لم تقرأ وردك
اليومي؟!
أيها المسلمون:
تعالوا لنرى حال الصحابة مع القرآن؟!! فبعضهم كان إذا فاته ورده يبكي.. وقد دخلوا
على أحدهم ذات مرة فوجوده يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعاً؟ قال: أشد.. أشد،
قالوا: وما ذاك؟ قال: نمتُ بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك إلا بذنب أذنبته!!
وروي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ قلتُ: يا رسولَ اللهِ في كم أقرأُ القرآنَ ؟ قال: اقرأهُ في كلِّ شهرٍ قال :
إني أقوَى على أكثرَ من ذلك قال : اقرأهُ في خمسٍ وعشرينَ . قلتُ : إني أقوَى على
أكثرَ من ذلك . قال : اقرأهُ في عشرينَ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك
. قال : اقرأهُ في خمسِ عشرةَ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك . قال :
اقرأهُ في سبعٍ . قال : قلتُ : إني أقوَى على أكثرَ من ذلك قال : لم يفقهْ من قرأَ
القرآنَ في أقلِّ من ثلاثٍ " (رواه أحمد والألباني في الصحيحة).
ولهذا أيها الأحباب، لا ينبغي أن تكون مدة ختام
المسلم للقرآن في أقل من ثلاث ولا في أكثر من شهر؛ طبقاً للحديث السابق ذكره.
إنّ كثيراً من الناس - للأسف- يقضون
أوقاتاً طويلة في تصفح شبكة النت وشبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك.. وقد يقومون
ليلهم مع الفيس بتلهف واهتمام! فلماذا لا يحظى كتاب الله ولو بمثل هذا الاهتمام؟! فلا
يصح لمسلم أن يحفظ كلام الله ثمّ ينساه، ومما يعين على الحفظ كثرة المراجعة؛
ومعرفة تفسير الآيات وسبب نزولها؛ والصلاة بما تحفظ خاصة في قيام الليل.
ثانياً: تعلُّم القرآن وتعليمه
فالواجب على الجميع تعلم القرآن الكريم
وتعليمه؛ تلاوة وأحكاما وتجويدا وتفسيرا وإعجازا ؛ وهذا الأمر ليس صعباً، فمعظم
الناس قد يتعلمون الإنجليزية أو الفرنسية، فلماذا يصعب عليهم تعلم القرآن الذي نزل
بلغتهم وحديثهم اليومي؟! ولماذا يصير كلام الله صعباً عليك!! وقد قال الله عنه:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17)،
فعليك أن تتعلم القرآن وتعلمه لتكون أخير الناس وأفضلهم؛ فعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (البخاري) ؛ فهو أخير
الناس وأفضلهم لأنه نفع نسفه ونفع غيره بتعلم القرآن وتعليمه؛ قال ابن حجر:"
لا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره؛ جامع بين النفع
القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل ." ( فتح الباري).
ولهذا رغب الرسول صلى الله عليه وسلم
الصحابة في تعلم وتعليم القرآن وصور ذلك تصويرا بليغاً؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ ، قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ ، فَقَالَ : " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ
يَغْدُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى بَطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ
بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ " ،
فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلُّنَا يُحِبُّ . قَالَ : " أَفَلا
يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ ، وَثَلاثٍ وَأَرْبَعٍ ، وَخَيْرٌ
لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ". ( مسلم) أي أن
تعلم آيتين أفضل – بمقاييس اليوم – من أربع نوق؛ أي عشرين ألف جنيه على الأقل! فمن
منا يعزف عن هذا الفضل وهذا الكرم العظيم؟!
ثالثــًا: العمل بالقرآن
وهذا هو أهم واجباتنا نحو القرآن؛ أن
نعمل بكل ما جاء في القرآن ونتخلق بأخلاقه؛ اقتداءً بنبينا صلى الله عليه وسلم
الذي: “كان خلقه القرآن”، (رواه مسلم )؛ قال الإمام الشاطبى: “وإنما كان خلقه
القرآن لأنه حكَّم الوحي على نفسه ؛ حتى صار في علمه وعمله على وِفْقِه؛ فكان
الوحي حاكماً وافقاً قائلاً وكان هو عليه الصلاة والسلام مذعناً ملبياً نداءه؛
واقفاً عند حكمه .”.(الاعتصام)؛ فكان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض؛
أي كان يحرص على تطبيق ما في القرآن. وقال النووي: " وكون خلقه القرآن هو أنه
كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه؛ ويوضحه أن جميع ما قص الله تعالى في
كتابه من مكارم الأخلاق مما قصه من نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه كان صلى
الله تعالى عليه وسلم متخلقا به؛ وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزه كان صلى الله
تعالى عليه وسلم لا يحوم حوله."
عباد الله:
القرآن الكريم نزل للعمل به؛ لا ليوضع على الرفوف أو يلف في حافظة من ذهب للذكرى؛
أو يعرض في المتاحف بطبعة فاخرة باهرة؛ يقول الفضيل – رحمه الله –: "إنما نزل
القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا
حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند
عجائبه". ولقد اهتم الصحابة بالعمل بالقرآن أيما اهتمام؛ يقول عبدالله بن
مسعود رضي الله عنه: كنا نتعلم العشر آيات من القرآن فلا ندعها حتى نعمل بها – أو
فلا نجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بها – فتعلمنا العلم والعمل جميعاً؛ فالصحابة كان
يفقهون آيات القرآن ويعيشون معها ؛ وكانوا يسارعون إلى طاعة أوامر الله عزّ وجلّ
واجتناب نواهيه.. ولهذا لما نزلت آيات النهي عن شرب الخمر سكب المسلمون ما عندهم
من أواني الخمر حتى امتلأت بها سكك المدينة، أي شوارعها وطرقاتها وقالوا: انتهينا
يا ربنا. وكذلك آيات الحجاب.. لما نزلت سارعت نساء الأنصار إلى أثوابهنّ وجعلن
منها حجاباً كما أمر الله تعالى.. وكذلك عندما نزلت آيات الزكاة والصدقة.. {لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران/ 92)، قام
سيدنا أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبِّها إليه فتصدق بها.. والفرق بيننا
وبين الصحابة – رضي الله عنهم – أنهم كانوا يتلقون القرآن للعمل والتنفيذ، أما نحن
فللأسف نتلقاه للاستماع والتنغم به في المآتم والحفلات والإعجاب فقط، وقلما يلتزم
أحد الآن بواجباته كلها نحو القرآن العظيم!!!
أيها المسلمون:
انظروا كيف تعامل الصحابة الكرام مع القرآن الكريم ؟! وكيف يتعامل معه المسلمون
اليوم ؟! يصور حالنا اليوم في العمل بالقرآن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه فيقول: " إنا صَعُبَ علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسَهُلَ علينا العمل
به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به." ( الجامع
لأحكام القرآن) ؛ فكلنا نحفظ القرآن ونسمعه حرفا حرفا ؛ ونتفنن في أسئلة الآيات
المتماثلات والمتشابهات منه ؛ ولكن هل طبقنا ما فيه من قيم وأخلاق؛ وحلال وحرام؛
وأوامر ونواهي؟!!! " ..فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ..
"(مسلم)؛ ويكون حجة عليك عندما تقرؤه فلا يتجاوز آذانك ولا ينعكس على
سلوكياتك وتصرفاتك!!
العنصر الثاني: القرآن الكريم وأثره في
الجوانب الإيمانية:
القرآن الكريم هو كلام الله الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا تعرض الإنسان لأي ضعف في دينه فعليه
بالقرآن، وسنتكلم في هذا العنصر عن نقطتين:
أولاً:
التأثُّر عند قراءة القرآن
فيجب
على المسلم أن يتأثَّر بالقرآن عند تلاوته ويتفاعل معه فيضطرب أو يهتز قلبه، ويشعر
كأنّ القرآن يتنزل عليه هو في قراءته، كما حكى الشاعر الكبير محمد إقبال قال: كان
أبي يقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنّما عليك أنزل! وبهذا يذوق المسلم حلاوة
القرآن ويستشعر عظمته.
وهذا هو
الرسول الأكرم والمعلم الأعظم يضرب المثل والقدوة في التأثير بالقرآن والتجارب مع
آياته الكريمة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اقْرَأْ عَلَيَّ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَرَأْتُ سُورَةَ
النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا }؛ قَالَ: حَسْبُكَ
الْآنَ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" (البخاري)؛ أي:
يبكي صلى الله عليه وسلم من التأثر بالقرآن والتعايش معه؛ إذ علم أنّه صلى الله
عليه وسلم المقصود والمعني بهذه الآية. وعَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
" أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي
وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ يَعْنِي يَبْكِي"( أحمد وأبو
داود النسائي وصححه الألباني) ؛ أي: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحدث مثل الهزة
عند القراءة لشدة تأثُّره بها، وأزيز المرجل هو صوت الإناء الذي يغلي به الماء!!
وقد
امتثل الصحابة الكرام بهذا الأدب مع القرآن؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه لا تفهم
قراءته من شدة البكاء؛ فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. قَالَتْ
عَائِشَةُ قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ
النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ؛ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. فَقَالَتْ
عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي
مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ
لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَهْ!! إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ؛ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ؛ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ
مِنْكِ خَيْرًا " (متفق عليه ) ؛ وليس معنى ذلك أن عمر لا يبكي تأثراً
بالقرآن!! بل تضافرت الآثار أنه رضي الله عنه كان شديد التأثر بالقرآن؛ قال الحسن:
كان عمر رضي الله عنه يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط على الأرض، ويبقى
في البيت يعاد للمرض. وري أن عمر رضي الله عنه خرج يَعِسّ المدينة ذات ليلة، فمر
بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ: { والطور } حتى
بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } قال: قسم -ورب
الكعبة-حق. فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليا، ثم رجع إلى منزله، فمكث
شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، رضي الله عنه."( تفسير ابن كثير ).
وليس
الأمر قاصرا على الرجال؛ بل ما أجمل تأثر الصحابيات بالقرآن الكريم!! فعن عباد بن
حمزة عن أبيه قال: بعثتني أسماء رضي الله عنها إلى السوق؛ بعثتني وافتتحتْ سورة
الطور؛ فانتهتْ إلى قوله تعالى {ووقانا عذاب السموم}، فذهبتُ إلى السوق وهي تكرر
{ووقانا عذاب السموم}، وعدتُ إليها وهي تقول {ووقانا عذاب السموم}!!
فهناك
تفاعل مع الآيات تدفعهم دفعاً إلى البكاء والتأثر بالقرآن؛ وأنا أسألك – أخي
القارئ العزيز – هل بكيت وأنت تقرأ القرآن ذات مرّة؟! هل شعر أحد منكم بلذة القرآن
وحلاوته؟! هل دخل أحدكم مرة في صلاة القيام وكان ينوي أن يصلي بربع فإذا به لا
يستطيع مقاومة حلاوة القرآن فقرأ أكثر من ذلك واستمتع بالقرآن ومناجاة الرحمن؟!
عباد
الله: الناس يتفاوتون في التجاوب مع القرآن، ونرى هذا واضحاً في شهر رمضان، لا
سيما في صلاة التهجد، فبعضهم يتأثر ويبكي وبعضهم يتأثر ولا يبكي؛ وبعضهم لا يتأثر
ولا يبكي، والعجب أنك قد ترى رجلاً غير عربي باكستانياً أو بنغالياً مثلاً، ومع
ذلك يبكي عند سماع القرآن، وسبحان الله.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!!
عباد
الله: إن
القلب إذا قسا – والعياذ بالله – لا يتأثر بالقرآن. يقول تعالى عن اليهود في سورة
البقرة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74). تعالوا لنرى وصف حالنا الآن قلما نتأثر بالقرآن!!
فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:" سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِى صُدُورِ
أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى الثَّوْبُ فَيَتَهَافَتُ ، يَقْرَءُونَهُ لاَ يَجِدُونَ
لَهُ شَهْوَةً وَلاَ لَذَّةً ، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ
الذِّئَابِ ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لاَ يُخَالِطُهُ خَوْفٌ إِنْ قَصَّرُوا قَالُوا
: سَنَبْلُغُ ، وَإِنْ أَسَاءُوا قَالُوا : سَيُغْفَرُ لَنَا ، إِنَّا لاَ
نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً. ".(سنن الدارمي وإسناده صحيح موقوفاً على معاذ)
ثانيـًا:
تدبُّر القرآن
وذلك
امتثالاً لقوله تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [ النساء: 82] ،
والتدبر في اللغة: النظر في العواقب، ويقال لمن نظر في أمر قد أدبر: استدبر فلان
أمره، ويقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، أي: لو عرفت في صدره ما عرفت في
عاقبته. ومعنى الآية: أفلا يتأملون القرآن ويتفكرون فيه؟!!( التفسير البسيط
للواحدي)؛ وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } [ص: 29] ، وقال تعالى: { أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]؛ قال ابن
كثير في تفسيره" يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض
عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا
اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق."ومن لا
يتدبّر القرآن لا شكّ أن على قلبه قفلاً. يقول ابن القيم رحمه الله: تحديق الناظر
في القرآن الكريم وتأمله في معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعلقه هو المقصود من
إنزاله"؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37]. قال ابن القيم – رحمه الله -: " قلوب
الناس عند سماع القرآن ثلاثةٌ: رجلٌ قلبُه ميتٌ، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية
ذكرى في حقه. الثاني: رجلٌ له قلب حيٌّ مستعدٌّ، لكنه غير مستمعٍ للآيات
المتلُوةِ، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها
إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصُلُ
له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه. والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعدٌّ، تُليت عليه
الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغلْه بغير فهم ما يسمعُهُ،
فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القِسمُ هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة
والمشهودة.
فالأول:
بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر. والثاني:
بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث:
بمنزلة البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من
البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه." (مدارج السالكين)
فعليك
أن تحضر قلبك عند قراءة القرآن، كلما قرأت آية تعرض نفسك عليها أين أنت منها ؟!
فهذا التابعي الجليل الأحنف بن قيس رحمه الله كان يقرأ قوله تعالى:{ لَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
(الأنبياء: 10)؛ أي فيه أخباركم وصفاتكم وأفعالكم، يقول: فأفتح القرآن وأنظر
وأقول: أرى بماذا يذكرني ربي اليوم؟!!.. فيقرأ ويقرأ حتى يمر بقوله تعالى:{ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } (النساء: 145}، فيقول:
لست من هؤلاء، لست من هؤلاء!! وعندما يقرأ قوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(الأنفال:2).
فيندم ويقول: لست من هؤلاء! ويقرأ قوله تعالى:{ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(التوبة: 102) فيقول:أنا من
هؤلاء، أنا من هؤلاء!
فانظر
إلى تفاعل هذا التابعي الجليل مع القرآن العظيم، وهكذا يجب أن يتدبر المسلم القرآن
دائما. وقد قيل إذا سمعت قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا} فأنصت، فإنه إما خير
تؤمر به وإما شر تنهى عنه.
عباد
الله: التدبر
أن تعرض نفسك على القرآن آية آية أين أنت منها؟ هل أنت مطبق لها؟ هل وصف الله
للمؤمنين ينطبق عليك؟! فإن وجدت خيراً فاحمد الله وإلا فراجع نفسك قبل فوات
الأوان! قال الحسن: إنما أنزل القرآن ليتدبره المؤمنون وليعملوا به، فاتخذوا
تلاوته عملاً.
ولذلك
كان الصالحون يقومون الليل يتدبرون القرآن؛ فكان منهم من يقوم بآية واحدة يرددها
طيلة الليل يتفكر في معانيها ويتدبرها. ولم يكن همهم مجرد ختم القرآن؛ بل القراءة
بتدبر وتفهم.. فعن محمد بن كعب القُرَظِي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ(إذا زلزلت) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحبُّ إليَّ من أن
أَهُذَّ القرآن (أي أقرأه بسرعة)". وكان ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول:
"ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب"!!
العنصر الثالث: الجوانب الإنسانية
في القرآن الكريم:
في الحقيقة الجوانب الإنسانية في
القرآن الكريم مهمة جدًا لأن القرآن الكريم نزل علي إنسان وهو النبي صلي الله عليه
وسلم، وخاطب الإنسان وهم جميع الناس، والحديث عن الجوانب الإنسانية في القرآن
الكريم تحتاج للقاءات ولقاءات، ولذا سنذكر بعض هذه الجوانب فقط.
أولاً: القرآن الكريم هو كتاب
الإنسان
إن الرسالة
المحمدية بجموعها رسالة إنسانية؛ فقد جاءت لتراعي إنسانية الإنسان فيما تأمر به أو
تنهي عنه؛ وإذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن كتاب الله، وتدبرنا
آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته، نستطيع أن نصفه بأنّه، كتاب الإنسان؛ فالقرآن
كله إما حديث إلى الإنسان، أو حديث عن الإنسان؛ ولو تدبرنا آيات القرآن كذلك
لوجدنا أنّ كلمة "الإنسان" تكررت في القرآن ثلاثًا وستين مرة، فضلاً عن
ذكره بألفاظ أخرى مثل "بني آدم" التي ذكرت ست مرات، وكلمة
"الناس" التي تكررت مائتين وأربعين مرة في مكيّ القرآن ومدنيّه؛ وكلمة
(العالمين) وردت أكثر من سبعين مرّة؛ والحاصل أن إنسانية الإسلام تبدو من خلال حرص
الشريعة الإسلامية وتأكيدها على مجموعة من القضايا المهمة .
ولعل من أبرز
الدلائل على ذلك أنّ أول ما نزل من آيات القرآن على رسول الإسلام محمد صلى الله
عليه وسلم خمسُ آيات من سورة العلق ذكرت كلمة "الإنسان" في اثنتين منها،
ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان. قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:
1-5].
وإذا نظرنا إلى
الشخص الذي جسد الله فيه الإسلام، وجعله مثالاً حيًّا لتعاليمه وقيمه الإنسانية،
وكان خُلُقه القرآن، نستطيع أن نصفه بأنّه "الرسول الإنسان"؛ وإذا نظرت في
الفقه الإسلامي وجدت "العبادات"، لا تأخذ إلا نحو الربع أو الثلث من
مجموعه، والباقي يتعلق بأحوال الإنسان من أحوالٍ شخصية، ومعاملات، وجنايات،
وعقوبات، وغيرها.
والعبادات كلها فيها معاني إنسانية سامية؛ فالزكاة
المفروضة- مثلاً - ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل فيها معاني إنسانية سامية؛ فهي
غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وقد
نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ" [التوبة/103].
وفي الصيام نعلم أن رمضان هو شهر الأخلاق
ومدرستها، فهو شهر الصبر، وشهر الصدق، وشهر البر، وشهر الكرم، وشهر الصلة ، وشهر
الرحمة ، وشهر الصفح ، وشهر الحلم، وشهر المراقبة، وشهر التقوى، وكل هذه أخلاق
إنسانية يغرسها الصوم في نفوس الصائمين وذلك من خلال قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة : 183) ، بكل ما تحمله كلمة
التقوى من دلالات ومعان إيمانية وأخلاقية وإنسانية.
وشعيرة الحج مدرسة أخلاقية وإنسانية؛ فيجب على
الحاج اجتناب الرفث والفسوق والجدال والخصام في الحج، فضلاً عن غرس قيم الصبر
وتحمل المشاق والمساواة بين الغني والفقير والتجرد من الأمراض الخلقية.
عباد
الله: لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في القيم
والمعاني الإنسانية والخلقية قبل البعثة وبعدها ؛ وقد شهد له العدو قبل القريب؛
ونحن نعلم قول السيدة خديجة فيه لما نزل عليه الوحي وجاء يرجف فؤاده:" كَلَّا
وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ وَتَحْمِلُ
الْكَلَّ؛ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ؛ وَتَقْرِي الضَّيْفَ؛ وَتُعِينُ عَلَى
نَوَائِبِ الْحَقِّ". ( متفق عليه )؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم – صاحب
الرسالة المحمدية؛ كان مشهورا وملقبا في قريش قبل البعثة بالصادق الأمين.
وأما بعد البعثة فقد شهد له ربه بقوله : {
ﻭَﺇِﻧَّﻚَ ﻟَﻌَﻠَﻰ ﺧُﻠُﻖٍ ﻋَﻈِﻴﻢٍ }(القلم: 4 )؛ ولقد شهدت له زوجه عائشة رضي الله
عنها؛ وهي ألصق الناس به، وأكثرهم وقوفًا على أفعاله في بيته، بأنه صلى الله عليه
وسلم: " كان خلقه القرآن"، (مسلم )؛ قال الإمام الشاطبى: “وإنما كان صلى
الله عليه وسلم خلقه القرآن لأنه حكَّم الوحي على نفسه حتى صار في عمله وعلمه على
وفقه، فكان للوحي موافقًا قائلاً مذعنًا ملبيًا واقفًا عند حكمه”. فكان صلى الله
عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض.
وﺭُﻭﻱ ﺃﻥ ﺃﻋﺮﺍﺑﻴﺎً ﻗﺎﻝ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋلي رضي الله عنه :
ﻋﺪِّﺩ ﻟﻨﺎ ﺃﺧﻼﻕ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ صلى الله عليه وسلم !! ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ رضي الله عنه :
ﻫﻞ ﺗﻌﺮﻑ ﺍﻟﻌﺪّ ؟ ﻗﺎﻝ : ﻧﻌﻢ ! ﻓﻘﺎﻝ علي رضي الله عنه: ﻋﺪ ﻟﻲ ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ! ﻓﻘﺎﻝ
ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻲ : ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻻ ﻳُﻌَﺪُّ ! ﻓﻘﺎﻝ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ رضي الله عنه: ﻋﺠﺰﺕ ﻋﻦ ﻋﺪ
ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ! ﺇﺫ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ تعالى : { ﻗُﻞْ ﻣَﺘَﺎﻉُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﻗَﻠِﻴﻞٌ }(النساء: 77)
ﻭﻃﻠﺒﺖَ مني ﻋﺪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ، حيث ﻳﻘﻮﻝ تعالى : { ﻭَﺇِﻧَّﻚَ ﻟَﻌَﻠَﻰ ﺧُﻠُﻖٍ ﻋَﻈِﻴﻢٍ
}(القلم: 4 ) !!!!
وهكذا كانت الرسالة المحمدية رسالة إنسانية؛
والرسول – صلى الله عليه وسلم – رسول الإنسانية؛ وهذا ما يتضح من خلال هذه الصور
والنماذج في عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى .
ثانيــًا: حاجة الأمة إلى الجوانب الإنسانية
عباد الله: إن من ينظر إلى الواقع الأليم يجد انحداراً
ملحوظاً في المعاني الإنسانية التي تربي عليها آباؤنا وأجدادنا؛ ولذلك حينما تجلس
مع أحدٍ من كبار السن تجد هذه المعاني متأصلة فيهم؛ وتجدها في سلم الانحدار فيمن
بعدهم من شباب الموضة والمظاهر الخداعة؛ وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود – رضي
الله عنه - : أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول: من ترون لي أن أعامل
من الناس؟ فيقال له: عامل من شئت. ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون: عامل من شئت إلا
فلاناً وفلاناً، ثم أتى زمان آخر فكان يقال: لا تعامل أحداً إلا فلاناً وفلاناً،
وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضاً. وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون، فإنا لله
وإنا إليه راجعون.” (إحياء علوم الدين) .
أيها المسلمون: ما أحوج الأمة الإسلامية إلى تطبيق المعاني
الإنسانية التي تربى عليها الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين؛ هذه الإنسانية
جعلت الواحد منهم يقضي كله من أجل احترام إنسانية الإنسان الذي أمامه؛ مهما كان
موضع كل منهما؛ فهذه خولة بنت ثعلبة ذات يوم مرت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام
خلافته، وكان خارجاً من المنزل، فاستوقفته طويلاً ووعظته قائلة له: يا عمر، كنت
تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر... فإن
من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب... وعمر رضي الله عنه واقف
يسمع كلامها بخشوع، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف كله؟!!
فقال عمر: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت "إلا للصلاة
المكتوبة"، ثم سألهم: أتدرون من هذه العجوز؟ قالوا: لا. قال رضي الله عنه: هي
التي قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات.. أفيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه
عمر؟!!"رضي الله عنه وأرضاه ( السيوطي في الدر المنثور) فأين نحن من هذه
المعاني الإنسانية؟!
أحبتي في الله: ما أحوج الأمة إلى القيم الإنسانية – ولا سيما مع
الضعفاء وذوي الاحتياجات - وذلك بأن نقضي
حاجتهم ونرفق بهم، فعن أنس رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا
رسول الله إن لي إليك حاجة! فَقَالَ: "يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ
شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ
الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا (مسلم). وهذا من حلمه وتواضعه صلى
الله عليه وسلم وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي هذا خير كثير
وبركة عظيمة للأمة بوجود هؤلاء الضعفاء؛ بل إن وجود الضعفاء في المجتمع سببٌ لرفع
الضر والعذاب عنا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" لَوْلا شُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَشَبَابٌ خُشَّعٌ، وَأَطْفَالٌ
رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، لَصَبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابَ صَبًّا "(مجمع
الزوائد).
أيها المسلمون: إننا
نحتاج إلى أن نربي إنسانا بمعنى الكلمة؛ نحتاج إلى زرع إنسانٍ يبقى أثره مئات
السنين؛ كما قال أحدهم: إذا أدرت أن تزرع لِسَنَةٍ فازرع قمحا؛ وإذا أردت أن تزرع
لعشر سنوات فازرع شجرة ؛ أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا !!
فيجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية؛ لأنها محيط، وإذا ما كانت بضع
قطرات من المحيط قذرة؛ فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا !!
إننا نحتاج إلى إنسانية في التعامل مع الكبير؛ إنسانية في التعامل مع
المذنب؛ إنسانية في التعامل مع المخطئ؛ إنسانية في التعامل مع الحيوانات؛ إنسانية
في التعامل مع النساء؛ إنسانية في التعامل مع غير المسلمين؛ إنسانية في تعامل
الطبيب مع المرضى؛ إنسانية في تعامل رب العمل مع عماله؛ إنسانيه في تعامل الموظفين
والمسئولين والإداريين مع الجماهير وقضاء حوائجهم؛ إنسانية في التعامل مع جميع
فئات المجتمع مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم وأشكالهم وألوانهم ووظائفهم وأحوالهم؛
نحتاج أن نجسد الإنسانية من خلال شخصية الرسول – صلى الله عليه وسلم – في التعامل
مع الآخرين ونسقطها على أرض الواقع؛ فهو قدوتنا وأسوتنا؛ وهذا هو احتفالنا
واحتفاؤنا به صلى الله عليه وسلم. { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيرًا }( الأحزاب: 21).
أيها المسلمون: ألا ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية
السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بخلق الإنسانية التي تضمّد جراح
المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيما في هذا العصر، الذي فقدت
فيه الإنسانية من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى،
ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة،
فإذا استحكم الظلام في النفوس، وطغى طوفان المادة الجافة آذنت الإنسانية بالرحيل،
كما قال قائلهم: " إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب "، و " إن لم تجهل
يُجهل عليك "، و " إن لم تتغدَ بِزَيدٍ تعشَّى بك ".
أحبتي
في الله: عليكم
بالإنسانية والرفق واللين والرحمة بجميع فئات المجتمع، الآباء والصبيان والأرامل
والعجزة والأجراء وغير ذلك مما ذكرنا، إننا إن فعلنا ذلك تحقق فينا قوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ
وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مسلم).
ثالثــًا: القيم الإنسانية في القرآن الكريم في
التعامل مع غير المسلمين
أحبتي في الله: لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بالآخر؛ وقد
جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد علاقات السلم والسلام والأمان مع غير
المسلمين من السائحين والزائرين والمقيمين سواء من أهل الكتاب أم من غيرهم ؛ قال
تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
قال الطبري: " لا ينهاكم الله عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتُقسطوا
إليهم، وإن الله عز وجل عم بقوله: ﴿ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 8] جميعَ مَن كان ذلك صفتَه،
فلم يخصص به بعضًا دون بعضٍ" أ.ه .
ويقول الإمام القرطبي (رحمه الله) في تفسيره لهذه
الآية: " دخل ذمي (رجل من غير المسلمين) على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه،
فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم ".
ولا يخفى
علينا بر أسماء بنت الصديق لأمها وهي مشركة؛ فعن أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: قدِمَتْ
علَيَّ أمي وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهَدهم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلت: يا رسول الله، قدِمَتْ عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصِلُ أمي؟ قال: "
نَعم، صِلِي أمَّكِ ".(متفق عليه). يقول الإمام القرطبي (رحمه الله): فيه
دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال، إن كانا فقيرين، وإلانة القول
والدعاء إلى الإسلام برفقٍ".
ونحن نعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يحتوي
جميع الملل والأديان المختلفة؛ فكان جيرانُ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم
بالمدينة وما حولها أصحابَ ديانات مختلفة، فكان منهم اليهود والنصارى والمشركون
الذين يعبدون الأصنام، وعلى الرغم من ذلك كان يدعوهم إلى الله تعالى بالحكمة
والموعظة الحسنة، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام، ولم يعتدِ على حرماتهم
وأموالهم، وترك لهم حرية العبادة، مع أن المسلمين كانوا أصحاب الكلمة العليا في
المدينة، ولم يسفك دم أحدٍ منهم بغير حق، بل كان يزور مرضاهم ويأمر بالإحسان
إليهم؛ ونحن نعلم أن زيارته للغلام اليهودي كانت سبباً في إسلامه!
فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم
النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند
رأسه فقال له: " أسلِمْ "، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا
القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
" لحمد لله الذي أنقذه من النار ".( البخاري ).
كذلك فعل من بعده - صلى الله عليه وسلم - الصحابة
والتابعون مع جيرانهم من غير المسلمين.
فقد روى
البخاري (في الأدب المفرد) عن مجاهد بن جبرٍ قال: كنت عند عبدالله بن عمرٍو -
وغلامه يسلخ شاةً - فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من
القوم: اليهودي أصلحك الله؟ قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار،
حتى خشينا أو رُئِينا أنه سيورِّثه.
أيها المسلمون: إن غير المسلمين في بلدنا لهم عهد وأمان وذمة
سواء كانوا سيَّاحاً أو زائرين أو مقيمين؛ وأن الغدر بهم أو الاعتداء عليهم جريمة
نكراء وفعلة شنعاء؛ أوقع ديننا الحنيف بفاعلها أشد العقوبة والتنكيل في الدنيا
والآخرة؛ فقد روى البخاري عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " من قتل معاهدًا، لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من
مسيرة أربعين عامًا " .
قال الإمام ابن حجر العسقلاني: قوله صلى الله عليه
وسلم: (مَن قتل معاهدًا) المراد بالمعاهد: هو من له عهد مع المسلمين، سواء كان
بعقد جزيةٍ أو هدنةٍ من سلطانٍ، أو أمانٍ من مسلمٍ".أ.ه
وروى النسائي عن عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله
عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من آمن رجلًا على دمه،
فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا ".
وهكذا - أيها المسلمون - حرم الإسلام جميع الدماء
بما فيها دماء غير المسلمين؛ ووضع أسس وقواعد الأمان والسلام والمواطنة في التعامل
مع الآخر ؛ فهل بعد ذلك يأتي أحد حاقد على الإسلام فيقول إنه دين قتل وإرهاب؛
ويلصق به من التهم ما هو منها براء ؟!!!
نسأل الله أن يجعل بلدنا أمنا أمانا سلاما وسائر
بلاد المسلمين؛ اللهم من أراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره
واجعل تدبيره تدميره !!
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،