توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.. ورعاية الأيتام للشيخ فوزي أبو زيد
الحمد لله ربِّ العالمين، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي بيده وحده مقاليد العباد، وبيده الخير في الأرض والخير في السماء، وبيده الخير كلُّه وهو على كل شيءٍ قدير.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أنزل لنا كتاباً فيه الهُدى والنور، واختار لنا نبيًّا كريماً مُعلِّماً للخَلْقِ أجمعين، وجعله رحمة في الدنيا لجميع العالم، وجعله في الآخرة شفيعاً للخلق أجمعين، وجعله بَرًّا وتقيًّا ونقيًّا وأسوة للناس أجمعين.
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، اصطفاه الله عزَّ وجلَّ وهداه، وعلى عينه عزَّ وجلَّ ربَّاه، وكلَّفه أن يربي أصحابه على تقوى الله وخشيته جلَّ في عُلاه، فأدَّى الرسالة وقام بالأمانة كما يحبُّ الله ويرضاه، فخرَّج رجالاً صادقين كما قال الله: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (23الأحزاب).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على خير المربين، وسيد المعلمين، وإمام المتعلمين، والذي جاء لنا بما يصلحنا في الدنيا ويرفع شأننا يوم الدين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وعلينا معهم بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
يتساءل كثيرٌ من الناس في هذا الوقت وهذا الآن: لِـمَ أسعد الله كل أصحاب النبي ورفع شأنهم ونصرهم على أعدائهم، وجعلهم في الدنيا أعَّزة على الكافرين والمشركين، بل وعلى الخلق أجمعين؟ ولِـمَ أصبح حالنا الآن جماعة المسلمين لا يُرضي أحداً، حتى لا يرضينا نحن أنفسنا، مِمَّا نحن فيه نحو الله ونحو خلق الله أجمعين؟
ما الفرق بيننا وبينهم؟!!
أكانت الدنيا متوافرة عندهم ليصنعوا بها ما يريدون؟!!
أكانت الأموال والشهوات موجودة بوفرة وكثرة ويأخذون منها ما يطلبون؟
أكانت أمور الدنيا كلُّها تسير وِفْقَ رغباتهم وتمشي حسب ما يريدون؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما الأمر يتوقف على تربية النبي صلى الله عليه وسلَّم على نهج الله عزّ َوجلَّ لهم، ربَّاهم النبي صلى الله عليه وسلَّم على أخلاق كريمة، وعلى شِيَمٍ عظيمة، وكان صلى الله عليه وسلَّم بذاته هو الإمام لهم. تعالوا معي نحضر موقفاً لحضرة النبيِّ في تعليم صحابة النبيِّ:
{خرج النبي صلى الله عليه وسلَّم ذات يومٍ في الظهيرة، وقت القيلولة وكان دأبهم أنهم بعد صلاة الفجر يخرجون إلى أعمالهم إلى وقت الظهيرة ثم يصلون الظهر ويقيلون - أي يستريحون قليلاً لشدة حرارة والكل يستريح من تعب النهار وعناء العمل،
فخرج النبي صلى الله عليه وسلَّم في هذا الوقت ورأى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ما الذي أخرجك في تلك الساعة؟ قال: الجوع يا رسول الله، وإذا بهم يأتي إليهم عمر، فقال صلى الله عليه وسلَّم: ما أخرجك في هذه الساعة يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله، قال: (وأنا ما أخرجني في هذه الساعة إلا الجوع، هيا بنا إلى منزل أبو الهيثم بن التيهام الأنصاري نصيب شيئاً يسُدُّ جوعنا).
فذهبوا إلى منزل أبي الهيثم وطرقوا الباب: فخرجت لهم زوجته، فسألوها عنه؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا الماء - يعني يأتي بماءٍ عذبٍ لنشربه - ثم أدخلتهم البيت، وبعد هُنيهة جاء أبو الهيثم، وعندما رآهم قال: الحمد لله، ما أحدٌ أكرم منِّي أضيافاً في هذا اليوم!! وذهب على عجل - وكان عنده بستان - فقطع عزقا من النخل به تمراً وجاء لهم به، ليصيبوا منه حتى يُجهِّز الغذاء، وأمسك بالسكين، وإذا بالحريص على المؤمنين الرؤف الرحيم بكل المسلمين يقول له: (يا أبا الهيثم، لا تذبح الحلوب)، يحافظ على الثروة الحيوانية فينهاه عن ذبح الحلوب للانتفاع بلبنها ، فذبح لهم شاةً ثم أتي بها فأكلوا، فقال صلى الله عليه وسلَّم لصاحبيه الكريمين - منبها ومعلِّماً لهما ولنا وللمسلمين أجمعين: (إن هذا لمن النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة، خرجتم جياعاً فأطعمكم الله فسُدَّ جوعكم، فأصبحت هذه نعمة يسألكم عنها الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة). (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (8التكاثر)}[ صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
فأيُّ نعيمٍ رأيناه في هذه الواقعة؟ إنهم أكلوا ما يسدُّ الجوع!! لو نظر الحبيب لأصغر فقير في زماننا ماذا كان يقول؟ ونحن لا نرضى بهذا الطعام!! ونعترض على هذا الأكل!! بل يصدر منا أحياناً كلامٌ يندى له الجبين عندما نرى شيئاً لا نحب أن نأكله، ولا نريد أن ندخله بطوننا؟
لكنها التربية النبوية لأصحابه صلوات ربي وتسليماته عليه، علَّمهم أن للمؤمن في دنياه مهمة واحدة يقوم بها، وينبغي أن يُعلي شأنها، وأن يكون منتبهاً في كل أوقاته للقيام بها، وأن يسعى دائماً وأبداً إلى محاولة تحقيقها. هذه المهمة هي السعي لما يرضي الله، والعمل الذي يستوجب من المرء رضاء الله، فيرضى عنه مولاه لأنه فعل ما يسُرُّه في هذه الحياة:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (56الذاريات)
وما شأن الرزق؟!! تكفَّل به الرَّزَّاق:
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (57، 58الذاريات).
فجعل النبي صلى الله عليه وسلَّم لأصحابه مهمة شُغُلُوا بها، وهي مهمة عالية!! خدمة راقية!! وهي طاعة الله، والعمل بشرع الله، والتأسي بحبيب الله ومصطفاه، والسعي دائماً للعمل الذي يحبُّه الله عزَّ وجلَّ ويرضاه، ومن قام بذلك فهو على تمام الثقة أن الله عزَّ وجلَّ لن يتخلى عنه طرفة عين ولا أقل في حياته وضرورياته في هذه الحياة، لأنه يقول عزَّ وجلَّ كما جاء في الأثر:
(إذا كنت أرزق من غفل عنى وعصاني، فكيف لا أرزق من طاعني ودعاني).
إذا كان قد تكفَّل بالأرزاق حتى للكافرين والمشركين والدواب والحيتان في بحورها، والنمل في جحورها، وكل الكائنات: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) (6هود).
فهذَّب أصحابه على هذا الخلق الكريم، وجعلهم لا يتنافسون في الدنيا ولا يتصارعون على نَيْلِهَا، ولا يحرصون كل الحرص على العبِّ من شهواتها لأنه قال لهم في شأنها:
(حب الدنيا رأس كل خطيئة)[ رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن].
فانظر معي - يا أخي - إلى أي مشكلة في الأرض - إن كانت بين أخوين، أو بين زوجين، أو بين عائلتين، أو بين بلدتين، أو بين حزبين، أو بين جَمْعَيْنِ - تجد كل هذه المشاكل لها سبب واحد: وهو أمرٌ دنيوي يتنافسون عليه. قد يتنافسون على المال، وقد يتنافسون على رئاسة، وقد يتنافسون على التملُّك، قد يتنافسون على شهوة الظهور، وقد يتنافسون في أيِّ أمرٍ من هذه الأمور، وكلها أمورٌ دنيوية هذَّب النَّبِيُّ منها أصحابه الكرام، وجعلهم لا يرجون إلا ما عند الله، ولا يطلبون إلا رضاه عزَّ وجلَّ.
حتى كان صلى الله عليه وسلَّم في مسجده المبارك ثلَّة مباركة من الفقراء من المسلمين، جاءوا من كل أصقاع الجزيرة العربية، ولم يكن لهم منزلاً في المدينة ولا لأحدهم زوجة ولا ولد، سكنوا جميعاً في مسجد رسول الله وتفرَّغوا للقيام بدعوة الله، وتعاونوا مع رسول الله على تبليغ رسالة الله، يقول فيهم الله عزَّ وجلَّ:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (28الكهف).
وجعل لهم قائداً وعرِّيفاً - وهو أبو هريرة رضي الله عنه - وهو المسئول عنهم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه:
"آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ ني عمر فسألته عن آية من كتاب الله تعالى، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ فلم يفعل، ثم مرّ ني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: إلحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهدى لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك رسول الله، قال: إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؛ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فلما جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: ليبك رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد مسلكا، قال: فأَرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسَمَّى وشرب الفضلة(رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)
علَّمهم صلى الله عليه وسلَّم أن لا تكون الدنيا أكبر همِّهم ولا مبلغ علمهم، وأن يجعلوها في أيديهم، ويجعلوا في قلوبهم حبَّ الله وحبَّ رسول الله، وتقوى الله وخشية الله، والرغبة في عمل الخير النافع يوم لقاء الله، فيكون هذا جُلُّ قصدهم، وهذا كمال مرادهم الذي يحرصون عليه آناء الليل وأطراف النهار على الدوام. فلم تحدث خلافات، ولم ينتاب مجتمعهم مشكلات، ولم يكن عندهم لا محامون ولا قضاة كُثرٌ كما نرى الآن، ولم يكن بينهم ضغائن ولا أحقاد، ولا شحناء ولا أحساد، بل كانوا جميعاً كرجلٍ واحد، الكلُّ يحبُّ الخير لنفسه، ويحب الخير لإخوانه كما يحب الخير لنفسه. الكلُّ يسعى في مصالح إخوانه رغبةً في رضاء الله، وطمعاً في التأسي بحبيب الله ومصطفاه، لم يكن هناك الأنانية التي تفشَّت في مجتمعنا الآن، ولم يكن هناك الأثرة التي سيطرت على شبابنا وشيوخنا ورجالنا ونسائنا الآن، بل كان الإيثار الذي مدح الله عزَّ وجلَّ الأنصار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9الحشر).
ولذلك أكرمهم الله وأعزَّهم الله ونصرهم الله حتى أنهم خرجوا من الجزيرة العربية عُرَاةً حُفاة وصاروا في طرفة عينٍ وأقلّ كلهم أمراء وعظماء، ووجهاء ووزراء، بما آتاهم الله، وبما تولاهم به الله، لأنهم باعوا أنفسهم لله فوفَّى لهم الله جلَّ في عُلاه.
علَّمهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم أن أساس القضية هو جهاد النفس، أن يجاهد الإنسان نفسه في التخلّص مما عليه أهل الدنيا، وأن يجاهد نفسه بأن يتخلق بأخلاق أهل الآخرة، وهذا يحتاج إلى الصحبة المباركة التي كان عليها أصحاب الحبيب مع الحبيب، فقد فازوا بصحبته، وصدقوا في نصرته، فأكمل الله عزَّ وجلَّ نعمته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم في شأنهم:
(أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)[رواه ابن عبد البر وابن حزم عن جابر مرفوعاً.]،
وعن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، قال: (أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد. ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن).(رواه احمد والترمذي)
وقال صلى الله عليه وسلَّم: (عليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عُضوا عليها بالنواجز)[ الترمذي وابن ماجة عن العرباض بن سارية رضي الله عنه]،
أو كما قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي أكرمنا بنعماه، وهدانا بهدايته على يد حبيبه ومصطفاه، وكتب الإيمان في قلوبنا ووفقنا للعمل لما يحبه ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعِزُّ من اتبع هداه، ويجعله وجيهاً في الأرض عزيزاً يوم لقياه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، نبي الهدى والرشاد، الذي أنقذ الله به هذه الأمة من ظلمات الشرك والكفران، إلى واحة الصدق والهدى والبر والإيمان، وجعله سببا لنجاتنا من النيران ومفتاحاً لنا في دخول الجنان.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد واسقنا أجمعين من حوضه الشريف شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداُ يوم الدين، وانفعنا بالاقتداء بهديه، والعمل بسنته في الدنيا، واجعلنا أعزَّة على الخلق أجمعين، آمين .. يا ربَّ العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
وثَّق النبي صلى الله عليه وسلَّم الرباط بين أبناء أمته وبين الخالق عزَّ وجلَّ، وجعل كلَّ همَّهم في رضاء الله والعمل الذي يحبه ويرضاه، وبعد ذلك كان يسهل عليه ويسهل عليهم القضاء على أي مشكلة تظهر بينهم في هذه الحياة، لأنهم جميعاً كانوا يستجيبون لقول الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (24الأنفال).
فكان إذا طلب منهم النبيُّ أمراً تسارعوا فيه، وينتهي هذا الأمر في لحظات، أما الآن فلأن الدنيا تسيطر على النفوس، والمصالح هي التي تدير الأفكار في الرءوس، فلا يسهل على الإنسان أن يطوى إنسان، إلا إذا كانت مصلحة هذا فيما تطالبه به، ومصلحته للأسف عاجلة فانية - لأن الكلَّ تعلَّق بالفانية ونسوا الآجلة، ولم يكونوا كالذين اهتدوا وزادهم الله هدىً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم - فتعثَّرت بينهم المشكلات، وزادت بينهم المُعضلات!!
تعالوا بنا ننظر إلى مشكلة واحدة يحتار العالم كله في حلِّها الآن:
مشكلة اليتيم الذي يفقد أباه، إذا كانت له أموالاً فالكلُّ يسعى لرعايته ليسرق أمواله، ويفوز بأكبر قسطٍ منها، وإذا كان فقيراً الجميع يتخلى عنه ولا يمدُّ يد المساعدة له، وينشأ حاقداً على المجتمع الذي تركه ولم يعبأ به ولم يهتم به، مع أن هذه القضية النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم حلَّها في طرفة عين!!
جعل العالم يوماً لليتيم، ويكثرون الكلام في وسائل الإعلام عن اليتيم، ولكن هل من مجيب؟
وهل من مستجيب؟
إن المجيب والمستجيب يشترط في إجابته أن لا يضع يده في جيبه ويُخرج شيئاً لغيره،
يمدها ليأخذ لكن لا يمدها ليعطي، وإذا أخرجها ليُعطي يطلب النظير والمقابل من الفاني!! لا يعطيها لينظر ما عند الله، ولا يلقى ذلك غداً يوم يجمعه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة.
لكن النبي بدأ بنفسه ورغَّب أصحابه، بدأ بنفسه أولاً فكان يحرص على رعاية الأيتام. خرج أبو سلمة رضي الله عنه في إحدى الغزوات ومات، وترك زوجة كبيرة في السن، وعندها ست من الأولاد، لا يُرغب فيها لكبر سِنِّها، وليس معها شيء لأولادها!! ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلَّم؟ عرض عليها أن يتزوجها، لا رغبةً في جمالها، وإنما رغبةً في رعاية وكفالة أولادها حتى يكون قدوة لنا ولعباد الله المؤمنين أجمعين.
ولذلك قالت له عندما خطبها: يا رسول الله تعلم أنِّي كبرت في السن، وليس فىَّ ما يجذب الرجال. قال: (أعلم ذلك، ولكن أردت أن أعول أولاد أخي، فلا أتركهم يضيعون). فلما رأت ذلك وهبت ليلتها لعائشة، لأنها كانت تعلم القصد وهو رعاية هؤلاء الأيتام، وهذا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وليس ذلك فقط، خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - وهو ابن عمه أبي طالب - إلى غزوة مؤتة ومات، وذهب النبي إلى بيته فوجد صبية صغاراً يتضورون من الجوع، ووجد امرأة شابة مازال أمامها فسحة للزواج، فقال: (يا هذه ضُمُّي أولاد أخي إلىَّ لأربيهم)، وضمَّ أولاد جعفر لأولاده ليربيهم، وقال للمسلمين أجمعين مرغباً في هذا العمل إلى يوم الدين: (مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ ، وَجِبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتّةَ))[ تاريخ ابن خيثمة عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ]
من الذي يريد أن يكون في درجة النبي في الجنة؟ من الذي يريد أن يحصي له ما لا عدد من الحسنات؟
من الذي يريد أن يُرقِّق الله قلبه ويكون من الخاشعين لله؟
جعل هذه الأعمال كلها معلقة باليتيم، حتى أنه عندما سأله أحد أصحابه وقال: يا رسول الله إني أجد في قلبي قسوة، فماذا أصنع؟ أي لأذهب هذه القسوة، قال: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)[ رواه الطبراني والإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه].
وقال صلي الله عليه وسلم
"مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ, كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ, وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ , كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ, وقَرنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (روه الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه)
بمجرد وضع اليد على رأس اليتيم يعطيك حسنات لا عدَّ لها إكراماً من الله، ويُرقِّق القلب بعد ذلك، لأن كفالة اليتيم ترقق القلوب وتجعلها رطبة دائماً بذكر حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ.
فكان النبي صلى الله عليه وسلَّم بذلك قائداً وإماماً ومعلماً لمن حوله، وقد علمهم أن يحرصوا على هذه الأعمال، وأن يبحثوا عن هذا المجال، فانتهت المشكلة في الحال.
ورد عن بشير بن عقربة قال:
(لما قتل أبي يوم أحد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: يا حبيب، ما يبكيك؟
أما ترضى أن أكون أنا أبوك وعائشة أمك، فمسح على رأسي فكان أثر يده من رأسي أسود وسائره أبيض، وكانت بي رتة، فتفل فيها وقال لي: ما اسمك؟ قلت: بحير، قال: بل أنت بشير) (أخرجه أبو نعيم عن عقبة بن عبد الله بن بشير رضي الله عنه) ،
فأخذه ومسح رأسه بيده وألبسه الجديد وأطعمه معه، وجعله يفرح ليعلِّم المسلمين أجمعين أن يكون هذا العمل عملاً يحرص عليه كل مسلم رغبةً فيما عند الله لا طمعاً في أمر الفاني من أمور هذه الحياة. فَنِعْمَ المعلم الأعظم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وهكذا جماعة المؤمنين لن تُحلُّ المشاكل كلُّها إلا إذا طهرَّنا نفوسنا من حُبِّ الدنيا والاهتمام بها، والمنافسة في اجتلابها من حلالٍ أو من حرام، والحرص على شئونها وشهواتها، ووجَّهنا قلوبنا وأجسامنا لله، وبحثنا عن الذي يرضي الله فعملناه، وبحثنا عن الذي يغضب الله فتركناه، إذا وصلنا إلى هذه الحالة، فإن الله عزَّ وجلَّ سيُغير حالنا إلى أحسن حال. ........ ثم الدعاء