الإيجابية في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول د خالد بدير



عناصر الخطبة:
العنصر الأول : الإسلام دين الإيجابية
العنصر الثاني: الفرق بين الإيجابية والسلبية
العنصر الثالث: الإيجابية في حياة الرسول والصالحين
العنصر الرابع: الإيجابية في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
المقدمة:                                                            
أما بعد:
العنصر الأول : الإسلام دين الإيجابية
أيها المسلمون: الإيجابية أصل عظيم من أصول الإسلام، وهي ميزة عظيمة ميز الله تعالى بها المسلم، فالإسلام يدعو إلى إيجابية الفرد نحو نفسه ونحو المجتمع، ونرى هذا الأصل العظيم فى القرآن الكريم؛ ففى سورة العصر التى قال عنها الإمام الشافعى:” لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم”؛ وذلك لأنها تجمع الدين كاملا؛ قال تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( العصر: 1-3 )
فهى توصى بإيجابية الفرد نحو نفسه ونحو من حوله، والقرآن الكريم به الكثير من الآيات التي توجِّه إلى التمسك والتحلي بهذا السلوك والتمسك بهذه القيمة؛ فالله سبحانه وتعالى ميز هذه الأمة بالإيجابية؛ فالمسلم لا يقف من الأحداث موقف المتفرج لقوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [آل عمران: 110]
إننا لا نبالغ إذا قلنا أن الإيجابية هي الحياة؛ أو هي الدين كله؛ فالدين لم يقم في أرضه علي السلبية والخمول والتقاعس والكسل؛ وإنما قام علي الإيجابية؛ وإن شئت فقل الذاتية منذ أن خاطب الله نبيه فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
( المدثر: 1 – 7 )
فالإسلام يحرص على أن يكون المسلم عضواً فعالاً إيجابياً منتجاً؛ نافعاً لنفسه وأهله ومجتمعه؛ فلا يكون إمعةً ؛فَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وإِن أساؤوا فَلَا تظلموا “. (الترمذي)
وهكذا المسلم يرى الأمل دائما غير منقطع وينظر إلى الواقع وإن اشتد عليه بإيجابية وتفاؤل. وفي الحديث ” من قال هلك الناس فهو أهلكهم”. (رواه مسلم عن أبي هريرة). ( فهو أهلكهم أي أشدهم هلاكاً)..؛ في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم عظم من قال في الناس أنهم هلكى، لأن في ذلك حكم على عموم الناس بالهلاك وهو أمر غيبي لا يستطيع أحد الإطلاع عليه إلا بالوحي، والوحي قد انقطع من السماء. فكان جزاؤه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن القائل بذلك أنه أهلك الناس وأفسدهم، وهذا على رواية الرفع (بضم الكاف من أهلكهم).
أما على رواية النصب (بفتح الكاف من أهلكهم) فمعناها: أنه أهلك الناس بكلامه ذلك وقنطهم من رحمة الله تعالى.
 قال الحافظ ابن عبد البر: هذا الحديث معناه لا أعلم خلافا فيه بين أهل العلم أن الرجل يقول ذلك القول احتقارا للناس وازدراء بهم وإعجابا بنفسه..!!
فانظروا إلى هذا القول فقط كيف يؤدي بالمرء إلى الهلاك والخسران، وهو مجرد قول لا مساس فيه بأموال الناس ودماءهم وأعراضهم، وكل هذا لأن قائل هذا القول نظرته للمجتمع نظرة سلبية سوداوية لا أمل فيها!!
عباد الله: ولو أخذنا مثالاً للإيجابية لوجدنا أن الهجرة تعطينا درسا عظيما في تطبيق مبدأ الإيجابية؛ فأعضاء ورموز الهجرة كلهم من أطياف الشعب رجالا ونساءً وشباباً؛ المسلم منهم وغير المسلم؛ فلكل دوره الإيجابي؛ وتوزيع الأدوار جاء مرتباً مخططاً منظماً وفق خطة علمية إيجابية مدروسة، فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ، وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وإيجابيته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والإيجابية والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب؛ مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
العنصر الثاني: الفرق بين  الإيجابية والسلبية
عباد الله: تعالوا بنا لنعرف – في هذا العنصر – الفرق بين الإيجابية والسلبية؛ حتى نتمسك بالإيجابية ونمتثلها ؛ ونذر السلبية وطرقها .
فالإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضاً من العطاء قوياً في البناء، ثابتاً حين تدلهم الخطوب، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الشمعة نوراً، ومن الحزن سروراً، متفائل في حياته، شاكر في نعمائه، صابر في ضرائه، قانع بعطاء ربه له، مؤمن بأن لهذا الكون إلهاً قدر مقاديره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة!!
إن هناك فرقا شاسعا بين الإيجابية والسلبية كالفرق بين الليل والنهار.. والجماد والكائن الحي.. والوجود والعدم. والدليل على هذا قوله تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” (النحل:76) لقد سمى الله  السلبي في هذه الآية ” كّلاً”  والإيجابي بـ ” يأمر بالعدل”.. “كلّ” أصعب من سلبي.. لأن سلبي معناها غير فعال؛ أما كلّ فمعناها الثقيل الكسول؛ وقبل هذا فهو “أبكم” لا يتكلم ولا يرتفع له صوت!! وهذا عبء على المجتمع؛ لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليه في كافة تصرفاته، وهذه الشخصية ضعيفة الفاعلية في كافة مجالات الحياة، ولا يرى للنجاح معنى، ولا يؤمن بمسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة، بل ليس عنده همة الخطوة الأولى، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكنا؛ وإن فعل في مرة يتوقف مئات المرات!!! وهذه الشخصية مطعمة بالحجج الواهية؛ والأعذار الخادعة بشكل مقصود، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام.
 وأما الآخر فإنه ” يأمر بالعدل”  فهو هنا الشخصية المنتجة في كافة مجالات الحياة حسب القدرة والإمكانية، المنفتحة على الحياة ومع الناس حسب نوع العلاقة، ويمتلك النظرة الثاقبة.. ويتحرك ببصيرة “بالعدل” فهو يوازن بين الحقوق والواجبات (أي ما له وما عليه) مع الهمة العالية والتحرك الذاتي، والتفكير دائما لتطوير الإيجابيات وإزالة السلبيات. هل من المعقول أن يتساوى هذا وذاك؟ لا يستوون!!!
ويمكن تلخيص الفرق بين الإيجابي والسلبي في نقاط:
= الإيجابي يفكر في الحل‎ ؛ والسلبي يفكر في المشكلة!!
= الإيجابي لا تنضب أفكاره‎؛ والسلبي لا تنضب أعذاره!!
= الإيجابي يساعد الآخرين‎؛ والسلبي يتوقع المساعدة من الآخرين!!
= الإيجابي يرى حلا لكل مشكلة‎؛ والسلبي يرى مشكلة في كل حل!!
= الإيجابي الحل صعب لكنه ممكن‎؛ والسلبي الحل ممكن لكنه صعب!!
= الإيجابي يعتبر الإنجاز التزاما يلبيه‎؛ والسلبي لا يرى في الإنجاز أكثر من وعد يعطيه!!
= الإيجابي لديه أحلام يحققها؛ والسلبي لديه أوهام وأضغاث أحلام يبددها!!
= الإيجابي شعاره: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك‎؛ والسلبي: اخدع الناس قبل أن يخدعوك!!
= الإيجابي يرى في العمل أمل‎؛ والسلبي يرى في العمل ألم!!
= الإيجابي ينظر إلى المستقبل ويتطلع إلى ما هو ممكن‎؛ والسلبي ينظر إلى الماضي ويتطلع إلى ما هو مستحيل!!
= الإيجابي يختار ما يقول‎؛ والسلبي يقول ما يختار!!
= الإيجابي يناقش بقوة وبلغة لطيفة‎؛ والسلبي يناقش بضعف وبلغة فظة!!
= الإيجابي يتمسك بالقيم ويتنازل عن الصغائر‎؛ والسلبي يتشبث بالصغائر ويتنازل عن القيم!!
= الإيجابي يصنع الأحداث‎؛ والسلبي تصنعه الأحداث!!
أيها المسلمون: هذا هو الفارق بين الإيجابي والسلبي؛ فما من صفة إيجابية إلا والزموها؛ وما من صفة سلبية إلا واجتنبوها !!
العنصر الثالث: الإيجابية في حياة الرسول والصالحين
أحبتي في الله: إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرى الإيجابية واضحة في كل معانيها، من يوم أن كان غلاماً يتيماً إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك ربى أصحابه على معاني الإيجابية الفاعلة، لقد كان يقول لهم: ” بادروا بالأعمال الصالحة” (ابن ماجة). ويقول : ” اغتنم خمساً قبل خمس “(مستدرك الحاكم). ويقول: “استعن بالله ولا تعجز “(مسلم) ….
وكان يكره أن يرى الرجل سلبيا فارغا بلا عمل، وإذا اشتكى إليه الرجل القوي قلة المال، قال له: ” اذهب فاحتطب “(أبوداود).
وكان يشجع عبد الله بن عمر ويقول : ” نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل.” (البخاري) ، بل كان يشجع الأعمال الصغيرة ويثيب عليها ، حتى تلك التي زهد فيها الناس اليوم ويرونها عملاً قليلاً ، كتنظيف المسجد مثلاً، فحينما ماتت تلك المرأة التي كانت تقم المسجد وتطيبه بالبخور سأل عنها فأخبر بموتها؛ وغضب لما لم يخبر فذهب وصلى عليها بعد أن دفنت. (البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: إن مقياس الخيرية في الناس ليس أن يقدم الواحد منهم عملاً عظيماً، وإنما الخيرية حين يقدم الواحد ما هو قادر على أدائه بعد استنفاد جهده وطاقته، ولهذا نرى النبي عليه الصلاة والسلام يستعمل إيجابية كل صحابي بما هو قادر عليه وبما هو أهل له، حتى صار كل صحابي أمة وحده، ففي الجانب العسكري استفاد من فكر سلمان الفارسي رضي الله عنه وخلفيته الحضارية فاقترح الخندق، والحباب بن المنذر يقترح الوقوف على الماء يوم بدر، وآخر ينصب المنجنيق في غزوة الطائف، وأبو بصير يخطط لحرب عصابات بعيداً عن بنود صلح الحديبية، وأما الجانب الاقتصادي فنرى ذلك الصحابي الذي يؤرقه كثرة أبناء المهاجرين والأنصار، فينقل زراعة القمح إلى الحجاز، وعبد الرحمن بن عوف يصفق بالسوق حتى لا يكون عالة على غيره!!
وفي جانب الفكر والتربية يسارع عبد الله بن عمرو بن العاص لتدوين الحديث، وزيد بن ثابت لجمع القرآن ويسارع في تعلم العبرانية والسريانية!!
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل الإيجابي من كل أحد، فكثيراً ما كان يوجه كلامه إلى الأفراد…… ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ” (مسلم)؛ ” بلغوا عني ولو آية ” (البخاري)؛ ” تبسمك في وجه أخيك صدقة ” (الترمذي) ؛ ” سلم على من عرفت ومن لم تعرف “(البخاري).
عباد الله: لقد كان من النتائج المبهرة التي ورثتها هذه التربية النبوية، أن خرج القادة والخلفاء والوزراء والعلماء؛ وخرج الجنود والمرابطون، يتسابقون في البذل والعطاء والتضحية والفداء، لعلمهم أن المرء يهيئ لنفسه مقعداً في الجنة …….!!
إن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يتقدم فيقول: يا رسول الله ” اسألك مرافقتك في الجنة ؟ فيقول له : أعني على نفسك بكثرة السجود … ” (الترمذي)؛ ويتقدم آخر فيقول : يا رسول الله : ” ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل؟” (مسلم)، فيمضي يقاتل يطلب الشهادة ليستعجل دخول الجنة ، ويعلن علي رضي الله عنه عن أشواقه وأعظم ما يتمنى فيقول : الضرب بالسيف؛ والصوم بالصيف؛ وإكرام الضيف؛ وقل مثل هذه الأشواق ما تمناه أبو بكر وعمر وعثمان وبقية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة الإيجابية!!
وأختم هذا العنصر برجل ضرب أروع الأمثلة في الإيجابية: “يروى أن مسلمة بن عبد الملك كان في جملة من الجند يحاصرون إحدى قلاع الروم، وكانت محصنة والدخول إليها صعباً إلا من نقب فيها تخرج منه أوساخ المدينة، فوقف مسلمة ينادي في الجند: من يدخل النقب ويزيح الصخرة التي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل…
فقام رجل قد غطى وجهه بثوبه وقال أنا يا أمير الجند؛ ودخل النقب وفتح الباب ودخل الجند القلعة فاتحين.. وبعدها وقف مسلمة بين الجند ينادي على صاحب النقب حتى يكرمه على ما فعل، وكان يردد: من الذي فتح لنا الباب؟ فما يجيبه أحد! فقال: أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني في أي ساعة من ليل أو نهار. فطُرق باب مسلمة طارق ليلاً ، فيلقاه مسلمة مستبشراً !! أنت صاحب النقب؟! فقال الطارق هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه. قال مسلمة وما هي؟ قال: ألا ترفع اسمه لدى الخليفة؛ ولا تأمر له بجائزة؛ ولا تنظر له بعين من التمييز، قال مسلمة: أفعل له ذلك!!
فقال الطارق: أنا صاحب النقب وانصرف؛ وترك جيش مسلمة ذاهبا إلى سد الثغور في أماكن أخرى؛ ويذكر أن مسلمة كان يدعو بعدها قائلاً في سجوده: اللهم احشرني مع صاحب النقب.” (مختصر تاريخ دمشق؛ لابن منظور؛ وعيون الأخبار لابن قتيبة )
أيها المسلمون: هناك أمثلة كثيرة لمبدأ الإيجابية عند الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والصالحين لا يتسع المقام لذكرها؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!!
العنصر الرابع: الإيجابية في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
عباد الله: إن من ينظر إلى واقعنا المعاصر يجد الكثير من الناس – إلا من رحم الله – عالة على غيره وأداة استهلاك لا أداة إنتاج؛ فهو بذلك رمزٌ للسلبية التي تنخر في عظام المجتمع وتؤدي إلى تآكله وفنائه.
إن الآفة التي أصابت الأمة حتى العقلاء الفاهمين منها هي آفة أنه واقف إلى أن يؤمر, سلبيٌ إلى أن يُحرَّك, ينتظر مَن يقول له افعل أو لا تفعل، وفي هذا كأنما احتقر عظيمًا وهبه الله إياه, فعطَّل في نفسه الذاتية, والإيجابية، والتفكير في مصير الأمة, وعطل في نفسه معنى المشاركة, واحتقر في نفسه أن يصلح ما يستطيع إصلاحه دون أن يأتيه أمر بإصلاحه!!
وإذا تأملنا القرآن في قصصه وأحداثه، نجد أن الطيور والحشرات لها مواقف إيجابية بناءة وفعالة؛ فهذا هدهد سليمان عليه السلام مثلاً رائعاً في الإيجابية، ذاك الطائر الصغير في حجمه الكبير في همه، العظيم في تفكيره، وذلك حين انفرد بعمل إيجابي أدخل أمة كاملة في الإسلام، وما كان سليمان عليه السلام يعلم بذلك لولا حركة الهدهد التي قدرها الله جل جلاله، مع أنه عليه السلام سخرت له الأنس والجن والطير والرياح والملك والسلطان، ومع ذلك قام الهدهد بعمل إعلامي عظيم في نقل خبر ملكة سبأ قال تعالى يحكي قصة الهدهد مع سليمان:{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } (النمل/20). هذه هي الذاتية التي استشعرها الهدهد, فلم ينتظر إذنًا من أحد وقام غِيرةً على دين الله, قام لكي ينظر أين دين الله في هؤلاء الناس؟!!
إن المسلم أولى من الهدهد بالعمل الإيجابي والسعي وراء المصالح والبحث عن الخير ؛ فالقرآن العظيم قص علينا خبر الهدهد في تقصيه الحقائق والأخبار ونقلها ، وقص علينا خبر النمل في حركته وحرصه على قوته ومدى تعاونه، وقص علينا خبر النحل في تعاونه وتعاضده، أفلا يكون الإنسان أولى من هذه الطيور والحشرات بالمشاركة الإيجابية والعمل الدءوب والحركة المتعاقبة المثمرة!!
أيها المسلمون: ومن مظاهر الإيجابية  في حياتنا المعاصرة كذلك حض الإسلام على الاختلاط بالناس وحضور جمعهم؛ ومجالس الذكر؛ وزيارة المريض؛ وحضور الجنائز؛ ومواساة المحتاج؛ وارشاد الجاهل.
ومن دلائل الإيجابية دعوة الإسلام للإصلاح بين الناس وفض المنازعات بينهم، يقول تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ( النساء: 114) ، وقد دعا الاسلام الى تحمل المسئولية ، فلا يقف المسلم من الأحداث موقفاً سلبياً. فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه وعن مجتمعه ووطنه، يقول صلى الله عليه وسلم : “كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته، والأمير راع والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته “(البخاري)، ومن بين ما يدعو إلى الإيجابية قول رسولنا الكريم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً”(البخاري ومسلم)؛ ويقول الحديث النبوي الشريف: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه؛ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته؛ ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة”(البخاري ومسلم)؛ والإسلام يدعو المسلمين أن يكونوا أقوياء لقول الرسول الكريم “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف “؛ (مسلم)؛ وهذا ولا يشك يدعو الإنسان للايجابية والعمل.
عباد الله: إن الأمة الإسلامية كالجسد الواحد، فيجب أن نكون إيجابيين مع أنفسنا ومع مجتمعنا؛ وقد لخص لنا صلى الله عليه وسلم الدين في كلمتين بقوله:” الدين النصيحة” (البخاري ومسلم)؛ وبهذه الكلمة يتضح لنا أنه إذا كنت سلبياً فعندك خلل في فهم دينك.
إن الإيجابية لم تقتصر على مجالات الحياة فقط؛ بل امتدت لتشمل العبادة؛ فنجد أيضا في الإسلام أن جميع عباداتنا تدعونا إلى الإيجابية؛ فمثلاً في السعي بين الصفا والمروة ونحن نقلد السيدة هاجر وهى تبحث عن الماء لولدها إسماعيل؛ كان من الممكن أن تجلس السيدة هاجر بجوار إسماعيل وهي تبكي؛ أو تسعى بين الصفا والمروة مرة واحدة؛ ولكنها ظلت تسعى!! ولقد جعل الله السيدة هاجر رمزاً للإيجابية؛ وجعل عن طريقها عبادة فى الإسلام نتعلم منها الايجابية !!
عباد الله: إن القلب ليحزن حينما يري الشباب وهم في أعز قواهم العقلية والجسدية ومع ذلك يفني الشباب قوته وشبابه في الفراغ والسلبية وفي كل ما حرم الله تبارك وتعالي من ملاهٍ ومشارب وخمور ومجون وغير ذلك؛ ولو لم يكن الإنسان في حاجة للعمل، لا هو ولا أسرته، لكان عليه أن يكون إيجابيا ويعمل للمجتمع الذي يعيش فيه فإن المجتمع يعطيه، فلابد أن يأخذ منه، على قدر ما عنده!!
 يُروى أن رجلاً مر على أبي الدرداء الصحابي الزاهد – رضي الله عنه- فوجده يغرس جوزة، وهو في شيخوخته وهرمه، فقال له: أتغرس هذه الجوزة وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا بعد كذا وكذا عاماً ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري!! وأكثر من ذلك أن المسلم لا يعمل لنفع المجتمع الإنساني فحسب، بل يعمل لنفع الأحياء، حتى الحيوان والطير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري]، وبذلك يعم الرخاء ليشمل البلاد والعباد والطيور والدواب!!
 أيها المسلمون: إن مجتمعنا في حاجة إلى الإيجابية؛ إيجابية في جميع مجالات الحياة؛ في الفكر والدعوة..في الاقتصاد…في السياسة … في العمل والإنتاج … في التعليم … في الصحة… في الزراعة… في الصناعة… في التجارة….إلخ؛ إننا إن فعلنا ذلك سبقنا جميع حضارات المشرق والمغرب!!
 ألا فلنحتد ونكون إيجابيين جميعاً من أجل بناء مجتمعنا، من أجل بناء وطننا، من أجل بناء مصرنا، من أجل بناء حضارتنا، بعيدين عن التفرقة، عن التشرذم ، عن التحزب، عن التشتت، حتى نحقق آمالنا، ويعلو بنياننا ، ونبلغ منانا، فنكون جميعاً أدوات بناء لا معاول هدم!!
ومتى يبلغ البنيان يوماً تمامه………إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟!!!
الدعاء……..                                                  
    وأقم الصلاة،،،،

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات