الإيجابية سفينة النّجاة د. عادل هندي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الناس
أجمعين، وبعـد:
فلقد كانت شريعة الله إلى خلقه سبيلا لإثبات
كرامتهم وصلاحيتهم في الحياة، منطلقة من
خلال ذلك إلى تأسيس وتكوين الشخص الإيجابي في الحياة، ويأتي حديثنا إليكم
عن هذه القيمة التي من خلالها تحيا الأمم وتتقدّم، وبدونها تهلك الأمم وتتخلّف.. بل
ويأتي الهلاك للجميع -أحيانًا- بسبب سلبيتهم (به فابدءوا) تلك قصة مشهورة عن جزاء
من رأى المنكر ولم يتحرّك، رأى الباطل
يستفحش ويقهر الحق ولا يواجهه، ولو كان مصليا في المسجد، مطلقا للحيته؛ فالدين
ينادي الأمة بالإيجابية الفعالة الحقيقية.
مفهوم الإيجابية:
لقد تحدثت مُعْظَم معاجم اللغة حول معنى وجب،
وأنه يدور حول اللزوم والإلزام. يقول ابن فارس: «وجب الشيء يجب وجوبًا، جعله
لازمًا» ومن هنا فإنَّ الإيجابية تتضمن معنى الإلزام والالتزام، ومرجعها إلى الحتم
والوجوب.
وتقول: «فلان ذو شخصية إيجابية، أي ذو صفات
متميزة وإرادة وكيان مستقل وفعَّال في مجتمعه وأمته». والإيجابية هى: «المبادرة والهمة
والعزيمة والجدية والإقبال على الأمور، والإيجابية قوة؛ قوة روح وعزم، قوة جد
وهمّ، وقوة عمل وكدح».
الإيجابية
فريضة شرعية وضرورة بشرية، لماذا؟
1.
لأنَّه ما أهلك
الناس إلا السلبية، وانظروا إلى حياة بعض الشعوب؛ يوم أن ارتضت السلبية منهجًا لها
في الحياة باتت تتبع غيرها، وصارت ضحية الاستعمار والاحتلال الأخلاقي والفكري
والعسكري عبر التاريخ.
2.
لأنَّ أمتنا
بدونها ستكون فريسة للأفَّاكين والمفسدين، فيستغِلُّون ضعفها وسلبيتها.
3.
لكثرة الشعارات
الهدامة، التي سادت كثيرًا من مجتمعات المسلمين، فعلَّمتهم الخُنوع والذلة، {ومن بين هذه الشعارات: عش جبانًا تمت مستورًا- أكلت
العيش بالجبن- عيش وامش جنب الحيط}
4.
لأنَّ الإيجابية
هي روح الجهاد الإسلامي العاشق للفداء والتضحية، وهى سبيل حماية الأعراض واسترداد
المقدسات وتحقيق النصرة للمسلمين.
5.
لحصر كثير من
المسلمين -إلا من رحم الله- للشخصية الإيجابية في شكلٍ بلا روح، بما يجعلنا أحوج
ما نكون إلى تخريج جيلٍ إيجابيٍّ ينصح ويُرْشِد، ولا يتخذ السَّلبية له شعارًا.
إنها فرصة
تأمين جبهة المجتمع ضد الفساد والمفسدين، إنها السبيل الأوحد لبلوغ السعادة.. أن
تُقَدِّم.. أن تُحَاوِل.. أن تخطو في الطريق..
القرآن
والإيجابية
ولقد اهتم القرآن
الكريم -كدستور ومنهاج للأمة- بالإيجابية وتكوينها؛ تارة بأسلوب التصريح، وتارة
بأسلوب التعريض، وتارة بقصة تحفز الهمة وتدفع للإيجابية والتحرك في الحياة، والعمل
لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
واسمع معي الآن إلى حديث القرآن عن الإيجابية والمبادرة
والهمة العالية والسباق نحو الخير والصلاح والإصلاح؛ يقول الله تعالى: }وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ{ {سورة آل عمران:
[133]}.
فهذه رسالة للمتقين والصالحين أن يتنافسوا ويسارعوا، وما الإيجابية إلا مسارعة
ومبادرة، ويقول أيضا سبحانه: }سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ{ {سورة الحديد: [21]} ولنا أن ننظر في هذه الآية، وهى
تحدد أن التنافس إيجابية في الخير -بالطبع- }وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ { {سورة
المطففين: [26]} ويقول عز وجل: }فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ{ {سورة
المائدة: [48]}.
فطبيعة الشخص المبادِر أنه يقوم
بالفعل وليس بردّ الفعل. إنّه سبّاق، إيجابيّ، مُلاحِظٌ للواقِع، يعمل على ابتكار
الأشياء، سريع الإبداع في الأمور، جادٌّ في حياته وأفكاره وآرائه.
والجديّة والمبادرة خُلُقَان
إسلاميّان عظيمَان؛ حثَّ الإسلام على التخلّق بهما؛ فها هي توجيهات القرآن المجيد
تحفّز الهِمَم
بآياتٍ
متعدّدة وقصص كثيرة مبثوثة في كتاب الله تعالى، ومن ذلك قول الله -تعالى-:
ﭐﱡﱂ ﱃ ﱄ ﱅ
ﱆﱠ
[آل
عمران: 133]. ولعلَّ
من اللافت للنظر أنّ هذه الآية السابقة وردت في سورة «آل عمران» وهي تلك الأسرة
الإيجابية المسارعة إلى الله، ويقول عزَّ مِن قائِلٍ -سبحانه-:
ﭐﱡﭐ ﲃ ﲄ
ﲅ ﲆ ﲇﱠ [الحديد: 21]. وقوله جلّ في عُلاهُ:
ﭐﱡﱞ ﱟﱠﱠ [البقرة:
148].
فهذه نماذج
لأوامر صريحة في المبادرة والمُسارعَة إلى كلّ ما فيه مصلحة الإنسان في الدنيا
والآخرة. وقد اشتمل القرآن المجيد على عددٍ من قصص الأنبياء والصالحين الذين
يعلمونا الإيجابية، ومن نماذج هؤلاء ما يأتي.
الأنبياء والإيجابية:
1.
نوح عليه السلام: أمره ربه أن يصنع السفينة، بينما قومه لم يستمعوا لنصيحته وما آمن
معه إلا قليل ، لكنه ينهض ويشرع في صناعة السفينة وبينما القوم يمرون عليه يسخرون
منه، يا نوح، كيف تصنع سفينة والأرض صحراء جرداء ما فيها نقطة ماء، وهل أراد الله
أن يسخر منك إلى هذا الحد؟، ولأنه كان إيجابي استمع لأمر الله بلا تردد ، كانت
النتيجة أن أجرى الله له الماء وكان الطوفان، ونجاه الله ومن آمن معه ، لأنه كان
إيجابيا.. والله تعالى لا يحابي أحدا، لا نبيا ولا صحابيا ولا غيرهم!!
فمن سار على السنن فاز، ومن حاد عنها أضله الله أو تركه على عماه حتى يستيقظ من
غفلته مهما كان شأنه. انظر الفرق بين نموذجين في القرآن: هذا نوح أخذ بكل الأسباب
(كما في سورة نوح)، فلما طلب النصر منحه الله إياه، ففجر له الأرض وفتح له أبواب
السماء بماء منهمر ثم حمله على السفينة. أما يونس عليه السلام، فضاق ذرعا بقومه
فتركهم، فكان أن ادخله الله تعالى بطن الحوت، حيث الظلمة فوقها ظلمة فوقها ظلمة،
حتى استجار واعترف "إني كنت من الظالمين". حتى
أنقذه الله تعالى -أيضا- لأنه كان له رصيد من الصالحات، فلولا أنه كان من المسبحين
.
2.
موسى -عليه السلام-
معه عصا ويد ومعجزات، لكن عندما تراءى الجمعان ورأى قوم موسى
معه أنهم هالكون، قالوا إنا لمدركون، فقال موسى بكل ثقة وتوكل على الله:« كلا إنّ معي
ربي سيهدين»، فأمره الله أن يضرب البحر بعصاه، هنا: أخي هل علمت يوما أن عصا بسيطة يمكنها أن تشق
بحرا أو تغلقه، ما سمعنا ولن نسمع أبدا ، هذا ما أردته بالفعل، حيث كان موسى
إيجابيا، فتحرك بعد أن جاءه الأمر أن اضرب البحر بعصاك ، فلما فعل: انظر «فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم».
3.
هذه مريم - عليها
السلام - كانت بقدر الله حاملاً، وأرادت أن تأكل وقد
اشتد بها الألم النفسي من أمر هذه المعجزة الإلهية، فناداها الله، وقيل أن ولدها
كلمها من تحتها قبل أن يولد ، وقيل أن الملك هو الذي كلمها.... المهم أنها نوديت: «وهزي
إليك بجذع النخلة» ... تخيل
: امرأة حامل وتمر بهذه الحالة، هل تستطيع هز النخلة لتسقط التمر ، لكنها كانت
إيجابية لتعلم كل إنسان أن كن إيجابيا وستجد النتيجة، فكانت النتيجة، تحركت وهزت،
فنزل عليه الرطب وأكلت وتمتعت برعاية الله.
نماذج ومواقف قرآنية
لقد زخر القرآن بعدة نماذج وقصص تعالج
السلبية وتحض على الإيجابية، ومنها الآتي:
Ü أُمَّة السلبية في سورة الكهف
وعلاجها على يد ذي القرنين -الرجل الإيجابي الذي أيقظ أمة-.
Ü هدهد سليمان؛ بإيجابيته أسلمت
أمة كاملة، وآمنت بدين الله جل وعلا.
Ü نملة تتحدث إلى مجتمعها وقومها؛
خوفًا من الفتنة والغفلة عن ذكر الله، يقول عنها القرطبي: "كانت نملة عرجاء،
وتحركت ناصحة لبني جنسها، خشية أن ينشغِلَنَّ بالنظر إلى مُلْكِ سليمان عن تسبيح
الله وذكره سبحانه" وما أروع هذا المعنى؟! فإذا كان النمل والهدهد بهذه
الصورة أفلا يكون الإنسان أوْلَى بالعمل الدءوب والحركة المتعاقبة المثمرة؟!.
Ü مؤمن آل فرعون، والذي لم يقبل
بالظلم الواقع على مظلوم، ولم يرضخ للظالم؛ بل صرَّح بالحق، مع تحقق معاقبته، بيد
أنه علمنا الإيجابية في قول الحق وبيان ظلم وفساد الظالم.
Ü أصحاب السبت وما كان من شأن السلبيين المثبطين
لهمم الإيجابيين المصلحين: فقد
بيّن القرآن الكريم -أيضًا- عقوبة المتخاذلين والمتردِّدين عن الجدية والمبادرة،
كما في قصة أصحاب السبت، الواردة في سُورة الأعراف، يقول -سبحانه-: ﱡﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ
ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ
ﲮ ﲯ ﲰﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ
ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱠ [الأعراف: 163- 166].
ويُلاحَظ هنا أنّ سُكّان القرية الواحدة قد
انقسموا إلى ثلاثِ أمم: أُمَّةٌ عاصية محتالة، وأُمَّةٌ تقف في وجه المعصية
والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والنصيحة، وأُمَّةٌ تدَعُ المنكرَ وأهلَهُ، وتقف
موقف الإنكار السلبيّ ولا تدفعه بعمل إيجابيّ، والأعجب والأغرب من ذلك اعتراضها
على المصلحين ومحاولتها منعهم من القيام بواجبهم الدعوي في الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.. فلمَّا لم يُجْدِ النصح، ولم تنفع العظة، وجبت عليهم كلمة الله،
وتحقّق نذيره.
فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء قد نجّاهم
المولى -جلّ في عُلاهُ- من السوء. وإذا الأمة العاصية يحلّ بها العذاب الشديد.
فأمّا الفرقة الثالثة فقد سكت النصّ عنها؛ ربما تهوينًا لشأنها -وإن كانت لم تؤخذ
بالعذاب- إذ إِنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي،
فاستحقَّت الإهمال، وما كان لها مِن شرفٍ أن تُذْكَرَ في كتاب الله -تعالى-. وهكذا
حال القرآن في حثّه على المبادرة والاهتمام بشأن المبادِرين، وإهمال قيمة الذين لا
يبادِرُون، ولا يعملون على تغيير الأخطاء.
النبي
-r- والإيجابية
أولا:
إيجابية الرسول r مع
نفسه
1. إيجابية
القيام والتعبد ليلا: «كَانَ النَّبِيُّ r يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»{رواه البخاري ومسلم}.
2.
إيجابية الاستغفار والذكر: قال رسولنا:
«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي
الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»{رواه البخاري ومسلم}.
3. إيجابية
التفكر:
في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: « بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ،
....
فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ رسول الله فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ
فَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ
وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ»{رواه البخاري}.
ثانيا:
إيجابية النبي r في
الدعوة إلى الله وبذل الخير للغير:
1. موقف الدعوة والتبليغ: فلقد عاش الرسول r حياة دعوية، كلها إيجابية وبذل وعطاء؛ حيث
ورد أنه لما أُنزِلَ على النبي r قول الحق جلّ
وعلا: {وَأَنذِرَ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} {الشعراء/214} قام على الصفا فعَلا أعلاها حجَرًا ثم
نادى "يا صباحاه" حتى وقف ودعاهم إلى الله تعالى. {رواه البخاري
ومسلم}.
2. موقف أداء الصدقات وعدم تأخيرها: ففي الحديث الصحيح عند البخاري، أن خرج سريعا من الصلاة ثم عاد، فَقَالَe: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ». فلقد كره النبي e أن يبيت ببيته شيء من الصدقة، فتعجل
بتقسيمها بكل إيجابية وجدية في بذل الخير للغير؛ لأن خير البر عاجله.
3. إيجابية النبي -r- في الإصلاح بين الناس
وردّ الحقوق:
كما
في وضع الحجر في الكعبة، وموقف رد حق الأعرابي من أبي جهل!! وتلك صورة بسيطة
لإيجابيته -عليه الصلاة والسلام- في دفع الضرر عن المجتمع، كما أنها صورة بسيطة
لإيجابيته في رد الحقوق إلى المظلومين.
ثالثًا:
بث الإيجابية في نفوس الأفراد والمجتمع:
لقد كان الرسول المعلِّم -r- يشجع على الإيجابية للأفراد والجماعات؛
كمثل قوله r لابن عمر: (نعم
العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل) {رواه
البخاري}.
فليس مقياس الخيرية في الناس أن
يُقَدِّم الواحد منهم عملاً عظيمًا، ولكن أن يُقَدِّم ما يقدرُ عليه، ومن أحاديث
الرسول الدالة على ذلك، ما ورد عن رسول الله «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا
فَلْيُغَيِّرْهُ»{رواه مسلم}. وعنه: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ
أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا
فَلْيَفْعَلْ»{مسند الإمام أحمد}.
إنها دفعة عجيبة للجدية والإيجابية
والاستمرار في العمل والبذل. ومن هنا فإنَّ رسول الله -r- يريد من المسلم أن يكون إيجابيا فَعَّالا
في حياته، لا كسولا خاملا، لا طموح ولا هدف له.
رابعًا:
الإيجابية بتوظيف الطاقات في أماكنها الصحيحة:
وكان -r- يستعمل إيجابية
كل صحابي فيما يستطيعه في كل الجوانب، ففي الجانب السياسي مثلا:
1.
كان سيدنا سلمان الفارسي وابتكار
فكرة الخندق، من خلال خلفيته الحضارية والعسكرية
في فارس، وفرح المسلمون بفكرته {الطبقات الكبرى لابن سعد، ج2/63}.
2.
وفي الجانب الاقتصادي: كان سيدنا عبد الرحمن
بن عوف تاجرًا ثريًّا، يبيع ويشتري{رواه البخاري في صحيحه}.
3.
وفي جانب الفكر
والتربية:
كان سيدنا زيد بن ثابت، وقد قام بتعلم السريانية {رواه البخاري}.
وهذا أصدق معنى يمكن من خلاله توصيل مفهوم الإيجابية من خلال
حياة نبينا المصطفى r.
خامسًا:
إيجابية الرسول r عند الموت
فعند موته كان يوصي قائلاً: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» {رواه
ابن ماجة في السنن}، ويقول سيدنا أنس بن مالك t: "كان r يقولها حين حضرته الوفاة وهو يغرغر"
فما أعظم اهتمامه بأمته؟!، وأعظِم به من شخصية إيجابية
متميزة، فائقة الروعة والجدية والعمل، حتى عند الموت.
سادسًا:
موقف الرسول -صلَّى الله عليه وسلّم- من الشخصيات المبادِرَة:
لقد كان النبيّ r يشجّع
المبادِرين، ويعطيهم المزايَا، ويمنحهم المنح والعطايا المادية والمعنوية. ويحكي
لنا ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النبيّ -r- لمّا عُرِضت عليه الأمم، فقيل له: «هَذِهِ
أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَلَا عَذَابٍ"، وفيه أنّ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ t--، قَامَ فَقَالَ: "ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ؟» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ
أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» [حديث متفق
عليه].
وكأني به r يقول لأصحابه y: الثواب
والمغفرة لهذا المبادِر، لهذا المُسَارِع، لهذا الجادّ، وليس معنى ذلك حرمان
الباقين ممن حضروا من أصحابه r، ولكنه تعظيم
وتشريف لشأن المبادِر والإيجابيّ في الأمور، والفخر بالجادّين والسبّاقين للخيرات.
وفي ذلك درسٌ لكل مسلم بأن يكون مبادِرًا، مسرعًا فيما فيه
الخير، فإذا كانت التؤدة مطلوبةً أحيانًا، فإن السّرعة والإنجاز مطلوبان وأكثر
فرضًا عند التعامل مع أمور الخير.
ثمار يانعة لتربية
الرسول الإيجابية
ولقد أثمرت هذه الإيجابية نماذج لصحابة كرام، قاموا يصدعون
بالحق في وجه الدنيا، وينادون بالإسلام بين الناس، وهم كُثُر لا حصْر لهم، وكان من
بين هؤلاء:
1. صديق
الأمة (إيجابي من طراز فريد).
2. حنظلة
بن عامر الراهب (غسيل الملائكة).
3. عكاشة
بن محصن الأسدي (سبقك بها عكاشة).
4. أبو
خيثمة الأنصاري (إيجابي في التوبة والعودة) وهو من معادن الرجال القلائل، الذين
يثق فيهم القائد، حين يقول: كن أبا خيثمة. فيكون!!.
كيف نطبق هذه
الإيجابية في الحياة؟
(صور للإيجابية)
أولا: فهم الإسلام
فهمًا صحيحًا شاملا:
بأن تكون كل حركة وسكنة في الحياة لله تعالى، من طعام وشراب
وملبس وتوجهات وأفكار، وعلاقات ومعاملات، كلها لله؛ قال تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وقال سبحانه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله
رب العالمين).
ورسولنا صلى الله عليه وسلم، يجعل التسبيحة صدقة والبسمة
صدقة والسرور الذي تدخله على مسلم صدقة وعبادة لله، وغرس بذرة حتى ولو قامت
القيامة صدقة، وجماع الرجل لزوجته صدقة وعبادة... هذا هو الفهم الصحيح للإسلام!!
وكم كان يزداد عجبي حين أقرأ أن حكيم الأمة وفاروقها عمر بن الخطاب، كان يقول:
«إني لأكره نفسي على جماع المرأة؛ عسى الله أن يخرج من صلبي نسمة تعبده وتوحده». والوصية
العملية الإيجابية: أن تستحضر نيتك في كل قول وعمل وحركة وسكنة أن تكون لله وفقط.
ثانيا: الدعوة إلى
هذا الدين العظيم، والصبر -في سبيل ذلك-
على البلايا والمحن:
إن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل وأتباعهم، وهي بالنسبة
لحياة الناس كالماء للحياة، والشمس لإضاءة الكون؛ من أجل هذا أرسل الله الرسل
وأنزل الكتب.
فالدعوة إلى الله تعالى أعظم الأعمال على الأرض، وهي أحد
أسباب خيرية هذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[آل عمران:110]، فالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من الأساسيات في الدعوة والإيجابية، ويقول سيدنا عمر بن
الخطاب: «من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها، قالوا وما شرط الله
فيها يا أمير المؤمنين؟ قال: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».
وفي ذلك يقول الأستاذ البهي الخولي:
«إن الداعية يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه، متوهجة في ضميره، تصيح في
دمائه، فتعجله عن الراحة والدعة، إلى الحركة والعمل، وتشغله بها عن نفسه وولده،
وماله....، تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإثارة، وفي السمة التي تختلط
بماء وجهه، وهو الداعية الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الجماهير، فيحرك عواطفهم إلى ما
يريد من أمر دعوته»
إن الدعوة إلى الله جزء من حياة المسلم اليومية في بيته ومع
أسرته وفي عمله وطريقه ومع زملائه وفي جميع أحواله، قال تعالى "ومن أحسن
قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين" وهذه نماذج
ونذكرها ونماذج دعوية لا نذكرها، لكنهم عند الله مذكورين فهو وحده يعلمهم .. فالإيجابية
للداعية كالشمس للدنيا..
ثالثا: الجهاد في
سبيل الله بمعناه الشامل:
ومن صور الإيجابية في الحياة، الجهاد، والذي يجب
أن يُفْهَم بصورته الصحيحة؛ فلا يقتصر الجهاد على ركوب دبابة أو حمل سيف في وجه
عدو!
وإلا فأين مجاهدة النفس والهوى والشيطان؟ أين
مجاهدتك إيجابيا لنفسك وأنت تشاهد منظرا قبيحا على شاشة التليفزيون؟ أين مجاهدتك
وأنت تتسمع لأخبار الناس وتتجسس عليهم؟ أين مجاهدتك الإيجابية وأنت تارك لأبنائك
وزوجتك لا يصلون وقد قال الله: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)؟ وأين مجاهدتك في
الصدع بكلمة الحق أمام حاكم أو مسئول ظالم ولكن تقولها بحق وحكمة؟ وأين وأين؟.
أما تذكر: عمار بن ياسر، وسمية ومعاذ ومعوذ، وصلاح
الدين الأيوبي، وعمر المختار، وقطز، وغيرهم؟.
إن الإيجابية تخرّج رجلا صلبًا مجاهدًا لنفسه
ولعدوه، ويتحرك بهذا المعنى في الدنيا فلا يهاب أي عدو، بل يفتح صدره للموت في
سبيل الله ويسترخص حياته فداء لله وللدين وللوطن.
رابعا: الإيجابية
في تربية النفس والأهل على الأخلاق الفاضلة:
نعم: أنا وأنت مسئولون -بالدرجة الأولى- عن أنفسنا وأهلينا؛
ولذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا)
-
مسئول أن تربي أبناءك على لذة
الطاعة وحلاوة الإيمان ومذاق الإيجابية.
-
مسئول أن تبين لهم خطر السلبية.
-
مسئول أن تأخذ بأيديهم إلى أفضل
الأخلاق.
-
مسئول أن تعيش بأخلاق الحبيب محمد،
وقد تقَلَّدَ قائمة الأخفياء الأتقياء الأنقياء.
-
الحاكم مسئول أن يكون إيجابيا في
الأخذ بأخلاق القائد الأعلى والأول للأمة الإسلامية في القيادة والحكم والسياسة.
-
الأب والزوج مسئولان عن الأخذ بخلق
الرسول في خيريته لأهله؛ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي.
-
الدعاة مسئولون أمام الله عن
الإيجابية من عدمها في التخلق بأخلاق الداعية الأول الصامد، محمد، وهو يدعو بكل
رحمة ورفق وأدب وحكمة.
وهكذا تجد أن الإيجابية في إخراج الجيل بهذه الصورة مسئولية
الجميع.
خامسًا: الإيجابية
في نصرة المظلوم ونجدة الملهوف:
إن المسلم الذي يحيا لذاته لا يستحق الحياة؛ لأنّه أنانيٌّ،
نسي أنّ الذي أنعم عليه بالصحة إنما ليجود بها على المريض، ومن أنعم عليه بالمال
إنما لينفق منه على الفقير، والذي أعطاه الحرية إنما ليستخدمها في نصرة المأسور،
ومَن أعطاه الوقت إنما ليجود به على من أراد مساعدته، حتى المنصب والوظيفة إنما هي
للتيسير على العباد، ومن أعطاه القدرة على الحوار إنما ليجلب الحق لصاحبه ولا
يخذله في موقف يحب فيه النصرة..
ورسولنا الذي أعاد للأعرابي حقه من أبي جهل، ووقف مع
الأعرابي الذي اغتصب منه المال يوم حلف الفضول، وأعاد للمرأة المسلمة حقّها يوم
راودها اليهودي على كشف وجهها وانتقم للمسلم المغدور، وردّ الحق حتى إلى الحيوان
إنما يعلمنا بهذا أن نكون أكثر إيجابية لا سلبية في هذه الحياة..
سادسًا: الإيجابية
في المشاركة المجتمعية في بناء الوطن
فعلاقتنا بالغاية المنشودة يتوقف على تعمير هذه الأرض والسعي
الدائم في بنائها، ولقد علمنا النبي ذلك من خلال مشاركته مع الصحابة في بناء الوطن
في كافة النواحي، ومن الإيجابية المشاركة في تولية الأصلح في المهام والمسؤوليات
مع تذكر أنّ من استعمل رجلا غير كفء في مهمة فقد خان الله ورسوله والمؤمنين..
___
لا شك أن كل ما سبق يؤكد أن طوق النجاة من أمواج فساد المفسدين وظلم الظالمين وتلوث أخلاق
المسلمين، هو الإيجابية والأخذ بها ورفعها شعارًا للمجتمع كله، والعمل في ظل
المحاضن التربوية على إخراج أجيال تحمل هذه القيمة وتعيش بها، وهذا هو موجز رسالة
السماء.
فالإيجابية عطاءٌ وتميُّز. والإيجابية إبداعٌ وتألق. والإيجابية
ثقةٌ
بالنفس. والإيجابية توجه إلى المعالي
والإيجابية علمٌ غزير والإيجابية
عزةٌ وتواضع.
___
وحتى تتخلّق بخُلُق الإيجابية فعليك
بالآتي:
1.
صاحب أهل المبادرة والإيجابية.
2.
اقرأ في سير أهل الإيجابية
والصالحين المصلحين الذي غزو القلوب بإيجابيتهم.
3.
استشعر مسؤوليتك الفردية التي
ستُسأل عنها يوم القيامة؛ «وقفوهم إنهم مسؤولون» «وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا».
4.
بث الأمل في النفس بأنك قادر على
التغيير والإصلاح، وأنّك سائر على درب الرسول وأصحابه.
___
فكن أخي إيجابياً،
همتك عالية،
نيتك صادقة،
أقوالك سديدة، أعمالك مباركة، غايتك الجنة، أُمنيتك رضا الله عنك. جمعنا الله
وإياك في الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه...
___