فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ د. محمد عامر
عناصر الخطبة
1- المقدمة
2- فأما اليتيم فلا تقهر
3- مكانة اليتيم في القرآن
4- مكانة اليتيم في السنة
5- نماذج وقصص من كفالة اليتيم
6- الخطبة الثانية
7- عقوبة أكل مال اليتيم
المقدمة
الحمد لله الرحمن الرحيم ، ذي الفضل العظيم ، أمر بالإحسان إلى اليتيم ، ووعد من أحسن إليه جنات النعيم ، وتوعد من أساء إليه بالعذاب الأليم .
أحمده سبحانه من إله ، خبير عليم عظيم كريم ، } يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، أرسله رحمة للعالمين ، وقدوة للسالكين ، } فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
.
أما بعد
(فأما اليتيم فلا تقهر )٠
نعم لم يعد هذا القلب يحتمل أي نوع من أنواع القهر ٠
لذلك توعد الله من يقهر اليتيم بأكل ماله ظلما بالعذاب الشديد قال تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )٠
نعم هذا القلب الذي هان عليه قهر اليتيم قلب قاس لا يُلينه إلا نار جهنم ٠
وقد أتى النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رجلٌ يشكو قَسوةَ قلبِهِ. فقال له: “أتُحِبُّ أنْ يلينَ قلبُك، وتُدرِكَ حاجتَك؟ ارْحَمِ اليتيمَ، وامسَحْ رأْسه، وأطْعِمْهُ مِنْ طَعامِك؛ يَلِنْ قلبُكْ، وتُدرِكْ حاجتَك”. رواه الطبراني.
مكانة اليتيم في القرءان
لقد حث الإسلام على رعاية الأيتام وعلى ضرورة الوقوف معهم ومناصرتهم، ومدِّ يد العون لهم، ورتب على ذلك أجرًا عظيمًا ففي القرآن الكريم آيات عديدة أنزلها الله -تعالى- في كتابه الكريم تحث على ذلك، منها قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) [البقرة: 220.
وأمر سبحانه وتعالى بالإنفاق على اليتيم، وجعل ذلك من وجوه الإنفاق، فقال: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة: 215.
ويقول الله جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء:34].
وقال الله عز وجل في سورة النساء: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2] أمر للوجوب؛ إذ لم تأت قرينة تصرف هذه الأوامر من الوجوب إلى الندب وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً [النساء:2] أي: إثماً وذنباً عظيماً، وقال عز وجل في سورة النساء أيضاً: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء:6] قالت الشافعية والمالكية: إن الأمر بالإشهاد للوجوب أيضاً إلا أن الحنفية قالوا: إنه للندب وليس للوجوب، ولكن ظاهر الآيات يدل على أن الأمر بالإشهاد عند دفع المال للوجوب كذلك فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء:6].
ويا لها والله من خاتمة جليلة تفزع القلوب الحية! ألا وهي قوله تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء:6] فهو الحسيب والرقيب والشهيد على أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم، هو الذي يعلم منكم السر وأخفى، وهو الذي سيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصدق الله إذ يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
مكانة اليتيم في السنة
من أجل اليتيم رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملأ وصاياه وأحاديثه بوجوب احترام حق اليتيم في العطف والحياة.
ويقول عليه الصلاة والسلام : "من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كما أن هاتين أختان، وألصق أصبعيه السبابة والوسطى".
لقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيماً اليتامى على الأرض من المسلمين تكريماً عجيباً، ووالله لو لم يأت في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة لكفى، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) أسمعت يا عبد الله؟ يقول حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار النبي بالسبابة والوسطى) الله أكبر! أي فضلٍ وأي شرف، ولفظ رواية مسلم : قال صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره -أي إذا كان اليتيم من قرابته أو كان اليتيم أجنبياً عنه لا يعرفه- معي في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي فضل وأي شرف لمن يكفل اليتيم أن يكون مرافقاً في الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم.
نقل الحافظ ابن حجر في الفتح مقولة عن ابن بطال إذ يقول: حق على كل من سمع بهذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة فهي أفضل منزلة في الآخرة.
من منا لا يريد أن يرافق الحبيب في الجنة؟
بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الأدب معلقاً على هذا الحديث الذي استشهد به: وإسناده لا بأس به من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول من يفتح باب الجنة، فأرى امرأة تبادرني -أي تسرع خلفي لتدخل معي إلى الجنة- فأقول لها: مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول المرأة: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) امرأة جلست تربي أيتامها بعد موت زوجها تسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة، قال الحافظ ابن حجر : وقد يشتمل هذا الحديث على الأمرين، أي: على أمر السرعة والمنـزلة معاً، تسرع لتكون مع رسول الله ولتكون في منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) جلست على أيتام لها لتربيهم تربية طيبة بالحلال الطيب، بعيداً عن أجواء المعصية العفنة عياذاً بالله جل وعلا.
وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين -والأرملة هي التي مات زوجها وترك لها أولاده- كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل).
أسمعت يا عبد الله إلى هذا الفيض وإلى هذه النعم؟! (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) أي فضلٍ هذا؟! والله الذي لا إله غيره إن من تخلى عن هذا الفضل لمحروم في الدنيا والآخرة.
الساعي على من مات عنها زوجها وترك لها أفراخها الصغار أجره عند العزيز الغفار كأجر المجاهد في سبيل الله الذي حمل نفسه وروحه على أسنة السيوف والرماح وطلب الشهادة من الله جل وعلا، أو كالذي يتعب نفسه ويصوم النهار ويقوم الليل لله العزيز الغفار جل وعلا.
نماذج من كفالة اليتيم
كفالة زكريا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمريم عليها السلام
قال الله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37:35)
يخبرنا الله تعالى أن تقبل مريم ابنة عمران، التي نذرتها أمها لعباده الله تعالى وخدمة المسجد الأقصى، فأنبتها نباتاً حسناً، حيث جعل لها شكلاً مليحاً ومنظر بهيجاً ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده، تتعلم منهم العلم والخير والدين، جعلها الله تعالى في كفالة زكريا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك لأن مريم كانت يتيمة، وذلك لتقتبس منه علماً جماً نافعاً وعملاً صالحاً، لأنه كان زوج خالتها، وقيل أنه كان زوج أختها، وقد قام زكريا بكفالة مريم ورعايتها خير قيام . ( تفسير القرطبي جـ4 صـ76)
نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خير الأيتام المكفولين
في سيرة نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما تطيب به قلوب الأيتام في كل مكان وزمان فقد مات أبوه قبل أن يُولد، فنشأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كفالة جده عبد المطلب فنال من رعاية جده ما عوضه عن فقد أبيه . فلما مات جده وكان عمْر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثماني سنوات كفله عمه أبو طالب وضمه إلى أولاده، وقدمه عليهم واختصه بفضل واحترام، فكان أبو طالب لا ينام إلا ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلي جواره، وكان كثيراً ما يصطحبه في أسفاره . لقد كانت العرب تعرف ذلك وتتحدث به وتعرف وفاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن قام بكفالته، وهذا ما جعل رجل من قبيلة هوازن يُقالُ له زُهير يخاطب به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مستشفعاً في أموال هوازن ونسائها قائلاً : يا رسول الله إنما في الحظائر، عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا مَلحنا ( أى أرضعنا) للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين . فما كان من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أنه وَفى لمن كفله وقام برعايته حق كافليه قائلاً : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم . ( سيرة ابن هشام جـ1 صـ149/جـ4 صـ116: 117)
نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خير من كفل الأيتام
كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتزوج الأرامل ومن في رعايتهن أيتام وذلك من أجل القيام عليهن وعلى مصالح أولادهن كما حدث عندما تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة رضي الله عنها ، وكان أولادها، عمر وسلمة وزينب ودُرَّة، أيتام في حجر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام بكفالتهم وأحسن رعايتهم .
روى مسلمٌ عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ. ( مسلم حديث 2022 )
روى أحمدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَيْشًا اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوْ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ أَوْ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَتَى خَبَرُهُمْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ وَإِنَّ زَيْدًا أَخَذَ الرَّايَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ اسْتُشْهِدَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ اسْتُشْهِدَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ اسْتُشْهِدَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْهَلَ ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ ادْعُوا لِي ابْنَيْ أَخِي قَالَ فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ فَقَالَ ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلَّاقَ فَجِيء بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا ثُمَّ قَالَ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا ( أى رفعها) فَقَالَ اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ (تغتم) فَقَالَ الْعَيْلَةَ ( الفقر والحاجة ) تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ( حديث صحيح ) ( مسند أحمد جـ3 صـ279 رقم1750)
اهتمام الصحابة بالأيتام
اهتم أصحاب نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهتماماً كبيراً بالأيتام، اقتداءً بنبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسوف نذكر بعضاً منهم :
(1) عمر بن الخطاب : روى البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّوقِ فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا وَلَا لَهُمْ زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمْ الضَّبُعُ ( السنوات المجدبة ) وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيْمَاءَ الْغِفَارِيِّ وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ ( بعير قوي ) كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلَأَهُمَا طَعَامًا وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمْ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرْتَ لَهَا قَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ . (صحيح البخاري حديث 4160) .
(2) عبد الله بن عمر بن الخطاب : روي البخاري في الأدب المفرد عن أبي بكر بن حفص أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان لا يأكل طعاماً إلا وعلى مائدته يتيم . (حديث صحيح ) ( صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 102 )
أمهات مثاليات لأيتام
كتب التاريخ مملوءةٌ بنماذج رائعة لنساء مات أزواجهن فقمن على تربية أبنائهن خير قيام وأزالت عن أبناءها مرارة اليتم، فقامت بدور الأب إلى دور الأم وزودت أبناءها بأحسن التوجيهات حتى كان منهم من ملأ الدنيا علماً، وسوف نذكر بعضاً من هذه النماذج المشرقة:
(1) تماضر بنت عمرو السلمية ( الخنساء ) : لما استعدا المسلمون لمعركة القادسية، دعت تماضر بنت عمرو السلمية أولادها الأربعة وحثتهم على الجهاد في سبيل الله وحذرتهم من الفرار من أرض المعركة، فقالت : يا بني : إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، والله ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، فإذا كان غداً إن شاء الله، فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله، فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها، وقد ضربت رواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا خميسها، تظفروا بالمغنم والسلامة، والفوز والكرامة في دار الخلد والمقامة، فانصرف الفتية الأربعة من عندها، وهم لأمرها طائعون، وبنصحها عارفون, فلما أصبحوا ذهبوا إلي ميدان المعركة وأبلوا بلاءً حسناً حتى استشهدوا جميعاً، فلما بلغ الخنساء خبر استشهادهم قالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجوا من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته . وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء بنت عمرو خراج أولادها الأربعة حتى مات . ( صفة الصفوة لابن الجوزي جـ4 صـ385: صـ387 )
(2)أم سفيان الثوري : قال وكيع بن الجراح : قالت أم سفيان الثوري لسفيان : يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي . وقالت : يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك . ( صفة الصفوة لابن الجوزي جـ3 صـ189 )
( 3) أم محمد بن إدريس الشافعي : وُلد الإمام الشافعي بغزة ومات أبوه إدريس شاباً فنشأ الشافعي يتيماً في حجر أمه فحفظ القرآن وهوا ابن سبع سنين وحفظ موطأ مالك وهو ابن عشر سنين وطلب العلم حتى أصبح مذهبه أحد المذاهب الأربعة المشهورة . ( سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12 صـ6: 11)
(4)أم أحمد بن حنبل : كان والد أحمد بن حنبل من أجناد مرو، مات شاباً وله نحو من ثلاثين سنة، فقامت أم أحمد على تربيتة وحثته على حفظ القرآن وطلب الحديث، فطلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان عدد شيخوخة الذين روى عنهم في المسند أكثر من مائتين وثمانين شيخاً، روى عنه البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي . والإمام أحمد صاحب أحد المذاهب الأربعة المشهورة . ( سير أعلام النبلاء جـ11 صـ177: 183)
(5) أم محمد بن إسماعيل البخاري : مات والد البخاري وهو صغير فنشأ في حجر أمه وفقد بصره وهو صغير، فرأت أمه الخليل إبراهيم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنام يخبرها بأن الله رد على البخاري بصره لكثرة دعائها له، فاهتمت به أمه اهتماماً كبيراً وألهمه الله تعالى حفظ الحديث وعمره عشر سنوات، ولما بلغ السادسة عشرة خرج حاجاً مع أمه وأخيه، وبعد أداء الحج تخلف بمكة في طلب الحديث، وفي سن الثامنة عشرة صنف في قضايا الصحابة والتابعين وأقوالهم، وكان للبخاري أكثر من ألف شيخ وجمع كتابه الصحيح من ستمائة ألف حديث مسموعة. (سير أعلام النبلاء جـ12 صـ391: 415)
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
عقوبة أكل مال اليتيم
إذا كان هذا هو قدر اليتيم عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن يحذر وينذر بصورة تحذير رهيب وإنذار شديد لمن يتطاول ويتجرأ على أكل مال اليتامى ظلماً بغير حق، فلقد قال الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10] الله أكبر! أي رعبٍ هذا؟! أي إنذار شديد هذا؟! والله إنه إنذار يخلع القلوب الحية، وينذر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً [النساء:10] فكم من أموالٍ لليتامى قد أكلت ظلماً، بل ومن الذي سلم إلا من سلمه الله جل وعلا، ووالله إن شربة ماء من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تغلي في البطون، وإن لقمة خبز من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تتأجج في البطون إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].
ولما نزلت هذه الآيات نزلت على قلوبٍ حية، نزلت على قلوبٍ تستمع إلى القرآن لتنطلق على الفور لتحول القرآن إلى وقع وإلى منهج حياة، كان حالهم عجيباً وعجباً، ليس كحالنا اليوم، فإننا نستمع إلى أوامر الله أمراً أمراً، وإلى نواهي الله نهياً نهياً، وإلى حدود الله حداً حداً، ولا يستجيب إلا من رحم ربك، وينطلق البعض أو الأكثرون وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، كأن الله لم يأمر، وكأن الله لم ينهَ، وكأن الله لم يحد حداً، واجب على الناس أن لا يتعدوا حدود الله جل وعلا، لما نزلت هذه الآيات في مجتمع الصحابة الذي رباه من رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآيات فزع الصحابة فزعاً شديداً، وتزلزلت قلوبهم زلزلة عظيمة، وذهب كل صحابي في بيته يتيم ففصل ماله عن مال اليتيم كله، وشرابه عن شراب اليتيم كله، حتى أن الأكل كان يوضع بين يدي اليتيم -كما قال ابن عباس - فيأكل اليتيم فإذا ما تبقى شيء من الطعام لا تمتد إليه الأيدي مطلقاً حتى يفضل هذا الطعام، فإن أكله اليتيم مرة ثانية وإلا خرب وفسد، وشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل وعلا الذي لا يغيب ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي يربيهم بمنهجه وقرآنه أنزل قوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220] وقد ظن بعض المفسرين أن هذه الآية الأولى منسوخة بآية البقرة وهذا وهم وخطأ، فإن آية البقرة آية محكمة لم تنسخ ولكن هذا من باب التخفيف عن هؤلاء الخيار الكرام الذين وقعوا في مثل هذا الحرج الشديد.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] يعلم من الذي يفسد أموال اليتامى، ويعلم من الذي يريد أن يصلح أموالهم وأن ينميها ويربيها لهم وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220]
حرم الله أكل مال اليتيم والقرب منها حيث قال تعالي (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الإسراء: 34
وقال: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً) [النساء: 2.
فقال: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) [النساء: 10
أي إذا أكلوا مال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون في بطونهم ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله وما هن؟
قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف،
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
بعد النظر لتلك الأدلة القاطعة بحرمة أكل مال اليتيم للآسف نجد إن الكثيرين يستهينون بأكل أموالهم , ومن غير أن يرف لهم جفن .
مشكلة منذو الأزل ولاتزال إلى زمننا الحاضر , نرى اليتيم بحاله رثه وقد يصل لحد الأستجداء بينما القائم عليه يأكل ماله ويتمتع به ويحلف أنه لم يورث شيئاً , والبعض يدعي إنه يحفظه له حتى يبلغ الحلم أو أنه يتاجر به ليزيده وكلها حجج واهية عارية من الصحة
إنما طغى على قلوبهم الطمع وأستباحوا أكل ماحرم الله
عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.