الوفاء وأثره في حياة الأمة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منزلة الوفاء
العنصر الثاني: أنواع الوفاء وصوره
العنصر الثالث: الوفاء للوالدين صور ونماذج بين الماضي والحاضر
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منزلة الوفاء
عباد الله: من القيم النبيلة والأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام خلق الوفاء.
والوفاءُ ضد الغَدْر، يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى. بمعنى، ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه. قال الإمام الجرجاني الوفاء هو: ” ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء.”(التعريفات).
والوفاء يختصّ بالإنسان، فمن فقد فيه (الوفاء) فقد انسلخ من الإنسانيّة، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيّره قواما لأمور النّاس، فالنّاس مضطرّون إلى التّعاون، ولا يتمّ تعاونهم إلّا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التّعايش.
والوفاء بالعهد هو قيام المسلم بما التزم به؛ سواء كان قولاً أم كتابة، فإذا أبرم المسلم عقداً فيجب أن يحترمه، وإذا أعطى عهداً فيجب أن يلتزم به. فالعهد لا بد من الوفاء به، كما أن اليمين لا بد من البر بها، ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير، وإلا فلا عهد في عصيان، ولا يمين في مأثم، فلا عهد إلا بمعروف.
والوفاء بالعهد من صفات الأنبياء والمرسلين؛ فقال – تعالى – متحدِّثًا عن سيدنا إسماعيل – عليه السلام -:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم: 54]، وقال في إبراهيم – عليه السلام -: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم: 37]. قال الإمام ابنُ جرير الطبري (رحمه الله):” وفَّى جميعَ شرائع الإسلام، وجميعَ ما أُمر به من الطاعة.”أ.ه. نعم، وفَّى حين ابتلاه الله بكلمات من الأمر الإلهي فأتمهنَّ، وفَّى حين قدَّم ولده إسماعيل قربانًا تنفيذًا لأمر الله تعالى، وفَّى حينما ألقي في النار فصبر ابتغاء مرضاة الله وثباتًا على دين الله تعالى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين أوفى الأوفياء ؛ فكان قدوةً في الوفاء بالعهد حتى مع غير المسلمين، فها هو يأمر عليَّ بن أبي طالب أن يَبِيت في فراشه ليلةَ الهجرة؛ كي يرُدَّ الأمانات إلى أهلها، أوَلَيس هو القائل: ” أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك”؟!( أبو داود والترمذي وحسنه).
ولا ننسى وفاءه – صلى الله عليه وسلم – في يوم البر والوفاء الذي نزل فيه قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ( النساء: 58). فقد جاء في سبب نزول الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، ليأخذ منه المفتاح فاختبأ عثمان فوق الكعبة، فتبعه علىٌّ وأخذ منه المفتاح عنوة، وفتح الباب، فدخل رسول الله البيت وصلى فيه ركعتين، فقام إليه العباس، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أين عثمان بن طلحة؟” فدعي له، فأمر رسول الله عليًّا أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويعتذر إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال له: “هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء ” فقال له عثمان: يا عليّ أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه هذه الآية.( تفسير ابن كثير)، وتكريماً لشأن عثمان والوفاء، خصه صلى الله عليه وسلم وذريته من بعده بسدانة البيت والمفتاح فقال: ” خُذُوهَا يَا بني طَلْحَةَ خَالِدَةً تالدةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَعْنِي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ.”( مجمع الزوائد) ولما مات عثمان سلمه لابنه شيبه ومازال المفتاح حتى يومنا هذا في بني شيبة.
وما أجمل وفاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمته كلها ؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص :” أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه الصلاة والسلام : “رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” ( إبراهيم: 36) وَقَالَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام : “إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” ( المائدة: 118)؛ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: “اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي” وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟” فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ:”يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ”[ مسلم ]فهل بعد ذلك من وفاء؟!!
أحبتي في الله: لقد ضربَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه. ودلائل وفاء محمد صلى الله عليه وسلم لا تنتهي عند المواقف والأحداث التي كان يفي فيها بما التزمه، فقد شهد له أعداؤه بأنه يفي بالعهود ولا يغدر، فحين لقي هرقل أبا سفيان، وكان أبو سفيان على عداوته لمحمد صلى الله عليه وسلم سأل هرقل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم عدداً من الأسئلة، كان مما سأله فيه قوله: فهل يغدر؟. قال لا !!
وعلى هذا الخُلق العظيم من الوفاء سار الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قُبِض قال أبو بكر للصحابة: “من كان له عِدَةٌ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو دَينٌ فليأتِني”. قال جابرٌ: فأتيتُه فقلتُ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: “لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا”. فلم يجِئ مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فحثَا لي أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: “خُذ مثلَيْها” (متفق عليه).
أيها المسمون: إن العرب في الجاهلية كانوا يتحلون بشرف الالتزام بالكلمة والوفاء ؛ حتى ولو فيه رقابهم!! وما أكثر القصص التي تدل على هذه المكرمة في نفوس الجاهليين، وفي لقاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع عمرو بن معدي كرب رضي الله عنهما عظة وعبرة، قال عمرو: سأحدثك يا أمير المؤمنين عن أحيل رجل لقيته، وعن أشجع رجل، وعن أجبن رجل.” كنت – في الجاهلية – في الصحراء، أركض فرسي، علني أجد رجلاً أقتله، إذا أنا بسواد بعيد، فركضت فرسي إليه فرأيت فرساً مربوطاً، وصاحبه في الخلاء، فصحت فيه: خذ حذرك فإنني قاتلك، ثم نهض متقدماً نحوي، فقال: من أنت؟ قلت عمرو بن معدي كرب، قال: أبا ثور، ما أنصفتني؛ أنت راكب وأنا راجل، قال: أنت آمن حتى تركب، فلما وصل إلى فرسه جلس واحتبى، قلت: خذ حذرك فإنني قاتلك، قال: ألم تقل لي: إنك آمن حتى تركب؟ قال: بلى، قال: فلست براكب، فانصرفت عنه، فهذا أحيل رجل يا أمير المؤمنين.”( أيام العرب في الجاهلية لأحمد جاد المولى ورفاقه.)؛ فانظر إلى حيلة الرجل علم أن عمرو بن معدي كرب أعطاه عهدا بأنه لن يقتله مادام راجلا لم يركب؛ فاحتبى الرجل ورفض الركوب ؛ ووفَّى عمرو بعهده وتركه!!!
ولقد ضرب عوف بن النعمان الشيباني أروع الأمثلة في الوفاء بالوعد حيث قال في الجاهلية الجهلاء: ” لأن أموت عطشًا، أحبُّ إليَّ من أكون مخلاف الموعدة.” (الأمثال لأبي عبيد بن سلام) .
ولذلك كانت العربُ إذا ضربتْ مثلاً بالوفاءِ قالوا: (أوفى من السَّمَوأل) .. فما هي قصَّتُه؟! ” لما أرادَ امرؤ القَيسِ المضيَّ إلى قيصرَ ملكِ الرُّومِ، أودعَ عندَ السَّموأل دُروعاً وسلاحاً وأمتعةً تساوي من المالِ جملةً كثيرةً. فلمَّا ماتَ امرؤُ القَيسِ أرسلَ ملكُ كندةَ يطلبُ الدُّروعَ والأسلحةَ المودعةَ عندَ السَّموألَ، فقالَ السَّموألُ: لا أدفعُها إلا لمستحقِّها وأبى أن يدفعَ إليه منها شيئاً، فعاودَه فأبى، وقالَ: لا أغدرُ بذمَّتي، ولا أخونُ أمانتي، ولا أتركُ الوفاءَ الواجبَ عليَّ، فقصدَه ذلك الملكُ من كندةَ بعسكرِه، فدخلَ السَّموألُ في حصنِه، وامتنعَ به، فحاصرَه ذلك الملكُ.
وكانَ ولدُ السَّموأل خارجَ الحصنِ فظفرَ به الملكُ فأخذَه أسيراً، ثمَّ طافَ حولَ الحصنِ، وصاحَ بالسَّموأل، فأشرفَ عليه من أعلى الحصنِ، فلمَّا رآهُ قالَ له: إنَّ ولدَك قد أسرتُه، وها هو معي، فإن سلَّمتَ إليَّ الدروعَ والسِّلاحَ التي لامرئ القَيسِ عندَك، رحلتُ عنك وسلَّمتُ إليك ولدَك، وإن امتنعتَ من ذلك، ذَبحتُ ولدَك وأنت تنظرُ، فاخترْ أيُّهما شئتَ؟!! فقالَ له السَّموألُ: ما كنتُ لأخفِرَ ذِمامي، وأبطلَ وفائي، فاصنعْ ما شئتَ، فذبحَ ولدَه وهو ينظرُ!! وصبرَ السَّموألُ على ذبحِ ولدِه، في سبيلِ محافظتِه على وفائِه، ثمَّ لمّا عجزَ عن الحصنِ رجعَ خائباً ، فلمَّا جاءَ الموسمُ وحضرَ ورثةُ امرئ القيسِ، سلَّمَ إليهم الدُّروعَ والسِّلاحَ ..” فسارت الرُّكبانُ بعد ذلك بهذا المثلِ: (أوفى من السَّمَوأل).( المستطرف للأبشيهي)؛ فانظر كيف ضحى بولده وذُبِحَ أمامه في سبيل وفائه بعهده؟!! مع أنهم في زمن الجاهلية فكيف بكم يا مسلمون؟!!!
أحبتي في الله: الوفاءُ .. كلمةُ حبٍّ وصفاءِ .. في حروفِها الإخلاصُ والنَّقاءُ .. أجمعَ على تقديرِها العُقلاءُ .. وإذا كانَ قد وُجدَ مثلَ هذا الوفاءِ في الجاهليِّةِ الظَّلماءِ .. فكيفَ إذاً الحالُ بعدَ نزولِ شَريعةِ السَّماءِ .. ولذلكَ لن تجدَ بعدَ ذلك من يقولُ أوفى من محمدٍ سيِّدِ الأنبياءِ .. عليه الصَّلاةُ والسلامُ عددَ نجومِ السَّماءِ .. وعددَ قطرِ الماءِ .. خاتمِ المرسلينَ وإمامِ الأتقياءِ.
العنصر الثاني: أنواع الوفاء وصوره
عباد الله: هناك أنواع وصور وأشكال للوفاء ؛ كالوفاء بين العبد وربه؛ وبين العبد ورسوله؛ وبين المسلم وغير المسلم؛ وبين المسلمين بعضهم البعض؛ وهاك البيان مع الدليل والقصص والآثار؛ والله المستعان وعليه التكلان:
أولاً: الوفاء مع الله:
فالوفاءُ للخالق يتمثَّل في توحيدهِ وعِبادتِه وشُكره بالأقوال والأفعال، وحُسنِ معاملةِ عيالِه والصِّدق معهم.
فبين الإنسان وبين الله –سبحانه وتعالى – عهد عظيم مقدس وهو أن يعبده وحده لا يشرك به شيئًا، قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس: 60 ؛ 61) فانظر في نفسك .. أين أنت من هذا الوفاء ؟ ماذا قدمت له ؟ هل عبدت الله حق العبادة وحافظت على عقيدتك وإيمانك وما افترضه عليك من صلاة وصيام وزكاة وحج وسائر العبادات والطاعات ؟! أم تركت نفسك للشبهات والشهوات وغرتك دنياك بما فيها من أموال وبنين وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والمناصب والأتباع فجعلتها إلها من دون الله ؟! ..
إن الوفاء مع الله يتمثل في امتثال المأمورات واجتناب المنهيات كما جاء في نداءات المؤمنين؛ رَوى ابنُ أبي حاتم أنَّ رجلاً أتى عبدالله بن مسعود فقال: اعْهَدْ إليَّ، فقال له: إذا سمعْتَ الله يقول:”يا أيها الذين آمنوا” فأَرْعِها سَمْعك؛ فإنه خيرٌ يَأمر به، أو شَرٌّ يَنهى عنه.
ثانياً: الوفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد بايع وعاهد الصحابةُ الكرام رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – على نصرة الإسلام في اليسر والعسر والمنشط والمكره؛ فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:” بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ؛ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ؛ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.”(البخاري)؛ وعن عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً ، فَقَالَ : ” أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ ” ، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ ، فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : ” أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ ” ، فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : ” أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ ” ، قَالَ : فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا ، وَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : ” عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا ، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً ، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ ، يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ .”(مسلم) قال النووي: ” فيه : التمسك بالعموم ، لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه ، وفيه : الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا .” (شرح النووي)
قلت: من شدة التزامهم بالعهد الذي بينهم وبين رسول الله يسقط سوط أحدهم من يده على الأرض؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه حتى لا ينقض عهد رسول الله!!! ونحن عاهدناه على الإسلام وإقامة الشعائر ونصرة دينه والدفاع عنه فهل أوفينا بعهدنا ووعدنا؟!!!
ثالثا: الوفاء بين الأزواج: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ” (متفق عليه)
فالوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر.
وما أجمل وفاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – لزوجه خديجة؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائقِ خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: ” إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولدٌ.” (البخاري) وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ على رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ, فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ: فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ، أَبْدَلَكَ الله خَيْرًا مِنْهَا .”(متفق عليه)
وعن عائشة ، قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي ، فقال : لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أنت ؟ » قالت : أنا جثامة المزنية ، فقال : « بل أنت حسانة المزنية ، كيف أنتم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ » قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله ، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : « إنها كانت تأتينا زمن خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان » .(الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) قال ابن حجر -رحمه الله- مصورا ذلك: “كانت حريصةً على رضاه بكل ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قط”. فقابَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفاءَها بوفاءٍ أعظم منه، فكان في إحسانها يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: “إني رُزِقتُ حبَّها”.( مسلم). قال النووي -رحمه الله-: “في هذا كله دليلٌ لحُسن العهد وحفظ الوُدّ، ورعاية حُرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب”.
رابعاً: الوفاء بين الأصدقاء: فبعض الناس يكون له صديق إمَّا في تجارة، أو دراسة، أو في عمل، أو غير ذلك، فإذا ارتَفَع في دنياه إمَّا بحصوله على مَنصِب عالٍ، أو أصبَحَ من أصحاب الأموال الطائلة، أو غير ذلك، ترفَّع عن أصدقائه، ولم يُظهِر لهم الوُدَّ السابق، وكأنَّه لا يعرفهم قبل ذلك، وهذا ليس من الوَفاء؛ بل من التنكُّر للجميل، وليس من شِيَم الرِّجال ولا من أخلاقهم!!
خامساً: الوفاء لمن أحسن إليك أو أسدى إليك معروفا:
فإن من الوفاء أن لا ينسى المرء من أحسن إليه أو أسدى إليه معروفا؛ وهـذا رسول الله صلى الله عليه وسلم – سيد الأوفياء كان وفيًّا حتى مع الكفار، فحين رجع من الطائف حزينًا مهمومًا بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضل أن يدخل في جوار بعض رجالها، فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فجمع قبيلته ولبسوا دروعهم وأخذوا سلاحهم وأعلن المطعم أن محمدًا في جواره، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الحرم وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين، ثم هاجر وكون دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر ووقع في الأسر عدد لا بأس به من المشركين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ ».[رواه البخاري]…
فانظروا إلى الوفاء حتى مع المشركين…. وهــذا أبو البحتري بن هشام؟ إنه أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا في نقض صحيفة الحصار والمقاطعة الظالمة التي تعرض لها رسول الله وأصحابه في شعب أبي طالب؛ فعرف له الرسول جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: «من لقي أبا البحتري بن هشام فلا يقتله» يا لعظمة هذه الأخلاق ويا لروعة هذا الوفاء!!
سادساً: الوفاء للوطن الذي نعيش فيه: وذلك بالحفاظ على معالمه وآثاره ومنشآته العامة والخاصة؛ والحفاظ على مياه نيله التي تربينا عليه وروينا منها أكبادنا !! وعدم الإفساد في أرضه؛ أو تخريبه وتدميره؛ وعدم قتله جنوده وحراسه الذين يسهرون ليلهم في حراستنا وحراسة أراضينا!! والذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة بين الحين والحين!! فعن الأصمعي قال: ” إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.” ( الآداب الشرعية لابن مفلح)؛ ولنا الأسوة في نبينا صلى الله عليه وسلم ووفائه لوطنه مكة التي تربى على أرضها؛ فقال وهو يودعها وفاءً لها: ” وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ” (الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.)
أحبتي في الله: الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً عديدة وكثيرة، وكلُّها أخَّاذة فتَّانة، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!!
العنصر الثالث: الوفاء للوالدين صور ونماذج بين الماضي والحاضر
أيها المسلمون: لقد حثنا الشارع الحكيم على الوفاء والإحسان إلي الوالدين ولا سيما في مرحلة الكبر والشيخوخة؛ قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23-24]. واعتبر الإسلام ذلك شكراً ووفاءً لهما على ما قدماه لك من معروف وتربية ورعاية في حال صغرك؛ قال تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (لقمان: 14) . فانظر رحمك الله كيف قرن شكرهما بشكره تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها أي إحداهما. قول الله تعالى: ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ” فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. الثانية قول الله تعالى: ” وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. الثالثة قول الله تعالى: ” أن اشكر لي ولوالديك ” فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين ” .(البزار والبيهقي بسند حسن).
أيها المسلمون: إن الإنسان إذا أهمل أبويه ولم يقم برعايتهما ولا سيما في حال الكبر والضعف والشيخوخة؛ فإنه بعيد عن رحمة الله وعن جنته؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، ” أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : آمِينَ ، آمِينَ ، آمِينَ ” ، قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا ؟ فَقَالَ : قَالَ لِي جِبْرِيلُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ : آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ” .( أحمد والطبراني والترمذي وحسنه).
وفي مقابل ذلك كان الإحسان إلى الوالدين وبرهما طريقاً إلى الجنة؛ فقد جاء رجل إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو, وقد جئت أستشيرك, فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها».( أحمد والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
لذلك قال حميد: لما ماتت أم أياس بن معاوية: بكى , فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة , وأُغلق أحدهما.
ومن عجيب ما جاء به الإسلام أنه أمر ببر الوالدين والإحسان إليهما حتى في حالة الشرك, فقد سألت أسماء بنت أبى بكر النبي “صلى الله عليه وسلم” عن صلة أمها المشركة، وكانت قدمت عليها, فقال لها: «نعم, صلي أمك».(متفق عليه).
عباد الله: تعالوا لنعرض لكم صوراً مشرقةً لسلفنا الصالح وكيف كانوا بارين بآبائهم وأمهاتهم مقارنةً بواقعنا المعاصر :
فقد رأى ابن عمر – رضي الله عنهما – رجلاً يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال : يا ابن عمر أترى أني جزيتها ؟ قال : لا! ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً .
وكان علي بن الحسن: لا يأكل مع والديه فقيل له في ذلك؟! فقال: لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك , فإذا أكلت بخست بحقهما!!
وهذا أبو هريرة كانت أمّه في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السّلام عليك يا أمّاه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك يا بنيّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. (الأدب المفرد للبخاري).
وعن محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى أنه قال: “بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي، وَأخي عُمَرُ يُصَلِّي الليلُ ، وَمَا أُحِبُّ أنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ” ؛ أغمز: أي أدلكها لمرض أصابها. أي واحد يبر أمه والآخر بطاعة ربه فكان يرى أن بر أمه أعظم من طاعة ربه!!
وأختم صور الوفاء والبر بالأم عند سلفنا الصالح بهذه القصة الجميلة التي تنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم للتابعي الجليل أويس بن عامر الذي أصبح مجاب الدعوة من كثرة بره ووفائه لأمه.
فعنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ : أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ . فَاسْتَغْفِرْ لِي . فَاسْتَغْفَرَ لَهُ .”(مسلم). قال القاضي عياض:” وقول النبى – عليه الصلاة والسلام – فيه: ” له والدة، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره “: إشارة إلى إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيب أمله فيه، ولا يكذب ظنه به، ولا يرد دعوته ورغبته وعزيمته وقسمه فى سؤاله بصدق توكله عليه وتفويضه إليه، وقيل: معنى ” أقسم على الله “: وعى، و” أبره ” أجابه، وفيه فضل بر الوالدين، وعظيم أجر البر بهما.” أ.ه. وقال النووي: ” هذه منقبة ظاهرة لأويس رضي الله عنه . وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح ، وإن كان الطالب أفضل منهم .”
عباد الله: إن من بر الإسلام ورفقه أن حث أتباعه على الإحسان إلى أصدقاء الوالدين وبرهم وودهم والرفق بهم ولا سيما إذا كانوا في سن الشيخوخة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ؛ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ؛ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ” .( مسلم ).
وبلغ الأمر ببعض السلف أنه كان يسافر ليصل صديق أبيه . فقد روى أحمد في مسنده عن يُوسُف بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي مَا أَعْمَدَكَ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ أَوْ مَا جَاءَ بِكَ؟! قَالَ قُلْتُ: لا إِلا صِلَةُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ وَالِدِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ!!
عباد الله: اعلموا أن الجزاء من جنس العمل في الوفاء والبر والعقوق؛ فمن بر أمه بره أبناؤه؛ ومن عق أمه عقه أبناؤه؛ فكما تدين تدان. وإليكم هذه القصة: روى أن العوام بن حوشب قال : نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة ، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج رجل رأسه رأس حمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر ، فإذا عجوز تغزل شعرا أو صوفا فقالت امرأة : تري تلك العجوز ؟ قلت : ما لها ؟ قالت تلك أم هذا ، قلت وما كان قضيته ؟ قالت كان يشرب الخمر فإذا راح تقول له أمه : يا بني اتق الله إلى متى تشرب هذا الخمر ؟ فيقول لها : إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار ؛ قالت فمات بعد العصر ، قالت فهو يشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر ” .(الأصبهاني بسند حسن).
أحبتي في الله: تعالوا بنا ننزل إلى أرض الواقع لنقف ونطوف سريعاً مع واقعنا المعاصر وما يحدث فيه من عقوق وموت الضمائر والقلوب.
هذه قصة واقعية يرويها أحدهم قائلاً: كنت على شاطئ البحر فرأيت امرأة كبيرة في السن جالسة على ذلك الشاطئ تجاوزت الساعة الثانية عشرة مساءً ؛ فقربت منها مع أسرتي ونزلت من سيارتي .. أتيت عند هذه المرأة , فقلت لها : يا والدة من تنتظرين ؟!
قالت : انتظر ابني ذهب وسيأتي بعد قليل … يقول الراوي : شككت في أمر هذه المرأة .. وأصابني ريب في بقائها في هذا المكان !! الوقت متأخر ولا أظن أن أحد سيأتي بعد هذا الوقت !!…يقول : انتظرت ساعة كاملة ولم يأت أحد … فأتيت لها مرة أخرى فقالت : يا ولدي .. ولدي ذهب وسيأتي الآن!! يقول : فنظرت فإذا بورقه بجانب هذه المرأة . فقلت : لو سمحت أريد أن اقرأ هذه الورقة . قالت : إن هذه الورقة وضعها ابني وقال : أي واحد يأتي فأعطه هذه الورقة. يقول الراوي : قرأت هذه الورقة … فماذا مكتوب فيها ؟
مكتوب فيها : ( إلى من يجد هذه المرأة الرجاء أن يأخذها إلى دار العجزة والمسنين ). عجباً لحال هؤلاء !!
وهذه قصة ثانية: امرأة عجوز ذهب بها ابنها إلى الوادي عند الذئاب يريد الانتقام منها , وتسمع المرأة أصوات الذئاب , فلما رجع الابن ندم على فعلته فرجع وتنكر في هيئته حتى لا تعرفه أمه .. فغير صوته وغير هيئته …فاقترب منها. قالت له يا أخ : لو سمحت هناك ولدي ذهب من هذا الطريق انتبه عليه لا تأكله الذئاب!!..يا سبحان الله!! … يريد أن يقتلها وهي ترحمه خوفاً عليه من الذئاب!!
أيها المسلمون: لا تظنون أن هذه القصص ضربٌ من الخيال؛ والله في البيوت أعظم من ذلك , واسألوا المحاكم وزوروا المستشفيات ودور المسنين ترون العجب العجاب !!
والله إن كثرة العقوق في المجتمع دليل وبرهان وعلامة على قرب قيام الساعة كما جاء في حديث جبريل عليه السلام في قوله:” فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ!! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا”. (البخاري ومسلم).
قال الحافظ ابن حجر في معنى تلد الأمة ربتها:” أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام ؛ فأطلق عليه ربها مجازا لذلك . أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة ، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه ؛ ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة . ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا والسافل عاليا ، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى أن تصير الحفاة ملوك الأرض .”(فتح الباري).
نسأل الله أن يستخدمنا لخدمة آبائنا وأمهاتنا ؛ وأن يجعلنا من أهل البر والوفاء والعون والإحسان ؛؛؛
الدعاء،،،،،
وأقم الصلاة،،،،،