مخاطر التطرف الفكري والانفلات الأخلاقي للشيخ / محمد حســــــن داود







الموضـــــوع : الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)البقرة 143) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل في حديثه الشريف " وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ " رواه بن ماجة)اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعدإن هذا الدين العالمي الذي يخاطب الناس كافة، بجميع أعراقهم وأطيافهم، قد تميز بصفات، من أجلها انه دين الوسطية والسماحة واليسر فقد قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة 143) فالأمة الإسلامية وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، لا غلو ولا تقصير، و لهذه الوسطية معالمها التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وإن من معالمها التوسط بين الجفاء والغلو في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق، ففي الدين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ "سنن بن ماجة). وفى السلوك، قوله تعالى(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان 67) وفى العبادة قوله صلى الله عليه وسلم " عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا ،"رواه البخاري ) ولما جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ‏فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ ‏تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ‏‏ ‏قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏ ‏إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ‏”أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي ‏لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" البخاري ومسلم)ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدودًا بين ساريتين سأل عنه، فأخبر أنه لزينب تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بإزالته وقال: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه) وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُوالدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُوالدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُوالدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صَدَقَ سَلْمَانُ"رواه البخاري)
فالدين الإسلامي بمجمله قائم على الوسطية والسماحة واليسر ورفع الحرج وهذا ما أشار إليه ربنا سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة من كتابه العزيز؛ منها: قوله تعالى( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )الحج78) وقولـه أيضًا ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )البقرة185) وقوله ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا )النساء28) . و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ" رواه البخاري.) وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت " مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ" رواه مسلم) وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:" يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا". ( متفق عليه ).
ومن ثم نقول أن الإسلام حذرنا كل التحذير من الغلو في الدين حذرنا كل التحذير من التطرف الفكري، و لو نظرنا في القرآن الكريم نظرة تدبر، لوجدنا أن كل آياته تحذرنا من هذا التطرف، إذ يذكر القران الكريم أن من اجل الأسباب التي جمعت الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الوسطية واليسر والسماحة وعدم التشدد أو التطرف فقال تعالى (فَبِمَا رَحْمِةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَ نَفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) كما أرسى الإسلام موازين العدالة المطلقة، متحررة من العصبية للعرق، متحررة من العصبية المذهبية، متحررة من العصبية للدين فقال تعالى "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمِ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"إذ يعترف بصورة واضحة بوجود (الغير) المخالف في العقيدة وحقه في الاعتقاد والتصوّر، قال تعالى﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة 256] فمما لا شك فيه أن الأديان بحكم انتمائها إلى السماء، فإنها لا تأمر إلا بالخير والحق والصلاح ولا تدعو إلا إلى البر والحب والرحمة والإحسان، ولا توصي إلا بالأمن والسلم والسلام،وذلك لكل الناس على اختلاف الألوان والألسنة بل والعقائد وما كانت يوما في حد ذاتها عائقا أمام التعايش والتعارف والحوار والتماسك والترابط، وإنما العائق يكمن في عقول سفهاء الأحلام أحداث الأسنان أهل الفكر المتطرف فقد قال الله تعالى(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )الحجرات)10وقال أيضا ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )الممتحنة 8. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ، إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ، أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا" رواه أبو داود) وقال أيضا " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ". وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ آمَنَ رَجُلا عَلَى دَمِهِ ، فَقَتَلَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا" وجملة ذلك في قول الله تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة32)
وهنا بجدر بنا أن نقف على شيء من أسباب ظهور هذه الشجرة الخبيثة(التطرف الفكري ) في بعض العقول وملامستها لبعض القلوب ومن ذلك الجهل بتعاليم الإسلام وإتباع جهال ضلوا وأضلوا بغير علم ظهرت أنيابهم الخبيثة من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ ، فَقَالَ : ( وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ) ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَقَالَ : ( دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ،..." رواه البخاري ومسلم )نعم لقد ابتليت هذه الأمة بجماعات متطرفة، رؤسا جهالا، دعاة على أبواب جهنم اندلقت ألسنتهم بالباطل واندلعت أصواتهم بالضلال والعياذ بالله، يفتون الناس بضلالهم وجهلهم فيضلونهم وينشرون بينهم الأقوال المتطرفة والدعوات الهدامة والأفكار الزائغة والعقائد المنحرفة يتجرؤون على الله وعلى رسوله وعلى الإسلام والمسلمين بل والإنسانية كلها بأفكارهم المتطرفة وأقوالهم التي فاقت في ضلالها أقوال الجاهلية ، لا يرقبون في إنسان إلا ولا ذمة استحوذ عليهم الشيطان فسلب عقولهم وتملك قلوبهم فكانوا دعاة فتنة ومعاول هدم، ولقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفئة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " سَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِى أَمْرِ الْعَامَّةِ " . ومن ثم نقول أن من اجل عوامل علاج هذه الظاهرة يثمثل فى توعية المجتمع بكل أطيافه بمخاطر التطرف الفكري ودعاته، غلوا وتقصيرا، إفراطا أو تفريطا، إذ أن العقائد المنحرفة والأقوال الشاذة والأفكار المتطرفة لا تظهر إلا بترك العلماء أهل التقى والسماحة والوسطية والأخذ عنهم، وأخذ العلم والفتوى عن أهل الجهل والهوى وقد قالَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم" إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . رواه البخاري)
إن التطرف شجرة خبيثة إذا نمت نمت معها أشواكها الحادة، و من أشواكها رمى الناس بالكفر: فان مما تجرأ عليه هؤلاء أصحاب الفكر المتطرف، المتربصون بالدين وبأمن الأوطان واستقرارها زارعي الفتن أحداث الأسنان سفهاء الأحلام جهلاء العقول أن ذهبوا يكفرون الناس دون دليل ولا فقه ولا علم ولا حجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول" إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" (رواه البخاري). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما ) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ ". وان القارئ في التاريخ والسير ليدرك تماما أن من صفات الخوارج الظاهرة الجلية إلقاء الناس بالكفر، حيث كفروا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقد وصفهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله " يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ؛ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ؛ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ". (متفق عليه). – يقول الإمام القرطبي مندداً بضلالة الخوارج وقلة فهمهم وتكفيرهم الناس: "ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة".
كما أن من أشواك هذه الشجرة الخبيثة (التطرف الفكري) التنازع و التدابر و البغضاء وسفك الدماء واستباحة الأموال والأعراض وهذا مما جاء الإسلام بالنهى عنه والتحذير من الانهماك فيه فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم :أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ". وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ ، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا "رواه أبو داود) وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" رواه البخاري) وإذا نظرت أيضا في التاريخ والسير تدرك تماما أن ترويع الآمنين وسفك دماء الأبرياء هي صفة أخرى من صفات الخوارج ، فلقد اعترض الخوارج طريق عبد الله بن خباب وهو يسوق بامرأته على حمار، فدعوه وتهددوه وأفزعوه، وقالوا له من أنت ؟ فقال : أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوه طلبوا منه أن يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قالوا : فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيراً، ثم قالوا فما تقول في عثمان في أول خلافته وآخرها ؟ فقال : إنه كان محقاً في أولها وآخرها، ثم قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ فقال : إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا : إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتفوه ثم أضجعوه وذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا على المرأة وهي حبلى ففزعت وقالت : إني إنما أنا امرأة ألا تتقون الله ؟ فقتلوها وبقروا بطنها عليهم من الله ما يستحقون. ( القصة مختصرة من تاريخ الطبري )
علما بأن الإسلام كما حذرنا من التطرف وأهله حذرنا أيضا من نشر هذا الفكر أو الرضا به أو الركون إلى أصحابه فقد قال تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)هو113) وقال أيضا (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )المائدة2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذَّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ ، حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ ". ومن ثم بجدر بنا أن لا نحيد عن وسيطة الإسلام وسماحته وان نحذر كل الحذر من التطرف الفكري ودعاته، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ "، قَالَهَا ثَلَاثًا ) رواه مسلم) يقول النووي في "شرح مسلم: عن (المتنطعون )" أي : المتعمقون ، الغالون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم " انتهى . بل إنه من الواجب علينا جميعا الوقوف صفا واحدا في رد كل عدوان وصد كل هجمات التطرف والإرهاب ففيه نجاة للمجتمع وحفاظا على الوطن وهذا مطلب شرعي وواجب وطني لا انفكاك منه مهما كانت التضحيات فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا " ( البخاري )
وكما أن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال واليسر والسماحة فهو دين مكارم الأخلاق، فلئن كان الدين روح فإن القيم والاخلاق جسدها، فلا جسدَ بلا روحٍ، ولا روحَ بلا جسد،ومن ثم فان الأخلاق الطيبة الفاضلة هي ركيزة من ركائز الإسلام، ويظهر هذا جليا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمَّمَ صالحَ الأخلاقِ" .رواه أحمد
ولمكانة الأخلاق وشأنها؛ كان ارتباطها الوثيق بالدين،فكل عبادة فرضها الله على المسلمين، ليس المقصود منها مجرد هيكلها المادي وصورتها الظاهرية، وإنما المقصود منها أيضا روحها ولبها، الذي يهذب الخلق، ويصلح النفس، ويباعد بينها وبين الشرور والآثام، ويرقى بها نحو محاسن الأخلاق ومكارمها ،فالصلاة بسجودها وركوعها وأذكارها تطهر النفس من الكبر ، وتذكر النفس بالاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى ، وتذكرها دائما بوقوفها للحساب يوم القيامة ، فتنهى صاحبها ومقيمها عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾العنكبوت 45)وكذلك الزكاة تطهير للنفس البشرية من رذيلة البخل والشح والطمع والجشع،وتجعل الإنسان متعاونا حريصا على أخيه المسلم، إذ يواسى الفقراء ،و يسد حاجتهم ،و يساعد البؤساء منهم و المحرومين، ويقيم المصالح العامة التي تتوقف عليها حياة الأمة وسعادتها ، قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) التوبة 103.
وفي الصيام دوافع مباشرة لضبط سلوك الإنسان والرقى بأخلاقه ،فلا معنى لظاهر الصيام إن لم تتأدب النفوس و تطهر القلوب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ" صحيح ابن خزيمة)و لك أن ترى كيف أن الحج يبث القيم الأخلاقية الأصيلة في النفوس البشرية ،وكيف أن له التأثير في تربية النفس الإنسانية ، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) البقرة 197) غير أن الإيمان له صلة وثيقة جدا بسلوك المسلم وخلقه ، فبقدر ما مع العبد من استقامة الخلق بقدر ما معه من استقامة الدين؛ فخلق العبد هو ميزان ألإيمان، قال صلى الله عليه وسلم " أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" رواه أبو داود) وفى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يكون دليلا دامغا على أن الإيمان له الارتباط الوثيق بالسلوك الحسن والخلق الحميد : فقد قال صلى اله عليه وسلم " لا يَزني الزَّاني حِينَ يَزني وَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلا يَشرَبُ الخَمرَ حِينَ يَشرَبُ وَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلا يَسرِقُ حِينَ يَسرِقُ وَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلا يَنتَهِبُ نُهبَةً يَرفَعُ النَّاسُ إِلَيهِ فِيهَا أَبصَارَهُم حِينَ يَنتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ) وإذا سألت من اقرب الناس مجلسا من الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لوجدت أن أحسن الناس أخلاقا هم اقرب مجلسا إلى الرسول وأحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم فقد قال " إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا) رواه الترمذي) بل به يدرك المسلم الحسنات ورفعة الدرجات كما قال خير البريات " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ" رواه أبو داود) ومن ثم فإن لحسن الخلق والسلوك أثرا طيبا على العبد كما أن سوء السلوك له أثره السيئ على العبد فإذا ضاعت الأخلاق والقيم ضاعت الحسنات والدرجات كما قال صلى الله عليه وسلم "وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ، كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ". غير أن الأخلاق هي الأساس لبناء المجتمعات فالسلوك الحسنة من شأنها أن تبني مجتمعا محصنا لا تنال منه عوامل التردي والانحطاط، إذ أن القيم الطيبة والأخلاق الحسنة التي تسود أي مجتمع تعد مؤشرا على نضجه وإدراكه لدوره في الحياة، وليس ابتلاء الأمم والحضارات كامنا في ضعف إمكانياتها المادية أو منجزاتها العلمية فحسب ،بل إنما و في قيمتها الخلقية التي تسودها وتتحلى بها ،فحضارات الأمم تنهض بنهضة الأخلاق، وتنهار بانهيارها؛ فكم من أمة كانت قوية، فدبت مساوئ الأخلاق بين أفرادها، فدب فيها الضعف، ومن ثم فان للأخلاق أهمية بالغة في سعادة أي مجتمع وشقائه، ولله در من قال :
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا كنا نسعى إلى الاستقرار فان الأخلاق الحسنة التي تبنى ولا تهدم ،وتجمع ولا تفرق ،و توحد ولا تشتت، هي سبب رئيس لتحقيق ذلك وعليه نقول ما أحوجنا اليوم أن نرجع إلى طيب الأخلاق و حسن السلوك التي هي سبيل النجاح والفلاح فقال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس7-10) وعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ "، أَوْ "أَيْنَمَا كُنْتَ" ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : "أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا" ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : "خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". رواه أحمد والدا رمى والترمذي وقال حديث حسن)
صلاحُ أمرِكَ للأخــــــــلاقِ مرجعُه *** فقوِّم النفسَ بالأخـــــــــلاقِ تَسْتَقِمِ
والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ *** والنفسُ من شَرِّها في مرتع وخمِ.
(فاللهم أهدنا إلى أحسن الأخلاق واصرف عنا شرها )
===== كتبه =====
محمد حســــــن داود
إمام وخطيــب ومدرس
مديرية أوقاف كفر الشيخ


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات