مخاطر التطرف الفكري وانفلات الأخلاق للشيخ فوزي محمد أبو زيد
الحمد لله رب العالمين، نحمده
عزَّ وجلَّ على ما أعطانا حيث اختارنا وجعلنا من أمة الإسلام، وكتب في قلوبنا الإيمان
والصدق والإخلاص، وجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين،
سبحانه سبحانه، قلوب العباد
بيديه، يغير ولا يتغير، ويحوِّل ولا يتحوَّل، وبيد وحده تصريف القلوب والأمور.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
(8آل عمران).
وأشهد أن لا إله الله وحده
لا شريك له خلق خلقاً وجعلهم أنصاراً لشريعته، وأتباعاً لخير بريته، وكتب لهم في الدنيا
هدايته، وفى الآخرة سعادته
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن
نكون منهم أجمعين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد
الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أمره الله عزَّ وجلَّ بتبليغ رسالته، والدعوة إلى
العمل بشريعته، وأن يجاهد الكفار ومن يعاونهم ممن حولهم من المنافقين لأنهم أضرُّ على
المؤمنين من الكافرين،
وقال له عزَّ وجلَّ في شأنهم:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73التوبة).
اللهم صلى وسلم وبارك على
سيدنا محمد الذي حمَّله مولاه في الدنيا لواء هدايته، وفى الآخرة لواء شفاعته، وفى
الجنة لواء أهل سعادته، صلى الله عليه وعلى آله الذين اقتدوا بهداه، وأصحابه الذين
آزروه ونصروه في شرع الله، وأتباعه المباركين الذين سلكوا على هداه واجعلنا منهم أجمعين
آمين يا رب العالمين.
أيها الأخوة جماعة المؤمنين:
ما ترك الله عزَّ وجلَّ المبين
شيئاً يهم أمور المؤمنين في دنياهم، ولا شيئاً يبلغهم رضا الله والفوز بجواره في أخراهم،
إلا ووضحه لهم في كتاب الله، وبينه بأبلغ بيانٍ في كلمات الله جلَّ في عُلاه، لأن المؤمنين
دائماً وأبداً يتسمون بطيبة القلب وسلامة الفؤاد، فيُخدعون بمن يخدعهم بظاهره.
كان سيدنا عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما، رجلاً من المؤمنين طيب القلب سليم الفؤاد، وكان يشترى العبيد، فكانوا
يتظاهرون بطاعة الله والصلاة والصيام، حتى يرقَّ قلبه لهم فيعتقهم لوجه الله عزَّ وجلَّ،
فيقولون له: إنهم يخدعونك، فيقول رضي الله تبارك الله تعالى عنه وعن أبيه:
[من خدعنا بالله عزَّ وجلَّ
انخدعنا له].
نبَّه الله عز وجل النبي
وأصحاب النبي وأتباع النبي إلى يوم الدين أن العدو الأشرس في حربه للمسلمين في كل وقتٍ
وحين هم طائفة يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، يظهرون المحبة ويبطنون البُغض، يظهرون
المودَّة ويبطنون الحقد والحسد، ولأنهم بين المسلمين يعرفون خفاياهم ويطلعون على كل
عوراتهم وكل أمورهم فيكونون أشد عليهم من الكافرين ولذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم
ولمن حوله ولنا أجمعين:
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4المنافقون).
هذه الطائفة الذين تظاهروا
بالإسلام لكنهم في قلوبهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون برسول الله، ولا يؤمنون بكتاب
الله وإنما كفارٌ وإن تظاهروا بغير ذلك لخداع المؤمنين والمؤمنات، جعلهم الله عزَّ
وجلَّ في الآخرة في أسفل قاع النار، فإن الله عزَّ وجلَّ جعل الجنة درجات:
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله
(163آل عمران).
والدرجات للصعود، وجعل لجهنم
دركات، والدركات السلالم التي تهوى إلى أسفل، فجعل في أسفل هذه الدركات المنافقين:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145النساء).
لأنهم خدعوا الله ورسوله،
وخدعوا المؤمنين.
هؤلاء القوم حذَّر الله عزَّ
وجلَّ النبي وأصحابه منهم، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم يحرصون كل الحرص
على أن ينزهون أنفسهم من الوقوع في هذا الجُرم العظيم وفى هذا الإثم الكبير، فكانوا
يحرصون أشد الحرص حتى كان أحدهم إذا سُئل هل أنت مؤمن؟ يقول: مؤمنٌ إن شاء الله ولا
يجزم لنفسه بالإيمان، لأنه يعلم أن الإيمان يلزم لكي يشهد لنفسه به أن يعلم أنه معه
حتى حُسن الختام حتى يتوفاه الله مسلماً ويلحقه بالصالحين.
وقد علمهم النبي صلى الله
عليه وسلم أن يسألوا الله عزَّ وجلَّ الثبات على الإيمان، لأن هذا أمرٌ متعلقٌ بحضرة
الرحمن عزَّ وجلَّ، إذا كان النبي بذاته صلوات ربى وتسليماته عليه، كان يقول عقب كل
صلاة:
(الله يا مقلب القلوب والأبصار
ثبت قلبي على دينك يا ألله).(1)
ووجهنا إلى أن نرددها عقب
كل صلاة، لأن ثبات القلوب لا يكون إلا من حضرة الله جلَّ في عُلاه.
وأصل هؤلاء أن رجلاً من الأنصار
ـ وكان الأنصار قبيلتين في المدينة هم الأوس والخزرج، وكان بينهما حروبٌ مستمرة، وفى
نهاية المطاف اتفقوا على أن تنتهي النزاعات والحروب فيما بينهم وأن يكون أمرهم جميع،
واختاروا واحداً من عظمائهم ليكون ملكاً عليهم، هذا صادف قبل استلامه الملك مجيء الإسلام
ومجيء النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة.
فكوَّن كتيبة من المنافقين
حوله يكيدون للنبي ويتفننون في إيذاء النبي ويدعون المؤمنين الصادقين في أوقات الشدائد
للتخلي عن النبي، وينشرون الشائعات على المسلمين وعلى النبي، ليبلبلوا أفكار الناس
ويُزعزعوا ما في نفوسهم من الإيمان بالواحد الأحد عزَّ وجلَّ، وكلما تحدث الرسول صلى
الله عليه وسلَّم عن هذا الرجل وهو عبد الله بن أبىّ بن سلول.
قال له الصادقين من الأنصار:
يا رسول الله أعذره فإن التاج
قد صُنع له وكان سيضعه على رأسه، وأنت بمجيئك إلى المدينة قد حرمته من هذا التاج، فكان
يصبر عليه النبي صلى الله عليه وسلَّم، وذات مرةٍ قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله
دعني أقطع هذا المنافق، قال:
(لا يا عمر ماذا يتحدث الناس
عنى؟ أيقولون إن محمدٍ يقتِّل أصحابه؟).
وكان ابنه رجلٌ من الصالحين
فسمع بما يتهامس به أصحاب النبي فجاء إليه وقال له: يا رسول الله لو قتل رجلٌ مؤمنٌ
أبى لم ترضى نفسي أن أرى قاتل أبى يمشى أمامي فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر، يا رسول الله
ائذن لي أن أقطع عنق أبى حتى لا أقتل مؤمناً بكافر، فقال صلى الله عليه وسلَّم: لا
ورفض ذلك ونهى عن ذلك صلوات ربى وتسليماته عليه.
فكان أصحابه رضوان الله تبارك
وتعالى عليهم أجمعين يحرصون على معرفة أوصاف هؤلاء المنافقين، والله عزَّ وجلَّ فيما
أنزل من القرآن أنزل ثلاثين سورة في المدينة منها سبعة عشر سورة في المنافقين، حتى
قال بعض العلماء:
كاد القرآن كله ينزل في المدينة
في المنافقين، يعرف بأوصافهم حتى ينزِّه المؤمنون أنفسهم عن هذه الأوصاف، ويبتعدون
عمن فيهم هذه الأوصاف وأمرهم أمراً صريحاً فقال عزَّ وجلَّ في قرآنه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119التوبة).
وكان النبي صلى الله عليه
وسلَّم يقسِّم الأعمال والأسرار بين أصحابه، فجعل في حضرته سكرتيراً خاصّاً أطلعه على
المنافقين وألقابهم وهو وحده الذي يعرفهم، وكان اسمه حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه،
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه ـ ولأنه يعرف ذلك ـ إذا جيء بجنازة إلى المسجد ينظر إلى
حذيفة، فإن قام حذيفة ليصلى عليها، دخل عمر فصلى عليها، وإن امتنع حذيفة عن الصلاة
عليها امتنع عمر، لأن الله قال لحبيبه على هؤلاء:
وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (84التوبة).
نهاه حتى عن الصلاة عليهم
لأنهم في قلوبهم الكفر وإن كانوا يظهرون أعمال أهل الإسلام، وجاء عمر مرة ليصلى على
رجلٍ منهم فناداه حذيفة:
يا أمير المؤمنين إنه منهم
فلا تصلى عليه، فقال له عمر: وأنا منهم؟
أنظر إلى الصادقين مع الله
ـ قال وهل وأنا منهم؟ قال: لا ولن أصرِّح بذلك لأحدٍ بعدك أبداً.
هؤلاء المنافقين يا أحبة
هم الطابور الخامس الذي يرتع في هذه البلاد وبين هذه العباد، وهو الذي أشد علينا من
الكافرين والمشركين لأنهم يعلمون كل شيء عن المسلمين وعن المؤمنين، وهم من يُسمَّى
في عصرنا هذا بالجواسيس الذين يتجسسون على أحوال المؤمنين ويذيعونها للكافرين والمبغضين.
والطامة الكُبرى والتي ظهرت
في عصرنا والتي نهى عنها نبينا صلى الله عليه وسلم ، أنه نبَّه أن هناك نوعٌ من النفاق
سُمَّى بالنفاق الأصغر، والنفاق الأصغر هو أن يكون المرء مسلماً ومؤمناً ومُصلياً وصائماً
وعابداً لله، لكن يروج أفكار فيها أوصافٌ وصف النبي صلى الله عليه وسلم أن من يتصف
بها بأنه فيه صفة من صفات المنافقين، وكل مشاكل مجتمعنا الآن فيما بيننا بسبب تمسك
البعض بهذه الأوصاف التي نهى عنها نبينا الكريم صلوات ربى وتسليماته عليه.
كأن يتصف بالكذب، والنبي
صلى الله عليه وسلَّم يقول:
(جُبل المؤمن على كل شيء
إلا على الكذب والخيانة).(رواه احمد عن أبي أمامة رضي الله عنه)
ليس عند المؤمن كذباً ولا
خيانة، وقيل يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً؟
قال: (قد يكون، قيل أيكون
المؤمن بخيلا؟ً قال: قد يكون قيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا المؤمن ليس بكذاب المؤمن
ليس بكذاب المؤمن ليس بكذاب). (مالك في الموطأ والبيهقي في الشعب عن صفوان بن سليم)
فالكذب من الصفات المشينة
التي نزَّه الله عزَّ وجلَّ المؤمنين أجمعين عنها، لأنه سمانا جميعاً الصادقين:
اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ (119التوبة).
والكاذب يجعل الإنسان لنفسه
مستقراً والعياذ بالله في جهنم مصيراً إن أصَّر على كذبه ولم يتب إلى الله من الكذب
ويتحلى بصفة الصدق لقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(لا يزال الرجل يكذب ويتحرى
الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا، والكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار).(2)
والكذاب يجعل الله عزَّ وجلَّ
الملائكة الحفظة الكرام البررة الذين يتبعونه ويحيطون به ويسجلون أعماله إذا كذب يقول
في ذلك حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(إذا كذب العبد تباعد عنه
الملائكة قدر ميل ـ(الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما ) وميل يعنى اثنين كيلومتراً
إلا ربعاً ـ من شدة رائحة فمه).
يشمون لفمه رائحة كريهة لا
يستطيعون شمَّها ويبتعدون عنه لأنه كذب، والكذب أشدَّه الكذب على الله، أو الكذب على
رسول الله، ثم الكذب على خلق الله عزَّ وجلَّ.
والذي يكذب على الله عزَّ
وجلَّ هو الذي يخترع في شرع الله ما ليس منه ويدعى الكذب أنه من دين الله، لينال مصلحة
دنيوية أو لينال مكسباً فانياً.
والذي يكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلَّم هو أن يسند إليه قولاً لم يقله، أو حديثاً لم يخرج من فيه، ويزعم
أن الرسول قاله، مع قوله صلى الله عليه وسلَّم:
(من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ
مقعده من جهنم).( رواه أحمد وأبو يعلى)
بل إن الله عزَّ وجلَّ ورسوله
صلى الله عليه وسلَّم أمر المؤمنين أن يكون أهم ما يحرصون عليه في تربية الأبناء والبنات
الصدق وعدم الكذب.
فقد كانت عنده امرأة أنصارية
وجاء ولدها فقالت له: إن فعلت كذا سأعطيك تمرة، فراح وفعل ثم جاء فأعطته التمرة، فقال
لها صلى الله عليه وسلَّم:
(لو لم تعطها له لكتبت عليك
كذبة ولحاسبك الله عزَّ وجلَّ عليها يوم القيامة).(3)
إذا كان مجتمع المؤمنين فيه
صفة الصدق هي السائدة بين الناس، فكيف يكون حالهم؟ وكيف يكون حال مجتمعهم؟
إن حال المؤمنين في ذلك سيكون
كأنهم يعيشون في جنة النعيم لأنهم سيكونون كما قال الله:
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
(10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) (الغاشية).
ومن الأوصاف التي حذَّر النبي
منها كذلك وجعلها علامات على النفاق هي صفة الغدر وصفة الخيانة وغيرها من الصفات التي
قال في بعضها في حديثه الشريف:
عن عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً
خالصاً، ومن كانت فيه خُلَّة منهن كانت فيه خُلَّة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب،
وإذا عاهد غَدَر، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا خاصم فَجَر(البخاري ومسلم )
والمسلمون يحرصون على سلامة
الإسلام بالسلامة من الكذب، والوقاية من الخيانة والبعد عن الغدر لأن النبي صلى الله
عليه وسلم يقول:
(إن الغادر يرفع له لواء
يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان ابن فلان).(البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)
ويبتعدون عن الأوصاف التي
حددها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن صاحبها يكون فيه خصلة من خصل النفاق، لأنهم
يريدون أن يدخلوا في قول الله:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ
مَعَهُ (29الفتح).
وهل يجوز أن يكون معه خائن؟
هل يجوز معه في معيته كاذب؟ هل يجوز أن يكون في معيته غادر؟ هل يجوز أن يكون معه في
معيته فاجرٌ في خصومته؟ لا يكون ذلك أبداً، ولذلك كانوا يحرصون أشد الحرص على سلامة
الإيمان من أوصاف المنافقين.
لو سلم أفراد مجتمعنا من
هذه الأوصاف فكيف يكون حالنا؟ وكيف تكون الثقة بيننا؟ وكيف يكون التعامل فيما بيننا؟
إن كان في العمل أو في البيت أو في الشارع أو في السوق؟
سنكون كما كان عليه أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلَّم.
أو كما قال: (أدعوا الله
وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين،
الذي أظهر دينه في أخلاق وأفعال وأحوال سيِّد الأولين والآخرين، وجعل على هديه الثُّلة
المباركة من الصحابة والتابعين، والعلماء العاملين، والأولياء والصالحين إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، يُحِبُّ الخير ويحُضُّ عليه، وينهي عن الشرِّ ويكافئ مَنْ تجنَّبه
وتودَّد بتركه إليه عزَّ وجلَّ.
وأشهد أن سيدنا مُحَمَّداً
عَبْدُ الله ورسولُه، الرحمة التامة لجميع الأنام، والنعمة السابغة في الدنيا والآخرة
للأولين والآخرين.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ
على سيدنا محمد وآله الحكماء، وصحابته الوجهاء، وكل مَنْ تبعهم على هذا الهدى إلى يوم
الدين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
وضع النبيُّ صلى الله عليه
وسلَّم لنا ضوابط في المُسميات الإسلامية، حتى لا نزِّل ولا نضِّل، ولا نحكم أحكاماً
غير صحيحة، فوضع تعريفاً للمسلم حتى نعلمه جميعاً. مَنْ المُسْلِمُ؟ قال صلى الله عليه
وسلَّم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(4). سَلِمَ المسلمون من لسانه، لا
يكذب ولا يقول زوراً، ولا يسُبُّ ولا يشتم ولا يلعن، ولا يغتب ولا ينم، ولا يفعل أي
عملٍ مذموم بلسانه، لأنه مشمولٌ بقول الله:
﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ
مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ (24الحج).
ويسلم المسلمون من يده، فلا
يسرق ولا يظلم ولا يعين ظالم ولا يقتل ولا يجرح ولا يُصوِّب سهماً أو رمية أو بندقية
أو رصاصة إلى مسلم، لأن الله عزَّ وجلَّ جعل هذا الجُرم أكبر من فناء السماوات والأرض:
(لزوال السماوات السبع والأراضين السبع أعظم عند الله من إراقة دم مسلمٍ بغير حق)(5).
أما المسلم في نظرنا الذي
يقيم الليل ويصوم النهار ويحُج كل عام ويعتمر كل أسبوع أو كل شهر، إذا لم يكن معه فضائل
الأخلاق ماذا قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلَّم، قالوا: يا رسول الله فلانة تقوم
الليل وتصوم النهار، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: (لا خير فيها، هي في النار)(6).
إذن العبادة لا تنفع ولا
ترفع، والإيذاء باللسان،
فما بالكم إذا كان الإيذاء
باليد؟!! إذا كان ترويعٌ للآمنين؟!! إذا كان إهلاكٌ للمسالمين؟!!
إذا كان تيتمٌ لصبيان وفتيات
المؤمنين؟!! إذا كان ترميلٌ للنساء المساكين؟!! أنترك جهاد اليهود ونجاهد في صفوف المسلمين،
وندَّعي أن هذا هو الدين؟!! أيُّ دينٍ هذا؟!!
هل جهاد بيت المقدس أصبح
في مصر؟!! وأصبح الذين يريدون تحرير بيت المقدس لابد وأن يبدأ بمصر أولاً؟!! أيُّ جهاد
هذا الذي يتحدثون عنه؟ وهل يؤيد الدين ذلك؟ ومن قال هذا؟
قال صلى الله عليه وسلَّم:
(إذا كان آخر الزمان كثُر الهرج والكذب، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل،
قالوا: وما أكثر ما نقتل الآن ـ يقصدون القتل لنشر دين الإسلام ـ قال: ليس قتلكم الكفار،
ولكن قتل بعضكم بعضا)(7). وهذا الذي تنبأ به حبيبنا ونراه بأعيننا الآن ممن ينتسبون
إلى الإسلام!!
(المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده)، عبادته بينه وبين مولاه لا نتدخل فيها لأن الله أعلم بالنوايا، وهو
الذي يطلع على القلوب، لكن نتيجة العبادات تظهر في السلوكيات مع المؤمنين والمؤمنات،
فإذا لم تؤدِ إلى النتيجة التي ذكرها النبيُّ فهي عبادة غير مقبولة عند الله عزَّ وجلَّ،
وصاحبها مُغَرَّرٌ به أو مستدرجٌ به، لأنه خالف هدى حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه
وسلَّم.
وسئل النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلَّم كذلك عن المؤمن فقال: (ليس المؤمن بطعَّان ولا لعَّان ولا فاحشٍ ولا بذيء)(8)
لا يخرج من لسانه إلا الطيب،
ولا يخرج من جوارحه إلا كل فعل طيب، ولا يقدِّم لكل من حوله إلاَّ كلَّ طيِّب. ولذلك
دخل الناس في عهد النبيِّ والخلفاء الراشدين ومن بعدهم في دين الله،
لِمَ دخلوا في دين الله؟
أبالسلاح؟ كلاَّ والله، دخلوا عندما أُعجبوا بأخلاق المسلمين، وعندما استصوبوا ما عليه
المؤمنون في معاملاتهم وفي تعاملاتهم وفي أخلاقهم مع المؤمنين وغير المؤمنين.
هذه النظرات النبوية لنا
جماعة المؤمنين، لنحكم بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ونقدِّر الأمور
قدرها، ونحاول أجمعين أن نتجمَّل بأخلاق النبيِّ بيننا وبين بعضنا، بالعفو والصفح والمسامحة،
والمحبة والمودَّة والألفة، والشفقة والعطف والحنان، والتعاون على البِرِّ والتقوى،
والتماسك والمساعدة على فعل الخيرات وعمل الصالحات، إذا كنا كذلك، فإنَّ الله سينظر
إلينا نَظَرَ عطفٍ وحنان، يبدِّل حالنا إلى خير حال..... ثم الدعاء
**********************************************
(1) رواه الترمذي واحمد عن
أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ
يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ:
((نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا
كَيْفَ يَشَاءُ)
(2) رواه الترمذي عن عبد
الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى
البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله
صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال
العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
(3) رواه أبو داود عن عبد
الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قاعدٌ فى بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( وما أردت أن تعطيه؟ ) ،قالت: أعطيه تمرا!!، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة)
(4) البخاري ومسلم وغيرهما
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
(5) رواه ابن حبان عن ابن
عمر رضي الله عنه بلفظ: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حقٍّ).
(6) رواه البخاري في الأدب
المفرد، وابن حبان، واحاكم، وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) رواه أحمد وابن ماجة
عن أبي موسى رضي الله عنه
(8) البخاري في الأدب المفرد
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه