أثر الايمان في القلوب للشيخ بركات سيد احمد محمد
للتحميل PDF اضغط هنا
أحبتي في الله: أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: -وأنا أعلم بنفسي منكم-
ظن بي إخوتي ظناً عظيماً، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن
وأجبتم، فخيرا جزيتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل هجر
، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي
ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل
الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات
الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولاً وآخراً لله الواحد القهار.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني جمَّلت بالتوحيد
نطق لساني
وهديتني سبل السلام تكرماً ودفعتني للحمد
والشكران
وغمرتني بالجود سيلاً غامراً وأنا أقابل
ذاك بالكفران
فلك المحامد والثناء جميعه والشكر من قلبي
ومن وجداني
فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي لا يستطيع
لشكره الثقلان
أنت الكريم وباب جودك لم يزل للبذل تعطي
سائر الأحيان
أنت الحليم بنا وحلمك واسع أنت الحليم على
المسيء الجاني
أنت القوي وأنت قهار الورى لا تعجزنَّك
قوة السلطان
أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة
الخذلان
ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن
أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام
عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة
بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي
وعن طغياني
لبيك يا ربي بكل جوارحي لبيك من روحي وملء
جناني
اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي واقبل مقلَّ
الجهد في التبيان
يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة تسري على البلدان
والأكوانِ
أنت المضاعف للثواب فإن يكن مثقال خردلة
على الميزان
تعطي المزيد من الثواب مضاعفاً من غير تحديد
ولا حسبان
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي
ولساني
أحبتي في الله: الإيمان والحياة، لسائل
أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟
فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة
وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمراً هامشياً في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا،
لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان؛ كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود
الإنسان ومصيره؟!
إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد،
إنه لجنة أبداً لصاحبه، والنار أبداً لمن تنكبه؛ لذا كان لِزَاماً عليَّ وعلى كل مؤمن
بالله، بل وعلى كل ذي عقل: أن يفكر في حقيقة الإيمان وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب،
وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصاً ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين،
حتى إن كثيراً منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم لا فيما يطابق الواقع
أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته: ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [المؤمنون:71].
الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح،
لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميلها تمل، الفرد بلا إيمان إنسان
لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده،
لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟
الفرد -باختصار- بلا إيمان: حيوان شَرِه،
وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل.
والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع
غابة وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه.
المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء وإن
زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء.
المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص،
غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ
الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12]
ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة
للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها.
وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على
إيمانها بالله الذي لا إله إلا هو، فهنيئاً لكم الإيمان، وهنيئاً لكم القرآن، وهنيئاً
لكم التوحيد، وهنيئاً لكم الإسلام، هنيئاً لكم يوم يغدو النصارى إلى بيوت الصلبان،
ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النيران، ويغدو المشركون إلى
بيوت الأوثان، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].
فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت
الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ
لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]
يا أهل الإيمان: ما الإيمان؟
الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي
تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو
إليها تطلعاته: إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون.
إنه ما يتحسس كل مسلم قبسه في قلبه، ويتلمس
وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له، لينير به جوانب روحه.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان،
يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم
من أهل هدايته، ويهيء لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه،
فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا
نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، تقربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛
كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،
ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) متي نكون أهلاً لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد
بالله فنعاذ؟
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما
أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون
عظماً أنت جابره
الإيمان، ما الإيمان؟
شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء
جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأُنس بالله، والطمأنينة بذكر الله: أَلاَ
بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
الإيمان؛ ما الإيمان؟
إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل متجه
إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله: وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
[الإسراء:44] تبارك عز وجل؛ فسبحان من آمن له الكون أجمعه! وسبحان من سبَّح له الكون
أجمعه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه [الإسراء:44].
موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك
-أيها العبد- تُسأل: أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب؟ وهدفك على
هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه؟ وماذا بعد خسارة
النفس من خسران؟!
الله هو الغني ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة،
ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا
يعلم عددهم إلا الله الذي لا إله إلا هو: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ، يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
[الأنبياء:20] وفي صحيح مسلم (إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون
ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة).
كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ
أن خلق الله السماوات والأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة
عموماً؟! ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات؟!
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي صلى الله
عليه وسلم كما في حديث أبي ذر (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء
وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون
ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم
إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رءوسكم التَّراب).
(أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها
موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت،
وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس
والجن يموتون).
خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم سبحانه
وبحمده، وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم
فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره: أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن
يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18] هل جندت نفسك -أخي في الله- لتكون
من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله -أعني: موكب المؤمنين-؟
إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين،
يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله،
يحاسبه على الصغيرة والكبيرة: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7].
إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات،
وخضع مستجيباً لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن
قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه
عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من
معصية الله؛ لعلمه أن الملائكة معه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ [ق:18] ترافقه وتراه ولا يراها، تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة
ولا كبيرة.
والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام
الله، ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به، ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو
اتباع ما جاء في كتبه، والذي جاء القرآن مهيمناً عليها مصدقاً لها.
والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم
وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتخذهم أسوة وقدوة: لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل
رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي.
بالشرق أو بالغرب لست بمقتدي أنا قدوتي
ما عشت شرع محمد
حاشا يثنيني سراب خادع ومعي كتاب الله يسطع
في يدي
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب
الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى، ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفاً من
نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى.
والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف
ما أصابها، ولا ترجو ما سوى ربها، لا تقنع إلا بالله، ولا تلجأ إلا لله، في الدنيا
تزهد، بالموت لا تبالي، لا تركع للطغيان بل تخضع للرحمن، ولسان حالها:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص
لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي
أبرد الطرف
آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس
على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة، حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص
بعض الأفراد، فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة، فاسمعوا أيها الأحباب! وافقهوا وبلغوا
فرب مبلغ أوعى من سامع.
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه
عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته،
والثبات للمصاب عند مصيبته، والثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات،
الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
هاهو صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في
صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ ولا يصده
صادٌ، فوقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش! لقد وقعتم
من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم
أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو والله بشاعر، قلتم: ساحر،
ما هو والله بساحر، قلتم: كاهن، ما هو والله بكاهن.
يا معشر قريش! إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم
فاجتمعوا له. فاجتمع -كبراؤها- صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية ، الممسكون بحُجَز النار
ليقذفوا في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه.
قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلاً منكم هو
أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل أبي الوليد عتبة
بن ربيعة.
فذهب عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان بليغاً، وفصيحاً، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد! أنت خير أم
أبوك؟ فسكت صلى الله عليه وسلم قال: أنت خير أم جدُّك عبد المطلب ؟ فسكت النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: إن كانوا خيراً منك فقد عبدوا ما عبدنا، وإن كنت خيراً منهم فقل.
ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها
إلا المؤمنون: يا محمد! إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من
أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا. يا محمد!
ما رأينا شخصاً -قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور
بعضنا على بعض، يا محمد! أخبرنا ما تريد؟
فقال صلى الله عليه وسلم: {أفرغت يا أبا
الوليد ؟} ويا للأدب منه صلى الله عليه وسلم! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه،
ثم شرع صلى الله عليه وسلم يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل،
شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:1-5] سمع كلاماً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا
بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهاً مبهوراً بما يسمع،
يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن.
حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فخاف وارتعد
وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى صلى الله عليه وسلم،
وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت! أنشدك الله والرحم إلا صمت!
خرج مذعوراً خائفاً راجعاً إلى قومه بغير
الوجه الذي ذهب به من عندهم، فلما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: لقد سمعت
من محمد حديثاً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية -يعني الكعبة-
ما عقلت من حديثه إلا قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ
صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، فوضعت يديَّ على فمه خوفاً أن ينزل بكم العذاب،
ولقد علمتم أن محمداً إذا حدث حديثاً لم يكذب.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] جحدوا بذلك.
هل استقاموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل انتفعوا بالآيات؟
لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-؟ لا والله! بل ناصبوه العداء كأشد ما يكون، وأروه
الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم، ثم لم يجد
له مُعِيناً بعد الله إلا بنيته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها.
ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من مكة ، ودموعه
على وجنتيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {والله! إنك لأحب البقاع إلىَّ، ولولا أن
قومك أخرجوني ما خرجت}. ومع ذلك فقد ثبت صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فنصره الله،
ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد
أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم.
ويأتي صحابته رضوان الله عليهم ومَن بعدهم
ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.
هاهو خالد بن الوليد أبو سليمان رضوان الله
عليه يقارع الروم في أرضهم -كما روى ابن كثير - حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان
منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة قنسرين ؛ مدينة من مدنهم محصنة بالجدران المنيعة
والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم ، فماذا كان من خالد ؟ حاول اقتحامها فما استطاع،
حاول أن يحاصرها حصاراً عاماً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً فما أفلح، استعصت عليه،
فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله
جل وعلا: [[من خالد بن الوليد أبي سليمان إلى قائد الروم في بلدة قنسرين.
أما بعـد:
فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده!
لو صعدتم إلى السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا]] كلمات الثقة بنصر
الله عز وجل، كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله،
وكالبلسم على أولياء الله.
وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت
فرائصه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا
مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء.
ما الذي ثبَّت خالداً إلا الإيمان، ما الذي
ثبت جند الله إلا الإيمان يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية.
ليس هذا فحسب، وليس صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فحسب؛ فها هو ابن تيمية عليه رحمة الله ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان
ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن وما استكان، لسان حاله:
فكيف تخاف من زيد وعمرو وعند الله رزقك
والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل
السجان عليه الباب فيقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي
بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي
شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة،
إنها جنة الإيمان واليقين.
يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد،
دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عُوَّادها
ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضعاً وثمانين
مرة، حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي
مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:54-55] لقي الله فرحمه الله، وجمعنا
به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله.
الثبات للمريض في مرضه:
- يروي ابن حجر في الإصابة أن عمران بن
حصين رضى الله عنه أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة
تصافحه وقت السحر.
- أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء يقول
للنبي صلى الله عليه وسلم: [[أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟]].
فيقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث
المتفق عليه: {والذي نفسي بيده! لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب
ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه} فقال: [[اللهم إني أسألك حمى
لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد]]، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته،
وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتاً بالإيمان، وهكذا يفعل
الإيمان.
ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين، يقول الحافظ
أبو نعيم : لما توفي ذر بن عمر الهمداني ، جاء أبوه فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون،
فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر ، فقال: الحمد لله، والله ما ظُلمنا ولا قُهرنا ولا ذُهب
لنا بحق، وما أُريد غيرنا بما حصل لـذر ، ومالنا على الله من مأثم.
ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين،
ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي باراً،
وكنت لك راحماً، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر ! ما ذهبت
لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني -والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر
! لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت، يا ليت شعري! ماذا قيل لك
وبماذا أجبت؟
ثم يرفع يديه باكياً: اللهم إنك قد وعدتني
الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لـذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم
به مني، اللهم إني قد وهبت لـذر إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم، ثم انصرف
ودموعه تقطر على لحيته.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح
تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر ! قد انصرفنا وتركناك،
ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك.
ما الذي ثَبَّت هذا الرجل إلا الإيمان؟
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند
الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات.
علو في الحياة وفي الممات
من آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة
اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب.
يقول ابن أبي مليكة كما في البخاري :
[[أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه،
ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل]].
{المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله،
يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده}، ما خاف
النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق.
يقول أنس كما في صحيح البخاري : [[إنكم
لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا
برحمته.
من آثار الإيمان: زيادة الأمن في البلدان
من آثار الإيمان على الحياة: زيادة الأمن
في البلدان وعلى الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب، يقول المولى
سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ
الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82] سنَّة الله لا تتخلف: وَعْدَ اللَّهِ لاَ
يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:6].
من آثار الإيمان: نبذ كل ما يفرق الأمة
من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقاً؛ التقوى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
اخوة [الحجرات:10] لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة
واحدة، لا شرق ولا غرب.
يقع في يوم من الأيام بين أبي ذر رضي الله
عنه وبلال رضي الله عنه خصومة، فيغضب أبو ذر وتفلت من لسانه كلمة يقول فيها لـبلال
: يا بن السوداء! فيتأثر بلال ، يوم أكرمه الله بالإسلام ثم يعير بالعصبيات والعنصريات
والألوان، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشكو أبا ذر.
ويستدعي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر
، فيقول -كما في الحديث المتفق على صحته-: {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية}، فيتأثر
أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: [[وددت -والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من
رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ويضع خده على التراب ويقول: [[يا بلال! ضع قدمك على
خدي، لا أرفعه حتى تضعه]] فتذرف عينا بلال رضي الله عنه الدموع، ويقول: [[يغفر الله
لك يا أبا ذر ! يغفر الله لك يا أبا ذر ! والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله
رب العالمين]]، ويعتنقان ويبكيان؛ ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد:
{ إنك امرؤ فيك جاهلية }.
يأتي سهيل بن عمرو ، ويأتي أبو سفيان رضيَ
الله عنهما، إلى أين يأتون؟ يأتون إلى مجلس عمر رضيَ الله عنه وأرضاه الذي لا يدخله
إلا المؤمنون حقاً، فيستأذن أبو سفيان -وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف،
وبإشارة منه أخرى ترعد أنوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم رضى الله عنه
وأرضاه بعد إسلامه.
ويأتي سهيل بن عمرو -وهو سيد من سادات قريش-
ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي بلال الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام
فيؤذن له، ويأتي صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي سلمان الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت
النتيجة؟
كان من أبي سفيان رضى الله عنه أن تأثر
وتذمَّر وتنمَّر، وقال: [[والله! ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر ، ويدخل هؤلاء الموالي
قبلي]] فقال سهيل -وكان لبيباً عاقلاً-: [[والله! ما علينا أن نحبس على باب عمر ، ولكن
-والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلى الإسلام فأسرعوا،
ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر ، إنما علينا أن نحبس على أبواب
الجنة]]، أو كما قال.
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات:13]
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى وعقيدتي نور
الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمر لا ترى جنساً على جنس
يفوق بمحتدي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة ويدق تيجان العنيد
الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه لكن صوت الحق
ليس بمُخْمدِ
ورمى صهيب بكل مال للعدا ولغير ربح عقيدة
لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى
وألف مهند
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية
قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة
كما قال رب العالمين: أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
هاهو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح
من رواية أنس ، وكما في رواية ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ
الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه
فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ سعد بن
عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقل المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أنت؟} يعني: أين موقفك أنت؟ حدِّد
موقفك؟ هل أنت منهم؟
فيقول: {يا رسول الله! ما أنا إلاّ رجل
من قومي، قد أقول ما يقولون } لا يعرفون الخداع، ولا يعرفون الالتواء، إنما هم صرحاء
أتقياء أنقياء.
فقال صلى الله عليه وسلم: {اجمعهم لي} فجمعهم،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم، ألم آتكم ضُلالاً
فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون:
الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني -يا معشر الأنصار!- والله لو
شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً
فآويناك، وعائلاً فواسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم على لعاعة من الدنيا
تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده! لولا الهجرة
لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار،
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. أما ترضون أن يعود الناس
بالشاء والبعير، وتعودون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لما تنقلبون
به خير مما ينقلبون به. ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض}
فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً،
رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم
خير البشر
أرأيت كيف استلَّ صلى الله عليه وسلم ما
في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لما استلَّ ما في قلوبهم رضوان الله عليهم جميعاً.
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما
في الصحيح- بين أصحابه، فيقول: {يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة}، فطلع رجل تقطر
لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم
الثالث فكان هو الرجل، فلحق به أحد صحابة رسول الله، وجلس معه أياماً فلم يرَ في هذا
الرجل كثير صلاة ولا صيام.
فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو إلا ما رأيت،
غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد
أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما
قال-
إنه الإيمان.
الإمام الشافعي عليه رحمة الله عوتب من
قِبَل بعض المغرضين على زيارة الإمام أحمد ، وهو أكبر منه سناً، فقال رداً على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا
تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل
في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول :
دعهم يعضوا على صمِّ الحصا كمداً من مات
من غيضه منهم له كفن
إنه الإيمان وكفى!
ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة
وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث
الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب
الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
إن المؤمن -يا أيها الأحبة- يقدِّم مراد
الله على شهواته وعلى لذائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده، ففي الأثر أن
الله عز وجل قال: {وعزتي وجلالي! ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على
شهوات نفسه وهواها- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى
بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي
يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه الربيع بن خثيم ، يتمالئ عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية
جميلة، ويدفعون لها مبلغاً من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة
واحدة من الربيع بن خيثم ، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان.
فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة،
وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله! كيف
بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف
بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟!
فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة
زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة.
وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها
علينا الربيع .
فما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟
هل هي قلة الشهوة؟ إنها الشهوة العظيمة، إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها -سن الثلاثين-
ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله الذي لا إله
إلا هو.
الإيمان -يا أيها الأحبة- كالجمرة، متى
ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة.
وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في
الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.
هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق
سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب في تلك الساعة،
وكان نائماً لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلاناً، قالت: إنه نائم
لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، فألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت
وأخرجت هذا الشاب من فراشه.
فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء:
نريد الليلة -أن ننتهك حرمة البيت الفلاني- أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة
-كما يقول- فما كان من هذا -وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ
أن دخل وأخذ المسدس، وخرج في نصف الليل -وكان نائماً- مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية
-لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل- برجليهما، ويذهبان إلى الفاحشة.
ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي
هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك
حارساً بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصا غليظة، ويأتي وراء هذا
الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس -والذي كان نائماً في نومته-
فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل.
يا لله! ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل
تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضاً- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟
يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم
الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون
للبحث عن الثاني.
وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب
الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائماً معهم في القرية
الفلانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي: أن اخرج لتقتل،
وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع: {لا يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد: الولاء
الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة،
ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون:
لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
ومن آثار الإيمان على حياة الناس: أنه يُكسب
العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق،
ولا يطأطئ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمناً أعرابياً مثل ربعي
بن عامر حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في
سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم وما الذي جاء
بكم؟
زعق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة
خلدها التاريخ فقال: [[نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة
رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]]. عزة
وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان.
ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله،
وتفويض الأمور إلى الله جل وعلا، والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد
العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة
قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله جل وعلا وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان
حالهم ومقالهم: قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى
اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [التوبة:51-52].
هاهو خالد بن الوليد المؤمن الحق بإذن الله
يُقَدَّم له في يوم من الأيام سم من قِبَل طاغية من الطغاة، ويقول له هذا الكافر: إن
كنتم صادقين في التوكل على الله جل وعلا واللجوء إليه، والثقة به، فاشرب هذه القارورة
من السم.
فما كان من خالد رضي الله عنه إلا أن أخذها
وقال: [[باسم الله، توكلت على الله، ثقة بالله سبحانه وتعالى]] ثم شربه، فلم يصبه إلا
العافية: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] نعم أجر العاملين:
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:42].
ومن آثار الإيمان: انشراح الصدر، وطمأنينة
القلب: أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ
فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ [الزمر:22]، المؤمن منشرح الصدر،
مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً،
فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره.
هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره
للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت
البقاء في هذه الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم،
والله إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة
في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم.
تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان
فانشرحت صدورهم.
والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء
الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه كانت حياته
ضنكاً، وكان صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله: وَمَنْ أَعْرَضَ
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى
[طه:124].
ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة
سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من
الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان.
ومن آثار الإيمان: حفظ الجوارح، وتذليلها
لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله.
حفظ القلب من الشهوات والشبهات، وحفظ اللسان
من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد، وحفظ السمع إلا من كتاب الله،
وذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله، وحفظ البصر من إطلاقه
فيما حرَّم الله؛ ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله، وحفظ البطن فلا يدخله
إلا ما أحله الله، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله
خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
ومن آثاره على الحياة: آثاره في تلك اللحظة
الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصيبة المريرة التي لا يثبت فيها
إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات
حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على
فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورءوسها؛ من شدة ما يلاقي من السكرات.
اللحظة التي صورها من عاناها بأبي هو وأمي
صلى الله عليه وسلم يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: {لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات}،
لحظة عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاناها صحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ووصفها أحدهم وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فقال وهو في اللحظات الأولى
من لحظات السكرات، ولا زال لسانه لم يعتقل، ولا زال جسمه لم يخدر: [[والله لكأن على
كتفي جبل رضوى ، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء
أطبقت على الأرض وأنا بينهما]].
في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر
الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله
إلاّ الله دخل الجنة}.
في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك
اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء وتعب، وآخر نَصَب ووصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم
الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا
وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31].
هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله
في سكرات الموت يقول: مرحباً بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا،
وإذا به يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً
فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ليلقى الله عز
وجل على ذلك.
وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغاً فيقولون
له: قل: لا إله إلا الله -وهو من الصالحين ولا يزكى على الله- فكان يقول: يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:6-27]
ليلقى الله على تلك الحال: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ
اللهُ مَا يشاء [إبراهيم:27].
ومؤذن لطالما رفع الأذان من على المنائر
كل يوم خمس مرات يختمها بلا إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة
من حياته يغمى عليه إغماءة مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاء وقت الصلاة
قام وأذن حتى يقول: لا إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، وفي مرة من المرات، يفيق
من إغمائه ويقول: يا بني -وابنه معه- أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر،
الله أكبر ... حتى ختمها بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال: يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ
[إبراهيم:27].
وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في
تلك اللحظات، الذين لم ينضبط سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم،
ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا بها حياتهم، فيا لها من سوء خاتمة!
هاهو شاب في سكرات الموت، يقولون له: قل:
لا إله إلا الله -ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخاناً، فيقولون: قل:
لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخاناً، أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا الله
عله أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخاناً، ليلقى الله على تلك الحال،
نسأل الله حسن الخاتمة.