الطموح نحو الرقي من أهم سمات الشخصية المعاصرة للشيخ السيد أبو أحمد
الحمد لله رب العالمين …رفع من همم المؤمنين ،وأعلي من قدرهم ، وعز من شانهم فقال تعالي }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23){الأحزاب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … مدح همة المؤمنين ، وذم همة السافلين فقال تعالي }مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً(18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً(20){ الإسراء
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ..علَّم أمتَه علوَّ الهِمَّة، فقال: «إن في الجنةِ مائة درجة، أعدَّها الله للمُجاهِدين في سبيلِه، كل درجتين ما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوس؛ فإنه أوسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة»؛ أخرجه البخاري.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما : بعـــــــــد … فيا أيها المؤمنون ..
إن الإنسانَ الصالحَ لعمارة الأرض ووراثتِها ليس هو الذكيَّ فحسب؛ بل أن يكون ذا قلبٍ سليمٍ، وضميرٍ حيٍّ، وتقوَى تكبحُ جماحَ الهوى والنَّزَوات، يُغذِّي ذلك نورُ التوحيد والعبادات، والعالَمُ كلُّه بحاجةٍ إلى أصحاب الهمم العالية ، والعزائم الصادقة، والطوح الوثاب من أجل النهوض به، حتي ننعم في ظلال نور الإسلام.
لذلك كان موضوعنا (الطموح نحو الرقي من أهم سمات الشخصية المعاصرة) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …..
1ـ تعريف الطموح .
2ـ الفرق بين الطموح والطمع والقناعة .
3ـ الفرق بين الطموح وعلو الهمة .
4ـ الرجل الطموح صفات ومواصفات .
5ـ حاجة الأمة إلي الرجل الطموح .
6ـ من صور الطموح.
7ـ أسباب ضياع الطموح عند الشباب خاصة .
8ـ كيفية إيجاد إنسان طموح.9ـ الخاتمة .
العنصر الأول : تعريف الطموح :ـ
الطموح في اللغة:
مصدر قولهم: طَمَحَ يَطْمَحُ وهو مأخوذ من مادة (ط م ح) التي تدل على علوّ في الشيء، يقال طَمَحَ ببصره إلى الشيء: عَلاَ، ويقال: أطمح فلان بصره أي رفعه، ورجل طمّاح: بعيد الطرف.
الطموح اصطلاحًا:
هو أن ينزع الإنسان إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أسمى وأنفع، وكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها ولا يكون ذلك محمودًا إلا إذا وافق الشرع الحنيف، وقال الشيخ الخضر الحسين رحمه الله: “ومما جُبِل عليه الحرّ الكريم ألا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيءٍ مما انبسط له أملاً فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة”.
العنصر الثاني : الفرق بين الطموح والطمع والقناعة :ـ
عندما ينحرف الطموح عن الأهداف الإلهية ويتجاوز حدوده الطبيعية فإنه ينتقل من قائمة الفضائل ليصبح مرضا يؤذي أصحابه، وإذا تحول الى طمع، فانه يستبيح في طريقه ما لاتبيحه الأخلاق والمبادئ والسلوك الإنساني المستقيم.
فإذا أردنا ان لا نقع في انحراف الطموح علينا ألا نخلط بين الطموح والطمع..
فالطموح النبيل :ـ هو قوة محركة للاجتهاد من أجل الوصول إلى أهداف سامية،
أما الطمع :ـ فإنه شعور ينطوي على التدمير والهدم والوصول الى الأهداف عبر الطرق الملتوية والايادي الملوثة والضمائر غير مستقيمة، عندها تصبح الغاية تبرر الوسيلة.
– فالطمع يدفع الإنسان دائمًا إلى النظر إلى ما يملكه الغير وينحصر تفكيره في أخذ ما لا يحق له أخذه، في حين أن الطموح يرتقي بالإنسان لأنه يحث باستمرار على التفوق والمضي في سبيل النجاح دون النظر إلى الآخرين ومقارنة النفس بهم.
– الطمع منبعه الحسد والأنانية والرغبة الدنيئة في امتلاك حق الغير دون الالتفات إلى المعاني الإنسانيَّة التي تربط البشر
بعضهم البعض، ومن هنا تظهر النقطة الرديفة بين مفهومي القناعة والطموح.
ولذلك نجد ان الدين الحنيف يدعو إلى صلاح العمل اكثر مما يدعو للعمل ذاته، لتوجيهه في وجهة التعاون الإيجابي البنّاء، كما في سورة العصر، حيث يقول سبحانه وتعالى: “وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”.
أما القناعة والطموح مفهومان مترادفان وفي نفس الوقت متناقضان.
فالقناعة تحكمها المحدودية في النظر فقط إلى ما يملكه الإنسان بين يديه، في حين يدفعنا الطموح إلى التطلُّع دائمًا إلى ما لا نملكه ولكن دون طمع فيما بين أيدي الناس.
– فالقناعة هي نقطة البداية لأية طموح وليست عائقًا لتحقيقه إلا إذا كانت قناعة زائفة، فالطموح يبدأ من الإيمان بالذات والقناعة بإمكانياتها، واليقين بالوصول إلى ما يرغب والرضا بما يصل إليه بعد أخذ بالأسباب وتوكل على الله هذا إن كان المعنى الترادف أما إن كان التناقض:
فعندها تجد القناعة الزائفة التي تظهر عند العجز عن الوصول للمبتغى في الحياة فنركن إلى ما نحن فيه إما لضعف أو هزيمة نفسية أو حيل نفسية نحتال بها على عقولنا، حتى لا نتحرك فتزيف إرادتنا ونقبل بالدون من الأمور والكسل عن تحقيق معاليها ونقول بأننا قانعون راضون بما نحن فيه، فالقناعة حتماً تتعارض مع الطموح لا تكون قناعة بل رضوخًا ومهانة، القناعة عِزّةٌ للمؤمن وطمأنينة له ورضا بقدر الله وفضله عليه وليست تواكلاً أو كسلاً عن العمل لما يريد ويرغب.
العنصر الثالث : الفرق بين الطموح وعلو الهمة :ـ
الفارق بين الطموح وعلو الهمة، فكلاهما يشتركان في الهدف والغاية أي طلب المعالي ولكنهما يختلفان في الوسيلة والباعث، إذ الباعث في علو الهمة قد يكون الأنفة من خمول الضعة أو الاستنكار لمهانة النقص، أما الباعث على الطموح فهو نزوع النفس دائماً نحو الأعلى والأرقى، ومن حيث الوسيلة نجد أن الطموح قد يجنح بصاحبه إلى الغلو والإسراف على النفس أو الغير، أما علو الهمة فلا يسلك صاحبها إلا الدروب الشريفة التي تتفق مع مبادئ الشرْع الحنيف.
العنصر الرابع : الرجل الطَموح.. صفاتٌ ومواصفات :ــ
الرجل الطموح هو الذي يملك صفات الطامحين نحو المستقبل، وهذه الصفات تكاد تبرز من عينيه وتنطلق من لسانه وشفتيه وتتحرك بها قدماه وساعداه، يعرف طريقه حق المعرفة، ولأنه يعرف وعورة وقسوة الطريق تجد معه كل ما يحتاج إليه في المسير، فهو يملك هذه الأشياء ………
1ـ الرغبة في الازدياد المستمرّ، وعدم الاكتفاء بما نحن فيه. تجده لا يرضى بالعمل أو بمستواه الراهن بل يعمل دائمًا على النهوض به.
كما قال المتني:
إذا غامرت في شرف مروم — فلا تـقـنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير — كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز أمن — وتلك خـديعة الطـبع اللئيم
2ـ يملك الأهداف التي يضعها الفرد لنفسه في عمل من الأعمال التي لها قيمة ودلالة ومعنى بالنسبة له. بل يتحمل الصعاب للوصول إلى أهدافه.
3ـ التطلع الدائم للأحسن والأفضل لتحقيق الغرض والنجاح المنشود أو الهدف الذي يضعه الشخص أمامه في مجال من المجالات بما له من قيمة ونفع بالنسبة له وبالنسبة للآخرين، فيسعى الشخص الطموح بالوسائل المشروعة والعوامل المساعدة على تحقيق هذا الهدف وهذا الغرض.
4ـ النفس التواقة كما يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ( إن لي نفساً تواقة … وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه … فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا – يعني الخلافة – تاقت نفسي إلى ما هو أفضل من الدنيا كلها … الجنة).
وكما قال شوقي:
وما نـيـل المطالب بالتمني — ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً
وما استعصى على قوم منالٌ — إذ الإقدام كان لهم ركاباً
لا يعتقد بأن مستقبله محدد لا يمكن تغييره كما قال الشاعر محمد إقبال: “المؤمن الضعيف يتعلل بالقضاء والقدر، والمؤمن القوي هو قضاء الله وقدره في الأرض”.
5ـ التطلع إلي معالي الأمور: أن تتطلَّع النفس إلى ما هو أكمل وأحسن وأسمى وهذا رسول الله يدل الأمَّة دائمًا على أن تطلب المعالي وتتنزه عن الدنايا فيقول: «إن الله تعالى يُحبُّ معالي الأمور وأشرافها ويكرَهُ سفسافها» (صححه الألباني). فمعالي الأمور وعرة المسالك محفوفة بالمكاره، ولهذا قال معاوية لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: “من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته”.
وكان عمرو بن العاص يقول: “عليكم بكل أمر مَزْلَقه مهلكة”، أي عليكم بجِسام الأمور وعظيمها، وهذا ما يفعله الرجل الطّمُوح.
يحكي أنه لما فرّ عبد الرحمن الداخل صقر قريش من العباسيين عرض عليه أهل المغرب أن يقيم عندهم ويحمونه فقال: “إن لي همة هي أعلى من ذلك” وتوجه تلقاء الأندلس ثم أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها، وقال: ” إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن” … وردها على صاحبها.
6ـ النفس القوية :ـ إن الرجل الطموح إن لم يبذلْ جهده للوصول إلى غايته فهي مجرد أمانٍ لكن الطّمُوحَ حقًا هو الذي يسعى لنيل ما يريد بل ويُتعب نفسه في هذا كما قيل:
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
و كما قيل:
لا يدركُ المجدَ من لا يركب الخطرا *** ولا ينال العُلا من قدَّم الحذرا
ومن أراد العلا صفوًا بلا كدرٍ *** قضى ولم يقضِ من إدراكه وطرا
وأحزم الناس من لو مات من ظمأٍ *** لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا .
وهذا جعفر بن أبي طالب يقول في غزوة مؤتة حين اقتحم على فرسٍ له شقراء- ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قُتِل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها
الروم روم قدرنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
على إذ لاقيتها ضرابها *** طمح للجنة فنالها
7ـ المثابرة والدأب :ـ
لديه وقود دائم يساعده على المثابرة والجد والسعي وبذل الجهد.
فالعمل المتصل بجدّ وتعب نراه على أكمل وجه في تبليغ رسول الله (ﷺ) لهذه الدعوة في السر والعلن، والعسر واليسر بلا كَلَلٍ ولا مَلَل.. ولما أراد قومه أن يثنوه بالترغيب والترهيب... قال كلمة أولى العزئم الماضية، والهمم العالية: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
وظل صحابته- رضوان الله عليهم- ما ضين على درب الحق في دأب ومثابرة وجدّ، فتركوا الأوطان والديار والأهل والولد والمال، وجاهدوا بالنفس والمال، وواجهوا مكائد المشركين والمنافقين واليهود والفرس والروم، وركبوا الصعاب وخاضوا المعامع، حتى مكَّن الله بهم لهذا الدين، فخفقت راياته في كل الأرجاء وعزَّ سلطانه، وعمَّ نفوذه ممالِكَ ذلك الزمان.
والمثابرة في طلب العلم ، يقول بعض السلف : اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ الطفولة إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر - وسنه كبيرة فيُقال : لا تزال تحمل المحبرة ؟ فيقول : مع المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم.
وقيل لابن المبارك : إلي متي تطلب العلم قال حتي الممات إن شاء الله .
وقد روي في الأثر " إذا أتي علي يوم لم أزد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم " ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا .. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم.
وروي عن العالم البيروني يتعلم مسألة في الفرائض وهو في مرض موته !.
8ـ تسخير الإمكانات (من نفس ومال، وولد وأهل.. وكل ما يملك المرء) :ـ
نجده بارزًا في سيرة خير القرون، فإن حياتهم كلها كانت جهادًا وتضحية في سبيل نصرة هذا الدين.
فهذا الصديق- رضي الله عنه- يأتي بماله كلِّه، ويقول: تركت لهم الله ورسوله (ﷺ)، وهذا عثمان- رضي الله عنه- يجهِّز جيشًا كاملاً في غزوة العسرة (تبوك).
وهذه المرأة الصالحة التي لم تجد ما تقدمه لنصرة دينها، فتدفع بصبيها الصغير إلى ساحة القتال وتعطيه سيفًا، وتقول له: ادفع به الأذى عن رسول الله (ﷺ) فلا يقوى على حمله فتربطه في ساعده ثم تقف تراقبه، وقد امتلأت فخرًا فإذا به يتلقَّى إصابةً تتفجر على أثرها دماؤه، فينظر إليها رسول الله (ﷺ) قائلاً لعلَّكِ جزعت فترد: لا والله يا رسول الله، كلُّ مصيبةٍ دونَك جَلَل (أي تهون) .
9ـ مغالبة الأعذار والعراقيل :ـ
ومن أكبر المظاهر وأصدقها مغالبة الصعوبات والأعذار، فالمسلم الجاد لا يستسلم أمام المشقات، ولا يضعف أمام العقبات، بل يغالبها، ويبحث دائمًا عن مخارج، ويضاعف الجهد، ويحرص على المشاركة حتى آخر لحظة بأقصى ما يملك.
نراها في الأخذ بالعزائم، والحرص على أداء الواجب والمشاركة فيه مهما كانت الظروف.
فهذا عمرو بن الجموح- رضي الله عنه- يريد أن يخرج للجهاد، فيمنعه أبناؤه، لأنه أعرج قيصر.. فيخبره رسول الله (ﷺ) بالرخصة، فيقول الصحابي: لعلي أطأ بعرجتي هذه الجنة، وقد كان.
وهؤلاء أصحاب رسول الله (ﷺ) يستجيبون لندائه (ﷺ) غداة يوم أُحد بالخروج إلى حمراء الأسد، فيلبُّون النداء على ما بهم من جراحات شديدة.. حتى كان يحمل الأقل جرحًا أخاه الأشد جرحًا، بعد فقد الظهر الذي كان يحمله.
وهذا الكهل الذي التحق بكتائب الجهاد وقد تدلَّى حاجباه وانحنَى صلبه، فقال له شاب: يا عمَّاه، قد وضع الله عنك وعن أضرابك الجهاد فردَّ الرجل باكيًا: يا بنيَّ، لم أجد اللهُ أعفَى أحدًا حين قال }انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً (41){ (التوبة)
فالمسلم الجاد لا تقعده الدنيا بزخارفها الفانية، ولا يلجأ إلى الأعذار التافهة؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.
تجده دائمًا يقول: سأتخطَّى الحدود، سأُحطِّم كل الحواجز سأَقهر الرهبة وسأَكسر القيود والأغلال وسأكون خارج العادة.
● لا يجزع إن لم تظهر النتائج المرجوَّة سريعًا.
العنصر الخامس : حاجة الأمة إلي الرجل الطموح :ـ
تحتاج الأمم جميعها إلى أصحاب الهمم والطموح، فهم صناع الحياة وقيادات المستقبل في أي أمة من الأمم في القديم والحديث .. وحتى في موازين الله تعالى في الدنيا والآخرة، فضَّل الله أصحاب الهمم العالية والطموح والمثابرة على غيرهم .. وإن كانوا مسلمين من أصحاب الحسنى … قال تعالى:} لاَيَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (59){ (النساء).
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقف أمام العرب كلهم، وأصر على قتال المرتدين، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنـه تعجب من موقـف أبي بكر، وطلب منه أن يتريث، فقال أبو بكر: “والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة” فقالوا له: ومع من تقاتلهم؟ .. فقال: ” وحدي حتى تنفرد سالفتي”.
وهذا نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله صنع منبر المسجد الأقصى، وذلك قبل تحرير القدس بعشرين عاماً، حيث كان له مطلب سام، وهمة عالية تمثلت في تحرير المسجد الأقصى من قبضة النصارى، برغم أن الأمة الإسلامية كانت مفككة آنذاك والخلافات شديدة بين قيادات المسلمين ..
هيأ القوة اللازمة للتحرير، وبنى مصانع للسلاح ، ووحد أقطار المسلمين من شمال أفريقيا إلى مصر واليمن وبلاد الشام وشمال العراق ، وجعل الناس يعيشون مرحلة التحرير وكأنها أمامهم ، وما بناء المنبر إلا نوعاً من هذه التهيئة ، وعندما توفي نور الدين جاء تلميذه من بعده صلاح الدين الأيوبي فأتم التحرير، ووضع منبر نور الدين في مكانه في المسجد الأقصى
العنصر السادس : من صور الطموح :ـ
1ـ الطموح في طلب العلم :ـ
طلب العلم فرض علي كل مسلم ومسلم ولكن تحصيله يحتاج إلي طموح وهمة عالية ، فكان سعيد بن المسيّب يسير اللّيالي في طلب الحديث الواحد، ورحل أبو أيّوب الأنصاريّ من المدينة إلى عقبة بن عامر وهو في مصر ليروي عنه حديثا، فقدم مصر ونزل عن راحلته ولم يحلّ رحلها، فسمع منه الحديث وركب راحلته وقفل إلى المدينة راجعا، ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب أو الأندلس إلّا برجال رحلوا إلى الشّرق ولاقوا في رحلاتهم عناء ونصبا، مثل أسد بن الفرات وأبي الوليد الباجيّ وأبي بكر بن العربيّ.
وهذا الإمام البخاري :ـ صبي فَقَد بصره في الخامسة من عمره، فظلت أمه تدعو الله أن يرد إليه بصره، ليس ليكون كبقية الصبيان والأطفال، وإنما ليكون عالمًا متعلمًا، فشاء الله وقدر واستجاب لدعوات أمه، فصار شيخًا للمحدثين في تاريخ الإسلام العظيم. وهو جبل الحفظ وإمام وقته أمير أهل الحديث، الذي لم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث، وفاق تلامذته وشيوخه على السواء، هو الإمام البخاري، صاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم، والذي صنفه في ست عشرة سنة، وجعله حجة فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يكاد يستغني أحد عنه، لقد كان رحمه الله يحفظ أكثر من مائة ألف حديث، دوّن منها في صحيحه سبعة آلاف فقط، وكان ذا منهج متميز في تخيُّر أحاديثه وقبولها. في أواخر القرن الثاني الهجري في مشرق العالم في نيسابور جلس محمد بن إسماعيل البخاري وعمره 17سنة بين يدي أستاذه إسحاق بن راهويه حاول الأستاذ أن يحدث تلامذته عن احتياجات الأمة فقال “والله لو أن واحدا منكم يجمع صحيح السنة في كتاب لانتفع به الناس أيما انتفاع . يقول البخاري فوقعت في نفس هذه المهمة وأقسمت أن أكون هذا الرجل فقعدت في بيتي ونمت ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو جالس على منبره الشريف ويأتيه بعض الذباب فأذهب وأهش الذباب عنه فأقمت من نومي وحكيت الرؤيا لأستاذي فأولها أنى أذب كذب الحديث عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،فبدأت أجمع حديث النبي صلي الله عليه وسلم في كتاب (والبخاري ما كتب حديثا إلا اغتسل وصلى ركعتين. وكانت له تجارة ينفق من ريعها في هذه المهمة من ماله) .
2ـ طموحٌ إلى قيادة البشرية
كان كافور الإخشيدي وصاحبه عبدين أسودين ، فجيء بهما إلى قطائع بن طولون أمير الديار المصرية وقتها ليباعا في أسواق العبيد ، جلس كافور وصاحبه يتحدثان ، وبدأ كل منهما يسأل الآخر عن أمنيته وطموحه ..
قال صاحبه: أتمنى أن أباع لطباخ ، لآكل ما أشاء وأشبع بعد جوع.
وقال كافور: أما أنا ، فأتمنى أن أملك مصر كلها لأحكم وأنهى وآمر فأطاع.
وبعد أيام بيع صاحبه لطباخ وبيع كافور لأحد قادة مصر ، وما هي إلا أشهر حتى رأى القائد المصري من كافور كفاءة وقوة فقربه منه ولما مات مولى كافور قام هو مقامه واشتهر بذكائه وكمال فطنته حتى صار رأس القواد وما زال يجد ويجتهد حتى ملك مصر والشام والحرمين.
بعدها مر كافور يوماً بصاحبه فرآه عند الطباخ يعمل في جد وقد بدا بحالة سيئة التفت كافور إلى أتباعه وقال: ” لقد قعدت بهذا همته فكان ما ترون وطارت بي همتي فصرت كما ترون ولو جمعتني وإياه همة واحدة لجمعنا مصير واحد”
وهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله القائد العظيم يسيطر عليه همّ الأقصى الأسير، فلا يمزح ولا يضحك ويقول: ” إنى لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبين” فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه.
3ـ الطموح إلى دخول الجنة
ومن أعظم الطموح : الطموح نحو الجنة ، ويبرز ذلك جلياً في قصة عكاشة بن محصن رضي الله عنه – فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:(يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) رواه البخاري ومسلم.
فعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال (كنت أخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حاجة، فما أزال أسمعه يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أملُّ، فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد، قال: فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له، وخدمتي إياه: سلني يا ربيعة أعطك؟ قال: فقلت أنظر في أمري يا رسول الله، ثم أعلمك ذلك!! قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، قال: فقلت أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لآخرتي، فإنه من الله – عز وجل – بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال: فقال من أمرك بهذا يا ربيعة؟ قال: فقلت لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به؛ نظرت في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لآخرتي، قال: فصمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طويلاً ثم قال لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود))
همة عالية وطموح كبير تطير بصاحبها إلى الجنة.
ويتقدم حنظلة، ويقتل وهو جنب، ويغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن.
أملاك ربى بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه شهد بدر فأبلى فيها من كريم البلاء ما يليق بإيمانه.
ثم جاءت أحد فكان لعبد الله بن جحش وصاحبه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما معها قصة لا تنسى ..
ويروي سعد رضي الله عنه قصته وقصة صاحبه قائلا :
( لما كانت أحد لقيني عبد الله بن جحش وقال : ألا تدعو الله ؟ فقلت : بلى . فخلونا في ناحية فدعوت فقلت :
يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلا شديدا بأسه ، شديدا حرده أقاتله ويقاتلني ، ثم ارزقني الظفرعليه حتى اقتله وآخذ سلبه ،
فأمن عبد الله بن جحش رضي الله عنه على دعائي ، ثم قال : اللهم ارزقني رجلا شديدا حرده شديدا باسه أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك .. قلت : فيم جدع أنفك وأذنك ؟ فأقول : فيك وفي رسولك
فتقول : صدقت …
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : لقد كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي ، فلقد رايته
آخر النهار، وقد قتل ومثل به ، وإن أنفه وأذنه لمعلقان على شجرة بخيط )
واستجاب الله دعوة عبد الله بن جحش رضي الله عنه ، فأكرمه بالشهادة رضي الله عنه وأرضاه .
العنصرالسابع : أسباب ضياع الطموح عند الشباب خاصة :ـ
صحيح ان الانسان مفطور على العمل والنشاط، وان هناك وقودا يحرك هذا الانسان في هذا الاتجاه وينقله من نجاح الى نجاح وهو الطموح، ولكن ماذا لو ضاع هذا الطموح؟ فالنتيجة واضحة هي فقدان النجاحات واللجوء الى الكسل والقبول بسفاسف الامور.. أليس كذلك؟!
ولعل السؤال الذي يدور الآن هو كيف يفقد الانسان الطموح؟
هنالك مشكلة مهمة يعاني منها البشر وهي وجود الأغلال الكثيرة أمام العمل الايجابي والحركة الهادفة، وهذه الأغلال تؤدي بطبيعة الحال الى فقدان الطموح، فان الاغلال الاجتماعية والتي تتحول إلى أغلال نفسية وفكرية تجمّد الانسان وتعرقل حركته.
قال تعالي: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} الأعراف.
وتأخذ هذه الأغلال أشكال عدة ولكن نتيجتها واحدة وهي فقدان الطموح؛ وعندما نتأمل الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة نجد كثيراً من الآيات والنصوص تسعى من أجل تحطيم الاغلال بأشكالها كافة، ومنها:
1- الخشية من السلطة أو أصحاب القوة التي تؤدي إلى سيطرة الدكتاتورية:ـ
ولذلك يقول القرآن مخاطباً المؤمنين في سورة المائدة: “فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ”، وهكذا فهو يهدف إلى إزالة خشية العباد التي تقيد البشر وتكبله، والإبقاء على خشية الخالق التي تدفعه في طريق الجد والعمل.
2- الخوف من الأخطار المستقبلية والحزن على الخسائر الماضية:ـ
وهذا مما يحطم معنويات الإنسان، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنها: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14){ الأحقاف.
ويقول تعالى }لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23){ الحديد
3- التأثر بالإعلام المضلل والافكار الخاطئة التي يقول القرآن عنها:
قال تعالي }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6){ الحجرات.
فبدل أن نقرأ للماديين والغربيين ، دعنا نقرأ كتب وصحف علماء الإسلام المجاهدين الذين ينقلون لنا الثقافة الإسلامية من معينها الصافي.
4- الاستحياء من الحق:ـ
والاستحياء الذي هو غل اجتماعي ثقيل يكبل طاقات الافراد، ويمنعهم من أداء كثير من الاعمال الضرورية أو المفيدة.
فعندما يريد شخص أن يقوم بعمل بنّاء، فانه يحسب الف حساب لكلام الناس عنه ونظراتهم اليه، فاذا ما أحس أنهم
سيسخرون منه. وإن كان عن جهل منهم، فإنه يُحجم عن العمل.
5- اليأس والقنوط:ـ
فعندما يرتكب الإنسان ذنوبا كبيرة وكثيرة في حق الله والناس، أو عندما تكون الظروف صعبة ومعاكسة، والضغوط شديدة فإن قنوطه من رحمة الله، ويأسه من انفراج الامور وتحسّن الأحوال يدفعانه إلى التقاعس والقعود عن العمل، ولكن القرآن يرفع هذه العقبات ويفتح طريق العمل من جديد بالأمل فيقول: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53){ (الزُّمر ).
وهكذا نرى إن الإسلام لا يقول للناس: إعملوا فقط. بل ويقوم برفع الموانع والعقبات من طريقهم ويفك عنهم الأغلال، فتتحرك طبيعتهم البشرية المحبة للعمل والنشاط، وإذا بهم يندفعون إندفاعاً شديداً.
العنصر الثامن : كيفية إيجاد إنسان طموح:ـ
1ـ التربية الصالحة الواعية الشاملة …
تعويِده الابتعاد عن سفاسف الأمور والانشغال بمعالي الأمور: لأصحاب الطموحات الراقية والهمم العالية لا ينغمسون في الأمور التافهة فتشغلهم عن معاليها .. عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سفسافها” (صحيح الجامع الصغير).
فالحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة لم يجد الباطل بقية يستمد منها … يقول الإمام الشافعي في بعض حكمه: ” إذا لم تشغل نفسك بالحق … شغلتك بالباطل “.
ـ وتربيته علي الجدية وعدم الانشغال بتوافه الأمور.
ـ تدريبه على الاستغناء عن الكماليات في حياته .
ـ ربط الشاب بالأجر والثواب في كل عمل …
2ـ الـصحبة الـصالحة ومعرفة سيرة الصالحين من أصحاب الطموح: فلا يمكن أن ننمي الطموح إلا في وسط بيئة صالحة .
3ـ زرع الأمل والنظرة المستقبلية للشاب :ـ
وهذا الإمام أبو حنيفة كان ينظر لمن في حلقته على أنهم علماء المستقبل .أحد تلامذته وهو “القاضي أبو يوسف” يحكى عن طفولته وعن نظرة أبي حنيفة المستقبلية فيقول ” توفى أبى إبراهيم وخلفني يتيما في حجر أمي ، فأسلمتني إلي قصار( ذهبت به إلي خياط ليتعلم مهنة وحرفة ) ولكني كنت أحب العلم فكنت أهرب من عند القصار وأذهب إلى مجلس الإمام أبى حنيفة وكانت أمي تأتيني وتأمرني أن أذهب من درس العلم إلى القصار ( خائفة على مستقبله ) لكنها نظرة غير مستقبلية .
فلما كثر هذا علي أمي قالت لأبي حنيفة يوما : إن فساد هذا الغلام سيأتي علي يديك , لقد تركه أبوه يتيما وأسلمته إلي القصار يعلمه مهنة حتى يكسب منها دانقا أو دانقين (سدس درهم ). فقال لها أبو حنيفة مري يا رعناء إن ابنك بين يدي يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق ( نوع من الحلويات لا يصنع إلا للأمراء والخلفاء ) فقالت والله ما أرى إلا أنك شيخ قد كبر سنك . ويشاء الله أن تتحقق نظرة أبو حنيفة ويتولي القضاء لثلاثة من الخلفاء .علمه مجاهدة النفس .. ومحاسبتها: لا تكتسب الهمة العالية إلا بمجاهدة النفس ومخالفتها …
4ـ تحميلة المسئولية من أول يوم يعقل :ـ
ـ أشعره بحاجة الأمة إلي بذله وجهده منذ نعومة أظفاره ، وهذا ما حدث مع الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه :لما ذهب إلي النبي صلي الله عليه وسلم في غزوة بدر فقال له لا زلت صغيرا يابني فذهب إلي أمه حزينا باكيا فقالت له أمه تستطيع أن تخدم الإسلام من طريق آخر أنت تكتب وتقرأ وتحفظ كثيرا من سور القرآن فذهبت به إلي النبي وقالت يا رسول الله إن زيد ولدي يقرأ ويكتب ويحفظ كثيرا من سور القرآن فاستعمله لخدمة الإسلام وكان عمره وقتها 11سنة فاختبره النبي صلي الله عليه وسلم فقرأ له من سورة (ق) فأعجب به النبي صلي الله عليه وسلم واكتشف أنه متميز في هذه المسألة اللغوية فبدأ يحدثه عن احتياجات الأمة قائلا: يا غلام تأتيني كتب من يهود لا آمن عليها أحدا فتعلم لي كتاب يهود يقول زيد فذهبت فتعلمت العبرية في خمسة عشر يوما فكنت أكتب بها للنبي صلي الله عليه وسلم وأترجم ما يأتي للنبي صلي الله عليه وسلم من يهود وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر أرادوا جمع القران فلم يجدوا أفضل من زيد بن ثابت لهذه المهمة وعمره 23سنة (يتولى جمع القران). يقول لقد كلفني أبو بكر بمهمة هي أثقل من نقل الجبال وخوض البحار وقام بها على خير وجه.
5ـ تعظيم قيمة الهدف في نفسه ، ليتعلم أن كل عمل يقوم به يكون له هدف حتي لا تكون أفعاله عبثيه .
6ـ تعزيز روح المنافسة في كل مجال يتقنه
7ـ اكتشاف المواهب والقدرات واستغلالها وتوظيفها أفضل التوظيف
8ـ التغلب علي التسويف والتأجيل :ـ فالتسويف هو العدو الأول للطموح ، والقاتل الكبير للهمم العالية .
9ـ عدم التردد .. فيتعرف الشاب على وقت اتخاذ القرار ولا ينتظر نتائج مثالية.
سأل العالم ابنه النجيب: يا بني .. أي غاية تطلب في حياتك؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون؟ فأجابه: أحب أن أكون مثلك يا أبت.
فقال العالم: ويحك يا بنيّ! لقد صغرت نفسك ، وسقطت همتك ، فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فما زلت أجد وأكد حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي رضي الله عنه ما تعلم من الشأو البعيد والمدى المستطيل ، فهل يسرك وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين على رضي الله عنه.
الخاتمة :ـ
إن الشاب الطموح يحمِلُ همَّ أمته ويجودُ بالنفسِ والنَّفيسِ في سبيل تحصيلِ غايتِها، وتحقيق رِفعَتها، ويعلم أن المكارِمَ منوطةٌ بالمكارِه، وأن المصالِحَ والخيرات واللَّذَّات والكمالات لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعَب، ومن أراد العلوَّ لأمته لم يلتفِت إلى لومِ لائِمٍ، ولا عذلِ عاذِل، ومضَى يكدَحُ ساعِيًا، شعاره قول الله عز وجل : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)) الإسراء. فينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية، يسعى إلى معالي الأمـور وفيما يصلحه من أمر دينه ودنياه، وأن يبذل في ذلك الغالي والنفيس، وألا يكون ضعيف الهمة يحب الراحة والكسل، فإنه بقدر الكد تكتسب المعالي، ومن طلب العلا سهر الليالي
قال الإمام الشافعي:
ومن رام العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
فيجب على أمة الإسلام وهي تمرُّ بأحلَك ظروفِها، أن تعلُو همَّتُها عن اللَّهْوِ والعبَثِ، والفُرقة والخِلاف، والغفلةِ والشُّرود، وأن تُربِّيَ جيلَها على الجِدِّ والطُّموح والهِمَم العالِية، وقد قال الله لنبيِّه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، وقال لموسى عن الألواح: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) (الأعراف: 145)
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما يحب ويرضى وأن يرزقنا معالي الأمور وأن يجنبنا سفاسفها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.