النظام قيمة إسلاميه للشيخ محمد عبد التواب سويدان


عناصر الخطبة،
العنصر الأول: دعوة الإسلام إلي النظام
العنصر الثاني: وقفة تأمل
العنصر الثالث : كيفية حفظ النظام

نص الخطبة :

الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان،وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا مزيدا.أما بعد
أيها الكرماء الأجلاء عباد الله :
فالإسلام دين النظام، وهل في ذلك شكٌّ؟ فشارِعه بديع السموات والأرض، ومُبَلِّغه محمد مُنظِّم الشرع الأمين، وكتابه القرآن الكريم الذي نظَّم حياة الناس بما شرَع من معاملات وأخلاق وقوانين؛ لذلك حمَل الإسلام الإنسان على النظام، اسمع قول الله - عز وجل - لموسى - عليه السلام - عندما استسقاه قومه:﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [الأعراف: ]. أرأيت أيها المؤمن إلى ذلك النظام الربَّاني الذي أخَذ الله به الناس ليَحتذوه في حياتهم، فقد كان من الممكن أن يجعلها عينًا واحدة، ولكن سيتكالَب عليها الناس، ويزدحمون حولها بالمناكب، ويختلط الحابل بالنابل، ويصير أمرهم فوضى، ولا يستطيع أحد الشرب إلا بجَهد النفس.
وإن الله تبارك وتعالى يدعونا صراحة إلى النظام؛ فقد بيَّن ربنا أن الملائكة لديها نظام؛ قال تعالى: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴾ [الصافات ]، وأنها ستأتي يوم القيامة وهي منظَّمة ومصطفَّة: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر ]،
بل إن البشَر عندما يأتون للعَرْض على الله يوم القيامة يُعرَضون وهم منظَّمون: ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف ]، ويُغْني عن كل هذا أن في القرآنِ الكريم سورة كاملة اسمها سورة (الصف)، وفيها قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف ].

♦♦العبادات والنظام♦♦

وإننا نتعبَّد لله سبحانه وتعالى بالصلوات الخمس في اليوم والليلة، وكل صلاة يجب أن يسبقها طهارة ووضوء، وكل صلاة لها وقت، وعدد من الركعات، ولها كيفية وهيئة تؤدى بها، يجب على كل مصلٍّ أن يلتزم بها، ولا يخرج عن نظامها، وإلا صار مخالفًا لنظام الصلاة.
فعن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسَحُ مناكِبَنا في الصلاة ويقول: «استَوُوا، ولا تختَلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم، ليلِنِي منكم أُولو الأحلامِ والنُّهَى، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما جُعِل الإمامُ ليُؤتَمَّ به؛ فلا تختلِفُوا عليه، فإذا ركَعَ فاركَعوا، وإذا قال: سمِعَ الله لمن حمِده، فقولوا: ربَّنا لك الحمدُ، وإذا سجدَ فاسجُدوا، وإذا صلَّى جالِسًا فصلُّوا جُلوسًا أجمعون، وأقِيموا الصفَّ؛ فإن إقامةَ الصفِّ من حُسن الصلاة» متفق عليه
♦ ثم كان أمرُ الله بالصلاة حتى في الحروب، وضَع الله للمحاربين نظامًا يؤدون به صلاتهم، ويكفُل لهم النصر، فلا يؤخذون على غِرَّة، ولا يتركون في صفوفهم ثَغرة يَنفُذ منها إليهم العدوُّ؛ فقال - سبحانه - مخاطبًا رسوله:﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء ].

♦♦والزكاة كذلك لها أحكامها ووقتها؛ فزكاة المال - مثلًا - تؤدى كل عام، وببلوغ النصاب، وتخرج لأناس عيَّنهم الشرع وحددهم، وجعل الزكاة لا تصرف إلا لهم.
وبجانب تهذيب النفوس البشريَّة وتطهيرها من عوامل الأثرة والشح والبخل، فإنها تسهم في قيام نظام اجتماعي متوازن يحقق التضامن والتكافل والتراحم والتعاطف والألفة والمحبَّة، إذ يعطي الغني فيه الفقير من ماله الذي هو في تصوره واعتقاده مال الله وهو مستخلف فيه مسؤول عنه، وأن عليه فيه حقوقًا متنوعة، قال تعالى {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ( المعارج ) ابتغاء مرضاة الله والفوز بثوابه.

♦♦ أما عبادة الصيام، التي لها شهر معلوم ووقت معدود، فشهر رمضان هو الوحيد الذي فرضه الله على عباده، وإذا صامه المسلم، فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
فيعوّد المسلم على النظام والانضباط والدقة في حياته، فهو يتناول طعام السحور إلى طلوع الفجر، ويتناول إفطاره عند الغروب ولا يؤخره. قال تعالى {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (البقرة ) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ. (رواه البخاري)

♦♦ كما أن الحج يعوّد المسلم على تنظيم الوقت والالتزام بالموعد وهو من شانه أن يترك أثرًا عظيمًا في نفس المؤمن، فالحج في وقت محدد من العام لا يقبل قبل ذلك ولا بعده، كما أنه يعلّمنا النظام والصبر من خلال ارتباط مناسك الحج بالوقت ارتباطا وثيقا ويدل ذلك على أهمية الوقت والحرص على الزمان من خلال تحديد زمان كل منسك من مناسك الحج كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والنفرة منها إلى منى، ورمي جمرة العقبة، وتحديد زمان بداية رمي الجمار أيام التشريق بعد الزوال.

فهذه الأركان الخمسة من الشهادتين والصلاة والزكاة والحج والصيام تعطينا دروسًا للانضباط والنظام في أنفسنا وحياتنا، وتغرس فينا التنظيم والترتيب في معاملاتنا وسلوكنا؛ فهي - بلا شك - تربية للمسلمين على هذه القيمة الجمالية.

♦♦ ومن الجانب الاجتماعي نظّم الإسلام السلوك والمعاملات، وسنّ القوانين والتشريعات في البيع والشراء، والزواج والطلاق والعلاقة بين الأزواج، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقته بغير المسلم. وحث الإسلام على التزام الأدب واحترام القوانين والمحافظة على الذوق العام. وقال عزّ من قائل {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة ) إنّ النظام في الكون وفي الحياة جعله الإسلام أساسا وضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها

♦♦رسول الله قدوتنا ♦♦

أيها الإخوة الأفاضل:
وقد كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مثالاً يُحتذى في النظام وما بُعِث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا لينظم هذا الكون، ويرده إلى دين الله -عز وجل-
يقول الشاعر:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم
إلا على صنم قد هام في صنم
فعاهـل الروم يطغى في رعيته
وعاهل الفرس من كبر أصم عمى

ومن ثم فاضت هذه الصفة الطيبة على أصحابه ودعوته ودولته؛ فهو صلى الله عليه وسلم يرتب لدعوته بأمر من الله عز وجل:
فالمرتبة الأولى فيها للنبوة، والثانية لإنذار عشيرته الأقربين، والثالثة لإنذار قومه، والرابعة لإنذار قومه ما آتاهم من نذير، وهم العرب قاطبة، والخامسة إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر.

أما عن طعامه :
فهو القائل ﷺ : مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ . رواه الترمذي وصححه الألباني
وما كان -صلى الله عليه وسلم- يأكل أو يشرب إلا بنظام وترتيب خاص، فيبدأ بالبسملة ويختم بالحمد.

ويراعى آدابه فيها بينهم :
"كلوا من جوانبها ، ودعوا ذروتها يبارك لكم فيها" (أخرجه أبو داود وابن ماجه).
"البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه" (أخرجه أبو داود وابن ماجه) .
أما عن ملبسه:
فهو -صلى الله عليه وسلم- الذي يلبس في كل موطن ما يناسبه وينصح أصحابه بذلك.. فلقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا نِعَالِكُمْ ، أَوْ قَالَ : رِحَالَكُمْ ، وَأَحْسِنُوا لِبَاسَكُمْ ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ "(أخرجه أبو داوود

♦♦وقوله صلى الله عليه وسلم:
"إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فِي سَفَر فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدَكُمْ"
(رواه الطبراني بإسناد جيد).
فيلفت أنظارهم إلى أنه لابد من إقامة أمير، واختيار قائد على رأس كل مجموعة أو فريق عمل، وفى هذا إشارة إلى حرصه -صلى الله عليه وسلم- إلى إناطة أمر المسلمين إلى تنظيم محكم دقيق، وهو صلى الله عليه وسلم حرص بالتالي على أن تكون جميع أمورهم منظمة ومنضبطة سواء أكانوا في سلم أو حرب، في تجارة أو على سفر، وسواء كانت هذه الشئون الصغيرة كأمر مثل أمر السفر أو أمور كبيرة كأمر الحرب، والقتال والغزو.

♦♦ وهو -صلى الله عليه وسلم- يدعو لتنظيم دوائر حياة المسلم: فعَن عَوْنِ بْنِ أَبي جُحَيْفَةَ عَن أبيهِ قال: آخى النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بَينَ سَلمَانَ وأبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَال لهَا: ما شَأْنُكِ؟ قالتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ له حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ له طَعامًا، فقَالَ: كُلْ، قالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((صَدَقَ سَلْمَانُ))؛ رواه البُخاري.وفى إتباع هذا الهدى، ما يضمن راحة النفس، وحماية القلب وتوزيع اهتمامه على دوائر حياته جميعا.
وفى تنظيم وقته على النهار :
ما روى أيضًا في معناه: "وعلى العاقل أن تكون له أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه.. وساعة يناجى فيها نفسه.. وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب" وما كان ينام -صلى الله عليه وسلم- في سفر أو حضر إلا ويكلف من يراقب له الوقت لتنظيم أوقات الصلاة
♦♦ويصور الرسول لنا أهمية النظام أجملَ تصويرٍ، ويدعو إلى المحافظة عليه أروعَ دعوة؛ إذ يقول: " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا" [البخاري ومسلم]
تعالوا بنا ايها الاحبة لننظر في خلق الله فإنه جل وعلا أمرنا بهذا فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران ]،
ويقول : (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }}[ الغاشية ] .

♦♦♦وقفة تأمل ♦♦

أيها الأخ الكريم وتأمَّل نظام هذا الملكوت، وقلِّب الطرْف في سِفره الزاخر، هل ترى أبدع منه نظامًا، نشَر الله بنوده، وأعلن به في كل شيء وجودَه؟!

أيُّ نظامٍ أملَكُ للنواظر والخواطر من نظام هذا الكون البديع، وقد أشاعه الله في السماء وفي الأرض، فوجده الإنسان في كل منظرٍ، وأحسَّه في كل مشهدٍ؟!
يقول - سبحانه -: ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [لقمان ].
رفَع - سبحانه - السموات بغير عمدٍ، وزيَّنها بالكواكب، وبَسَط الأرض مهادًا، فأرسى فيها الجبال أوتادًا، ورفَع الشمس منارًا، كأنها كرة من اللهب تتوهَّج نارًا، وجعلها مصدر الحياة للأحياء، وجعل القمر ضياءً وقدَّره منازِلَ.

انظر إلى الشمس إذ تَبرح كِناسها في الشروق ثم تدخل إليه في الغروب، وإلى القمر وهو يمرُّ في منازله بانتظام، تقدير العزيز العليم؛ ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس ].

هكَذَا خَلَقَ اللهُ الكَونَ، وَهَكَذَا حَفِظَهُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوالي الدُّهُورِ، دَقِيقًا في أَجوَدِ صَنعَةٍ، مُتقَنًا في أَحسَنِ هَيئَةٍ، لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ، وَلا يَمِيلُ شَعرَةً عَن سَبِيلِهِ الَّتي قُدِّرَ لَهُ السَّيرُ فِيهَا، ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل ].
عباد الله : ما الذي يحدث لو خرج كوكب عن مساره أو إصطدم نجم بآخر أو طغي بحر علي يابسه او جف نهر فجأة بعد جريانه أو غار بحر في ساعة أو زال جبل في لحظة إنه خراب الكون وفساد المعايش واختلال الحياة والله يري الناس في حياتهم من هذا أمثلة لعلهم يذكرون أو يعتبرون .

أيها الأخ الكريم، ♦ وهذا جسمك ♦♦
صُنع الله الذي أتقن كلَّ شيء خلقه؛ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين ]،

انظر فيه وتبصَّر، تَجِدِ النظام مُجسَّمًا، والإعجاز مُمثَّلاً.

والقلبُ كيف تَروح فيه وتَغتدي
هذي الدماءُ يَحفُّهنَّ نظامُ؟
والعينُ كيف تنظَّمت آلاتُها
فيها يرى الإنسان والأنعامُ؟
والأُذن كيف بها تصيخ لمُسمعٍ
والأنف كيف به العبير يُشامُ؟
تتحرَّك الشَّفتانِ حول لسانِها
فإذا تحرُّكها البسيط كلامُ

ذلك نظام الله أودَعه جسم الإنسان، ثم انظر إلى اللقمة الواحدة، يأكلها فتتسَلمها العصائر المختلفة بترتيبٍ، حتى تصير في جسمه دمًا جديدًا.

ولقد جعل الله - سبحانه - خلقه الإنسانَ، سلسلة منظَّمة تمرُّ من دور إلى دورٍ بترتيب ونظامٍ؛ فقال - سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون ].

هكذا يقول القرآن في نظام خِلقة الإنسان وتكوينه، وانتقاله من طورٍ إلى طور منذ قرون عديدة، ثم يأتي الطب الحديث، فيُقرّ هذا الترتيب العجيب، ويُضيفه معجزةً إلى معجزات القرآن الكريم.
ثم انظر معي الي عالم آخر لنتعلم النظام في من مخلوق من مخلوقات الله ودعني أسألك هل رأيت يوما خلية نحل؟

♦أرأيت يومًا خلية نحلٍ؟♦
♦♦♦

إذًا لرأيتَ مجتمعًا كله نظام وتنسيق، فأفراد الخلية يُؤمِّرون عليها واحدة، يُطيعونها ولا يعصون لها أمرًا؛ حتى ينتظمَ العمل، وكل فردٍ في الخليَّة له عمل، فمنها ما تَبني عيون الشمع بترتيب هندسي مُنظم، يَعجِز عنه الفنان المدرَّب، ومنها ما تَجمع الرحيق، ومنها ما تحمل الماء، ومنها ما تعمل على تنظيف الخلية، ومنها ما تَجمع الرحيق، ومنها ما تحمل الماء، ومنها المُدافعات عنها، تردُّ من يعتدي عليها، إلى آخر ما يرى من نظامٍ في العلم بديعٍ، وترتيب وتنسيق، فهذا النظام الذي ألْهَمه الله مجتمعَ النحل، فدبَّرت به خليَّتها، ونظَّمت جندها - كان سببًا في نجاح الخلية،
إن ما يميز "الحياة الاجتماعية" للنحل، أن كل نحلة يجب أن تقوم بأداء أكثر من وظيفة واحدة، وهذه الأعمال التي تستطيع أن تقوم بها بشكل منتظم هي :

♦التهوية وتنظيم درجة الرطوبة: إن خاصية المقاومة الموجودة فى العسل جاءت من بقاء درجة الرطوبة ثابتة داخل الخلية، وفى حالة وقوع خلل لهذه الدرجة فإن العسل يفقد ميزة مقاومته، وخاصية كونه مادة غذائية، بمعنى أنه يفسد. وكذلك بالنسبة إلى درجة الحرارة فإنها يجب أن تكون 32 درجة، وتبقى هكذا لمدة عشرة شهور. ولبقاء درجة الحرارة والرطوبة ثابتة فى الخلية فإن هناك مجموعة من النحل تقوم بوظيفة المراوح. ففى الأيام الحارة نستطيع أن نلاحظ ذلك بسهولة، ففى مدخل الخلية يوجد عدد كبير من النحل الذي يقوم عادة بتهوئة الخلية بواسطة أجنحتها.
♦ وبالإضافة إلى ذلك ففي داخل الخلية أيضا توجد نحل تقوم بنفس العمل، وغايتها هي توزيع الهواء الداخل فى الخلية، وهناك فائدة أخرى للتهوئة وهي المحافظة على نقاء هواء الخلية من الدخان والهواء الملوث.

♦النظام الصحي: إن عمل النحل ليس مقتصراً على المحافظة على درجة الحرارة والرطوبة وتهوئة الخلية من أجل المحافظة على نقاء العسل، بل تقوم بأخذ كافة التدابير لمواجهة تكاثُر البكتريا، فتقوم بعملها كوحدة صحية متكاملة. وأوّل هدفها هو إزالة كافة هذه المسببات التى من المحتمل أن تُنتج البكتريا. فالنظام الصحي لديها يقوم على عدم السماح بدخول الأجسام الغريبة أو إبعادها من الخلية، ولهذا السبب يوجد دائما حرسان خارج الخلية لأداء هذه المهمة. وبالرغم من هذه الحراسة الشديدة فيمكن أن تدخل إلى الخلية بعض الأجسام الغريبة مثل البعوض أو أي حشرة أخرى. وفى هذه الحالة فإن النحل تعلن النفير العام حتى تلقي بهذا الجسم الغريب خارج الخلية.
وفى حالة عدم استطاعتها رمي الجسم الغريب الذى دخل الخلية لكبر حجمه تقوم بتحنيط هذا الجسم وتحويله إلى ما يشبه المومياء. فالنحل في هذه الحالة تقوم بصنع مادة الشمع "راتينج النحل" التى تستعمُلها فى عملية التحنيط هذه. تقوم النحل بجمع مادة "الراتينج" من أشجار الصنوبر، والأقاصيا والحور، وتقوم بإضافة بعض الإفرازات الخاصة عليها وتستعمل هذه المادة فى بناء جدران الخلية المهدمة. وعند تماس هذه المادة بالهواء تتصلب، وبهذا الطريقة فإن جميع المؤثرات الخارجية لا تستطيع أن تصل إلى الخلية، وتستعمل النحل هذه المادة فى كثير من أعمالها
حبيبي في الله : إن هذا النظام الذي ألْهَمه الله مجتمعَ النحل، فدبَّرت به خليَّتها، ونظَّمت جندها - كان سببًا في نجاح الخلية، وهكذا يكون النظام رائد النجاح، فما أَولى بني الإنسان أن يأخذوا من النحل المَثل، ويَحملوا على النظام أنفسهم، فيَنجحوا في حياتهم؟!
وإليكم نموذجا آخر نتعلم منه كيف يكون النظام إنه

♦♦ عالم النمل ♦♦

أيها الإخوة الأفاضل : كيف نتعلم تنظيم المرور من النمل:
لقد أمضى الباحث Graham Currie السنتين الماضيتين في دراسة ظاهرة تنظيم المرور عند النمل، وكيف يستطيع مجتمع النمل تنظيم حركته لتجنب الفوضى أو الهلاك. وقال بعد هذه الأبحاث: إن النمل يتفوق على البشر في تنظيم حركة المرور لديه، وهو يعمل بكفاءة عالية حتى أثناء الزحام. بل إن النمل يستطيع التحرك في مجموعات كبيرة والتوجه إلى مساكنه خلال لحظات دون حدوث أي حادث أو اصطدام أو خلل.
♦النملة التي تنظم المرور لها طريق خاص بها (طرق سريعة freeways) لا تسلكه بقية النملات وهذا الطريق تستخدمه النملة لتوجيه بقية النملات، وهناك طريق في الوسط تسلكه النملات المحملة بالغذاء والحبوب والمواد القابلة للتخزين، أما النملات “الفارغة” فلها طريق على الجوانب (طريق سريع) لأن حركتها تكون أسرع من النملات المحمَّلة، كل هذا يحدث بنظام فائق الدقة لا يوجد فيه أي خلل أو خطأ.

♦♦حالات الطوارئ: ويؤكد الباحثون الأوروبيون أن النمل يوزع الأعمال، فهناك نملات مهمتها إعطاء التعليمات ومخاطبة مجتمع النمل وتحذيره وإرشاده ماذا يعمل في الحالات الطارئة (أشبه بعمال الطوارئ)! وهناك لغة واضحة يتخاطب بواسطتها مجتمع النمل.
♦♦الاهتمام بالبيئة: تعمل النملة على تنظيف البيئة، وعلى تربية صغارها والاعتناء بهم بشكل مذهل، وتعمل على الدفاع عن نفسها وعن مستعمراتها، وتقوم بانتقاء الأنواع المفيدة من الطعام، وفي دراسة جديدة تبين أن النمل لا يأخذ أي طعام يصادفه، بل يقوم بتخزين الأغذية ويركز على الأنواع الدسمة من الطعام ليستفيد منها في الشتاء!
♦توزيع المهام وتبادل الأدوار: قام العلماء بمراقبة النملات وهي تعمل، وذلك بعد أن قاموا بوضع علامة مميزة لكل نملة، فوجدوا أن النمل يقسم نفسه إلى فرق، كل فريق يقوم بعمل محدد لعدة أسابيع، أي أن النملة التي تقوم بإنذار النملات لدى وجود خطر هي ذاتها، والنملات التي تعتني بالأطفال الصغار هي ذاتها، والنملات التي تتولى مهمة الدفاع عن المستعمرة هي ذاتها، ولكن بعد عدة أسابيع تتبادل المهمات لتكتسب كل منها مهارات جديدة.

♦ عِبَادَ اللهِ♦

أَلا تَرَونَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الإِحكَامِ لِسَيرِ الكَونِ وَالتَّنظِيمِ لِلشَّرَائِعِ وَالدِّقَّةِ في العِبَادَاتِ وَالأَحكَامِ إِنَّمَا هُوَ تَربِيَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِلمُسلِمِينَ خَاصَّةً؛ لِيَكُونُوا في كُلِّ حَيَاتِهِم مُنَظَّمِينَ مُرَتَّبِينَ، وَعَلَى الصَّوَابِ سَائِرِينَ، وَعَنِ الخَطَأِ مُتَجَانِفِينَ؟! إِنَّ الأَمرَ لَكَذَلِكَ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الإِسلامُ بما يُصلِحُ حَيَاةَ النَّاسِ وَيُنَظِّمُهَا وَيُرَتِّبُهَا، وَيُكسِبُهُمُ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَةَ وَالطُّمَأنِينَةَ، فَمِن وُجُوبِ الصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ، وَلُزُومِ الدِّقَّةِ في المَوَاعِيدِ وَتَقدِيرِ الوَقتِ، إِلى تَعظِيمِ الأَمَانَةِ وَمَدحِ النَّزَاهَةِ، وَالأَمرِ بِالوَفَاءِ بِالعُقُودِ وَالتِزَامِ المَوَاثِيقِ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ، إِلى تَحَرِّي الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ وَاجتِنَابِ الشُّبُهَاتِ، وَمُجَانَبَةِ الغِشِّ وَالخَدِيعَةِ وَالتَّطفِيفِ وَأَكلِ الأَموَالِ بِالبَاطِلِ، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ وَالتَّعزِيرَاتِ، الَّتي هِيَ مَجمُوعَةٌ مُتَرَابِطَةٌ مِنَ الأَنظِمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ المُحكَمَةِ، البَعِيدَةِ الغَايَاتِ المُشرِقَةِ النِّهَايَاتِ، أَنزَلَهَا لِلعِبَادِ رَبُّ العِبَادِ، الَّذِي يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
اقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين

♦♦الخطبة الثانية♦♦

الحمد لله الذي خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً ، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي بُعث إلى أمةٍ جاهلةٍ فربّاها وعلّمها ، ونظم شأنها كله حتى جعلها خير أُمةٍ أُخرجت للناس ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد ؛

فيُعد احترام النظام إحدى القيم السلوكيةٌ الاجتماعية التي تُعنى بها المجتمعات وتحرص عليها ، وتعمل جاهدةً على تربية الأفراد على احترامها والتمسك بها حتى تكون سلوكاً يُعمل به وتتم ممارسته من قبل الجميع .

وإذا أمعنا النظر في تعاليم وتوجيهات وإرشادات ديننا الإسلامي الحنيف ؛ فإننا سنجدها قد حثت ودعت إلى احترام النظام والمُحافظة عليه ، وعملت من خلال التربية الإسلامية بعامةٍ والتربية النبوية بخاصةٍ على تفعيل هذه القيمة السلوكية التي تُعد في المجتمع المُسلم مبدأً
وشعاراً ينادي به الجميع ، ثم يتم تحويله إلى سلوكٍ يمارسه الأفراد في حياتهم اليومية ، ويتخلقون به في كل شأنٍ من شؤون الحياة .
وانطلاقاً من هذا المضمون التربوي النبوي العظيم ؛ فإن على كل فردٍ في المجتمع المُسلم أن يُعنى عنايةً خاصةً بمسؤولياته المختلفة تجاه

مجتمعه الذي ينتمي إليه ، وأن يستشعر أهمية الواجب الملقى عليه في هذا الشأن تحقيقاً لما صحَّ في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : سمعتُ رسول الله يقول :

" كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته" ( البخاري ) .

وحتى يكون هناك شيئاً من البسط والتوضيح فإن من أبرز معاني هذا الواجب أن يُسهم المُسلم بإخلاصٍ وفعالية في حل مُشكلات مُجتمعه ، وأن يعمل على نشر الوعي في أوساطه المختلفة ، وأن يحرص على تفعيل مبدأ احترام النظام بين أفراده وجماعاته ؛ سواءً كان كبيراً أم صغيراً ، ذكراً أم أُنثى ، مُتعلماً أم غير مُتعلم ، مسؤولاً أم غير مسؤول ،

أما كيفية حفظ النظام فتكون بأن يُدرك الإنسان أن النظام سلوكٌ دينيٌ ووعيٌ حضاريٌ ، وواجبٌ إنسانيٌ ، وأن أكبر شواهده في واقعنا احترامنا لذواتنا ، والتزامنا الصواب في القول والعمل والنية ، والبعد عن الخطأ والأذى مهما كان صغيراً ، والحذر من العشوائية ، والعبث ، والفوضى ، والظلم ، والاعتداء على حقوق الآخرين في أي شأنٍ ، ومهما كان ذلك يسيراً في تقديرنا لأن ذلك السلوك لا يُمكن أن يتفق وشخصية الإنسان المسلم الذي لا يُمكن أن يعتدي على حقوق الآخرين ، وهو ما أكده وصف النبي للمُسلم فيما صحَّ عن أبي هريرة أنه قال :

" المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى هاهنا " ويُشير إلى صدره ثلاث مرارٍ : " بحسب امرىءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرامٌ ، دمه وماله وعِرضه " ( رواه مسلم ) .

كما أن من أهم أساليب احترام النظام أن يكون الإنسان ( في أي زمانٍ أو مكان أو ظرف ) قدوةً حسنةً ، وأسوةً طيبةً لمن حوله في القول والعمل والمظهر ، وأن يكون مُلتزماً في واقعه بالسلوك الاجتماعي المقبول في المجتمع
وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحلي بالأخلاق الفاضلة ، والتمسك بالقيم الخُلقية والمبادئ والمُثل العُليا التي عليه أن يدعو إليها ، وأن يبُثها بين الآخرين من خلال تعامله الحسن وسلوكه المنظم وتصرفاته المُنضبطة التي تُعد خير ما أُعطي العبد المُسلم فقد جاء عن أسامة بن شريك أنه قال شهدتُ الأعراب يسألون النبي : قالوا : يا رسول الله ! ما خير ما أُعطي العبد ؟ قال : " خُلُقٌ حسنٌ " ( رواه ابن ماجة ) .

ويأتي من أبرز الأساليب وأنفعها لحفظ النظام أن يحرص الإنسان على تقويم وتصحيح ما قد يصدر عنه من سلوكياتٍ خاطئةٍ غير مقصودة ، وأن يرجع إلى جادة الصواب إذا ما وقع في الخطأ فعن معاذ أن رسول الله قال له :
" يا معاذ ، اتبع السيئة بالحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ( رواه أحمد ) .

كما أن من الأساليب الفاعلة في حفظ النظام أن يعمل المسلم على مُساعدة الآخرين من حوله على اكتشاف أدوارهم الاجتماعية الحاضرة والمُستقبلية التي يمكنهم من خلالها المُشاركة الجماعية في تنمية مظاهر الانضباط الذاتي للمجتمع ، والطاعة الواعية عند أفراد المجتمع . وهو ما يشهد له الحديث النبوي الشريف ؛ فقد صحّ عن أبي هريرة أن رسول الله قال :
" من دعا إلى هُدًى ، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا ، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئًا " ( رواه مسلم ) .

يُضاف إلى تلك الأساليب أن يحرص الإنسان المسلم على إتقان عمله المُسند إليه ، وبذل أقصى جهدٍ في أدائه على الوجه المطلوب الذي يُرضي الله تعالى أولاً ، ثم يُرضي من استأمنه عليه وأسنده إليه ، فعن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) أن رسول الله قال :
" إن الله عز وجل يُحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " ( المعجم الأوسط ، ) .
وبعد ؛ فليس هذا هو كل ما أشارت إليه التربية النبوية في شأن احترام النظام ، وإنما هو جزءٌ من كلٍ ، إذ إن كل حثٍ أو دعوةٍ أو توجيهٍ في هذا الشأن إنما هو درسٌ تربويٌ نبويٌ لحفظ النظام واحترامه في حياة الإنسان المسلم الذي يمتاز نهجه الحياتي بأنه يمكن له أن يجعل
من محافظته على النظام عبادةً يُثابُ عليها ويؤجر متى أخلص النية في ذلك ، وابتغى بها وجه الله تعالى انطلاقاً من قوله :
" إنما الأعمال بالنيَّات ، وإنما لكل امرىءٍ ما نوى " ( رواه البخاري ) .

وأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والسدّاد ، والهداية والرشاد ، والحمد لله رب العباد .
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات