احترام النظام العام للشيخ إبراهيم مراسي



الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه ما لم يكن يعلم، ومن بنعمة العقل والسمع والبصر، وفضله على كثير ممن خلق. نحمده سبحانه ونسعتغفره ونستهديه، ونسأله المزيد من الفضل والتوفيق والإنعام. ونشهد أن لا إله إلا هو المتفرد بالكمال له الأسماء الحسنى والصفات العلى. ونصلي ونسلم على رسوله ونبيه المعلم الأول، خير من عرف الإسلام وخط سبيله بوحي من ربه وبني حضاراته على أسس قوية متينة لا تفنى ولا تزول.

العناصر
1- النظام فى القران
2- النظام فى السنة 3- كيف ينظم الإنسان حياتة 4-النظام المروري 5-الاسلام دين النظام
النظام، والإتقان والتقدير في هذا العالم، شامل لجميع مخلوقات الله كلها، ذلك أن الكون منظم ومنسق، وانتظامه مرتبط بإرادة الله وقدرته، كما أن استمراره على هذه الحال منوط باختيار الله تعالى ومشيئته.

قال تعالى: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء}النمل آية 88.

وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} الفرقان آية 2.

وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر آية 49.

فلا عبث إذن ولا فوضى، وإنما هو نظام وإتقان وتقدير وتدبير، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ص آية 27.

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} المؤمنون آية 115

تعالى الله عن ظن الكافرين علواً كبيرا.

وقد بين الله في القرآن الكريم دقة هذا النظام الكوني، الذي جعله خالقه أية من آياته الدالة على وجوده، وقدرته، وعلى علمه وحكمته، وإتقان مصنوعاته، فقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس الآية 37-40.

ودليل النظام يعتمد على دليل الخلق، غير أنه يزيد عليه التوضيح والبيان لما في ذلك الخلق من إبداع، واختراع، وتنظيم، وإتقان، وما تدل عليه، هذه المخلوقات من قصد في إيجادها وحكمة في تسييرها وتدبيرها.

ودليل النظام من الأدلة التي يدركها العقل الإنساني ويرضاها بيسر وسهولة لأنه لا يحتاج في إدراك مدلوله إلى كد ذهن وإعمال فكر، وغوص في لجج الاستدلالات المنطقية الجافة، لأنه خطاب موجه ممن يعلم طبائع النفوس البشرية، فاقتضت حكمته الإلهية، أن يخاطب الناس كافة، بالدليل الأيسر، والأسهل والأوضح، والذي يزداد على مر الأيام وضوحاً، وكلما تقدمت وسائل العلم، وانكشفت أسرار النواميس الدالة على النظام[10] والإتقان، مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} فصلت آية 53.

فلو نظر الإنسان في عالم الأفلاك والكواكب، لرأى عجائب الخلق متجلية، ودلائل النظام والإتقان واضحة، فهي تسير على نظام ثابت لا يختل، كل كوكب منها يسير في مدار لا يتعداه، وانتظام دورته في زمن معين لا يتجاوزه، واختصاص كل كوكب بوظيفة خاصة يؤديها حسب ما قدر له، كل ذلك بحساب دقيق مقدر لا يزيد ولا ينقص فحركتها دائبة من غير فتور ولا خلل وذلك بتقدير من العزيز العليم.

إن ذلك كله ينبئ عن دقة في الصنع، وإحكام في النظام، وتحديد للهدف المقصود. وقد أشارت الآية الكريمة إلى تلك الدقة المتناهية، حيث تقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، فسير الشمس والقمر بحساب دقيق جعل أحدهما لا ينبغي له أن يدرك الآخر، ولا يسبقه، لأنهما لم يوجدا بالاتفاق والمصادفة، وإنما وجدا بالقصد والإرادة والاختيار، وكان سيرهما وحركتهما بتقد ير العليم الحكيم.

يقول ابن كثير في تفسير الآية- {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ِْ...} الخ

ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي، والظلمة تغشى .... مشهد مكرر يراه الناس في كل طبقة من خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار، كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب، وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعوا إلى الأمل والتفكر، والشمس تجري لمستقر لها)..

وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة، تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، تدرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود، عن قوة وعن علم... ذلك تقدير العزيز العليم... إلى أن يقول... وأخيرا يقرر القرآن دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

ولكل نجم أو كوكب فلك أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه، أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة، وقد قدر خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب ووضع (تصميم)- تنظيم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع،- حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل يسبق النهار ولا يزحمه في طريقه لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر في الجريان- {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ})[11].

ودورة الشمس والقمر والكواكب، ليست مضبوطة بالساعة، أو الدقيقة، وإنما هي مضبوطة بسرعة الضوء أو الشعاع، الذي قدرت سرعته بقطع، (168) ألف ميل في الثانية تقريباً[12] يؤيد ذلك ما نقله ابن القيم وأقره، من اتفاق أرباب الهيئة وعلمائها، من أن الشمس بقدر الأرض مائة[13] ونيفاً وستين مرة، والكواكب التي نراها كثير منها أصغرها بقدر الأرض قال: وبهذا يعرف ارتفاعا، وبعدها، وأنت ترى الكوكب كأنه لا يسير، وهو من أول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكة قد طَلعَ بقدر مسافة الأرض مائة مرة مثلا، وهكذا يسير على الدوام، والعبد غافل عنه وعن آياته[14].النظام في حياة الفرد:

يعيش الإنسان في هذه الحياة فترة محدودة، والإمكانيات المتاحة له هي الأخرى محدودة، وهو مع ذلك يحمل تطلعات كثيرة وهموماً كبيرة ورغبات ومتطلبات لا تحصى، وليس أمامه لتحقيقها إلا أن ينظّم حياته.

كيف يستفيد من هذه الفترة المحدودة ومن هذه الإمكانيات المتاحة له بأكبر قدر ممكن من الاستفادة؟

هناك من ينجز أعمالاً كثيرة في حياته، وذلك لأنها مرتبة ومنظّمة، ولأنه يحسن الاستفادة من فترة وجوده ومن الإمكانيات المتاحة له. ولذا تمتلئ حياته بالإنتاج، والعطاء. وهناك من تخلو حياته من العطاء، تمر عليه الفرص كمر السحاب فلا يستفيد منها. ولذلك قال نبي الله عيسى : ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾[5] .

كيف ينظم الإنسان حياته؟

:

من ناحية الوقت
الوقت هو رأس مال الإنسان الأساسي في هذه الحياة، بل الحياة هي الوقت، لذلك ورد في بعض النصوص: إنّما أنت أيام فكل يوم ذهب، ذهب معه بعض عمرك. وليس هناك شيء أغلى من الوقت في حياة الإنسان، بدليل أنه لو قيل لإنسان نستطيع أن نزيد في عمرك سنة بشـرط أن تتنازل عن بيتك، لفعل ذلك. ما قيمة البيت قبالة أن يعيش سنة أكثر في هذه الدنيا، فهي أهم له من هذا البيت. يتنازل الإنسان عن ثروته من أجل أن يعيش سنة أو شهراً أو يوماً زيادة على عمره المقدر له، مما يدل على أنّ الوقت والحياة غاليان.

دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق و ثوان

فما دامت الحياة هي الوقت، ومادامت لا تعدوا أن تكون سوى دقائق و ثوان، يلزم على الإنسان أن لا يضيع هذا الوقت ولا يدع الزمن يمر عليه دون فائدة، بل يستفيد من كل دقيقة من الدقائق بما ينفعه في دنياه وآخرته وألا تأتي عليه لحظات يتمنى فيها ويقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[6] .

تشير بعض الروايات: يطلب سنة، فيقال له: كم قضيت من السنوات، يطلب شهراً فيقال: كم قضيت من الشهور، يطلب يوماً يقال له:كم قضيت من الأيام، يطلب ساعة، فيقال له: كم قضيت من الساعات.

فما دام الإنسان يملك الوقت وهو على قيد الحياة فعليه أن يغتنم الوقت، وأن يستفيد منه (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ولن تتأتى له الاستفادة من الوقت إلا بالتخطيط فمن المناسب أن يكون عند الإنسان لكل يوم تخطيط، كيف يقضي هذه الساعات في يومه؟.

ولا يقف تطبيق النظام عند حد الوظيفة والمسئولية، فإن كل مصلحة فيها نفع وخير للمسلم نظام يوحي به الإسلام، وإذا كان القيام بالعمل الوظيفي نظاما مطلوب التطبيق والتحقيق، وإذا كان نظام الحسبة في الإسلام نظاما يتطلب التطبيق والأمانة، وإذا كان نظام التعليم ونظام القضاء، ونظام الجندية كل ذلك مما يحث على تطبيقه والمحافظة عليه ديننا الحنيف، دين العطاء الثر لصالح الفرد والمجتمع، إذ كان هذا مما يحققه الإسلام عبر نظامه الفريد في حضارته الإنسانية التي سادت جميع الحضارات بعطائها وصلاحها وفلاحها، ذلك النظام هو نظام السير في الطرقات سواء كان السائر راجلا أو على دابة أو على سيارة. وللسير في الطريق نظام خاص معين مبين من هدي الإسلام الحنيف. فما أحوجنا إلى تطبيقه والمحافظة عليه، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهيه عن الجلوس في الطرقات لغير حاجة، فلما قال الصحابة رضوان الله عليهم: لكنها مجالسنا ما لنا عنها من بد. فقال - صلى الله عليه وسلم- - ما معناه- "أعطوا الطريق حقها، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم-: كف الأذى وغض البصر...". فأين نحن من هذه الفريدة النبوية التي أسست نظام السير بكف الأذى وغض البصر. فها هم بعض شبابنا وناشئتنا يزيدون من أذى الطريق بالسير فيه بسياراتهم على غير بصيرة. أيها الإخوة إن كف الأذى عن الطريق لا يعني رفع ما تقع عليه عين الماشي من حجر أو شجر أو قرطاس أو ما شابه ذلك من أي جسم يؤذي السائرين. بل كف الأذى بالأنظار والتعرض لهن في منعطفات السكك، مما يؤدي الطريق كاللعب بالكرة في قارعته، وعلى جوانبه، مما يؤذي الطريق وضع النفايات عند أبواب الجيران وعدم تطبيق النظام لنظافته، مما يؤذي الطريق المشي بالسيارة مسرعة، وعلى الأخص داخل شوارع الأحياء العامرة بالسكان.

ومن هنا يجب أن ننبه على وجوب تطبيق؟ ذلك النظام الذي رصدت له الدولة الملايين لتحقيق السلامة للمسافرين وغيرهم من وعثاء السفر والأخطار التي يجلبها بعض من يقودون السيارة مخالفين هذا النظام المروري السليم الذي يوليه قطاع المرور عناية كبيرة. ولكنها النفوس الرعناء التي لا ترعوي عن جهلها وغوغائيتها. وهم قليل إن شاء الله تعالى. أيها الإخوة إن عناية الدولة الرشيدة بنظام السير حققت الكثير مما يجلب الخير والسلامة للسائرين، فقد شقت الأنفاق ورفعت الطرقات ووصل البر بالبحر، وزيد في سعة الكثير من الشوارع العامة والخاصة كل ذلك طلبا لتحقيق السلامة وحماية لحياة السائرين. هذا بالإضافة إلى إنارة الشوارع ورصفها وتزيينها وحفظها بالإشارات المرورية الدالة على السير والوقوف والهدوء وضبط النفس في الحركة القيادية، وتقديم النصائح النافعة لقائدي السيارات من وجوب حمل رخصة القيادة أو الترخيص بالسير وكذا حمل بطاقة السيارة والعناية بمحركاتها قبل السير طويلا كان أو قصيرا. والتزام الجانب الأيمن من الطريق، وعدم التجاوز في حالات الازدحام، والحد من السرعة التي قد تودي بحياة السائق ومن معه، وعدم السير بعد سهر أو نوم أو إجهاد جسمي، فكل ذلك مؤذن بالخطر الذي تخشى مغبته. وإلى هذه النصائح يشير الحديث النبوي الشريف إلى الكيفية والزمن الذي يحسن أن يسير فيه المسافر أو المحتطب أو راعي الكلأ. يقول - صلى الله عليه وسلم-: "واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"، أي أن السير أول النهار مما يعين على قطع الطريق، حيث النشاط والإبصار التام في رائعة النهار، وإن السير وقت الرواح يحسن أن يقل ما أمكن لتأخذ الدابة أو سيارة راحتها من العناء، وأن السير في الليل وهو ما عبر عنه الحديث بلفظه (الدلجة) يحسن أن يكون شيئا يسيرا، لأن الأجساد تكل وتمل.

فالله الله في المحافظة على النظام المروري الذي ابتكر من هدي الإسلام ونظامه السمح الكريم النافع. ألم تسمع أخي المسلم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

فالحظ -أخي المسلم- التعبير في سياق الآية الكريمة بقول الله تعالى: ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، ما أجمله وأخصره وأغناه بمعاني الفضيلة والسكينة والطمأنينة. فأولئك الناس من عباد الله المؤمنين قد وصفوا بسيرهم راجلين أو راكبين حيث لم تخصص الآية الكريمة وصف السير على الأقدام، وإنما أطلقت التعبير بيمشون فيدخل في ذلك سير المسلم راجلا أو راكبا. فمن صفات هؤلاء المؤمنين المهتدين المشي في طمأنينة ورفق وسكينة وحشمة ووقار.

ففي ذلك حفاظ على أنفسهم وأرواحهم وأخلاقهم وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في قولة الكويم: "يا عائشة إن الرفق لا يكون قي شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه". فهذا حديث من أوتي جوامع الكلم. يحثنا على الرفق والأناة والروية في كل ما نأتي ونذر من قول أو فعل أو حركة أو سكون في سير أو قعود أو قيام في كل شيء ينزع عنه المسلم في جميع التصرفات. والدليل على أن الرفق مطلوب من المسلم في كل شيء مجيؤه نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تدل على العموم. فقد قال - صلى الله عليه وسلم- "لا يكون في شيء- ولا ينزع من شيء"، فشيء هنا نكرة مسبوقة بنفي، فدلت على العموم، أي أن الرفق مطلوب من المسلم في حركته وسكونه وقوله وفعله وسيره راجلا أو راكبا.

ومعلوم أن السرعة بسير السيارة مخالفة لما يدعو إليه النظلم المروري، بل إلقاء بالنفس إلى المخاطر والتهلكة. وقد نهي المسلم عن ذلك. يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، وهذا النهي وإن كان في الحرب والإنفاق في سبيل الله فهو نهي عام لكل ما يجلب الأخطار والمهالك إلى النفس المسلمة المؤمنة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعدله توزن الأمور ويستقر كل شيء ما موضعه، وبشرعه تعرف الأحكام، وتؤدي الحقوق، وينصف المظلوم، وبهدي كتابه وسنة رسوله تحد الحدود، وتفصل الأمور، ويدبر كل شيء فهو وحده الدبر المفصل للأشياء كبيرها وصغيرها.

﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2]، فنشهد أن لا إله إلا الله الحي القادر القيوم. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير الداعي إلى الإسلام ونظامه لإحياء البشرية ونفعها وصالحها في الدارين الدنيا والآخرة صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
الإسلام دين النظام
جاء الإسلام سراجاً وهّاجاً إلى قيام الساعة ينظم للإنسان دقائق حياته، بما يُصلح دنياه وآخرته، في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالإنسان لم يُخلق سُدى، ولم يُترك بلا هُدى، قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
الاسلام نراه في الزكاة، لها أحكام في أنواعها ومقاديرها ونسبها، والصوم له بداية ونهاية ومنطلق وغاية، والحج أشهر معلومات، ومناسك وشعائر، يتنقل العباد من بعضها لبعض في نظام لا يخرجون عنه ولا يتجاوزونه. ولله تعالى فيما بين ذلك على عباده حقوقٌ في الليل لا تُقبلُ في النهار، وأخرى نهارية لا تؤخر لليل، وثمة كفارات ونفقات حُددت بمقادير معلومة وأوصاف مضبوطة.

بل حتى في أشد حالات الخوف، وهو وقت الحرب، لم يقبل الإسلام حياة الفوضى، بل أمر بتنظيم الصفوف والتخطيط والترتيب، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعدّل صفوف المقاتلين بنفسه يوم بدر، ووضع لهم نظاماً معيناً لكيفية أداء الصلاة جماعةً، في أرض المعركة.

وفي باب الحياة الاجتماعية والأُسرية نظّم الإسلام السلوك والمعاملات، وسنّ القوانين والتشريعات في البيع والشراء، والزواج والطلاق والعلاقة بين الأزواج، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقته بغير المسلم. وحث الإسلام على التزام الأدب واحترام القوانين والمحافظة على الذوق العام. وقال عزّ من قائل: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وهكذا يسير الكون طبقاً لنظام دقيق لا توجد فيه فوضى أو عبثية أو تضارب واختلاف، لأن الذي وضعه وأتقنه هو الخالق – جلّ في علاه – وفي المقابل يُلفت – عزّ وجلّ – انتباهنا إلى تصور اختلال هذا النظام ووباله على الناس: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ).

سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات