قصة أصحاب الأخدود نموذجا لبيان إحدى سمات المسلم الشخصية للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى الصراط المستقيم، الذي أعد لعباده المؤمنين جنات النعيم.
وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولي الصالحين، ثبت المؤمنين في الشدائد على الحق المبين، وجزاهم على صبرهم الدرجات العلى والنعيم المقيم.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله الذي صبر على الأذى وتحمل الشدائد من أجل تبليغ الدين للخلق أجمعين.
فاللهم صلَّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين وعلى كل المسلمين أجمعين.
عناصر الموضوع
أولًا: قصة أصحاب الأخدود ثانيًا: الدروس المستفادة من القصة
ثالثًا: وسائل تعين على ثبات المسلمين رابعًا: نماذج لثبات المسلمين
الموضوع
أولًا: قصة أصحاب الأخدود
قال تعالى: ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) ) سورة البروج
يقول ابن كثير في تفسيره: يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، {واليوم الموعود} يوم القيامة، {شاهد} يوم الجمعة، {مشهود} يوم عرفة {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود} أَيْ لُعِنُ أَصْحَابُ الأُخدود، وجمعه أخاديد وهي الحفر فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ فَقَهَرُوهُمْ، وَأَرَادُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخدوداً، وَأَجَّجُوا فِيهِ نَارًا، وَأَعَدُّوا لَهَا وَقُودًا يُسَعِّرُونَهَا بِهِ، ثُمَّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا منهم، فقذفوهم فيها، ولهذا قال الله تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أَيْ مُشَاهِدُونَ لِمَا يُفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ {الْعَزِيزِ} الَّذِي لَا يضام من لاذ بجنابه، {الْحَمِيدُ} فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، ثم قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مِنْ تَمَامِ الصِّفَةِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي أَهْلِ هَذِهِ القصة من هم؟ فعن علي أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ، حِينَ أَرَادَ مَلِكُهُمْ تَحْلِيلَ تَزْوِيجِ الْمَحَارِمِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ، فَعَمَدَ إِلَى حَفْرِ أُخدود فَقَذَفَ فِيهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِمْ تَحْلِيلُ الْمَحَارِمِ إِلَى الْيَوْمِ. وعن ابن عباس قَالَ: نَاسٌ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدُّوا أُخدوداً فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً، فَعُرِضُوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وقيل غير ذلك.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} قَالَ: سَمِعْنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا وَقَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ، وَصَارُوا أحزاباً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فرحون، اعْتَزَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ سَكَنُوهَا وَأَقَامُوا عَلَى عِبَادَةِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين، فكان هَذَا أَمْرُهُمْ حَتَّى سَمِعَ بِهِمْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَحُدِّثَ حَدِيثَهُمْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يعبدوا الأوثان التي اتخذوا وأنهم أبو عَلَيْهِ كُلُّهُمْ، وَقَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي عَبَدْتُ فَإِنِّي قَاتِلُكُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَخَدَّ أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ، وقال لهم الجبار بعد أن وقفهم عَلَيْهَا، اخْتَارُوا هَذِهِ أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ، ففزعت الذرية، فقالوا لهم - أي آباؤهم: لَا نَارَ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ، فَوَقَعُوا فِيهَا، فَقُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمْ حَرُّهَا، وَخَرَجَتِ النَّارُ مِنْ مَكَانِهَا فَأَحَاطَتْ بِالْجَبَّارِينَ، فَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شهيد} (أخرجه ابن أبي حاتم، وروى محمد بن إسحاق قصة أصحاب الأخدود بسياق آخر وأنها كانت مع عبد الله بن التامر وأصحابه المؤمنين في نجران، والله أعلم) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَيْ حَرَقُوا، قاله ابن عباس ومجاهد {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} أَيْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا فَعَلُوا وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا أَسْلَفُوا {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ ([1]).
وعَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: " كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ " ([2])
(الأكمه) الذي خلق أعمى (بالمئشار) مهموز في رواية الأكثرين ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياء وروى المنشار بالنون وهما لغتان صحيحتان (ذروته) ذروة الجبل أعلاه وهي بضم الذال وكسرها (فرجف بهم الجبل) أي اضطرب وتحرك حركة شديدة (قرقور) القرقور السفينة الصغيرة وقيل الكبيرة واختار القاضي الصغيرة بعد حكايته خلافا كثيرا (فانكفأت بهم السفينة) أي انقلبت (صعيد) الصعيد هنا الأرض البارزة (كبد القوس) مقبضها عند الرمي (نزل بك حذرك) أي ما كنت تحذر وتخاف (بالأخدود) الأخدود هو الشق العظيم في الأرض وجمعه أخاديد (أفواه السكك) أي أبواب الطرق (فأحموه فيها) هكذا هو في عامة النسخ فأحموه بهمزة قطع بعدها حاء ساكنة ونقل القاضي اتفاق النسخ على هذا ووقع في بعض نسخ بلادنا فأقحموه بالقاف وهذا ظاهر ومعناه اطرحوه فيها كرها ومعنى الرواية الأولى ارموه فيها من قولهم أحميت الحديدة وغيرها إذا أدخلتها النار لتحمى (فتقاعست) أي توقفت ولزمت موضعها وكرهت الدخول في النار] ([3])
ثانيًا: الدروس المستفادة من القصة
ذكر الله لنا القصص للعبرة والعظة: لقدْ قصَّ الله - سبحانه وتعالى - علينا أحسن القَصص لنأخذَ العظة والعِبرة؛ قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف: 3].
بَيْد أنَّه لا ينتفع بهذا القصص إلا أصحابُ القلوب التقيَّة النقيَّة، وأصحاب الفِطر والعقول السويَّة، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
فمِن خلال القَصص القرآني والنبوي تَظهر السنن الربَّانية واضحةً جلية؛ حيث يجعل الله - سبحانه وتعالى - النَّصر والتمكين للمؤمنين، ويجعل الهلاك والعذاب والنكال للكافرين والمكذِّبين؛ كما قال الله رب العالمين - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (هود: 120(
فالقَصص القرآني والنبوي وسيلةٌ عظيمة من وسائل تربية الأمَّة وتثبيتها على طريقِ الحق، فبدلاً مِن أن تنشغل الأمَّة بالأكاذيب التي تُبثُّ في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فعليها أن تنشغلَ بالقصص الحق الذي جاء في الكتاب والسُّنة؛ لتأخذَ العِظة والعِبرة، ولتعلم يقينًا أنه لا نجاة للأمَّة إلا بالعودة إلى دِين الله - سبحانه وتعالى - والسَّير على سُنة النبي - ﷺ .
بيان أنَّ القرآن مِن عند الله - سبحانه وتعالى - وأن ما اشتمَل عليه مِن قصص للسابقين لا عِلمَ به، وإنَّما علم مِن لدن الله - سبحانه وتعالى - فالرسول إنَّما يبلغ عن ربِّه القائل: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، فجاء القُرآن بهذا القصص الحقّ، وحكَاه بالصِّدق؛ ليكونَ عبرةً وعِظة للناس؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ [آل عمران: 62]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [الكهف: 13].
البلاء أمر قدره الله لا مفر منه: دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن سلَك طريق الهدى والإيمان والدعوة إلى الرحيم الرحمن، فإنه سيُعاني من البلاء والعداء من أصحاب النفوذ والسلطان؛ ولذلك قال الرحيم الرحمن - سبحانه وتعالى -: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت]
ثقة الغلام في أن الشافي هو الله: وأن الغلام ما هو إلا سبب من الأسباب فحسب وهذا يظهر من قوله (فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ).
الدعوة إلى الله تعالى: (فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ)
ينبغي أن يحرص كل مسلم على تربية أولاده على القرآن والسنة منذ صغرهم:
إن الساحر طلب من الملك أن يبعثَ إليه غلامًا صغيرًا، ولا يَبعث إليه شابًّا أو شيخًا كبيرًا؟!
ليتشبَّع الغلام بالسحر من صِغَره، ويَتَشرَّبه قلبه وعقله، وليَبقى مع الملك أكبر وقتٍ مُمكن؛ ليَخدمه في تنفيذ ما يريد، ومعلوم لدى الجميع أنَّ التعليم في الصِّغَر كالنَّقش على الحجر.
فإذا كان أهل الباطل يَحرصون كلَّ الحرص على تعليم الأولاد كلَّ هذا الشر والفساد، فأين المسلمون الذين يُعَلِّمون أولادهم الخير والصلاح؟!
إننا في أشدِّ الحاجة إلى أن نربِّي أولادنا على حبِّ الله وحبِّ رسوله - ﷺ - ليَنشأ الولد نشأة طيِّبة مباركة، فيحب الله حبًّا يحول بينه وبين مَعصيته، ويأخذ بناصيته إلى طاعته ورِضوانه، ويستنفر هِمَّته إلى العمل لنصرة هذا الدين.
كما أننا في أشدِّ الحاجة لأن نربطَ الطفل بالقدوة والمعلِّم الأوَّل محمد بن عبدالله - ﷺ - فهو القدوة وهو الأُسوة لِمَن أراد القدوة والأسوة؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]
فلا يَنبغي أن يمرَّ علينا يومٌ إلا ونعلِّم أولادَنا سُنةً من سُنن النبي - ﷺ - حتى يخرج هذا الجيل عالِمًا بالسُّنة، كارِهًا لكلِّ بدعة، مُتَأَسِّيًا بنبيِّه وقُدوته - ﷺ.
ونحن أيضًا في أشد الحاجة لأن نأخذ بنواصي أولادنا إلى حِفظ القرآن والعمل بما فيه؛ فإن النصرة لن تأتي إلاَّ من خلال التعايش مع كلِّ آية من آيات القرآن الكريم، الذي يمثِّل منهج حياة مباركة لكلِّ مَن أراد الحياة الحقيقيَّة التي عاش في ظلالها أصحابُ النبي - ﷺ - الذين تربَّوا في ظلال القرآن، وامْتَزَجت دموعهم ودماؤهم بكلِّ حرفٍ من حروفه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
من فوائد قتل الغلام للدابة: وفي هذا المشهد نرى فوائد كثيرة، أذكر بعضها باختصار:
الفائدة الأولى: أنَّ الغلام تضرَّع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يوضِّح له أيهما أفضل: أمر الراهب أو أمر الساحر؛ وذلك لأن الغلام كان على يقينٍ من أنه لا يعلم ما في القلوب إلاَّ الله - سبحانه وتعالى - وهو - سبحانه وتعالى - الذي يعلم الخير من الشر؛ ولذلك فالمؤمن يقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب".
والمؤمن يعلم أنه لا يقدر على إجابة الدعاء إلاَّ الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
الفائدة الثانية: أنه قدَّم أمر الراهب على الساحر، وهذا دليل على أنَّ فطرة الإنسان تميل دائمًا إلى حبِّ التوحيد، وتَنْفِر من الشِّرْك.
الفائدة الثالثة: أنه قال: "اللهمَّ إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك"، ولَم يقل: أنفع لي، فهو لا يبحث عن الشيء الذي يَنفعه هو، بل يبحث عن الشيء الذي يحبُّه الله - عز وجل - ولذلك يجب على كلِّ مؤمن أن يفعلَ كلَّ ما يحبُّه الله، ويَبتعد عن كلِّ ما يُغضبه؛ سواء كان ذلك موافقًا لأهوائه ورغباته، أم لا.
الفائدة الرابعة: حِرصه الشديد على إنقاذ الناس من هذه الدابَّة، وهذا هو الواجب على المؤمن؛ أن يسعى دائمًا لجَلْب الخير لكلِّ مَن حوله، وإنقاذهم من الشرور والمهالك؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]
الفائدة الخامسة: أنه كان على يقين وثقة في قدرة الله الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو يعلم أنه لا يستطيع أحدٌ أن يَقتل تلك الدابة إلاَّ بتقدير الله - سبحانه وتعالى.
لذلك علينا أن نتخيَّل هذا المشهد: غلام صغير لا يستطيع أن يحمل إلا حجرًا صغيرًا، فكيف يضرب الأسد بذلك الحجر الصغير فيموت؟!
إن هذا الحجر الصغير الذي أمسَك به الغلام، لا يَقتل فأرًا صغيرًا، فضلاً عن أن يقتل أسدًا كبيرًا، لكنَّها كرامة من الله - سبحانه وتعالى - أكرَم بها هذا الغلام؛ لأنه لجأ إلى الله - سبحانه وتعالى - وتوكَّل عليه، وفي نفس الوقت أرادَ الله - سبحانه وتعالى - أن يُعَرِّفه طريق الخير من طريق الشر؛ ليكون على يقينٍ من أنه على الحقِّ، فيَبذل من أجْله كلَّ ما يَملِك، حتى نفسه التي بين جَنْبَيه.
الفائدة السادسة: قوله - ﷺ -: (فرماها فقَتَلها، ومضى الناس)، هذا دليل على وقوع
كرامات الله لأوليائه المؤمنين، وهذا كثير جدًّا في كتاب الله - سبحانه وتعالى - وسُنة رسول الله - ﷺ - وكُتب التاريخ والسِّيَر.
وها هو جُريج العابد يُنطق الله له الصبيَّ الصغير؛ ليُثبت براءَته.
وها هم أصحاب الكهف الذين لَبِثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا بلا طعام ولا شراب.
تعليم المسلمين الثبات على الحق مهما كلفهم الأمر: قال القرطبي - رحمه الله -: "قال علماؤنا: أعلم الله- عز وجل - المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية ما كان يلقاه من وَحَّدَ قبلهم من الشدائد يؤنسهم بذلك، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين، مع صغر سنه، وعظيم صبره، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشر بالمنشار، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا عن دينهم، والصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أوْلى.
ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق.
أن الله عز وجل قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله الكفار على المؤمنين، فقتلوهم، وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، فالله تعالى له في هذا حكمة، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]. والمصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، رفعة لدرجاتهم، وتكفيرًا لسيئاتهم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله مكرًا بهم، واستدراجًا لهم، وسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]، وهؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئًا واحدًا، وهو أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي يُنكر عليه.
أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولذلك تعرض أنبياء الله للقتل على أيدي اليهود وغيرهم
من الكفرة الفجرة كيحيى وزكريا وغيرهم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ )آل عمران: 181.(
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" ([5])
الفوز في النهاية للمؤمنين الذين صبروا وثبتوا على الحق: قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي: الذين جمعوا بيْن الإيمان الصادِق والعمل الصالح: ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: لهم البساتين والحدائق الزاهِرة التي تجري مِن تحت قُصورها أنهار الجنة - وهي أنهار الخمْر واللبن والعسَل؛ ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾؛ أي: ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادةَ ولا فوزَ بعده.
وكيف لا يكون ذلك هو الفوزَ الكبير، وهُم الذين جعلهم الله - سبحانه وتعالى - مِن أهل الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذن سمِعتْ ولا خطَر على قلْب بشَر، وحسبنا أن نعرِف أدْنَى أهل الجنة منزلةً وآخر مَن يدخل الجنة لنعلم يقينًا أنَّ ذلك هو الفوز الكبير، فعن المغيرة بنِ شُعبة - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - قال: ((سأل موسى ربَّه: ما أدْنى أهل الجنة منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدَما أُدخل أهلُ الجَنَّةِ الجنةَ، فيقال له: ادخلِ الجنة، فيقول: أي ربِّ؛ كيف وقَدْ نزل الناس منازلَهم وأخذوا أخذاتِهم؟! فيقال له: أترضَى أن يكون لك مِثل مُلْك مَلِك مِن ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لكَ ذلك ومِثله، ومثله، ومِثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيتُ ربِّ، فيقول: هذا لكَ وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهتْ نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيتُ رب، قال ربِّ: فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُ غرْسَ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أُذن ولم يخطرْ على قلبِ بشَر، قال: ومِصداقه في كتابِ الله - سبحانه وتعالى -: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17]. ([6])
الإقبال على القرآن: القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حَبْل الله المتين، والنور المبين، مَن تمسَّك به، عصَمه الله، ومَن اتَّبعه، أنْجاه الله، ومَن دعا إليه، هُدِي إلى صراطٍ مستقيم.
نصَّ الله - سبحانه وتعالى - على أنَّ الغاية التي من أجْلها أنزل هذا الكتاب منجَّمًا مفصَّلاً هي التثبيت، فقال - سبحانه وتعالى - في معرض الردِّ على شُبَه الكفار: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 32 – 33].
الْتِزام شرع الله والعمل الصالح: قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]؛ قال قتادة: أمَّا الحياة الدنيا، فيُثبِّتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة: في القبر
تدبُّر قَصص الأنبياء ودراستها؛ للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، فما نزلَت تلك الآيات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتلهِّي والتفكُّه، وإنما لغرضٍ عظيم، هو تثبيتُ فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفئدة المؤمنين معه، فلو تأمَّلنا قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 – 70]
الدعاء: فمن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجَّهون إلى الله بالدعاء أن يُثبِّتَهم: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 250]
ذِكر الله: وهو من أعظم أسباب التثبيت، تأمَّل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، فجعَله من أعظم ما يُعين على الثبات في الجهاد.
الحرص على أن يَسلُك المسلم طريقًا صحيحًا: والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كلِّ مسلم سلوكه هو طريق أهل السُّنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم، واتِّباع السُّنة والدليل، والتميُّز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
الثقة بنصر الله - سبحانه وتعالى - وأن المستقبل للإسلام: نحتاج إلى الثبات كثيرًا عند تأخُّر النصر؛ حتى لا تَزل قدَمٌ بعد ثبوتها؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 – 148].
التأمُّل في نعيم الجنة وعذاب النار، وتذكُّر الموت: والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومَحط رِحال المؤمنين، والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات، إلا بمقابل يهوِّن عليها الصِّعاب، ويُذلِّل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق.
فالذي يعلم الأجْر، تهون عليه مَشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لَم يَثبت، فستفوته جنة عرْضُها السموات والأرض، ثم إنَّ النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي، ويَجذبها إلى العالم العلوي.
رابعًا: نماذج لثبات المسلمين
لا شك أن النبي ﷺ ثبت في كل المواقف التي تعرض لها وكذلك الأنبياء، وكثير من الصحابة والتابعين، وكذلك كل مؤمن بالله حق الإيمان يثبت في هذه الشدائد وهو على ثقة بربه ، ومن أمثلة هؤلاء
الإمام أحمد - رحمه الله -: فقصة ما لَقِيه من الأذى والتعذيب في سبيل عقيدته، لا تخفى على أحد، تُخلع يداه، ويُجلَد بالسِّياط الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قُساة القلوب وغِلاظ الأفئدة؛ ليَجلده كلُّ واحد منهم سوطين بكلِّ ما أُوتي من قوَّة، يتعاقبون عليه - رحمه الله - وهو ثابت كالطَّود الأشمِّ، ولا يتراجَع أبدًا، يُغمى عليه من شدَّة التعذيب، ثم يفيق، فيَعرضون عليه الأمر، فلا يتراجع، حتى يَنصره الله - سبحانه وتعالى - في النهاية، ويَنصر عقيدته التي كان يدافع عنها، وكان هذا الانتصار دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة.
لقد خرَج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخِل الكير، فخرَج ذهبًا أحمرَ، وتواطَأت القلوب على مَحبَّته، حتى صار حبُّه شعارًا لأهل السُّنة!
فأين الذين عارَضوه؟! وأين الذين عذَّبوه؟! وأين الذين نالوا منه؟! ذهبوا إلى ما قدَّموا، وبَقي حيًّا بذِكره، والذكر للإنسان عمرٌ ثانٍ، والبغي مهما طال عُدوانه، فالله من عدوانه أكبر!
الإمام أبو بكر محمد بن سهل، المعروف بابن النابلسي: قال عنه أبو ذرٍّ الحافظ: سجَنه بنو عُبيد - وهم المسمَّون كذبًا وتضليلاً بالفاطميين - على السُّنَّة، سَمِعت الدارقطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يُسْلَخ: ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58].
قال مَعْمَرُ بن أحمد بن زياد الصوفي: أخبرني الثقة أنَّ أبا بكر سُلِخ من مَفرِق رأسه، حتى بلَغ الوجه، وكان يذكر الله ويَصبر حتى بلَغ الصدر، فرحمه السَّلاخ، فوكَزه بالسكين موضعَ قلبه، فقضى عليه، وأخبرني الثقة أنه كان إمامًا في الحديث والفقه، صائم الدَّهر، كبير الصولة عند العامة والخاصة، ولَمَّا سُلِخ كان يُسمَع من جسده قراءة القرآن".
العز بن عبد السلام : لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، والثمن تسليم ديار المسلمين، فشهد ذلك الأمر العز بن عبد السلام، وشقَّ عليه الأمر، شقَّ على سلطان العلماء، فأنكر ذلك أيَّما إنكار، وترك الدعاء لـ إسماعيل، وعندئذٍ كتب جواسيس السلطان الذين بثَّهم لاستراق السمع بذلك، ورفعوا التقارير
الظالمة، وحرَّفوا القول وزخرفوه، فجاء كتاب السلطان باعتقال العز بن عبد السلام عليه رحمة الله.
فسجن وضُيِّق عليه، ثم أطلق ومُنع من الخطابة والتدريس، ومُنع من الاجتماع إليه، وخرج مهاجراً إلى أرض مصر، فأرسل له السلطان رسولاً وطلب منه التلطف مع العز، وعرض عليه بعض الأمور علَّه أن يلين أو يَهِن أو يضعف، وقال: إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله في خيْمة بجانب خيْمتي.
فذهب رسول السلطان إلى سلطان العلماء، وقال له: يا إمام! بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فأبى سلطان العلماء إلا الثبوت على محض الحق، وقال قولاً خرَّ من هوله ذلك الرسول صعقاً.
قال: يا مسكين! والله الذي لا إله إلا هو ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فأرغى رسول السلطان وأَزْبَدَ وهدده، وأعلن اعتقال الشيخ على الملا، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فاعتقلوه في خيمة بجانب خيمة السلطان، فأخذ الشيخ يرتل آيات الله البينات، يتصل بالله عن طريق التعبد بكلام الله.
وكان بعض ملوك الصليبيين عند ذلك السلطان، فقال هذا السلطان: أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم.
قال: هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم، فلما سمع ملوك الفرنجة هذه الميوعة الرخيصة من ذلك السلطان أرادوا أن يهينوه ويُذلُّوه؛ لأنه هان واستمرأ الهوان فقالوا: والله لو كان هذا قسيسنا لغسَّلنا رجليْه وشربنا مرقتها.
ثم انتصر المسلمون بعد ذلك على الصليبيين، ونجَّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، فدخل مصر آمناً لم يقدم تنازلاً، وازداد في الحق صلابة، فرحمه الله.
إنه بناء النفوس، إنه الإباء والاستعلاء، إنها ليست كبرياء إنما هي عزة العقيدة وعلو الراية ولاشك، ولقد تعرض البناة لأنفسهم في كل العصور لمواقف فنجحوا فيها بفضل الله.
بناء النفس يظهر في الفتن: أحدهم يصدع بكلمة الحق فيشْرَق بها المنافقون والظالمون، ويذيقونه في سبيلها ألواناً شتى من التعذيب في السجن لا تضاهيها إلاَّ ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتطارده الساعات، ثم تنقض على لحمه، تنهشه نهشاً إذا توقف عن الجري وهو صابر ثابت، معتصم بالله، لم يرده ذلك عن هدفه، ولم يصده عن بغيته وغايته، فأغاظهم ذلك فماذا يفعلون؟
حكموا عليه بالقتل، وتلك -والله- فتنة أيما فتنة، ثم جاءه الإغراء أن استرحِمْ ذلك الظالم ليخفف عنك الحكم، فقال في إباء واستعلاء: لئن كنت حوكمت بحقٍ فأنا أرتضي الحق، وإن كنت حوكمت بباطل؛ فأنا أعلى من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي التي تشهد لله بالوحدانية كل يوم مرات لترفض أن تقر حكم ظالم أيّاً كان ذلك الظالم ثم يقاد إلى حتفِه، ولسان حاله: الله أسعدني بظل عقيدتي أفيستطيع الخلق أن يشقوني
ويأتي أحد علماء السوء الذين باعوا دينهم بعرَضٍ من الدنيا، وما بنَوْا أنفسهم ليلقنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله فيتبسم تبسم المغضب، ويقول: يا مسكين! أنا أقاد إلى الموت من أجل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكل فتات الموائد بلا إله إلا الله، لا نامت أعين الجبناء([8]).
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق في الدنيا والآخرة
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء