الحمد لله ربِّ العالمين، أكرمنا بهذا الدِّين، الذي أساسه الألفة والمحبَّة والمودَّة بين الناس أجمعين، والتكاتف والتعاون والتحاض على عمل البرِّ لجميع المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خاطبنا وهو أحكم الحاكمين، ودعانا وهو أصدق المتحدثين، وقال لنا وللمسلمين - السابقين والمعاصرين واللاحقين:
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا" (103آل عمران).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، جَمَعَ الله عزّ وجلَّ به العرب بعد فُرقة، وأعزَّهم به بعد ذلِّة، وأغناهم به بعد فاقة، وجعل رُعاةَ الأغنام الحفاة العراة رُعاةً للأمم، وسادة للعالم، وحكاماً للدول.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارك على هذا النَّبِيِّ الأمين المكين، الذي أعلى الله شأنه في كتابه المبين، وقال فيه في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدِّين:
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (107الأنبياء).
صلِّ اللهم وسلِّمْ وبارك على سيدنا محمد، وآله الطيبين، وصحابته المُباركين، وأتباعه الهادين المهديين، وكل مَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، واجعلنا منهم أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين :
من ينظر في أحوال المسلمين الآن يرى عجباً!!
تقاتلٌ بين المؤمنين، وتناحرٌ بين المسلمين، وخلافات في المحاكم لا حدَّ لها تحتاج للحُكم فيها إلى سنين.
ويرى المسلمين منهم السبَّاب، ومنهم اللَّعان، ومنهم الذي يتكلم بأفحش الألفاظ، ومنهم الذي يصنع أحط الأعمال، والكلُّ يزعم أنه باسم الإسلام يتحرك، وباسم الإيمان يفعل، وبالإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلَّم يصنع ذلك.
ما هذا العجب العجاب؟!!
وهل كان أصحاب النبي الصفيِّ صلى الله عليه وسلم الذين كانوا حوله على هذه الشاكلة؟
لا والله،
كانوا كما وصفهم الله: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" (29الفتح).
التراحم والتواد، والشفقة، والعطف، والرحمة والحنان، والإيثار ـ
كيف كان حديثهم مع بعضهم؟ "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ" (23الحج).
لا ينطقون إلا بالكلام الطيب، يُعبِّر عنه أحدهم فيقول:
(كنا ننتقى أطايب الكلام كما تنتقون أطايب الطعام). ينتقون الكلمات الطيبة التي تسُّر الخاطر، والتي تُفرح الحزين، والتي تُذهب الألم، والتي تجعل الناس يشعرون جميعاً بقول الله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (10الحجرات). الكلُّ حريصٌ على أخيه، والكلُّ يحب الخير لأهله وذويه، والكلُّ يسارع في جلب الخير لأى مسلمٍ من المسلمين ولو بلا طلب، يتبرَّع بذلك ويسعى نحو ذلك، طلباً لمرضاة الله جلَّ في عُلاه.
لِمَ كانوا كذلك؟!!
ولِمَ صرنا نحن الآن على غير ذلك؟!!
لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم ربَّى أصحابه على أمرين اثنين في غاية الأهمية:
الأمر الأول:
سعى بهم في طريق الله، ومشى بهم في نور كتاب الله، حتى خَلَعَ حُبَّ الدنيا من قلوبهم، وأصبحت الدنيا وزخرفها وزينتها وزهرتها لا تشغل لهم عين، ولا تُعكِّر لهم بال، ولا تخطُر على القلب.
القلب ملكٌ لمقلِّبه عزّ وجلَّ، والدنيا جعلوها في أيديهم ولم يجعلوا لها مَحِلاً في قلوبهم أبداً،
لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم وصف ما نحن فيه الآن وسببه!!
ما سبب كل ما نحن فيه؟
يقول فيه الحكيم الذي أرسله العزيز الحكيم صلى الله عليه وسلَّم:
(حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيئة) ( رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلا).
فتِّش عن أى مشكلة بين شخصين، بين عائلتين، بين فريقين، بين حزبين، بين دولتين، بين أيِّ طرفين، تجد أن سبب هذه المشكلة هو حُبُّ الدنيا.
والدنيا إما طمعاً في مالٍ فانٍ، وإما في أرض ترثنا ولا نرثها، كلُّنا نذهب ونتركها لغيرنا ونخلفها لسوانا - وإما طمعاً في زعامة أو كرسي لا يدوم لأحد، وإما رغبة في شهرة عاجلة بين الخلق، هو أول من يتبرأ منها يوم لقاء المَلِكِ الحقّ. هذه هي الدنيا وما تصنعه بنا جماعة المسلمين!!
ربَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه على أن الدنيا غرَّارة وضرَّارة ومرَّارة، لا يحرصون على ما فيها من شهوات، ولا يقبلون بالكلية على ما فيها من زهرة فانية وأموالٍ ونساءٍ وثمرات، وإنما يجعلوها وسيلة لبلوغ المراد وتحقيق الآمال، ليست غاية عند واحدٍ منهم، وإلا فانظر معي!!
كيف يتنازل رجلٌ لرجلٍ - ليس قريباً له، ولا نسيباً، ولا مشاركاً له في تجارة، ولا يرجو من ورائه مساعدة في أيِّ أمر
كيف تسخو نفسه عن نصف ما يملكه؟!!
إلا إذا كان هذا ملأ الله بالإيمان قلبه، وخرجت الدنيا بالكلية من قلبه، ولذلك مدحهم الله وقال فيهم في كتاب الله: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (9الحشر).
لم يتبرعوا لإخوانهم عن غنىً فيتبرعون بالزائد، ولكن قد يكون البيت ليس فيه إلا زادٌ لفردٍ واحد، فيأتي بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطعمه، ويبيت هو وزوجه وأولاده جائعين،
لماذا؟!! طمعاً فيما عند الله، وابتغاء رضاء الله عزّ وجلَّ:
"وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (17الأعلى).
أما نحن في عصرنا فما أكثر المتحدثين، وما أكثر المتكلمين، وما أكثر الفصحاء واللاسنين، لكن انظرهم عند الفعل أين هم؟!!
يأمرون ولا يأتمرون، ينهون الناس ولا ينتهون، يحثُون الناس على فعل الخير ولا يسعون إليه، وكأن كل وظيفتهم هي اللسان، وليس لهم في وظيفة العمل الصالح الذي هو الركن الأعظم من أركان الإيمان: الذي يقول فيه الله عز وجل "إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" (24ص).
انْظُرْ في كتاب الله تَرَ الإيمانَ مقرونا دائماً بعمل الصالحات، وقد ورد في الأثر:
(ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خدعتهم الأماني وغرَّهم بالله الغرور، وقالوا: نحسن الظن بالله عزّ وجلَّ. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
وقال صلى الله عليه وسلم :
(الكَيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني). (رواه الطبراني وأحمد والترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه)
الإيمان مقروناً دائماً بالعمل الصالح.
انظر إلى التاجر الذي عَلِمَ أن المدينة أوشكت على مجاعة وقحط، لأنه لم يَعُدْ فيها حفنة دقيق، وجاءه من بلاد الشام ألف جملٍ محمَّلين بالدقيق، وذهب إليه تجار المدينة مجتمعين وقالوا له: نريد أن نقاسمك، نأخذ البضاعة ونوزعها على أنفسنا ونعطيك ضعف ثمنها. قال: قد جاءني مَنْ أعطاني أكثر من هذا. قالوا: نعطك الضعفين، قال: جاءني من أعطاني أكثر من هذا. قالوا: من جاءك ونحن تجار المدينة ولم يتخلف منا أحد؟ قال: وعدني الله عزّ وجلَّ، بأن يأخذها مِنِّي بِعَشْرِ أمثالها، أشهدكم بأنها صدقة لفقراء المسلمين.
أين هؤلاء؟!!
أتدرى ما منزلة هؤلاء؟!!
يقول فيهم سيد المرسلين وإمام الأنبياء والصالحين صلى الله عليه وسلَّم:
(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة). (رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله)
أين هؤلاء من المحتكرين في هذا الزمان؟!! الذين يتفننون في احتكار الأقوات، واحتكار الضروريات، ليربحوا أموالاً طائلة في لحظات ولا يعنيهم شأن المسلمين!! مع أنهم يعلمون علم اليقين قول سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلَّم:
(لا يحتكر إلا خاطئ) (رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه)
وهل يكون بذلك من الأتقياء الأنقياء الذين صدقوا في الإيمان لربِّ العالمين؟ كلا والله!! إن المؤمنين كما قال فيهم ربُّ العالمين:
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (10الحجرات).
دخل جنود المسلمين فاتحين لبلاد فارس، وفُتحت قصور كسرى وبها خزائن لا يعلم مداها إلا الله، من الجواهر والأموال والسلاح وغيرها من أصناف الحياة الدنيا التي أغلبها لم يرها هؤلاء لأنهم كانوا فقراء ويسكنون في الصحراء.
رجلٌ من الجند عَثَرَ على الصندوق الذي تدخر فيه زوجة كسرى حُليِّها وجواهرها، ونظر إلى ما كان في هذا الصندوق من جواهر وذهبٍ وغيره لزوجة كسرى، وبعد انتهاء الجند من دخول القصور وأخذ ما فيها من متاع، إذا بنداء قائد الجيش سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه ينادي:
(من وجد من الجند شيئاً فليحضره إلى موضع الأمير). فسارعوا، حتى كان الرجل يُحضر الإبرة التي وجدها - وجاء الرجلٌ بالصندوقٍ لا يستطيع حمله. ففتحه فوجد فيه الذهب واللؤلؤ وما ذكرناه، فقال له:
أتعلم ما في هذا الصندوق؟ قال: نعم، فتحتُه ورأيتُ ما فيه.
قال: هل تدرى قيمته؟ قال: نعم.
قال: ألم تُسِّولْ لك نَفْسُكَ أن تأخذ بعض ما فيه؟!!
قال: لو سوَّلت لي نفسي ما جئتك به ، وإنِّي جئتك به لا خوفاً منك، ولكن خوفاً ممن يطلع على السرائر ويرى غيب الضمائر عزّ وجلَّ.
خوف من الله، وصدق إيمانٍ بحضرة الله جلَّ في عُلاه.
فأمر أن يجهزِّوا قافلة لحمل هذه الغنائم - انظروا قدر هذه القافلة، قافلة من الإبل أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس، حوالى ثلاثة آلاف كيلومتراً!! جِمَالٌ مرصوصة محمَّلة بهذه الجواهر وهذه الغنائم - ووُضعت في مكان في المسجد فلم يسعها، فوُضعت في مكان فسيح، فلما رآها عمر ومن معه قال:
(إن قوماً أدُّوا هذا لأُمناء). فقال علىٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: (عَفَفْتَ فعفَّت رعيتك يا أمير المؤمنين).
لأنك عففت نفسك عن ذلك، رزق الله الرعية أن تمشي وراءك، والناس على دِينِ ملوكهم كما يقول البعض.
فكانوا كلهم على هذه الشاكلة!!، الأخ عندهم في الله أغلى من الدنيا وما فيها، وفعل الخير أهم عندهم من ادخار المال، وفتح الكنوز،
أهم ما كان يحرصون عليه هو رضاء الله، والعمل بشرع الله، وطاعة حبيب الله ومصطفاه، والتنزُّه عن الدخول في هذه الدنيا طمعاً ورغبة لأنهم يعلمون علم اليقين أن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة خيرٌ وأبقى عند الواحد المتعال:
"قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا" (77النساء).
نحن نسينا الموت ونسير نحوه، ونرى كل يومٍ أُناساً يموتون وقد يأتيهم الموت فجأة وبغتة ولا يستطيع أن يقدِّم حسنة أو يتوب من ذنبٍ جناه، ومع ذلك نغفُل عن تلك الخاتمة، وتُسوِّل لنا أنفسنا بأننا باقون ولن نخرج من الدنيا، ونهجر القريب ونقطع الأرحام، ونُكِّسر القواعد التي وضعها المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
بل بعضنا يعقُّ الأبوين، وبعضنا يزاحم المسلمين في أعمال نَهَى عنها نَهْياً صريحاً ربُّ العالمين، حتى التبس على كثيرٍ من المسلمين فأصبحنا نسمعهم يقولون: لا ندري ما الصحيح فيما نراه؟!!
هل هذا هو رأى الإسلام، أو هذا رأى الإيمان؟!! لمَّا وجدوا فى الإختلاف بين الأقوام، لأن كلٌ أصبح يُفتي على حسب هواه وما تريد أن تحققه نفسه فى هذه الدنيا، مع أنه سيخرج ويتركها إن آجلاً أو عاجلاً!! مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (أيها الناس: إن هذه الدار دار إلتواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح. من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، ألا وإن أسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها أرغبهم فيها، هي الغاشَّة لمن انتصحها، والمغوية لمن أطاعها، والخائنة لمن انقاد إليها، فطوبى لعبدٍ اتقى فيها ربه وناصح فيها نفسه وقدَّم توبته وأخَّر شهوته من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة، فيُصبح في دارٍ مدلهمَّة ظلماء، لا يستطيع أن يزيد في حسنة، ولا أن يُنقص من سيئة، ثم يُنشر ويُحشر إلى جنة يدوم نعيمها أو إلى نارٍ لا ينفك عذابها) (كنز العمال عن ابن عمر رضي الله عنه)
أو كما قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).
الخطبة الثانية:-
الحمد لله ربِّ العالمين، نَحْمِدُهُ عزّ وجلَّ على ما وضعه من نور الإيمان في قلوبنا، وهدانا إلى الحقِّ وإلى الطريق المستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارك على سيدنا محمد الدَّاعي إلى الله بالله إلى الطريقٍ المستقيم، والسائر بنفسه وأصحابه وأتباعه على المنهج القويم، والناجي وأتباعه الذين صدقوا في اتباعه يوم الهول العظيم.
أيها الإخوة جماعة المؤمنين:
الأمر الثاني الذي ربَّى النبي صلى الله عليه وسلَّم أصحابه عليه بعد الزهد في الدنيا - وليس الزهد في الدنيا أن نتركها، وإنما يسعى لها من حلال، وينفقها في وجوه الحلال التي أباحها له ذي الجلال والإكرام، ولا نتركها لليهود ومن على شاكلتهم، لكن لا يأخذها من حرام، ولا يسعى لاكتسابها في تجارة في أمورٍ حرمَّها الله عزّ وجلَّ في شرعه.
وهذا ما جرى لنا الآن وسبَّب لنا المشاكل التي لا أول لها ولا آخر، وأولها وأهمها وأخطرها - كما تعلمون - تجارة المخدرات والمسكرات التي انتشرت في المدارس حتى بين الصبيان، وأصبح شباب المسلمين مغيبَّين عن الواقع، يمشون مغيبين عن الذاكرة، منهم من يتناول الممنوعات!!
أمورٌ صدَّرها لنا الأعداء ليهدموا شباب هذه الأمة.
مع أننا أهل إيمان، والإيمان يقتضي الأمن والأمان، نسمع في كل وقت وحين قول النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) ( أحمد ومسلم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه)،
وعلَّمهم النبي صلى الله عليه وسلَّم في الأمر الثاني:
أننا جئنا في هذه الدنيا لرسالة سامية ينبغي أن نحرص عليها لنخرج بها،
ما المهمة التي ربطت قلبك بها لتخرج بها من الدنيا وقد فُزت وجُزت؟ لابد لك من مهمة تحدِّدها لنفسك.
قد تكون المهمة كما قال الله في نفرٍ حول رسول الله:
"يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" (28الكهف).
يريدون أن يفوزوا بوجه الله يوم لقياه.
قد تكون المهمة الغاية منها رضاء الله جلَّ وعلا ليفوز بقول الله:
"رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ" (100التوبة).
هم رضوا عنه، فهو رضي عنهم عزّ وجلَّ، وهؤلاء لهم منازل الرضوان في الجنان.
قد تكون الغاية من المهمة، والغاية التي يقصدها المسلم من وجوده في الدنيا، أن يحظى بالجنة، فيدخلها آمناً مطمئناً.
وقد تكون الغاية هي الأمان من فزع يوم القيامة، ومن أهوالها ومن طول حشرها، وأن يكون من الذين يقول فيهم الله:
"أُولَئِكَ لَهُمُ الامْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (82الأنعام).
قد تكون الغاية من مهمته أن يكون من الأحياء عند ربهم يرزقون، يريدون أن ينالوا الشهادة.
ذهب رجلٌ إلى رسول الله وقال: (أريد أن أعاهدك على أن تُقطع رقبتي من ههنا فأدخل الجنة). انظر ماذا يطلب الرجل!! فبايعه النبي صلى الله عليه وسلَّم - وكان ذلك قبل إحدى الغزوات - وبدأت الغزوة، وما هي إلا لحظات وقُطعت عنق الرجل، وجاءوا إلى النَّبِيِّ وأخبروه، فبشَّره بالجنة لأنه صدق ما عاهد الله عليه: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهِ عَلَيْهِ" (23الأحزاب).
وفي إحدى الغزوات إنتهت بنصر المسلمين وحصولهم على غنائم كثيرة من الكافرين المحاربين، ووزَّع الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم على المقاتلين، وجاء رجلٌ فأعطاه ما قُدِّر له، فقال الرجل: لم أتَّبعك على مثل هذا أي: لم أتبعك على الحصول على الدنيا - ولكنى تابعتك على أن أنال الشهادة وأدخل الجنة، فقال صلى الله عليه وسلَّم: (أفلح إن صدق).
انظر إلى الذين باعوا النفس والمال!! والعقد كتبه لهم الواحد المتعال!! والوكيل الذي وقَّع العقد عن الله هو حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم!! ماذا قال فيهم الله؟ "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالانْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (111التوبة).
حدِّد لنفسك يا أخي غاية ترجوها من الله بعد الخروج من الدنيا، وسِرْ في سبيل تحقيقها، وكيِّف قلبك وجوارحك وكلَّ ما معك وكلَّ ما حولك لتنفيذها، واحرص أن الاَّ تخرج من الدنيا ولم تحصِّل شيئاً تجده عند الله وتقول كما قال الله: " يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ" (56الزمر). ولا ينفع التحسر ولا ينفع الندم.
أهم شيءٍ للمؤمن أن يكون له غاية عند الله، يحدِّدها بنفسه على وسع قدراته التي أعطاها له الله، فيسعى في عمره في سبيل تحقيقها، ويعلم علم اليقين أن الله عزّ وجلَّ إذا نوى وصدق، يُعِينُه على بلوغ غايته وتحقيق أمنيته.
........ ثم الدعاء