دروس وعبر من الإسراء والمعراج بين النظرية والتطبيق للدكتور خالد بدير



عناصر الخطبة:

الدرس الأول: بعد المحن تأتي المنح
الدرس الثاني: الصداقة الحقيقة بين الواقع والمأمول
الدرس الثالث : ذكر الله على كل حال 
الدرس الرابع : شرف العبودية { أسرى بعبده } 
الدرس الخامس : مكانة الليل
الدرس السادس: مكانة المسجد عموما
الدرس السابع : أهمية ومكانة المسجد الأقصى
الدرس الثامن: أهمية الصلاة وسبب فرضيتها في السماء دون بقية العبادات!!
الدرس التاسع: تسليم القيادة والريادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
الدرس العاشر: رؤية الحقائق الغيبية وأثرها في تثبيت القلب وزيادة الإيمان
المقدمة: أما بعد:
الدرس الأول: بعد المحن تأتي المنح
من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرَّ بدعوته ثلاث سنوات؛ وحينما أمره الله بالجهر بالدعوة لقي صلى الله عليه وسلم أشد أنواع الإيذاء والاضطهاد منذ أن جهر بالدعوة على جبل الصفا ؛ وكان أول من وقف ضده أقرب الناس إليه عمه أبو لهب قائلا: تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟! ونزل في ذلك سورة المسد؛ ثم توالى الإيذاء بالسب والشتم تارة؛ وبرمي سلا الجزور عليه وهو ساجد أخرى؛ وبالحصار في الشعب ثالثة؛ وأشق من ذلك كله عليه فقدان عمه أبو طالب وزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وتبع ذلك عندما ذهب إلى أهل الطائف يطلب منهم الوقوف بجانبه وأن يدخلوا الإسلام؛ فعمد إلى نفر من ثقيف، فآذوه إيذاءً شديداً؛ وسلطوا عليه الصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه؛ ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ فنزل جبريل عليه قائلاً بلسان الحال قم يا محمد: إذا كان أهل مكة آذوك وطردوك فإن رب البرية لزيارته يدعوك!! فكانت رحلة الإسراء والمعراج؛ وبعد المحن تأتي المنح.
أيها المسلون؛ أيها الدعاة: إن هذه المحن والابتلاءات والشدائد التي نمر بها في حياتنا تعلِّمنا أن الدنيا دارُ التواء ، لا دارُ استواء ، ومنزل ترح لا منزلُ فرح ، وأن من عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، وأن الله قد جعلها دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاءَ الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
إنها تُعلمنا أن للمحن والمصائب حِكَماً جَليلة، منها أنها تسوق أصحابها إلى باب الله تعالى، وتُلبسهم رداءَ العُبودية، وتُلجئهم إلى طلب العون من الله .
إنها تُعلِّمنا أنَّه لا ينبغي أن تَصدَّنا المحن والعقبات، عن متابعة السير في استقامة وثبات .
إنها تُعلِّمنا أنه لولا الجهادُ والصبر ، ما عُبِدَ الله في الأرض ، ولا انتشر الإسلام في الخافقين ، ولا قُمنا في هذا المكان ، وعلى أمواج الأثير نوحِّدُ الله ونُسبِّحه ، وندعو إليه .
إنها تُعلِّمنا أن اليسر مع العُسر ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب . 
الدرس الثاني: الصداقة الحقيقة بين الواقع والمأمول
فحينما عاد صلى الله عليه وسلم من رحلة الإسراء والمعراج وقص على قريش ما حدث كذبوه فيما قال؛ وعلى رأسهم المطعم بن عدي الذي قال: أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتدعي أنت أتيته في ليلة؟! واللات والعزى لا أصدقك. وانطلق نفرٌ من قريش إلى أبي بكر رضي الله عنه يسألونه عن موقفه من الخبر ، فقال لهم: ” لئن كان قال ذلك لقد صدق” ، فتعجّبوا وقالوا: ” أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟! ” ، فقال: ” نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ” ، فأطلق عليه من يومها لقب ” الصديق”. (عيون الأثر , وسبل الهدى والرشاد)
ولا ننسى لهفة أبي بكر وحبه لصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة؛ وهذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم!! إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه.
وفي طريق الهجرة كما ذكر ابن القيم في زاد الميعاد، والبيهقي في الدلائل: ” أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الغار، كان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله، فقال: أذكر الطلب (ما يأتي من الخلف) فأمشي خلفك، وأذكر الرصد (المترصد في الطريق) فأمشي أمامك، فقال صلى الله عليه وسلم: ” لو كان شيء أحْبَبْتَ أن تُقتل دوني؟ “، قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه ” 
لقد ضرب الصديق لنا مثلا رائعا في أن الصداقة مبادئ ومواقف، وليست شعارات وأقوالا؛ وهكذا الصداقة الحقيقية, ولله در من قال: 
جزى الله الشدائد كل خير * * * * * عرفت بها عدوي من صديقي
وإنك لو نظرت إلى واقعنا المعاصر تجد أن الصداقة من أجل المصلحة والمنفعة والفائدة؛ فإذا انتهت المصلحة والفائدة انقطع حبل الصداقة؛ وتجد الشخص يتودد إليك بالكلام المعسول؛ ويقابلك بالقبلات والأحضان والمعانقة؛ فإذا احتجت إليه وقت العسر والشدة كأنه لا يعرفك؛ وكان أبعد الناس منك؛ وفي ذلك يقول لقمان الحكيم: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب؛ ولا يعرف الشجاع إلا عند الحرب؛ ولا يعرف الأخ إلا عند الحاجة إليه.( المجالسة وجواهر العلم للدينوري)؛ وكفي بالواقع المعاصر على ذلك دليلا!!! 
الدرس الثالث : ذكر الله على كل حال 
تبدأ سورة الإسراء بكلمة ” سبحان ” فيها التنزيه والتعظيم والإجلال لصاحب هذه المعجزة من ألفها إلى يائها ، فكانت المعجزة كلها بقدر الله وبقدرة الله عز وجل ، ولكي تتعلم الأمة درس التسبيح والتعظيم والتمجيد لله عز وجل ومفاد ذلك : 
أن تعيش الأمة مسبحة لله … أن تعيش الأمة ذاكرة لله ………. أن تعيش الأمة موصولة بذكرها وتسبيحها لله عز وجل ، ولما لا تعيش الأمة مسبحة لربها والكون كله مسبح لله يقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}(الإسراء: 44) .
فكل عبادة في هذا الدين الحنيف لها حد ووقت إلا الذكر ليس له حد ولا وقت ولا حال يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }(آل عمران: 190 – 191)؛ فهذا الرجل الذي سأل النبي- “- عن عباده يسهل يطبقها وترفع درجته عند ربه فقال له المعصوم- ” -: ” لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله “.(أحمد والترمذي)
ومن العجيب أيضا أن عبادة ذكر الله كانت وصية خليل الله إبراهيم للمعصوم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في هذه الرحلة المباركة فعندما صعد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إلى السماء السابعة وجد خليل الله إبراهيم ساندًا ظهره إلى البيت المعمور فقال له: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام؛ وأخبرهم أن الجنةَ طيبة التربة وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله”.. 
فينبغي أن يكون للمرء ورد ذكر في يومه وليلته، فما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا إلا وعلمنا فيه ذكرًا ودعاءً، ذكر الاستيقاظ من النوم، دخول الخلاء والخروج من الخلاء، لبس الثياب، الطعام، الخروج من المنزل، ركوب الدابة.. كل شيء حتى تعود إلى نومك.. فهل شغلنا أنفسنا بذلك وكانت ألسنتنا رطبةً بذكر الله عبيدًا وعبادًا؟
الدرس الرابع : شرف العبودية { أسرى بعبده } :
يقول المولى سبحانه: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ }( الإسراء: 1)؛ ولماذا لم يقل برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله ، فلله عز وجل في كونه عبيد وعباد، فكلنا عبيد الله؛ الطائع فينا والعاصي والمؤمن فينا والكافر، ولكن عباد الله هم الذين أخلصوا له فاتحد اختيارهم مع منهج الله سبحانه وتعالى ، ما قال لهم افعلوه فعلوه وما نهاهم عنه انتهوا؛ ولذلك عندما يتحدث القرآن عنهم بين خلق الله لا يسميهم عبيد ولكن يسميهم عبادًا يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا }(الفرقان: 63).
والحق قد استخدم كلمة عبده ليلفتنا إلى حقيقتين هامتين؛ الأولى: أن الإسراء بالروح والجسد ولم يكن منامًا، والثانية والأهم: أن الله جل جلاله يريد أن يثبت لنا أن العبوديةَ له هي أسمى المراتب التي يصل إليها الإنسان، فالعبودية لله عزة ما بعدها عزة ، وعطاء ما بعده عطاء؛ وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالي: { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}( الكهف: 65).
إن العبودية لله شرف ، والعبودية للبشرية نقيصة وذلة ؛ لأن السيدَ يريد أن يأخذ خير عبده وأن يجرده من كل حقوقه وماله، ولكن لله سبحانه وتعالى يعطي بغير حساب فكفى بالمرء عزًا أن يكون عبدًا وكفى به فخرًا أن يكون الله له ربًا ، ولقد خُيِّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – بين أن يكون نبيَّا ملكًا أو عبدًا رسولاً فاختار أن يكون عبدًا نبيا..( دلائل النبوة للبيهقي) ؛ وبهذه العبودية وصل رسول الله- صلى الله عليه وسلم – إلى مكانٍ لم يصل إليه ملكٌ مقربٌ ولا نبي مرسل، بل كان رسول الله يجتهد أن يصل إلى هذه العبودية الحقة بقيامِ الليل حتى تورمت أقدامه؛ فلما أشفقت عليه زوجه عائشة- رضي الله عنها- وقالت: يا رسول الله هون على نفسك فأنت الذي غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.. فقال:” يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟!” (متفق عليه)؛ بل طلبَ من أمته ذلك؛ فقال- صلى الله عليه وسلم -: ” لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده؛ فقولوا عبد الله ورسوله”.(البخاري)
وليعلم كل مسلم أن التمكين والنصر والتأييد والأمن لا يكون إلا لعباد الله عز وجل المخلصين قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55).
الدرس الخامس : مكانة الليل
لماذا كانت الرحلة والمعجزة ليلاً ؟.. أراد الله أن يُلفت الأمة إلى قيمةِ الليل ومكانته حين يقسم بالليل في أكثر من موضع، والله لا يقسم إلا على عظيم، وعلى هذه الأمة التي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم نبيًا ورسولاً وبالقرآن حكمًا ومنهاجًا وشريعةً ودستورًا أن تُعظِّم ما عظَّم الله تعالى؛ فتدرك خير الليل وتستفيد من بركات الليل؛ فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يكره السهر بعد العشاء إلا لضرورةٍ، وكان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فرسانًا بالنهار رهبانًا بالليل إذا جنَّ الليل سمعت لهم دويًّا كدوي النحل؛ لذا على كل مسلم أن يدرك قيمة الليل ويعرض نفسه لرحمات الله خاصةً عندما تنزل الحق تبارك وتعالى في الثلث الأخير من الليل ويقول: ألا من سائل فأعطيه؛ ألا من داعي فأجبه؛ ألا من كذا ألا من كذا حتى يؤذن الفجر.. 
أحباب رسول الله: الليل له رجاله يقل الحق فيهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات: 17 ؛ 18)، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16)، ولقد فطن أعداء هذه الأمة لهذا فحاربوا الأمة في ليلها فأسهروها الليل فيما لا يفيد من النت والدش والفيس بوك وغير ذلك؛ وأناموها بالنهار؛ فضاعت البركة من الأمة في بكورها وضاع منها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ” اللهم بارك الله لأمتي في بكورها”. ( أحمد وأبوداود والترمذي)
الدرس السادس: مكانة المسجد عموما
درس آخر وهو ربط الرحلة في بدايتها ونهايتها بالمسجد، فالخروج من مسجد وإلى مسجد لتعلم الأمة قيمة المساجد ومكانتها في الإسلام، فهو بيت الأمة الذي اهتمَّ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في بداية بناء دولة الإسلام، فالمسجد له مكانته وله دوره في الإسلام الذي لا بد أن يعود حتى يتخرج منه الرجال الذين يحملون دعوة الله ويبلغون رسالته ويصدق فيهم قول ربهم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}( النور: 36 – 38)..
وهنا يجب أن يعلم كل مسلم أن المساجد إنما أنشأت للصلاة ، وحينما جعل الله صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة لم يكن ذلك إلا لأهمية الصلاة في المسجد ….. فالصلاة في جماعة ببيت الله هي إصلاح للنفس وتطهير لها مما علق بها بالدنيا ، وإذا أردتم أن تعرفوا فضل عرض النفس على الله انظروا للغرب وكيف أن معظم أفراده يعرضون أنفسهم على أطباء المرض النفسي؟! بل ويقدرون تلك الجلسات الطبية ويدفعون فيها أغلى الأثمان!! وكلما كان الطبيب ماهرا علت قيمة مقابله المادي!! ونظرة على المسلمين وخاصة المداومين على صلاة الجماعة أتحدى أن يكون منهم من يعاني مرضا نفسيا !!… لأنه يعرض نفسه خمس مرات يوميا على فاطر الأرض والسموات وسبحانه إذ يقول: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).
الدرس السابع : أهمية ومكانة المسجد الأقصى
لقد بعث الرسول في مكة؛ وبها أول بيت وضع للناس؛ ولقد أثبت العلم الحديث أن مكة والمسجد الحرام وسط ومركز اليابسة في العالم؛ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أسري بالنبي – صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ليعرج به من هناك ولم يعرج به من المسجد الحرام مباشرة من حيث موطنه ومبعثه؟!! أقول: ذلك لحكم كثيرة وجليلة تتلخص فيما يلي:
* أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، لأنهم لا علم لهم بالعالم العلوي، إذ لا يمكن إطلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، لذلك قال لقريش: ” وآية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء. قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم وسألوهم عن الإناء وعن البعير، فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه، وذكر عن إسماعيل السدي، أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم. قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون.”(البيهقي، وسيرة ابن كثير)
* الترابط بين مهبط الرسالات: فبيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صلى الله عليه وسلم، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
* أن أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، بركة حسية ومعنوية، فيها بيت المقدس؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش هناك أغلب الأنبياء، ودفن هناك إبراهيم ولوط ويعقوب ويحيى وزكريا عليهم السلام، ولقد مدحها الله في القرآن الكريم في خمسة مواضع؛ وهي أرض إسلامية صرفة، ليست ملكًا لحاكم ولا لشعب، وإنما هي ملك للإسلام والمسلمين في كل مكان، وهذا يبيِّن واجبنا نحوها ونحو أهلها والمقدسات التي على أرضها، وفي الحديث: “لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك” (البخاري). وفي رواية: (قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: “في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. وكل البلاد الإسلامية التي تحيط بها من أكناف بيت المقدس.
الدرس الثامن: أهمية الصلاة وسبب فرضيتها في السماء دون بقية العبادات!!
إن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت ليلة الإسراء والمعراج في السماء السابعة وبدون واسطة, فلماذا فرضت العبادات كلها عن طريق الوحي على وجه الأرض دون الصلاة، فأخذ الله نبيه إلى مكان لم يصل إليه أحد فتفرض هناك خاصة؟!!
والجواب عن ذلك أقول: إن الإنسان يتكون من قسمين: جسد وروح، فالجسد خلق من طين وغذاؤه من طين ومرجعه للطين، والروح مخلوقة من روح الله { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29)، وغذاؤها غذاءٌ روحي هو العبادة والصلاة، ومرجعها إلى الله كما في الحديث أن ملك الموت وأعوانه يصعدون بها إلى الله حين قبض الروح من العبد مباشرة، فناسب أن يكون غذاؤها من المكان الذي خلقت منه – كالجسد وغذاؤه – ففرضت هناك، فأصبحت معراجاً روحياً بينك وبين الله، ففي صحيح مسلم ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ”
فالصلاة معراج للأرواح والنفوس، خمس مرات كل يوم في الأداء، وخمسون في الأجر والثواب عند الله، وإشارة إلى أن المسلم يسمو بنفسه وروحه فوق الشهوات والشبهات، ودائمًا يتطلع إلى المعالي، ويتعلَّق بالمثل الأعلى في كل شيء من قيم الحياة، فلا يرضى بالدون أو المؤخرة. 
وثمة حكمة أخرى من فرضية الصلاة في السماء: أن الصلاة هي العبادة الوحيدة التي يشترك فيها أهل السماء مع أهل الأرض، لأن الملائكة لا تزكي لأنها لا تملك المال، ولا تأكل ولا تشرب حتى تصوم، ولا تتناكح ولا تتناسل حتى تؤمر بصلة الأرحام وضوابط المعاملات، وإنما هي أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل بأشكال حسنة، مفطورون على العبادة، منهم الراكع لا يرفع رأسه، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه، ومنهم المسبح ومنهم القائم، وكرم الله الإنسان لأنه جمع في صلاته أنواع صلوات الملائكة من قيام وركوع وسجود وتسبيح وغيرها، فالملائكة يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك. وإذا كانت الملائكة تقول ذلك حياءً من التقصير- مع أن الراكع والساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة – فماذا نقول نحن لله؟! لذلك ناسب أن تفرض الصلاة في السماء لاشتراك أهل السماء مع الأرض فيها.
عباد الله: لو جئنا إلى التطبيق العملي لوجدنا أن الكثير من الناس يغفل عن هذا المعراج الروحي من خلال الصلاة والعبادة؛ ويهتم بأمور الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ وبعد ذلك يقول: إنني في ضيق وغم وهم وحزن!!!
إن الحياة بدون عبادة حياة خاوية الروح، مظلمة الفكر، منتنة الطبع، متعفنة الفطرة، مرة المذاق، ولا أدل على ذلك من حالات الناس في تلك المجتمعات التي فقدت السلطان الروحي؛ حيث يندفع الكثير منهم إلى الانتحار نتيجة القلق النفسي، فإن عبادة الله سبحانه وتعالى بها يحفظ التوازن بين مطالب الجسم ورغائب الروح، وبين دوافع الغرائز ودواعي الضمائر، وبين تطلعات العقل وأشواق القلب، وهي مدد ووقود لجذوة العقيدة التي تنير جوانب النفس. ولذلك ” كان النبي  إذا حزبه أمر صلى ” ( أبو داود )، وكلما أحس  بضيق أو هَمٍّ يقول: ” أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها “( أبو داود )، فكلما بعدتَّ عن العبادة والطاعة كنتَ في ضيق وغمٍّ وقلق نفسي وتوتر وضنك، والشفاء والعلاج في صلتك بالله، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}( طه: 124 – 126)
فضلا عن أن الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال؛ وإنما يعتريها التخفيف؛ أما الصوم والزكاة والحج فهي عبادات تسقط بالكلية عند عدم الاستطاعة؛ كما أن الصلاة أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ لذلك كله ناسب أن تفرض في السماء.
فما أحوجنا إلى المحافظة على هذه الفريضة العظيمة التي أكرمنا الله بها في ليلة الإسراء والمعراج عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم!!
الدرس التاسع: تسليم القيادة والريادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وهذا الدرس العظيم يتمثل في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بجميع الأنبياء والمرسلين إماما بعد أن أحياهم الله له جميعا؛ وفي ذلك إشارةٌ إلى مكانة النبي عند ربه، وإشارة إلى وحدة الرسالات السابقة في المصدر والهدف والغاية، فمصدرها جميعًا من الله، وهدفها تعبيد الناس إلى الله، فالأنبياء جميعًا إخوة فيما بينهم، كل واحد يؤدي دوره، ويأتي من بعده ليكمل الرسالة، وفي الحديث: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة؛ فكان الناس يقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة”(البخاري). كما يدل ذلك دلالة واضحة على العهد والميثاق الذي أخذه الله على كل الأنبياء والمرسلين لئن بعث محمد وأنتم أحياء لتؤمنن به ولتنصرنه؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ؛ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؛ (آل عمران: 81 ، 82)؛ ” قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه. وروي أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقال : يا رسول الله ! إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب ، قال : فغضب وقال : (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ! فوالذي نفسي بيده ! لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده! لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني” ( تفسير ابن كثير )
إن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت خاتمة وناسخة لكل الشرائع التي مضت؛ وإن على الجميع الإذعان والتسليم والانقياد لهذا الدين العظيم دين الإسلام؛ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)؛ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:” وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ” (مسلم)
إن الإسلام دين السلام والتسامح؛ ولم يكره أحدا على الدخول في الإسلام ؛ { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }( الكهف: 29)؛ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54؛ والعنكبوت : 18) فهل يعي الآخر ذلك ويطبقه؟!
‏الدرس العاشر: رؤية الحقائق الغيبية وأثرها في تثبيت القلب وزيادة الإيمان
فنحن نعلم أن الإيمان بالغيب درجات ثلاثة، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فلو قلت لك هناك موت وبعث وجنة ونار، فهذا علم، فلو رأيت ذلك بعينيك فهذا عين اليقين، فلو جربته وأكلت من الجنة مثلاً فهذا حق اليقين، وكلما ارتقيت من درجة إلى أخرى يزداد يقينك وإيمانك بالله، فليس من رأي وجرّب كمن علم وسمع.
فلو قلت لك: أن فاكهة العنب طرحت في السوق؛ فهذا علم؛ فلو ذهبت إلى السوق ورأيت العنب ازداد يقينك وتأكدت؛ وانتقلت إلى الدرجة الثانية وهي درجة عين اليقين؛ فلو اشتريت قطفا وأكلته؛ وصلت إلى الدرجة الأخيرة وهي : حق اليقين!! والدرجات الثلاثة وردت في القرآن الكريم قال تعالى:{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} (التكاثر) ، فهاتان درجتان، والثالثة في قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}(الواقعة:95) والضمير عائد على الموت وخروج الروح، فهو حق أي أن الكل سيجربه حقاً ويموت. فالله أكرم نبيه في المعراج برؤية الغيبيات لهذه الحكمة، وقد ذكر ذلك في آيات الإسراء فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء : 1)، وفي آيات المعراج قال:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم: 18)، وهذا الأمر ليس قاصراً على نبينا فقط، بل شمل أنبياء كثيرين قبله، فهذا موسى قال الله له:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه: 22- 24)؛ فأراه الآيات أولاً تثبيتاً له ثم عقبها بالذهاب إلى فرعون.
وهذا إبراهيم عليه السلام قال الله فيه:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 260)، جاء في تفسير ابن كثير: “عن ابن عباس قال: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْك } أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة جبال . وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال:{ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. قال ابن عباس في قوله تعالى: { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ما في القرآن آية أرجى عندي منها” أ.ه
وكأن الله يقول لسيدنا إبراهيم نحن أكرم منك يا إبراهيم، فأنت طلبت الرؤيا-الدرجة الثانية عين اليقين- ونحن جعلناك جربت ذلك بنفسك فأعطيناك الدرجة الثالثة.
لذلك كان الصحابة يزداد يقينهم وثباتهم وإيمانهم برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم فما بالك برؤية الله؟!! فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:” لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ”( مسلم)، فينبغي عليك أن تتذكر الغيب أمامك؛ وتعمل كل عمل يذكرك بربك والآخرة؛ فذلك أدعى لزيادة الإيمان وتثبيت قلبك على طاعة الرحمن!
هذا فضلا عن أن المشاهد التي رآها الرسول في رحلة المعراج رسائل وإشارات إلى تحذير الأمة من هذه الانحرافات؛ حيث كانت العقوبات الشديدة المنفرة، فيحذِّر النبي الأمة من هذه الآفات كالربا، والزنا، وأكل مال اليتيم؛ والغيبة والنميمة وغيرها؛ لأنها أمراض اجتماعية تدمِّر الفراد والمجتمع. 
نسأل الله أن يجعل ما قلناه وما سمعناه حجة لنا لا علينا يوم القيامة؛ وأن يجعلنا من العالمين العاملين المخلصين!
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،، 


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات