الإسراء والمعراج دروس وعظات وعبر للشيخ عبد الناصر بليح



الحمد لله رب العالمين الذي أسري بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى المبارك ليريه من آياته الكبرى . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين .وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ..  اللهم صلاة وسلاما عليك يا سيدي يا  رسول الله وعلي آلك وصحبك وسلم .. أما بعد فيا جماعة الإسلام :
إن المؤمن العاقل اللبيب هو من يأخذ من الأحداث التي تقع له أو لغيره عبراً وعظات يجني من ورائها الكثير من الخيرات , ويقطف العديد من الثمرات ..والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من وعظ به غيره ..والقرآن الكريم حافل بذكر أحداث كثيرة في ذلك ..ليأخذ الناس منها العبرة تعينهم علي إصلاح حالهم ومستقبلهم .. فالله عز وجل يقص في القرآن أحداثاً وقعت ثم يعقب عليه بمثل قوله تعالي :”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ” (آل عمران /13)، “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ”(يوسف /111)، وقال تعالي :”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى”( النازعات /26). 
الإسراء والمعراج معجزة حسية :
إخوة الإيمان : كانت معجزة الإسراء والمعراج من أجل المعجزات وأعظم الآيات التي تفضل بها المولى سبحانه على نبيه ومصطفاه محمد صلي الله عليه وسلم  , ولأهميته هذه المعجزة فقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في موضوعين , الأول : في سورة سميت باسم هذه المعجزة وهي سورة  الإسراء  ويعرف عند العلماء بأن الإسراء: الرحلة من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس،والتي بدأها سبحانه بقوله:” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْآيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء /1) . والثاني في سورة النجم وهو ما يعرف بالمعراج وهو الصعود إلى السماوات السبع وما فوقهاقال تعالى:” وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى  مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى  وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى  ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي  فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى  فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى  مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى  وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى  عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى  عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى  إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى  مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى  لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )النجم/1-18).
أيها الأحباب :  لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج معجزة حسية من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم  حارت فيها بعض العقول، فزعمت أنها كانت بالروح فقط ، أو كانت مناما، لكن الذي عليه  جمهور المسلمين من السلف والخلف أنها كانت بالجسد والروح، قال الإمام ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري : إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة بجسده وروحه صلي الله عليه وسلم  وإلى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل .. وكذلك قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم . . ومن الأدلة كذلك على أن الإسراء والمعراج بالجسد والروح استعظام كفار قريش لذلك، فلو كانت المسألة مناما لما استنكرته قريش،  ولما كان فيه شيء من الإعجاز . .
الدروس والعبر من حادث الإسراء:
إخوة الإسلام :”إن رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد حادث عادي، بل اشتملت هذه الرحلة النبوية على معان كثيرة، ودروس عظيمة، فمن ذلك :  
تكريم الرسول صلي الله عليه وسلم  والأنبياء والأمة الإسلامية:
لعلَّ هذا هو أبرز المعاني في هذه الرحلة الخالدة؛ فالرحلة من أولها إلى آخرها عبارة عن فقرات تكريمية لسيد المرسلين محمد صلي الله عليه وسلم  وكانت بذلك احتفالية غير مسبوقة لا يمكن مقارنتها بأي تكريم آخر على مرِّ التاريخ! لقد جاءت الدعوة من مَلِك السموات والأرض سبحانه إلى النبي الكريم صلي الله عليه وسلم  لمقابلته في الملكوت الأعلى، وشاء الله عز وجل أن يُعَدِّد الفقرات لرسوله صلى الله عليه وسلم وذلك لزيادة التكريم والتشريف، وكذلك للتمهيد للموقف العظيم، عندما يقف الرسول صلي الله عليه وسلم  في حضرة ربِّ العالمين، فكانت زيارة المسجد الأقصى، وكان العروج إلى السموات، وكانت مقابلة الأنبياء، وكانت زيارة سدرة المنتهى، ورؤية البيت المعمور، ورؤية جبريل عليه السلام في صورته الملائكية، ثم كان دخول الجنة بعد لقاء الله تعالى.. هذه كلها فقرات تكريمية خالدة؛ بل إن الغوص في التفاصيل لن يحمل إلا تكريمًا أعظم، وتشريفًا أجلَّ، فكل موقف في السموات، وكل كلمة صدرت من الأنبياء في لقائهم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكل مشهد في الجنة، كل هذا لا يعني -في حقيقته- إلا صورة متجدِّدة من التكريم والتشريف.
إمامة الأنبياء والوقوف أمامهم خطيباً تكريماً لهم  :
أيها الناس :  وإني لألمح فوق ذلك تكريمًا لبعض الأنبياء كذلك في هذه الرحلة؛ فالأنبياء عددهم هائل، ولا يقف عددهم كما يتخيل البعض عند الأسماء التي ذُكِرَت في القرآن الكريم؛ فقد قال الله تعالى: “وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ”(النساء/ 164). فَمِنْ كل هذا العدد الكبير اختار الله تعالى عددًا محدودًا ليكون في شرف استقبال النبي الـمُكَرَّم صلي الله عليه وسلم  عبر السموات العلا بعد أن  أكرمهم جميعًا بالصلاة خلفه في المسجد الأقصى، فكانت صلاةً رائعة جمعت أتقى البشر، وأعظم الموحدين، وأفضل مَنْ عرفوا الله تعالى.و فوق ذلك تكريمًا للأُمَّة الإسلامية التي جعل اللهُ سبحانه قيادتها لهذا النبي العظيم، الذي هو في حقيقته مِنَّة من الله وفضل؛ قال تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ”(آل عمران/164).  فلله الحمد والشكر.
ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :” أتيت  بالبراق ـ وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه ـ، قال صلي الله عليه وسلم  : فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة (حلقة باب المسجد الأقصى)، التي يربط الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل ـ عليه السلام ـ  بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل اخترت الفطرة (الإسلام والاستقامة).. ثم عُرِجَ بالنبي صلي الله عليه وسلم  بصحبة جبريل إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل ، فسُئِل عمن معه؟، فأخبر أنه محمد صلي الله عليه وسلم ففُتح لهما.. وهكذا سماء بعد سماء ، حتى انتهيا إلى السماء السابعة، فلقيا في السماء الأولى آدم عليه السلام ، وفي الثانية يحيى وعيسى عليهما السلام ، وفي الثالثة يوسف عليه السلام ، وفي الرابعة إدريس عليه السلام ، وفي الخامسة هارون عليه السلام، وفي السادسة موسى عليه السلام، وفي السابعة إبراهيم عليه السلام . . ولقي النبي ـ صلي الله عليه وسلم  في كل سماء من الترحيب ما تقر به عينه وهو لذلك أهل..
فصلاته بالأنبياء ثم مقابلته بهم في الملأ الأعلى دلالة واضحة علي عموم وشمول رسالته وأنها الرسالة الخاتمة ..وأنه جاء للناس كافة بشيراً ونذيراً ومن لم يؤمن به فقد حرم الله عليه الجنة ..فقد جمع الله له بين الدعوة والدولة  والرسالة والقيادة والتبليغ والحكم وهو مالم يتحقق لنبي من قبل ..وقد أُعْطِىَ النبي صلي الله عليه وسلم  ما لم يعط رسول سبقه، فجاء الأنبياء برسالتهم إلى قومهم، وبُعِث صلي الله عليه وسلم  إلى الناس كافة، وختمت به رسالات السماء فلا نبي بعده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم  قال:”إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاًفأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون:هلا وُضِعت هذه اللبنة؟ قال:فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”(البخاري). 
تولد المنح من رحم المحن:أخوة الإسلام وبعد العسر يأتي اليسر، وقد تعرض رسول الله صلي الله عليه وسلم   لمحن كثيرة، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالها، وفقد النبي صلي الله عليه وسلم الشفيق، وتجرأ المشركون عليه، وفقد زوجه الحنون التي كانت تواسي وتعين، ثم حوصر بعد ذلك ثلاث سنوات في شِعب أبي طالب ، وما صاحبه من جوع وحرمان، و ما ناله في الطائف من جراح وآلام، ومع ذلك كله فرسول الله  صلي الله عليه وسلم  ماض في طريق دينه ودعوته،  صابر لأمر ربه . . فجاءت رحلة الإسراء والمعراج مكافأة ومنحة ربانية ، على ما لاقاه رسول الله صلي الله عليه وسلم  من آلام وأحزان، ونَصَب وتعب، في سبيل إبلاغ دينه ونشر دعوته . إِنَّ المُتَمَعِّنَ فِي الفَتْرَةِ الزَّمَنِيَّةِ التِي كَانَ فِيها الإِسرَاءُ والمِعْرَاجُ يُدْرِكُ لِمَاذَا كَانَتْ هَذِهِ المَرَائِي فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ، لَقَدْ كَانَ الإِسرَاءُ والمِعْرَاجُ فِي مُنتَصَفِ فَتْرَةِ الرِّسَالَةِ التِي امتَدَّتْ ثَلاَثةً وعِشْرِينَ عَاماً؛ فَجَاءَتْ بِمَثَابِةِ عِلاَجٍ أَزَالَ مَتَاعِبَ المَاضِي وآلامَهُ، وأَعطَى الأَمَلَ لِمُستَقبَلٍ مُشْرِقٍ مُضِيءٍ، وغَدٍ مُتَألِّقٍ وَضِيءٍ، ثُمَّ إِنَّ الأَحدَاثَ التِي وَقَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى اللهعليه وسلم- قَبلَ الإِسرَاءِ والمِعْرَاجِ مُبَاشَرَةً هِيَ أَحدَاثٌ آلَمَتْهُ، وضَايَقَتْهُ وأَحزَنَتْهُ؛ فَقَدِ ابتُلِيَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ الخَاصَّةِ بِمَوتِ زوجَتِهِ الوَفِيَّةِ خَدِيجَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهَا- وهِيَ التِي جَاءَها الرَّسُولُ -صلى اللهعليه وسلم- فِي أَوَلِ سَاعَاتِ الوَحْيِ نُزُولاً فَطَمْأنَتْهُ وآزَرَتْهُ وأَعَانَتْهُ، وسَارَعَتْ فَصَدَّقَتْهُ، وظَلَّتْ طُوَالَ حَيَاتِها تُخَفِّفُ عَنْهُ دَاخِلَ الدَّارِ مَا يَلْقَاهُ خَارِجَهُ مِنْ مَشَقَّةٍ واستِهْزَاءٍ واستِهْتَارٍ؛ فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا السَّلْوَى ودِفْءَ المَأْوَى، فكان العام العاشر من البعثة من أشَقِّ الأعوام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم تكن خديجة مجرَّد زوجة؛ إنما كانت صديقة وحبيبة وناصحة ومستشارة؛ ففقد رسول الله صلي الله عليه وسلم  بموتها الشيء الكثير، وحمل بعدها وحده مسئولية البنات التي تركتهن خديجة رضي الله عنها وراءها، إضافة إلى حِمْل الدعوة الثقيل، ومات كذلك أبو طالب عمُّ الرسول  صلي الله عليه وسلم  الذِي كَفَلَهُ واحتَضَنَهُ وهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ دَافَعَ عَنْهُ حِينَ نُبِّئَ وأُرسِلَ، وحزن الرسول صلي الله عليه وسلم  كثيرًا لموته، ليس لفقدان الدعم السياسي والاجتماعي فقط؛ ولكن لكونه مات كافرًا؛ بل نهى اللهُ تعالى رسول الله صلي الله عليه وسلم  أن يستغفر له؛ قال تعالى: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ”(التوبة/ 113).  فكان ألمه صلي الله عليه وسلم  لذلك كبيرًا، وتعرَّض رسول الله صلي الله عليه وسلم  بعد ذلك لآلام شديدة في مكة عندما تطاول أهلها عليه بعد وفاة عمِّه؛ مما وصل به إلى الدعاء عليهم للمرَّة الأولى في حياته؛  وكَانَ بَيْنَ مَوتِ خَدِيجَةَ الوَفِيَّةِ وأَبِي طَالِبٍ النَّصِيرِ زَمَنٌ جِدُّ يَسِيرٍ، إِنَّ مَوتَهُمَا مُصَابٌ عَظِيمٌ مُؤْلِمٌ أَحَسَّ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم  بِوَقْعِهِ الشَّدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ، ولَكِنَّ الأَلَمَ لَمْ يُقْعِدْهُ؛ فَوَاصَلَ المِشْوَارَ، مُمتَطِياً ظَهْرَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، بَاحِثاً عَنْ بَلَدٍ آخَرَ يُؤوِيهِ، ويُسَانِدُ دَعوَتَهُ ويَحْمِيهِ، فَلَمْ يَجِدْ مَا كَانَ يَأْمَلُهُ ويَرجُوهُ، حَيْثُ امتَدَّتْ إِليهِ الأَيْدِي بِالإِيذَاءِ وعَبَسَتْ لُهُ الوُجُوهُ؛ فَعَادَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَقُوبِلَ بِمَزِيدٍ مِنَ الصُّدودِ، وإِيذَاءٍ فَاقَ التَّصَوُّرَ والحُدُودَ، ولَمَّا لَمْ يُحَقِّقْ أَمَلَهُ ومُرَادَهُ؛ عَادَ الأَلَمُ مَرَّةً أُخْرَى يَعْصِرُ فُؤَادَهُ، وبَيْنَما هُوَ عَلَى هَذَا الوَضْعِ والحَالِ إِذْ أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالى لِتَفْرِيجِ الأَزَمَاتِ الشِّدادِ؛ بِرِحلَةِ القُرْبِ والوِدَادِ، فَكَانَتْ رِحلَتَا الإِسرَاءِ والمِعْرَاجِ شَرَفاً ونِعْمَةً لِلنَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  فَالمِنْحَةُ تَكْمُنُ فِي المِحنَةِ، والعُسْرُ بَعْدَهُ يُسْرٌ، والضِّيقُ بَعْدَهُ سَعَةٌ، والكَرْبُ بَعْدَهُ فَرَجٌ، يَقُولُ اللهُ تَعَالى:”فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً”، ويَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- لابْنِ عَمِّهِ عبدا لله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا:” اعلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً “
الإسلام دين الفطرة :  
إخوة الإيمان : وقد ظهر ذلك في اختيار النبي صلي الله عليه وسلم  اللبن على الخمر، وبشارة جبريل عليه السلام للنبي صلي الله عليه وسلم  بقوله:” هُدِيت إلى الفطرة،  ففي ذلك دلالة على أن الإسلام هو الدين الذي يلبي نوازع الفطرة في توازن بين الروح والجسد،  والمصالح والمفاسد، والدنيا والآخرة، فلو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد، لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره، وهذا من أهم أسرار سرعة انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه،رغم ما يوضع أمامه من عوائق وعقبات.قال تعالى:”فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَالا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لا يَعْلَمُونَ” (الروم:30).
الثبات على الحق وإلتزام المبدأ :
عباد الله :ومن الدروس الثبات علي الحق ويتضح ذلك من المشهد الذي رآه النبي صلي الله عليه وسلم  لماشطة ابنة فرعون , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم :”لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِى أُسْرِىَ بِى فِيهَا أَتَتْ عَلَىَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلاَدِهَا. قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِىَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِى قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ رَبِّى وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ. قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلاَنَةُ وَإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِى قَالَتْ نَعَمْ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِىَ وَأَوْلاَدُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِى وَعِظَامَ وَلَدِى فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا. قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلاَدِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِىٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ”( أحمد).
الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف  :
أيها الناس :وتسجل رحلة الإسراء والمعراج :  موقف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من هذا الحدث العظيم، وتلقيبه بالصديق، فللإيمان مواقف يظهر فيها، والمؤمنون الصادقون يظهر إيمانهم في المواقف الصعبة، فلقد لقب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالصديق لموقفه من هذه المعجزة، فحينما عاد النبي صلي الله عليه وسلم  من رحلة الإسراء والمعراج وقص على قريش ما حدث , انطلق نفرٌ منهم إلى أبي بكر رضي الله عنه يسألونه عن موقفه من الخبر ، فقال لهم : ” لئن كان قال ذلك لقد صدق ” ، فتعجّبوا وقالوا : ” أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ ” ، فقال :” نعم ؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر بالصديق رضي الله عنه “(عيون الأثر/ابن سيد الناس /471).هكذا هي الصداقة الحقيقية مبادئ ومواقف ولله در القائل :
جزي الله الشدائد كل خير ** عرفت بها عدوي من صديقي .
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم  بقوله:”وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم”قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:” لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ بِهِمْ”( البيهقي). وكان يقول ليتني شعرة في صدر أبي بكر. فعلى المسلم أن يكون حاله مع كلام وأوامر النبي صلي الله عليه وسلم  كحال أبي بكر رضي الله عنه  إيمان ويقين ، وتصديق وتسليم ، وإن خالف عقله وهواه ، قال تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً “(الأحزاب/36) .
الفاحشة سبب لانتشار الأمراض والبلاءات :
إخوة الإسلام :ويتضح ذلك من هذا المشهد ,فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث الإسراء قال:” ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة، عليها لحم مشرح، ليس يقربه أحد، وإذا أنا بأخونة، عليها لحم قد أروح ونتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، ما هؤلاء ؟ قال : قوم من أمتك ، يتركون الحلال ويأتون الحرام”(البيهقي )لذا فقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم  من انتشار الفاحشة (الزنا) وكذا التبرج والسفور وجعل ذلك سببا لانتشاء الأمراض والأوجاع فقال :” لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أَسْلاَفِهِمُ الِّذِينَ مَضَوْا”( ابن ماجة ).  إن رحلة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد رحلة تسرية وتسلية لقلب النبي  صلي الله عليه وسلم  وفقط , بل كانت رحلة تربية وتهذيب لنا , فلعلنا ننتفع بهذه الدروس , ونحيي بها ما اندرس في النفوس .
مكانة المسجد الأقصى في الإسلام :
إخوة الإسلام : وفي الإسراء والمعراج ظهرت: أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين ، إذ إنه مَسرى رسول الله صلي الله عليه وسلم  ومعراجه إلى السماوات العلى، وكان القبلة الأولى التي صلى المسلمون إليها في الفترة المكية، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :”لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:المسجد الحرام،ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى “( البخاري )، وفي ذلك توجيه للمسلمين بأن يعرفوا منزلته، ويستشعروا مسئوليتهم نحوه، بتحريره من أهل الكفر والشرك.. نسأل الله تعالى أن يطهره من اليهود، وأن ترفرف راية الإسلام مرة ثانية على القدس،  وغيرها من بلاد المسلمين . . للمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة. فهو يعتبر قبلة الأنبياء جميعاً قبل النبي محمد صلي الله عليه وسلم  وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي صلي الله عليه وسلم  قبل أن يتم تغير القبلة إلى مكة. وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج حيث أسرى بالنبي صلي الله عليه وسلم  من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه صلى النبي إماما بالأنبياء ومنه عرج النبي صلي الله عليه وسلم  إلى السماء. وهناك في السماء العليا فرضت عليه الصلاة. ويعتبر المسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، فقد ذكر النبي صلي الله عليه وسلم  إن المساجد الثلاثة الوحيدة التي تشد إليها الرحال هي المسجد الحرام، و المسجد النبوي والمسجد الأقصى.عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم  قال : ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلي الله عليه وسلم  ، ومسجد الأقصى “( البخاري ومسلم).
ولله در قول شوقي :
أسـرى بك الله ليلا إذ ملائكــة *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم .
لما خطرت بهم التفوا بسـيدهم* * * كالشهب بالبــــدر أو كالجند بالعلــــم .
صلى وراءك منهم كل ذي خطر* * * ومن يفز بحـبـيــــــب الله يأتــــــــم .
حتى بلغت سماء لا يطـــــار لها * * * على جناح ولا يسـعى على قــــــدم .
وقـــــــيل كل نبـي عند رتبـته ؟ * * * ويا محمـد هـــــذا العرش فاستلــــم .
المسجد وأهميته :
عباد الله:  إِنَّ بِدَايَةَ الإِسرَاءِ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ، وانتِهَاءَهُ بِالمَسْجِدِ الأَقصَى فِيهِ إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلى أَهَمِّيَّةِ هَذيْنِ المَسْجِدَيْنِ خَاصَّةً، وأَهَمِّيَّةِ المَسَاجِدِ عَامَّةً،فَالمَسَاجِدُ بُيوتُ اللهِ فِي الأَرضِ ومَهْبطُ مَلائِكَةِ اللهِ المُقَرَّبِينَ، ومَثْوَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ، فِيهَا يُزَكِّي المُسلِمُ بَدَنَهُ ونَفْسَهُ ورُوحَهُ، فَكَما يَزكُو بَدَنُ المُؤمِنِلِدُخُولِ المَسْجِدِ بِالتَّطِهيرِ مِنَ الأَحدَاثِ والأَنجَاسِ والأَدرَانِ، فِي النَّفسِ والثَّوبِ والمَكانِ، فَكَذَلِكَ الأَخلاَقُ والأَرواحُ تَزكُو كُلَّمَا غَدَا المُؤمِنُ إِلى المَسْجِدِ أَو رَاحَ،وإِلى أَهَمِّيَّةِ هَذِه الأَمَاكِنِ الطَّاهِرَةِ يُشِيرُ المولي عز وجل:”وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً”(الجن/18).
أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام:
أخوة الإيمان :فمن خلال هذه الرحلة العظيمة تأكدت أهمية الصلاة ، فللصلاة منزلتها الكبيرة في الإسلام، ومما زادها أهمية وفضلا، أنها فرضت في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا اعتناء بها، وزيادة في تشريفها، ومن ثم كانت من آخر ما أوصى به رسول الله صلي الله عليه وسلم  قبل موته.. وذلك أن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت من فوق سبع سموات  وبدون واسطة , قال رسول الله صلي الله عليه وسلم  “ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ، قلت: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي ـ وَاللَّهِ ـ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ.. فلازال يتردد علي ربه حتي قال:”  سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى، وَأُسَلِّمُ … فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي،وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي”(البخاري). ، فَجَاءَ مَكَانُ وطَرِيقَةُ فَرضِيَّتِها دَلِيلاً وَاضِحاً، وبُرهَاناً سَاطِعاً عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذَهِ العِبَادَةِ، ورِفْعَةِ مَكَانَتِها وسُمُوِّ مَنزِلَتِها، لَقَدْ فُرِضَتْ فِي السَّمَاءِ، وبِدُونِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ، ولَمَّا كَانَ الإِسْرَاءُ والمِعْرَاجُ تَسلِيَةً لِرَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم  وتَسْرِيةً عنه؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم  فِي هَذِه اللَّيْلَةِ بِأَعظَمِ عِبَادَةٍ يُستَعانُ بِها عَلَى الكُرُبَاتِ، ويَستَرِيحُ المُؤمِنُ عِنْدَ أَدَائِها مِنْ جَمِيعِ الضَّوائِقِ والأَزَمَاتِ، يَقُولُ الله تعالي:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”)البقرة/153).وكَانَ صلي الله عليه وسلم  إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلى الصَّلاةِ، ونَادَى بِلالاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَائِلاً:”أَرِحْنَا بِها يَا بِلالُ”، وبَقِيَتْ هَذِه ِالعِبَادَةُ مِعْرَاجَاً يَرقَى بِها النَّاسُ إِلى عَالَمِ الطُّهْرِ والصَّفَاءِ، تَزكِيَةً لِلنُّفُوسوبُعْداً بِها عَنِ المُنْكَرِ والفَحشَاءِ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين.أما بعد فياجماعة الإسلام: لازلنا نواصل الحديث حول الدروس والعظات والعبر من معجزة الإسراء والمعراج ومنها:
نهر النيل من الجنة ولن يمسه أحد بسوء: كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى، فإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان. فسأل عنها جبريل عليه السلام. فقال: أما الباطنان، ففي الجنة. وأما الظاهران،، فالنيل والفرات. وفي الحديث أيضا: “النيل والفرات وسيحون وجيجون كل من أنهار الجنة”. وقد ورد ذكر النيل في القرآن الكريم ست مرات  حيث يقول الله عز وجل: “فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ “(الأعراف/136).
ويقول :” أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي”(طه//39).  
ويقول :”قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا “(طه/97).
ويقول :” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ “(القصص/ 7).
ويقول :” فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ “(القصص/40).
ويقول:” فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ “(الذاريات/40).
 فسمّى النيل يماً، وهو البحر،  ولا يوجد نهر في الدنيا يسمى بحرا غيره.
والأكثر من ذلك أن الحديث الشريف قد اعتبر النيل نهرا مؤمنا! وفي ذلك إشارة واضحة إلى كثرة منافعه، وعظم فوائده. يقول ابن قتيبة في غريب الحديث:”وفي حديثه عليه السلام: نهران مؤمنان، ونهران كافران. أما المؤمنان، فالنيل والفرات. وأما الكافران، فدجلة ونهر بلخ”  ويشرح ابن قتيبة هذا الحديث الشريف، بقوله: “إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه، لأنهما يفيضان على الأرض، ويسقيان الحرث والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة. هذا على عكس النهرين الكافرين. فالنيل والفرات في النفع والخير كالمؤمنين، والآخران في قلة الخير والنفع كالكافرين”. وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال:”نيل مصر سيد الأنهار، سخّر اللّه له كل نهر بين المشرق والمغرب …”.
والحكمة والعظة والعبرة من ذلك :كي نعلم جيداً أن شكر النعمة واجب، كما أن ذمّ الجريمة لازم. وإذا كان الله جلّ وعزّ قد خصّنا بكل هذه النعم والفضائل، فينبغي أن نحمده تعالى، ونشكره على رعايته لنا، ورحمته بنا، وفضله علينا. وأوّل مظاهر هذا الشكر، ومبتدأ إشارات الحمد، هو أن نتوقف فورا عن تلويث هذا النهر العظيم، ونرتفع إلى مستوى المسؤولية، فننظفه بدلا من أن نلوثه، ونستمتع بسحره وجماله، بدلا من أن نطعنه ونغتاله، ونقابل نعمه وخيراته بعرفان الجميل والشكر، وليس بالقاذورات والسموم. ذلك أن مصر والنيل ما انفكا يحذّران بشدّة كل معتد أثيم، بأنه لن ينجو من العقاب، ولن يفلت من الحساب، حيث يردّدان بصوت واحد:
ما رماني رام وراح سليما ***  من قديم عناية الله جندي.
فليفق الجهلة، وليتعظ المجرمون. 
كما نعي جيداً  إن شاء الله تعالى  أن  نهر النيل سيظل يجرى في مصر لا يمنعه شئ مهما حاول أبناء صهيون  عليهم من الله ما يستحقون .
يعطي الله علي الصبر و العفو مالا يعطي علي غيرهما :
أخوة الإيمان :درس أخر .. يقول المولي عز وجل:” وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ”(الشورى /42).أي :  وَلَمَنْ صَبَرَ عَلَى إِسَاءَة إِلَيْهِ , وَغَفَرَ لِلْمُسِيءِ إِلَيْهِ جُرْمه إِلَيْهِ , فَلَمْ يَنْتَصِر مِنْهُ , وَهُوَ عَلَى الِانْتِصَار مِنْهُ قَادِر ابْتِغَاء وَجْه اللَّه وَجَزِيل ثَوَابه .. وبحق فهو ثواب ومكافآت عديدة وهذا يتجلي عندما خرج النبي صلي الله عليه وسلم إلي الطائف وقابله أهلها بالأذى والذي يتمعن عظمة هذا النبي يجد  أنه  ذهب إلى الطائف مشياً على قدميه ، والطائف تبعد عن مكة ثمانين كيلو متراً ، مشاها مشياً ، وهو يعلق آمالاً على أهل الطائف لعلهم يؤمنون ، لعلهم يهتدون ، لعلهم ينصرونه ، فكان الجواب غير متوقع ، كذبوه ، وسخروا منه ، وتفننوا بإيذائه ، بل أغروا صبيانهم بضربهوجلس صلي الله عليه وسلم يناجي ربه “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، يا رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ اللهم إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، و لك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي “( السيرة النبوية (.نبي الرحمة  جاءه جبريل ، أعطاه خيار الانتقام ، قال له :” يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ، قال :” لا يا أخي اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده .(السيرة النبوية). ما تخلى عنهم ، بل دعا لهم ، واعتذر عنهم ، ورجا الله أن يجعل ذريتهم صالحة ، ما هذا الكمال ؟ لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحدهفكانت المكافآت العديدة منها  .
1-استجابة عداس إلى الإسلام بعد رفض الكثير له،وهداية  واحد خير من الدنيا وما عليها.
2-ساق الله إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن وأحسنوا الاستماع والإنصات ثم فهموا واجبهم فولوا إلى قومه منذرين.
3-استجابة ستة من أهل يثرب هم طلائع الدعوة في المدينة المنورة والتمكين للإسلام في الأرض، ومنهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، هذا بعد أن رفضت كل القبائل الأخرى منهم بنو كلب وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صعصعة وفزارة وغسان دمرة وسليم وعيس وبنو نضر وكندة وعذرة والحضارمة. وهؤلاء كانوا نواة الدعوة التي نشرت الإسلام في يثرب وتحولت بهم الجماعة الإسلامية المطاردة في مكة إلى دولة ذات عز وتمكين في المدينة المنورة.
4- عدد من أشراف قبائلهم وقومهم منهم سويد بن الصامت الشاعر وإياس بن معاذ وأبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس.
5–  الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى الملأ الأعلى فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.
6- أخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وينصر الإسلام ببركة رجائه صلي الله عليه وسلم  فخرج من ظهر الوليد بن المغيرة ” سيف الله المسلول خالد “, وخرج من ظهر  أبي جهل “عكرمة”  وخرج من ظهر العاص بن وائل السهمي “عمرو بن العاص فاتح مصر” وغيرهم وغيرهم  ..وهكذا استجاب الله عز وجل لنبيه صلي الله عليه وسلم وأعطاه لصبره وعفوه ..
إخوة الإيمان :  ستظل معجزة ورحلة الإسراء والمعراج مدرسة للمسلمين،يستلهمون منها الدروس والعبر، حتى يحققوا قول الله فيهم:”كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ “(آل عمران/110).

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات