أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله منشئ الموجودات، وباعث الأموات، وسامع الأصوات، ومجيب الدعوات،
وكاشف الكربات، عالم الأسرار، وغافر الأوزار، ومنجي الأبرار، ومهلك الفجار، ورافع الدرجات،
الذي علم وألهم، وأنعم وأكرم، وحكم وأحكم، وأوجب وألزم وهو الذي يقبل التوبة عن عباده
ويعفو عن السيئات
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على
كل شيء قدير
يا من له علم الغيوب ووصفه ستر العيوب وكل ذاك سماح
أخفيت ذنب العبد عن كل الورى كرمل
فليس عليه ثمّ جناح
فلك التفضل والتكرم والرضا أنت الكريم الواهب الفتاح
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت النبي الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما ذلت القدم
أنت البشير النذير المستضاء به وشافع الخلق إذ يغشاهم الندم
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان
إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك
بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولاً: صفات السفهاء
ثانيًا: مواقف السفهاء مع الأنبياء
ثالثًا: التحذير منهم
رابعًا: كيفية تتعامل معهم
الموضوع
تعريف السفهاء:
سَفيه: (اسم) ،والجمع : سُفَهاءُ ، و سِفاهٌ
المؤنث : سفيهة و سَفَائِهُ ، و سُفَّهٌ ، و سِفَاهٌ
السَّفِيهُ : من يبذّر ماله فيما لا ينبغي
، السَّفِيهُ : الجاهلُ، ثوبٌ سَفِيهٌ : رديءُ النسْجِ، وزِمامٌ سَفِيهٌ : مضطربٌ
وناقةٌ سَفِيهةُ الزِّمامِ : خفيفةُ السَّيرِ([1])
والسّفهاء هم الخفاف العقول : اليهود و
من شاكلهم في إنكار تحويل القبلة ([2])
" والسَّفَهُ والسَّفاهُ والسَّفاهة
: خِفَّةُ الحِلْم ، وقيل : نقيض الحِلْم ، وأَصله الخفة والحركة ، وقيل : الجهل وهو
قريب بعضه من بعض ، وقد سَفِهَ حِلْمَه ورأْيَه ونَفْسَه سَفَهاً وسَفاهاً وسَفاهة
: حمله على السَّفَهِ .
قال اللحياني : هذا هو الكلام العالي ،
قال : وبعضهم يقول سَفُه ، وهي قليلة ، وقولهم : سَفِهَ نَفْسَهُ وغَبِنَ رَأْيَه وبَطِرَ
عَيْشَه وأَلِمَ بَطْنَه ووَفِقَ أَمْرَه ورَشِدَ أَمْرَه ([3]).
فأصل السفه في اللغة: نقص وخفة العقل والطيش
والحركة.
والسَّفَهُ وَالسَّفَاهَةُ: الِاضْطِرَابُ
فِي الرَّأْيِ وَالْفِكْرِ أَوِ الْأَخْلَاقِ. يُقَالُ: سَفَّهَ حِلْمَهُ وَرَأْيَهُ
وَنَفْسَهُ. وَاضْطِرَابُ الْحِلْمِ -الْعَقْلِ- وَالرَّأْيِ: جَهْلٌ وَطَيْشٌ، وَاضْطِرَابُ
الْأَخْلَاقِ: فَسَادٌ فِيهَا لِعَدَمِ رُسُوخِ مَلَكَةِ الْفَضِيلَةِ ([4]).
وقال ابن القيِّم رحمه الله: (السَّفَه
غاية الجهل، وهو مركَّبٌ مِن عدم العلم بما يُصْلِح معاشه ومعاده، وإرادته بخلافه).
فالسفهاء تعني الجهلاء وخفاف العقول
والذين يقدمون هواهم على الحق ويعارضونه مع علمهم بأنه الحق والذين يفعلون ما يضر
ولا ينفع لنفسهم ولغيرهم والذين يضيعون أموالهم ولا يحسنون التصرف فيها....
أولاً: صفات السفهاء
1-هم المفسدون ويوهمون الناس بأن غيرهم هو من
يُفسد
قال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
(10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
(11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)"
البقرة.
ولقد وقف السفهاء من موسى - عليه السلام - موقف كلها تدل على الرعونة والخفة
والسفه، فوصفوا موسى - عليه السلام - بالإفساد رغم أنه جاء ليحررهم من فساد فرعون وجند
فها هو رأس الفساد وأسفه من عرفته البشرية فرعون اللعين الذي وصفه الله بخمسة جرائم
فقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4].
فتأملوا في ذلك الغر المأفون وهو
يقول لقومه ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
[غافر: 26].
يقول سيد قطب - رحمه الله - (فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني،
عن موسى رسول الله - عليه السلام - ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]؟!!
أليست هي بعينها كلمة كل طاغية
مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست
هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟.
إنه منطق واحد. يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر. والصلاح
والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.[1]
وعلى منوال الطاغية نسجت حاشية السفهاء فوصفوا موسى بالإفساد ﴿ وَقَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127].
2-يظنون انفسهم أعلى من غيرهم
قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا
يَعْلَمُونَ (13) } البقرة
أى وإذا قيل للمنافقين: { آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي: كإيمان الناس
بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر
المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر { قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } يعنون -لعنهم الله-أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
رضي الله عنهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!
والسفهاء: جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع حليم] والسفيه:
هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار.
وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } فأكد وحصر
السفاهة فيهم.
{ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ } يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم
في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى. ([5])
ويقول تعالى مخبرا عن سفاء قوم نوح عليه السلام ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا
مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ
مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ
وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا
يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [هود: 27 - 32].
3-البعد عن الصواب
دائمًا
قال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } الجن.
قال السعدي: أي قولا جائرا عن الصواب،
متعديا للحد، وما حمله على ذلك إلا سفهه وضعف عقله، وإلا فلو كان رزينا مطمئنا لعرف
كيف يقول.
4-لا يحسنون التصرف
فيما عندهم لذلك نهى الله تعالى عن اعطائهم الأموال
قال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء: 5]
قال الإمام الرازي: واعلم أن تعلق هذه
الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول : إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع
صدقات النساء اليهن ، فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم
، فأما إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا
سفهاء مسرفين ، فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه ،
والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين .
وقيل أن المراد بالسفهاء في الآية كل
من لا يحسن التصرف في المال ويضيعه كالنساء والصغار وغيرهم.
ومعنى { التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما
} أى أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال([6])
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
: ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل كانت تحته امرأة سيئة فلم يطلقها و رجل كان
له مال فلم يشهد عليه و رجل آتى سفيها ماله و قد قال الله عز و جل : { و لا تؤتوا السفهاء
أموالكم }" ([7])
5-أفعالهم سبب في
الهلاك
قال تعالى: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ
شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ
مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ
أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
(155)" الأعراف
ذكر الطبري في تفسيره عن السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه
في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى
قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن
لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام
موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم،
لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي! ([8])
أعمالهم رياءا وسمعة وليست خالصة لوجه الله
وتكون سبب في دخولهم النار
عن كعب بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من طلب العلم
ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"
([9])
وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه: قَوْله ( لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاء
) أَيْ يُجَادِل بِهِ ضِعَاف الْعُقُول.
6-سفهاء أخبر عنهم سيد الأصفياء:
إن الناظر إلى ما يدور في كثير من الفضائيات عبر الشاشات وكذلك عبر مواقع
الاتصال الاجتماعي ليرى سفهاء قد جعلوا دين الله تعالى لهم هدفا وسبوبة يكتسبون من
خلفها المال.
فرأينا من يطعن في الصحابة، ورأينا
من يطعن في صحيح السنة، ورأينا من يشكك في القرآن، ورأينا سفهاء الأحلام يعترضون على
كلام وأحكام رب الأنام فهذا يقول: إن الإسلام ظلم المرأة، وآخر يقول بوجوب المساواة
بين الرجل والمرأة في الميراث، وآخر يقول يجب تحرير المرأة من الإسلام..................
كل هؤلاء سفهاء مأجورين.
فعن عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:
"إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأَنْ أَخِرَّ
مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حدَّثْتُكُمْ
فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ،
سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ
الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ
حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ
لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ([10])
وها هو ذلك الزمان الذي أصبح فيه السفيه الكذاب مصداقا في قوله وأصبح العالم
النحرير مكذبا في قوله
فعن أبي هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها
الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة قيل وما الرويبضة
قال الرجل التافه في أمر العامة"([11])
وفي رواية " السفيه ينطق في أمر العامة وفي رواية الفاسق يتكلم في
أمر العامة
وصدق ابن القيم رحمه الله عندما قال عن أشباه هذا الرويبضة:
[ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم
فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه
كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث
ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها
ولا جرها على الأرض]
ثانيًا: مواقف السفهاء مع الأنبياء
1-السخرية من سيدنا نوح u
واتهامه بالضلال
قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
(60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (62) [الأعراف].
فنبي الله نوح الذي جاء ليبين لهم أن عبادتهم الأصنام لا تجلب لهم نفعا
ولا تدفع عنهم ضرا وصفوه بالضلال أية عقول تلك التي لا تميز بين النافع والضار؟
وإلى متى بلغ بهم استخفاف أقوامهم وتسفيه عقولهم عندما اخبروهم أن هذه الأصنام
آلهة أو شفعاء لهم عند الله؟ إنه سفه العقول الذي يقود صاحبه إلى الهاوية و إلى العذاب
الأليم.
2-السخرية من نبي الله هود u
واتهامه بالسفاهة
قال تعالى: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ
مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ (68)" الأعراف.
فها هو يدعوهم إلى الحق وإلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ومع ذلك
يتهمونه بنقص العقل والجنون مع انهم لو نظروا في حال أنفسهم لوجدوا أنهم هم
السفهاء.
3-إيذاء نبي الله موسى u
واتهامه بالعيب والبرص في جسده:
لقد عانى نبي الله موسى عليه السلام - من سفه قوم فرعون ومن بني إسرائيل
العناء الشديد فقد كان لهؤلاء السفهاء دورا بارزا في محاربة نبي الله موسى عليه السلام
- والصد عن سبيل الله و الوقوف أمام دعوة الحق واستخدموا كل ما لديهم من وسائل لمحاربة
الدعوة.
ويظهر موقف السفهاء ذوي العقول الطائشة من نبيهم موسى - عليه السلام - في
تلك الشائعات التي روجوها عنه بأنه به عاهة أو درن في جسده وذلك لأن بني إسرائيل كانوا
يغتسلون عاريا ينظر بعضهم إلى عورة بعض ولكن كليم الله موسى - عليه السلام - كان شديد
الحياء فكان يغتسل وحده فشنع عليه السفهاء من أجل ذلك قال الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا
قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ
رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ
مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ
إِلَّا مِنْ عيب في جلده إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ
اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا
فرغ أقبل على ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ
مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرٌ، ثُوبِي حَجَرٌ،
حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ
مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ،
فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ
إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا
- قَالَ - فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ
وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]. ([12])
[ ومعنى: ( حييا ) كثير الحياء
. ( ستيرا ) من شأنه ودأبه حب الستر وصون نفسه عن رؤية أحد لعورته . ( برص ) بقع بياض
تكون على الجلد . ( أدرة ) انتفاخ في الخصية . ( آفة ) عيب . ( عدا ) مشى مسرعا .
( قام الحجر ) وقف عن السير . ( وجيها ) ذا جاه ومنزلة لا يسأل الله تعالى شيئا إلا
أعطاه إياه] .
4-اتهامهم للنبي r
بالجنون والسحر .....
لقد تطاول السفهاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعنوا في رسالته حيث
دعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد فقالوا في خفة وطيش كما أخبرنا العليم
الخبير عن مقالهم ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ
هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ
هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ
فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 4 - 8].
قال ان كثير: يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا،
كما قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } وقال هاهنا: { وَعَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } أي: بشر مثلهم، { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } أي: أزعم أن المعبود واحد
لا إله إلا هو؟! أنكر المشركون ذلك -قبحهم الله تعالى-وتعجبوا من ترك الشرك بالله،
فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا:
{ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأ
مِنْهُمْ } وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين: { [أن] امْشُوا } أي: استمروا على دينكم { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
} ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد.
وقوله: { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } قال ابن جرير: إن هذا الذي يدعونا
إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن
يكون له منكم أتباع ولسنا مجيبيه إليه.
وسبب نزول هذه الآيات: قال السدي: إن أناسا من قريش اجتمعوا فيهم: أبو جهل
بن هشام والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش،
فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه، فلينصفنا منه فليكف عن شتم
آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء. فتعيرنا
به العرب يقولون: تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه". فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب"
فاستأذن لهم على أبي طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك. قال: أدخلهم.
فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف
عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. قال: فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم
ويدعوك وإلهك. قال: "يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟" قال: وإلام تدعوهم؟
قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين
لهم بها العرب ويملكون بها العجم". فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك؟ لنعطينها
وعشرة أمثالها. قال: تقولون: "لا إله إلا الله". فنفر وقال: سلنا غير هذا قال: "لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي
ما سألتكم غيرها" فقاموا من عنده غضابا، وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي أمرك
بهذا. { وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد: فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عمه إلى قول: "لا إله إلا الله" فأبى وقال: بل على دين الأشياخ. ونزلت:
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56 ] ([13])
5-سخرية السفهاء من قضية تحويل القبلة:
لقد تجمع السفهاء من اليهود و المنافقون و المشركون جميعا ليطعنوا في رسالة
النبي r عندما منَّ الله على نبيه بتحويل
القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام قال الله تعالى مخبرا عن سفه هؤلاء ﴿ سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
﴾ [البقرة: 142].
قال البيضاوي في تفسير السفهاء:
هم الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر، يريد المنكرين لتغيير
القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس وإعداد الجواب.
قال السعدي - رحمه الله -: (قد اشتملت الآية الأولى على معجزة، وتسلية،
وتطمين قلوب المؤمنين، واعتراض وجوابه، من ثلاثة أوجه، وصفة المعترض، وصفة المسلم لحكم
الله دينه.
فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم،
بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى، ومن أشبههم من المعترضين على
أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، مدة مقامهم
بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة، نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي
سيشير إلى بعضها، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول
السفهاء من الناس: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
﴾ [البقرة: 142] وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض
على حكم الله وشرعه، وفضله وإحسانه، فسلاهم، وأخبر بوقوعه، وأنه إنما يقع ممن اتصف
بالسفه، قليل العقل، والحلم، والديانة، فلا تبالوا بهم، إذ قد علم مصدر هذا الكلام،
فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على
أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول،
والانقياد، والتسليم كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
﴾ [الأحزاب: 36] ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]، ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
﴾ [النور: 51] وقد كان في قوله ﴿ السُّفَهَاءَ ﴾
ما يغني عن رد قولهم، وعدم المبالاة به([14])
ثالثًا: التحذير منهم
1-تحذير الله تعالى من مجالسة السفهاء وأصحاب السوء:
لأن الإنسان بطبعه وحكم بشريته يتأثر بصفيِّه وجليسه، ويكتسب من أخلاق قرينه
وخليله، ويوم القيامة يعَضُّ من اختار صاحب السوء أصابع الندم، ويتحسر على ما فاته
في دنياه؛ يقول تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا
خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29].
وقال تعالى: " وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)"
الأنعام.
قال الشافعي رحمة الله عليه
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
|
**
|
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الاحراق طيبا
|
وقال آخر
اذا سبني نذل تزايدت رفعة و ما العيب الا ان اكون مساببه
و لو لم تكن نفسي علي عزيزة لمكنتها من كل نذل تحاربه
وقال آخر
اذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من اجابته السكوت
فان كلمته فرجت عنه و ان خليته كمدا يموت
وقال آخر
قالوا سكت و قد خوصمت قلت لهم ان الجواب لباب الشر مفتاح
و الصمت عن جاهل او أحمق شرف و فيه أيضا لصون العرض اصلاح
اما ترى الأسد تخشى و هي صامته و الكلب يخسى(الرمي بالحصى) لعمري و هو نباح.
2-التحذير من إمارة السفهاء:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب
بن عجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء قال وما إمارة السفهاء قال أمراء يكونون بعدي
لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا
مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك
مني وأنا منهم وسيردون على حوضي، يا كعب بن
عجرة الصيام جنة والصدقة تطفىء الخطيئة والصلاة قربان أو قال برهان، يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها
وبائع نفسه فموبقها" ([15])
و(إمارة السُّفَهاء، وهو فعلهم المستفاد منه مِن الظُّلم والكذب وما يؤدِّي
إليه جهلهم وطيشهم) .
قال المناوي: (إمارة السُّفَهاء -بكسر الهمزة-. أي: ولايتهم على الرِّقاب؛
لما يحدث منهم مِن العنف والطَّيش والخِفَّة، جمع سَفِيهٍ، وهو ناقص العقل، والسَّفَه).
وهذا تحذير من إمارة السفهاء فقد يصل المرء إلى درجة مرموقة ويصل إلى سدة
الحكم ولكنه في خفة و طيش ورعونة السفهاء وأسوتهم في ذلك فرعون لعنه الله تعالى - وهل
ما نراه الآن من ظلم وتعسف وإزهاق للأرواح في سورية وغير من بلدان العالم إلا بسبب
تسلط السفهاء على سدة الحكم؟
3-تحذير السلف من مجالستهم
عن أبي جعفر الخطمي أنَّ جدَّه عمير بن حبيب -وكان قد بايع النَّبيَّ صلى
الله عليه وسلم أوصى بنيه، قال لهم: (أي بني! إيَّاكم ومخالطة السُّفَهاء؛ فإنَّ مجالستهم
داء، وإنَّه مَن يَحْلم عن السَّفيه، يُسَرَّ بحلمه، ومَن يُجِبه يندم) ([16]).
وأوصى المنذر بن ماء السَّماء ابنه النُّعمان بن المنذر، فقال: (آمرك بما
أمرني به أبي، وأنهاك عمَّا نهاني عنه: آمرك بالشُّح في عِرْضك، والانخِدَاع في مالك،
وأنهاك عن ملاحاة الرِّجال وسيَّما الملوك، وعن ممازحة السُّفَهاء..)([17])
وقال عمير بن حبيب بن خماشة - وكان أدرك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم-
عند احتلامه. يوصي بنيه فقال: «بنيَّ إيّاكم ومجالسة السّفهاء؛ فإنّ مجالستهم داء،
من يحلم عن السّفيه يسرّ، ومن يجبه يندم، ومن لا يرض بالقليل ممّا يأتي به السّفيه
يرض بالكثير» ([18])
رابعًا: كيفية تتعامل
معهم
يبتلى المرء في حياته بأناس لا تنفع معهم كل وسائل التعامل الراقي لأنهم
تربوا على السفاهة! فكيف يتصرف تجاههم؟
السفاهة هي الخفة والطيش والجهل، وسفه علينا أي جهل، وسفّهه أي جعله سفيهاً
أو نسبه إلى السفه. والسفيه هو الجاهل الطائش الوقح، وهو أيضاً الذي يبذّر ماله فيما
لا ينبغي، وجمعها سفهاء، وهي سفيهة. والجهل كما إنه نقيض العلم وضد المعرفة، فإنه أيضاً
نقيض الحلم وضد الرشد. ونقرأ في القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، أي أستجير بالله أن أجعلكم موضعًا
للسخرية والاستخفاف أو أن أستهزئ بكم.
والسفيه طويل اللسان، سيء الكلام، قبيح الجواب. فإن كان غلاماً يافعاً نعلل
ذلك بأنه لم يأخذ نصيبه من التربية في بيت أبيه أو في مدرسته أو في مجتمعه، أو إنه
لما يفهم معنى الحياة بعد، ولذلك فهو لا يعرف كيف يتعامل مع الناس لجهله بأقدارهم.
وقد تعركه التجارب وتطحنه السنون فيتعلم ويصبح من أهل الأحلام والنهى. لكن المصيبة
تكون عندما يتجاوز سن الطيش ويبقى سفيهاً فمتى نتوقع منه أن يرشد؟
فإذا ابتليت بسفيه، فأفضل وسيلة للتعامل معه هي تجاهله وعدم الرد عليه،
فلا تضرك أذيته، بل الأفضل ألا تلقي له بالاً حتى لا تشغلك كلماته، ولا تعتمل في فكرك
عباراته فتأخذ من وقتك وجهدك واهتمامك وتملك مشاعرك.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقْبَل الميّسر الممكن من أخلاق
الناس وأعمالهم، وأمره بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل، وأمره أن يعرض عن منازعة السفهاء
ومساواة الجهلة الأغبياء
فقال له (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). والإعراض يكون بالترك والإهمال، والتهوين
من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، وعدم الدخول معهم في جدال ينتهي بالشد والجذب،
وإضاعة الوقت والجهد. وفي هذا صيانة له ورفعا لقدره عن مجاوبتهم.
وقد دخل رجل على عمر رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا
الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به. فقال له جليس عنده: يا
أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين. فما جاوزها عمر حين تلاها عليه،
وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل.
وعن أبي جري الهجيمي رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئا ينفعنا الله به فقال لا تحقرن
من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه
منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة ولا يحبها الله وإن امرؤ شتمك بما يعلم
فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه فإن أجره لك ووباله على من قاله" ([19])
وقد قيل: لا تجادل السفيه فيخلط الناس بينكما.
ولكن إذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه فماذا يفعل؟ لقد أمره المولى سبحانه
بأن يستعيذ بالله ليهدأ ويطمئن
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ). ونزغ الشيطان وساوسه. و
"ينزغنك" أي يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. فأمره الله أن
يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به. والتعقيب (إنه سميع عليم) يوضّح أن الله
سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم، عليم بما تحمله النفس من أذاهم. وفي هذا ترضية
وتسرية للنفس، فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854