رمضان شهر الإنتصارات للشيخ أحمد أبو عيد






الحمد لله الحي الباق، الذى أضاء نوره الآفاق، ورزق المؤمنين حسن الأخلاق، وتجلت رحمته بهم إذا بلغت أرواحهم التراق، نحمده تبارك وتعالى ونستعينه على الصعاب والمشاق، ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والشقاق، ونسأله السلامة من النفاق وسوء الأخلاق،
وأشهد أن لا إله إلا الله القوى الرزاق، الحكم العدل يوم التلاق، خلق الخلق فهم في ملكه أسرى مشدودو الوثاق، أنذر الكافرين بصيحة واحدة ما لها من فواق، وبشر الطائعين بسلام الملائكة عليهم إذا التفت الساق بالساق، أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعلم الناس أن إليه يومئذ المساق،
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المتمم لمكارم الأخلاق، لم يكن لعانا ولا سبابا ولا صخابا في الأسواق، خير من صلى وصام ولبى وركب البراق، وأول الساجدين تحت العرش يوم يكشف عن ساق، جاهد في سبيل الله منصورا معصوما من الإخفاق، وترك فينا ما إن تمسكنا به علمنا أن ما عندنا ينفد وما عند الله باق.
اللهم صل وسلم وبارك عليه ما تعقب العشى الإشراق، وما دام القمر متنقلا فى منازله من التمام إلى المحاق.
العناصر:
أولًا: الانتصار على النفس                              ثانيًا: أهم انتصارات المسلمين في رمضان
الموضوع
أولًا: الانتصار على النفس 
الناس قسمان:
• قسم ظفرت به نفسُه فملكته وأهلكته فصار مطيعا لها.
• وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعةً منقادةً له.
وقد ذكر الله القِسمين فقال: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41].
فالنفس تدعو صاحبها إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب سبحانه يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، فإما أن يُجيب العبد داعي النفس فتختلُّ موازينُه وقيَمه وشعورُه وسلوكه فيُهلَك.
وإما أن يجيب داعي الرب، فيُخضِعُ نفسَه ويجاهدُها لردها إلى أمر الله ومراده والالتزام بحكمه
 فينجو.
لذلك، فاتباع هوى النفس وشهواتها على غير شرع الله، أساس الانحراف عن الصراط المستقيم، وركيزةُ الانجراف في حمأة الباطل والفساد.
وهذا شهر رمضان، وهو إحدى الوسائلِ في تحقيق تربية نفس المسلم وتقويمها ومجاهدتها حتى تلتزم الصلاح والاستقامة، وهذا أعظم انتصار يحققه المسلم.
الانتصار على الرياء بإخلاص عمله لله: فحفاظه على الصلاة والصيام وغيرها من العبادات لأجل الله وحده، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»([1]) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ([2])
(قام رمضان) أحيا لياليه بالعبادة والقربات. (إيمانا واحتسابا) مصدقا بثوابه مخلصا بقيامه. (ما تقدم من ذنبه) من الصغائر.
وقال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89] فلابد أن يكون القلب سليم من كل رياء ومباهاة حتى ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم: للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة].
والقلوب الصائمة هي التي أخلصت في القول والعمل لربِّها فكانت حركات أصحابها وسكناتهم خاضعة لأمر ربِّها كما في قوله تعالي: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام.
فاخلص عملك لربك واحذر من الرياء فهو سبب لضياع الأعمال قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
الانتصار على الشهوات بتركها وفعل الطاعات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ " ([3])
فيترك المسلم شهوته من الطعام والشراب والجماع وفعل الحرام وكل ما يغضب الله تعالى، وان يبتعد عن الاقدام على الشهوات والمنكرات لأجل الله تعالى، ولذلك يكافأه الله تعالى بأجر عظيم يتولى سبحانه وضعه بنفسه.
قال ابن رجب: لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه.
فهو فرصة للمسلم كي يستطيع التحكم والسيطرة على النفس، فرصة ذهبية من خلال شهر كامل يمتنع فيه عن الطعام والشراب، فهو فرصة للشخص المبتلى بالتدخين أن يتحكم ويسيطر على إدمانه للتدخين، وأن نهار رمضان فرصة لكل مبتلى بمخالفة أو معصية ولم يمكنه التخلص منها، ففي رمضان يصوم ويجاهد نفسه، ويقوي إرادته، ويعيد تحكمه وسيطرته على رغباته في محاولة للوصول لحالة عالية من ضبط النفس والسيطرة عليها، كما يحقق المسلم وقفة مع الإصلاح النفسي والسلوكي والأخلاقي،
والانتصار على الشهوات يكون بعدة أمور من بينها:
الانفاق في سبيل الله وترك البخل: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» ([4])
فحينما يتذوق المسلم ألم الجوع يتذكر اخوانه الفقراء والمساكين فينفق عليهم مما وسع الله عليه، ويجود عليهم بالخير اقتداءا بحبيبه المصطفي صلى الله عليه وسلم.
النظر لما أحله الله وغض البصر عما حرم: فينظر المسلم في كتاب الله ويقرأ ويتدبر كلام ربه ، ويقرأ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقرأ كتب العلم النافعة، ويشاهد مجالس العلم ويتعلم من العلماء والدعاة إلى الله العلم النافع، ويبتعد عن النظر لما حرمه الله والصوم يساعده على غض بصره فعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» ([5])،(العزوبة) العزب من لا زوج له والعزبة من لا زوج لها أي خاف أن يقع في الزنا لعدم الزواج وبعده عنه. (الباءة) هي في اللغة الجماع والتقدير من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح وقيل المراد بالباءة هنا مؤن الزواج. (أغض للبصر) أدعى إلى غض البصر. (أحصن للفرج) أدعى إلى إحصان الفرج أي حفظه من الزنا. (وجاء) قاطع للشهوة]
فبمجرد رؤيته للحرام يكف بصره عنه فورا، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» ([6])
(نظر الفجاءة) أن يقع نظره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك فيجب عليه أن يصرف بصره في الحال فإن صرف في الحال فلا إثم عليه وإن استدام النظر أثم.
الاشتغال بذكر الله وترك الزور والحرام من القول: قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) الرعد، أَيْ تَطِيبُ وَتَرْكَنُ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ وَتَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَتَرْضَى بِهِ مَوْلًى وَنَصِيرًا.
فهو الكلام الطيب الذي ينبغي أن يركن إليه كل مسلم ليلا ونهارا، قائما أو قاعدا، ذاهبا أو عائدا ، لا يغفل عنه أبدا حتى يطمئن قلبه وينشرح صدره ، ويكمل أجر صيامه، فيكون الخير في الدنيا والآخرة.
أما الاشتغال بالحديث عن الناس والخوض في أعراضهم فهو كفيل بضياع الحسنات وزيادة السيئات وغضب رب الأرض والسماوات والحرمان من الجنات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ([7]) ، (بهته) يقال بهته قلت فيه البهتان وهو الباطل والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه .
ويأتي يوم القيامة ليرد لكل من وقع في عرضه أو آذاه ولو بكلمة، يرد له مظلمته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» ([8])
وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
وهي كفيلة بذهاب أجر الصيام، فيكون قد جاع وعطش بدون أجر ولا مقابل والسبب أنه أطلق لسانه في الحرام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ([9])
وقال جابر بن عبد الله: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
الاهتمام بقيام الليل والابتعاد عن القيام للمسلسلات والأفلام وغيرها:
وقيام الليل من صفات عباد الرحمن: قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 63، 64].
إن قيام الليل عبادة عظيمة، وسنة جليلة، وصفة كريمة، من اتصف بها كان من الفائزين السعداء، ومن تحلى بها كان من المتقين النبلاء، لأنه لا يقدر عليها إلا الموفق الكريم، الذي زكت نفسه، وصفت طويته، وطهرت سريرته، واستقامت علانيته، لذلك وصف الله بها عباده الأخيار الأتقياء، والصالحين من عبادة الأتقياء، الذين اختصهم الله لنفسه وأنعم عليهم سبحانه بعبوديته.
وفي الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعوا الله إلا أعطاه الله مسئلته جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -r- يَقُولُ «إِنَّ فِى اللَّيْلِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» ([10]).
عن أَبي أمامة -t -قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ -r -: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: ((جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ)) ([11]).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَالَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ » ([12])،  متى يبدأ الثلث الأخير من الليل؟ تحسب من أذان المغرب إلى صلاة الفجر -مثلاً- اثنا عشر ساعة، فتقسِّم اثني عشر ساعة إلى ثلاثة أثلاث فتُعتبر آخر أربع ساعات هي الثلث الأخير من الليل، وهذا يختلف باختلاف الصيف والشتاء، فتصوَّروا -يا رعاكم الله- أنَّ الملك العظيم الكبير المتكبِّر الرحمن الرحيم الوهَّاب المنَّان ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ماذا يقول ربُّنا سبحانه وتعالى؟ فيقول: "هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له" الله أكبر! يا لها من لحظات مباركة، الله عزَّ وجلَّ وهو الغنيُّ عنَّا ونحن الفقراء إليه، الله عزَّ وجلَّ ينادي عباده: "هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائلٍ فأعطيه"، وتجد هذا الإنسان العبد المذنب المقصِّر العاصي، مع ذلك تجده -والعياذ بالله- في سابع نومة -كما يقال- والله عزَّ وجلَّ ينادي، ألا يستحي أحدنا من ربِّه جلَّ في علاه، الله يناديك الرحمن الرحيم الوهَّاب المنَّان يناديك: "هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له" وتجد هذا الإنسان نائمًا غافلاً ساهيًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولهذا نجد أنَّ طاووس بن كيسان -رحمه الله تعالى، أحد التابعين أو تابعي التابعين- مرَّ على رجلٍ في وقت السَّحَر فضرب عليه الباب فقال أهله: إنه نائم، فتعجَّب طاووس قال: كيف ينام؟! هل هناك إنسان ينام في هذا الوقت؟! أي: وقت النزول الإلهي، وقت استجابة الدعاء.
وعلى النقيض من ذلك تجد أقواما يسهرون الليالي الطوال من أجل مسلسلات وأفلام وبرامج لا قيمة لها، ولا وزن لها يوم القيامة إلا ثقلا في ميزان السيئات، ومعصية لرب الأرض السماوات، فلو سألوا أنفسهم ما الذي يعود عليهم من هذا المنكر لوجدوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نَكَتَتْ فِيهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ بِمثل الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مِرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجْخِيًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ ) ([13])
(تعرض الفتن) أي تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به ، (فأي قلب أشربها) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل ومنه قولهم ثوب مشرب بحمرة أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها (نكت فيه نكتة) أي نقط نقطة قال ابن دريد وغيره كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت (أنكرها) ردها (مثل الصفا) الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء (مربادا) مثل مسود ومحمر (مجخيا) معناه مائلا كذا قاله الهروي وغيره وفسره الراوي في الكتاب بقوله منكوسا وهو قريب من معنى المائل قال القاضي عياض قال لي ابن سراج ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة ومثله بالكوز المجخي وبينه بقوله لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
فتحولت قلوب هؤلاء الذين يسهرون ليلا، وكذلك في النهار، من قلوب بيضاء إلى قلوب سوداء من كثرة تعرضها للفتن والحرام وحبها للحرام.
كثرة التوبة والرجوع إلى الله وعدم الغفلة عن التوبة إليه: قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم }الزمر، وقال تعالى : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } النساء.
وعن أبي أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ([14])
فانظر يا عبدالله كم من أيام بل شهور وربما سنوات مرَّت عليك دون أن تستغفر الله تعالى فيها، لتعلم كم أنت مقصر في حق الله سبحانه وتعالى، فاترك التأجيل والتسويف في التوبة فلا تدري قد يأتيك الموت الآن وما زلت لم تتب إلى الله.
فالمسلم يتوقع في كل لحظة نزول الموت به؛ وما بعد الموت من مُسْتَعْتَبٍ، وما بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار، ويتفكر في أمر المعاد وهول المطالع، وشدة بطش الله – تعالى – وأليم عذابه؛ قال الله تعالى: "(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) مريم
ثانيًا: أهم انتصارات المسلمين في رمضان([15])
يقول د. إياد قنيبي
من العجيب جدا أن نتكلم عن شهر رمضان وكأنه شهر الكسل وتعطل القدرات!
فيما يلي، نستعرض معكم أهم المعارك والفتوحات التي تمت في شهر رمضان، وستعرفون بعد استعراضها لماذا يريد شياطين الإنس أن يحولوه إلى شهر مسلسلات وسهرات عبثية، فقد أتعب هذا الشهر أعداء الإسلام كثيرا!
1. غزوة بدر (رمضان من السنة الثانية للهجرة): معركة الفرقان الكبرى، أولى معارك الإسلام.
2. فتح مكة (رمضان من السنة الثامنة للهجرة).
3. معركة البويب (رمضان سنة 13 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة المثنى بن حارثة على الفرس في منطقة البويب في العراق.
4. معركة القادسية (رمضان سنة 15 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة سعد بن أبي وقاص على الفرس.
5. معركة النوبة (رمضان 31 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة عبد الله بن أبي سرح على القبط بعد محاصرة دنقلة عاصمة النوبيين جنوب مصر.
6. فتح جزيرة رودس (رمضان سنة 53 هـ): فتحها المسلمون بقيادة جنادة بن أبي أمية، وهي جزيرة في البحرالمتوسط كان الروم يغيرون منها على مراكب المسلمين ومدنهم الساحلية.
7. فتح بلاد الأندلس (رمضان سنة 92 هـ): انتصر القائد البربري المسلم طارق بن زياد البحر على جيوش القوط في الأندلس (أسبانيا حاليا).
8. فتح منطقة الهند وباكستان (رمضان 94 هـ): فتحها القائد القاسم بن محمد الثقفي.
9. فتح عمورية، من أحصن مدن الإمبراطورية البيزنطية (رمضان 223 هـ)، فتحها الخليفة المعتصم بعد أن كان ملك الروم قد أغار على بلاد المسلمين وقطع أنوف وآذان أسرى المسلمين وسمل أعينهم وأسر الكثير من المسلمات، فغزاهم المعتصم في عقر دارهم وانتصر عليهم.
10. فتح سرقوسة (رمضان 264هـ): فتحها جعفر بن محمد، وهي أكبر مدينة في جزيرة صقلية (في البحر الأبيض المتوسط) والتي كانت تحت حكم الرومان، بعد حصار دام تسعة أشهر.
11. معركة ملاذ كرد (رمضان سنة 463هـ): انتصر فيها القائد السلجوقي المسلم (ألب أرسلان) على الإمبراطورية البيزنطية التي غزت مدينة ملاذ كرد في تركيا وأُسر الإمبراطور البيزنطي.
12. معركة الزلاقة (رمضان 479هـ) انتصر فيها أمير دولة المرابطين يوسف بن تاشفين على صليبيي أوروبا الذين غزوا الأندلس، ويقول المؤرخون أن هذا النصر العظيم أخر سقوط الأندلس لقرون.
13. معركة حارم (559 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة نور الدين محمود زنكي على الفرنج وحرر منطقة حارم في ريف إدلب حاليا.
14. معركة حطين (رمضان سنة 584هـ): انتصر المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وحرروا بيت المقدس.
15. معركة عين جالوت (رمضان سنة 658 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة السلطان قطز على التتار الذين كانوا قد قتلوا الملايين في العالم الإسلامي.
16. فتح أرمينيا (رمضان 673 هـ): فتحها المسلمون بقيادة الظاهر بيبرس.
17. معركة شقحب (رمضان 702 هـ): انتصر فيها المسلمون بقيادة الناصر محمد بن قلاوون ومعه شيخ الإسلام بن تيمية على التتار في سهل شقحب بالقرب من دمشق.
18. فتح البوسنة والهرسك (رمضان 791 هـ): انتصر المسلمون بقيادة السلطان العثماني مراد الأول على تحالف صليبي من الصرب والبلغار والبولنديون والمجر والألبانيين.
19. فتح جزيرة قبرص (رمضان 829 هـ): كانت قبرص قد فتحت أيام معاوية رضي الله عنه لكنها سقطت بعد ذلك بفترة واتخذها الصليبيون قاعدة ينطلقون منها لحملاتهم على العالم الإسلامي. ففتحها السلطان المملوكي المسلم الأشرف برسباي.
أما حرب العاشر من رمضان 1973م (1393هـ)، فقد انتصر الملمون على اليهود وكان نصرا كبيرا ما زال اليهود يقفون عنده مذهولين مما أصابهم.
تسعة عشر معركة هي أهم المعارك، إنه شهر الانتصارات يا قوم، لا شهر الكسل، ولا الطرب والمجون!
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء




[1])) متفق عليه
[2])) متفق عليه
[3])) متفق عليه
[4])) متفق عليه
[5])) صحيح مسلم
[6])) صحيح مسلم
[7])) صحيح مسلم
[8])) متفق عليه
[9])) صحيح البخاري
([10]) صحيح مسلم  
([11]) صحيح سنن الترمذي
([12]) متفق عليه
[13])) صحيح مسلم
[14])) صحيح البخاري
[15])) د. إياد قنيبي

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات