استقبال شهر رمضان للشيخ احمد ابو عيد
استقبال شهر رمضان
الحمد لله ذي الرضا المرغوب، يعفو ويصفح ويغفر الذنوب، يملي ويمهل لعل العاصي يتوب، يعطي ويرضى ويحقق المطلوب، يُطعم ويَسقي ويستر العيوب، يغني ويشفي ويكشف الكروب، نحمده تبارك وتعالى حمدًا هو للذات العلية منسوب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر الوسواس الكذوب، ونسأله السلامة فيما مضى وما سوف يأتي من خطوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الجناب المرهوب، خلق السماوات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويقلب الأبصار والقلوب، سخر الرياح بقدرته، فمنها الساكن ومنها الهبوب، قدر الأرزاق وفق مشيئته فمن الناس ممنوح ومسلوب، والأنعام خلقها لنا، فمأكول ومحلوب، والخيل والبغال والحمير للحمل وللركوب، أوجد الكائنات بحكمته، فمسلم منها ومعطوب، كل الحادثات بإرادته وجميع الأمور محسوب، شهدت له الكواكب في شروقها والغروب، وأقرت به الأحياء في مطعومها والمشروب.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ذو المقام الموهوب، لا يأكل الصدقات، ولا يرتكب الهفوات، وخاتم النبوة بين كتفيه مضروب، في الصلاة قرة عينيه، والخيرات كلها بين يديه، وهو الصفي المحبوب، من خلقه مكارم الأخلاق، وباتباع سنته تتسع الأرزاق، والأمر بحبه على الوجوب، نوره بين أتباعه قائم، وشرعه على مر الدهور دائم، وما عداه من الشرائع مشطوب، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن تبع نهجه فقد أرضاه، ومن عصاه في النار مكبوب، أول الخلائق بعد النفخة يُفيق، وأول من يحشر على التحقيق، وحديثه غير مكذوب، أول من يسجد على البساط، وأول من يجوز على الصراط، والكل من الهول مكروب، صاحب لواء الحمد، والمنفرد بالثناء حين الجد، حيث الفلاح أو الرسوب، صاحب الشفاعة العظمى، وله المقام الأسمى، واسمه على أبواب الجنة مكتوب، صاحب الحوض الأوفى، وكأس الرواء الأشقى، والماء من نبع الجنان مسكوب، تتعلق به الآمال، وتشد إلى مسجده الرحال، وبالصلاة عليه تنفرج الكروب.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه عدد الرمال والحصى، وكلما أطاعه عبد أو عصى، ونور بصلاتنا عليه بصائرنا والقلوب.
العناصـــــــر
أولا: فضل بعض الخلق والأمكنة والأزمنة على بعض
ثانياً: فضل شهر رمضان
ثالثاً: الواجب على المسلم فيه
الموضــــوع
أولا: فضل بعض الخلق والأمكنة والأزمنة على بعض
إن التفاضل والتفاوت بين الخلق من سنه الملك الحق قال الله تعالى "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" الروم 22
فضل بعض الخلق على بعض: فقد فضل الله سبحانه وتعالى بين الناس في العلم فقال تعالى "نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم" يوسف 76
كذلك فضل الله بين النبيين والمرسلين على حسب ما لا قوه في سبيل الله تعالى وفي سبيل دعوتهم من عنت وقسوة واضطهاد قال تعالى "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض واتينا داوود زبورا "الإسراء 55
وقال تعالى "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ" "البقرة: 253".
كذلك فضل الله بين الخلق في أسباب الحياة كما قال تعالى "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا "الزخرف 32
كما فضل بينهم في الرزق قال تعالى "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" النحل 71
كذلك فضل الله سبحانه وتعالى بين الناس لما بينهم من تفاوت في صلتهم بالخالق عز وجل ومنهم للوالدين وكثرة طاعتهم لله تعالى وسماحه التعامل والتمسك في الفضائل والبعد عن الرذائل فقال سبحانه "أن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين" آل عمران 33
وفضّل بعض الزرع والفواكه على بعض، فقال تعالى: "وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُّسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ" "الرعد: 4".
فضل بعض الأمكنة على بعض: فضل بعض الأمكنة على بعض على قدر ما كان فيها من أحداث ومالها من منزله عند رب الناس ففضل مكة على سائر البلدان وذلك لان بها أول بيت وضع للناس وفيها ولد خاتم النبيين ومنها بعث رحمه للعالمين
لهذا قال رسول الله r مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" ([1])
كذلك فضل المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال على غيرها من المساجد فعن أبي هريرة t أن النبي r قال "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" ([2])
فضل بعض الأزمنة على بعض: تتفاضل الأزمنة بقدر ما فيها من أثر ايجابي فعال في حياه البشر
شهر رمضان فضله الله على سائر الشهور نظرا لما انزل الله فيه من الكتب السماوية كالقران ولما أن فيه ليله خير من ألف شهر وهي ليله القدر وهو من أفضل الشهور عند المسلمين لان فيه النصر الكبير للمسلمين في غزوه بدر والغزوات الأخرى التي حدثت في شهر رمضان
كذلك فضل الله بعض الليالي على بعض ففضل ليله القدر على سائر الليالي ففيها انزل الله القرآن قال تعالى " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) "
ففي هذه الليلة تهبط الملائكة من عند الله لتنشر بين الناس الأمن والأمان والسلام
واختار الله من الزمان ثلاث عشرات وهم:
أولا: العشر الأول من المحرم لما فيه من يوم عاشوراء
فعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله r قال "صوم عاشوراء يكفر العام الذي قبله رواه مسلم والعشر الأخير من رمضان لما فيه من ليله القدر"([3])
ثانيا: العشر الأخير من رمضان لما فيه من ليلة القدر
ثالثا: العشر الأول من ذي الحجة فعن ابن عباس t قال: قال رسول الله r "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" ([4])
فضل الله الآخرة على الدنيا فقال تعالى: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" "الأعلى
ثانيا: فضل شهر رمضان
شهر الجود ومدارسة القرآن: عن ابن عباس قال: " كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله r أجود بالخير من الريح المرسلة "([5])
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وفي تضاعف جوده r في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
أ-شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه
ب-إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما روى عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ قال: قال نَبِىُّ اللَّهِ -r- "مَنَ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا في أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا" ([6]) وعن زيد بن خالد الجهني عن النبي r قال: (من فطر صائما كتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء) ([7])
ج-أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال r: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) ([8])
د-أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث على t عن النبي r قال: (إن في الجنة غرفا يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) ([9])
وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل.
ذ-أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن رسول الله ص أنه قال: (الصيام جُنة) ([10])
وكان أبو الدرداء t يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ر-أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهره للصائم من اللغو والرفث.
ز-أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوى على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها، ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر، لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه، فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها.
وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع
تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين: عن أبي هريرة t أن النبي r قال:" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " ([11])
وعن أبي هريرة t أن النبي r قال:" أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم " ([12])
قال الإمام النووي رحمه الله: وأما قوله r: (فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)، فقال القاضي عياض رحمه الله: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم.
قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم ليصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس ويؤيد هذه الرواية الثانية فتحت أبواب الرحمة وجاء في حديث آخر صفدت مردة الشياطين.
قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات ومعنى صفدت غللت والصفد بفتح الفاء الغل بضم الغين وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى ([13])
صيامه يكفر الذنوب: عن أبي هريرة t أن رسول الله r كان يقول "الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مكفِّراتُ ما بينهنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائر" ([14])
قال الإمام المناوي رحمه الله: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان) أي صلاة الجمعة منتهية إلى الجمعة وصوم رمضان منتهياً إلى صوم رمضان (مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) شرط وجزاء دل عليه ما قبله ومعناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فلا تغفر لا إن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة فإن كانت لا تغفر صغائره" ([15])
العمرة في رمضان ثوابها مضاعف: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله r "عُمرة في رمضان تعدل حَجَّةً"([16])
قال الإمام المناوي رحمه الله: قوله r: (عمرة في رمضان تعدل حجة) في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزى عن حج الفرض
نزول القرآن الكريم فيه: قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة
قال الإمام ابن كثير : يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء ([17]).
وعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله -r-قال "أنزلت صحف إبراهيم u فى أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من
رمضان" ([18])
فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر: قال تعالى" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) " القدر
قال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ": بين فضلها وعظمها وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. واللّه أعلم.
وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي قال الله عز وجل:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ "
وقال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله r، ثم قال تعالى معظماً لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها فقال: " وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ " ([19])
قال المباركفورى رحمه الله: قوله r :(ليلة خير من ألف شهر) أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر (من حرم خيرها) والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في إحياء ليلها ([20])
لا مثيل له في الفضل والأجر: عن أبي أمامة t قال قلت يا رسول الله "مرني بعمل قال عليك بالصوم فإنه لا عدل له قلت يا رسول الله مرني بعمل قال عليك بالصوم فإنه لا عدل له قلت يا رسول الله مرني بعمل قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له "([21])
مضاعفة الثواب: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " ([22])
صلاة التراويح: أجمع المسلمون على سنية قيام ليالي رمضان، وقد ذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح يعني أنه يحصل المقصود من القيام بصلاة التراويح ([23])
وعن أبي هريرة أن رسول الله r قال: " من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه "([24])
قوله r :(من قام رمضان إيمانا): أي تصديقاً بأنه حق معتقداً فضيلته، واحتساباً يريد به الله وحده لا رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص غفر له ما تقدم من ذنبه.
والمعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر، وقال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة أي بوجوب.
سنة الاعتكاف: عن عائشة رضي الله عنها، -زوج النبي r -: " أن النبي r، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده " ([25])
ثالثا: الواجب على المسلم فيه
إن بلوغ شهر رمضان نعمة عظيمة يفرح بها المؤمنون وحُق لهم ذلك يقول تعالى:" قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون "يونس.
إنه موسم عظيم من مواسم التجارة الرابحة مع أكرم الأكرمين مع الغنى الحميد سبحانه وتعالى يده ملأي لا تغييضها نفقه لو أن الخلق جميعًا جنهم وأنسهم قاموا في صعيد واحد فسأل كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عند الله شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
وإذا كان التجار يستعدون للمواسم التي تضاعف فيها الأرباح فحري بالعبد الموفق أن يستعد لهذا الموسم العظيم الذي تضاعف فيه الأجور بغير حد ولا مقدار قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ.
التوبة والإنابة من جميع الذنوب: فالتوبة تتجدد في رمضان حتى يتعرض المؤمن لنفحات الله ورحماته، قال تعالى: " فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ " سورة هود
وقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير" سورة التحريم.
وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ r قال: " إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهارِ، وًيبْسُطُ يَدَهُ بِالنهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" ([26])
عن الأغر المزني t قال: قال رسول الله r " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة "([27])
فلقد آن أن تخشع القلوب لذكر الله وما نزل من الحق قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) الحديد، فإذا كان الله تعالى لا يرد تائبا فتب إليه فانه غفور رحيم.
فَتُب لله حقاً ثُمَّ أقبِل | ** | بُعيد التّوب والدّمع المسالِ |
ستلقى الله توّاباً رحيماً | ** | فَإِنَّمَا الرِّبحُ وَالخُسْرَانُ فِي العَمَلِ
|
فيا ربّي أنَبْتُ إليك طَوعاً | ** | تقبّل تَوبتي وألطف بحالي |
التحلل من جميع المظالم: على المسلم وهو يستقبل شهر رمضان أن يستقبله ويستعد له بالتحلل من جميع المظالم بأن يرد تلك المظالم إلى أصحابها وأن يطلب منهم المسامحة والصفح فعن أبي هريرة t عن النبي r قال من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " ([28])
إلهي لا تعذبني فإني | ** | مقر بالذي قد كان منى |
فكم من زلة لي في البرايا | ** | وأنت علي ذو فضل ومنِّ
|
يظن الناس بي خيراً وإني | ** | لشر الناس إن لم تعفو عني |
تصفية القلب من علائق الدنيا: في استقبال رمضان يصفي المسلم قلبه من علائق الدنيا ويقبل على عبادة الله تعالى بحب ورضا حتى يشرح الله صدره للإسلام والإيمان، قال تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" سورة الزمر.
ومن تصفية القلب الصدق مع النفس ومع الناس وحب الخير للجميع، والبعد عن أمراض القلوب من غل وحقد وحسد وكبر وغيبة ونميمة وغش وغيرها
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ r: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ. فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ "([29])
أنا إن بكيت فلن ألام على البكا | ** | فلطالما استغرقت في العصيان |
يا رب إن لم ترضى إلا ذا تُقى | ** | من للمسيء المذنب الحيرانِ
|
الحرص على مجاهدة النفس في العبادة وكذا في استقبال رمضان يستعد المسلم لمجاهدة نفسه من الشيطان والهوى والشهوات والشبهات، ويقبل بجد واجتهاد وإخلاص وإتقان على الصوم والصلاة وقيام الليل والصدقة، وليعلم أن عزه وشرفه في تلك المجاهدة.
فعن سهل بن سعد أن النبي r قال: " أتاني جبريل، فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت، فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس "([30])
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح | ** | هذا أوان تبتل وصـــلاح |
واغنم ثواب صيامه وقيامه | ** | تسعد بخير دائم وفلاح
|
تعلم ما لابد من هم من فقه الصيام وأحكامه وآدابه والعبادات والاعتكاف والعمرة وزكاه الفطر وغيرها.
استغلال رمضان بالأعمال الصالحة والنية الصادقة فإن النية الصالحة من أسباب عون الله للعبد وتوفيقه، قال تعالى:﴿ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾الأنفال
وقال تعالى:﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾الفتح.
فدلت هاتان الآيتان على أن النية الصالحة سبب لتوفيق الله لعبده، فحري بالعبد المسلم أن يعقد النية على فعل الخيرات في رمضان والاجتهاد في ذلك، فكأنه يقول بلسان الحال: لئن أدركت رمضان ليرين الله ما أصنع، وقال تعالى "فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم" محمد.
وقال تعالى" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عده" التوبة.
كثرة الدعاء: قال الله تعالى:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾البقرة.
قال ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخلِلةً بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر ([31])
فاحرص يا عبد الله على الاجتهاد في الدعاء في رمضان، فحري بمن أدمن قرع الأبواب أن يُفتح له.
اكتب خطه شهر رمضان: الخطة الإيمانية والعلمية والدعوية اكتب مثلا سأقرأ من القران في كل يوم عدد تحدده من الصفحات، وفي مجال الدعوة كذا، وفي مجال وفي الحديث وغيرها من العلوم الشرعية، اقرأ من الكتب كذا وكذا، واعلم أنك إن صدقت النية سيعينك الله تعالى.
حاول أن تشتري المطلوب للعيد من الآن: من هذه الأيام أو في بداية رمضان حتى لا تشغلك عن الطاعة في هذا الشهر الكريم فيمر منك دون أن تستثمره.
اعلم إن رمضان أياما معدودات فسرعان ما تذهب الأيام ولا يبقى إلا شرح الصدر وثواب العمل الصالح والعكس فمن ضيعها فلا يبقى له إلا أوزارها فاحذر.
فعن كعب بن عجرة t قال: قال رسول الله r احضروا المنبر فحضرنا فلما ارتقى درجة قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثانية قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال آمين فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال إن جبريل عرض لي فقال بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له قلت آمين فلما رقيت الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين" ([32])
فعل الخير كإكرام المحتاجين وكفاله الأرامل والمساكين ...
التخطيط والترتيب لبرنامج يومي للأعمال الصالحة: كقراءة القران والجلوس في المسجد والجلوس مع الأهل وكثرة الصداقات والعمرة والاعتكاف والدعوة وغيرها من الأعمال الصالحة فلا يدخل عليك هذا الشهر وأنت في شتات من أمرك فتحرم خيرا كثيرا.
احذر أن تخالف نهج الحبيب r: فلا تفعل فعلا حرام ولا تسبب إنسان ولا تؤذي أحدا وإذا سبك أحد أو شتمك فلا تضرهم بشيء وتذكر قول النبي r يقول اللهم إني صائم فإنها تستبعد دخول الشيطان بيننا فلا ترد عليهم هذا السب والشتم حتى تأخذ ثوابا جزيلا من الحسنات من الله سبحانه وتعالى.
المحافظة على جميع الصلوات في جماعة وصلاة التراويح في المسجد ويفضل المسجد الذي يختم القرآن.
حضور مجالس العلم في المساجد وغيرها والحرص على الاستفادة منها وسؤال العلماء.
قيام الثلث الأخير من الليل.
الإكثار من التصدق وإفطار الصائم وزكاة الفطر.
عمل ايجابي نافع كل يوم يستغل فيه كل دقيقة من أوقات الشهر، ولا يضيع وقته أمام الفضائيات وفي متابعة الأفلام والمسلسلات.
فتح صفحة بيضاء مشرقة:أ-مع الله سبحانه وتعالى بالتوبة الصادقة.
ب-مع الرسول بطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
ت-مع الوالدين والأقارب والأرحام، والزوجة والأولاد بالبر والصلة.
ج-مع المجتمع الذي تعيش فيه حتى تكون عبدًا صالحًا ونافعا فعن جابر بن عبد الله t قال: قال رسول الله r "خير الناس أنفعهم للناس"([33])
يجعل بيته بيتاً ربانياً: يشعر فيه أهل بيته بقيمة الشهر فيجمعهم على القرآن فيختمونه معاً ويعمل لوحات بفضائل الشهر يعلقها داخل المنزل ويعقد الدروس العلمية لأهل بيته ويصطحبهم إلى المسجد للصلاة ودروس العلم.
جاء الصيام فجاء الخير أجمعه | ** | ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح |
فالنفس تدأب في قول وفي عمل | ** | صوم النهار وبالليل التراويح
|
اللهم تقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%