من دروس الإسراء والمعراج د/ عادل هندي




أولا: قدر النبي صلى الله عليه وسلّم وقيمته عند ربّه
لقد كان لهذه الرحلة عبرة حقيقية في إثباتِ قدر النبي r، وعلو قيمته؛ فها هو ربه عزّ وجلّ، يبعث إليه جبريل وملك الجبال بعد اعتداء أهل الطائف عليه، ويدعوه لمقابلته، ويريه آيات من آياته، يأمر بغسل قلبه، وجعله إمامًا للأنبياء في الصلاة، وفتح له أبواب السماء، ويرفع قدره على كل الأنبياء؛ ليعلنها مدوية أنّ النبي محمد r هو أشرف الناس وأعلاهم قيمة ومكانة. فما وصل إلى ما وصل إليه الرسول أحد، لا نبي ولا ملك... وفي ذلك درس آخر في أنّ الله عزّ وجلّ لا يخذل أولياءه وأحبابه ولا يفضحهم؛ بل يؤديهم وينصرهم على من عاداهم وإن طالت الفترة.
ثانيًا: إسلامنا دين الفطرة ... من شذّ عن الفطرة شذّ عن الإسلام (إنها أُمّة الفطرة)
لقد خلق الله البشر جميعًا على الفطْرة النّقية، قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[ [الروم: 30]. وها هو نبينا صلى الله عليه وسلّم يقول: «فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ». [صحيح مسلم: حديث رقم (162، ج1، ص145]. وهذا من جميل شرف المسلمين، فإسلامنا دين الفطرة النقيّة، فمن شذّ عن تلك الفطرة، فقد شذّ عن الإسلام، كأن يقوم بأخلاق لا تتناسب مع الفطرة، يرتدي ملبسًا ليس من الفطرة..... كل هذا ليس من الإسلام.
ثالثًا: عظيم ملك الله وقدرته التي لا تعادلها قدرة
وقد أظهرت لنا هذه الرحلة عظيم ملك الله وقدرته؛ ففي الحديث أيضًا عند مسلم: «فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ"، قَالَ: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا،....». وكأنها رسالة تحدٍّ لمن يدعي امتلاك القوة في الأرض؛ فالله العلي القادر، هو القوي، ولا تعجزه قوة ولا قدرة، يعلم كل شيء، ويقدر على أي شيء، فليتعظ كل إنسان، ولا يظلم أو يبطش، أو يستخدم قوّته في التسلّط على خلق الله.
رابعًا: تبادل الخبرات ... وتلاقح الأفكار
ونستفيد أيضًا من قصة المعراج: عظيم تبادل الخبرات، وتلاقح الأفكار، ففي القصة أن نبي الله موسى عليه السلام، عند فرض الصلاة خمسين صلاة، فعاد رسولنا محمد r إلى نبي الله موسى u، فيقول له: «ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ». فقد ازدادَ خبرةً تستدعي أن ينقلها لغيره. وهذا دور كل متخصص أن يورث خبرته لغيره؛ ولا يكتنزها، فكاتم العِلْم يلجم بلجام من نار يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلّم: «منْ كَتَمَ عِلْماً ألْجَمَهُ الله بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
خامسًا: القيادة تنتقل من كل الأمم إلى أمّة النبي محمد r فهل هي على قدر المسؤولية؟
ها هو النبي محمد r يؤمّ إخوانه من الأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى، ويقدّمه جبريل وإبراهيم عليهما السلام؛ ليُعْلَنَ للدنيا كلها أنّ القيادة والإمامة قد انتقلت من كل الأمم السابقة إلى أمّة الإسلام (أمّة نبي الله محمد r) لتكون شاهدة على كل الأمم، وقائدة لها في الدنيا قبل الآخرة، تحمّلت مسؤولية التبليغ والنشر للإسلام، تحمّلت مسؤولية إنقاذ المظلومين، تحمّلت مسؤولية تحرير بيت المقدس، تحمّلت نجدة الملهوف..... فهل هذه الأمة على قدر المسؤولية، أم ستتخلى عن الشرف والمكانة، وتترك مسألة نصرة المظلوم، وتحرير بيت المقدس بلا جهد أو عمل؟ فتكون النتيجة كما قال تعالى: ]وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[ [محمد: 38].
سادسًا: الله لا يخذل أتباعه ولا يفضحهم     
وهكذا ترينا الرحلة آيات الله في أوليائه؛ فلا يخلهم، ولا يضيعهم، يفتح أبواب سمائه لنبيه ووليه محمد r بعد أن رفضه كثير من أهل الأرض، بعد أن تقطعت به الأسباب، وكأنه يقول له: يا محمد ... لا تحزن، فربّك يفتح لك أبواب سمائه، فإن كان أهل الأرض قد لفظوا دعوتك، فهنيئًا لك المسرى والمعراج؛ فأهل السماء يرحبون بك وينتظرونك.
ولم يخذله وقت أن عاد إلى قومه يبلغهم بما حدث، فاستهزءوا به وكذبوه، وظهر خبث أبي جهل عندما دعاه ليخبر القم بما رأى وشاهد، لا ليؤمنوا، بل ليستهزئ به ومن معه، «فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ» ولمّا بدأ وصف النبي للأقصى، كاد أن يتلعثم فأنقذه الله، وإذ به صلى الله عليه وسلّم يقول: «ذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ»، قَالَ: «فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ»، قَالَ: «وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ» قَالَ: "فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَاب».
سابعًا: الابتلاء ضروري لغربلة الصف المؤمن وفضح المنافقين (إنه اختبار الإيمان)
قد يتعجّب البعض من شدة الابتلاء في يوم من الأيام، ويتساءل: لماذا يحدث كل هذا البلاء بالمسلمين؟ أليس الله بقادر؟ هل من نصر لعباد الله المصلحين؟ وتكثر التساؤلات، لكن يأتي الرد: فمع البلاء وشدته، يتمّ غربلة الصف، ويتم فضح المنافقين، فلا يثبت إلا أهل الإيمان الحقيقي الذين يثبتون في وجه الشدائد، فلا تقام الدول، ولا تبنى الأمم إلا على أكتاف الثابتين الصادقين في إيمانهم ويقينهم بربهم؛ فالأيدي المرتعشة، والقلوب المهزوزة لا تقوى على البناء، كما أنّ الله تعالى قادر على أن ينصر أهل االإيمان، لكن له في ذلك حكم، منها كما يقول تعالى: ]وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[ [محمد: 4]، ومنها كمتا قال عزّ وجلّ: ]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[ [آل عمران: 140: 142]. فلمّا عاد الرسول وحكى للناس في مكّة، ثبت من ثبت، واهتزّ إيمانُ من اهتزّ؛ «فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ»؛ لأنّ الهجرة قادمة، ومعارك طاحنة ستأتي فلن يثبت لها إلا الصادقون في الإيمان واليقين. وتلك حكمة الله من البلاء، ودورنا أن ندعو الله تعالى أن يثبتنا بقولنا: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» [سنن الترمذي: حديث رقم (2140)، ج4، ص448، وقال عنه الشيخ شاكر والألباني: صحيح].
ثامنًا: من المحنة تولد المنحة، ومن باطن الألم يتولّد الأمل:
إنّ سنة الله في الحياة الابتلاء، وقد سبق بيان الحكمة في وجود الابتلاءات، إلا أنّ المؤمن الصادق، يريى من وراء الشدة فرجًا، ومع العسر يسْرًا، ومن باطن المحنة تولد المنحة، اشتدت برسول الله الشدائد، لكنه لم ييأس، ولم ينس أنَّ له ربًّا قادرًا يقدّر المقادير، ويأذن بفرجه في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي نريد.
كانت الإسراء والمعراج منحة في ثنايا المحنة، بعد آلام الاضطهاد والتعذيب والحصار، يأتي الفرج بنداء النبي r لرؤية مظاهر قدرة الله تعالى، وكانت بمثابة تربية ربانية رفيعة المستوى لنبينا صلى الله عليه وسلّم.
وحتى يعود الأمل إلى القلوب من جديد علينا بالآتي:
1.   الإيمان اليقيني بقدرة الله، وانتظار فرجه فانتظار الفرج عبادة.
2.   الدعاء واللجوء إليه واليقين بالاستجابة. ]أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ[ [النمل: 62].
3.   الهُرُوع إلى الصلاة والسكن إلى المولى.
4.   التركيز على الإيجابيات لا السلبيات من المحن.
5.   صُحبة أهل الأمل والتفاؤل لا أهل اليأس والتشاؤم.
6.   القراءة في سِيَر التاريخ، والنظر في نهاية الابتلاءات.
تاسعًا: معراج المؤمن ... هدية السماء إلى الأرض... الصلاة
إنّها الصلاة: غرّة الطاعات، ورأس القربات، وعماد الدين، وعصام اليقين، لقد أراد الله تعالى أن يكرّم هذه الأمة بمعراج إليه سبحانه، بالصلاة...
الصلاة التي بها يرتفع قدر العبد عند ربه، النبي يأسى ويتعب وتمتلأ حياته بالتعب والنصب، حتى بلغ السماء ليأتيك بهدية عظيمة من الله (الصلاة). ]فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[ [النساء: 103].
عاشرًا: مكانة المسجد الأقصى وواجبنا نحوه.
سيظلّ المسجد الأقصى -بحول الله وقوته- هو الشوكة التي تقف في حلوق الظالمين والمغتصبين، وسيظل علامة بارزة على قيادة هذه الأمة لكل الأمم، وأنه حق للمسلمين لا يشترى ولا يباع، ولا يتم المساومة عليه.
إنه منذ أعلنت الصلاة فيه لجميع الأنبياء، أعلن معه أن الصراع بين المسلمين والصهاينة واليهود صراع عقيدة: وها هو نبينا يلخص المشهد؛ ففي الحديث الصحيح: [لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله! قال المصطفى: إلا الغرقد فإنه من شجر يهود].
ووجب على كل مسلم أن ينتبه؛ فاليهود اليوم أشد قسوة وغلظة من يهود الأمس، فاليوم حفريات واضطهادات، واعتقالات للمسلمين والمرابطين في بيت المقدس، وانتهاكات للمتطرفين، بمساندة جيش الصهاينة المعتدين.
يلزم علينا نشر القضية، وإيقاظها في نفوس أبنائنا وبناتنا، وإخبارهم بأنّ بيت المقدس هو بيت كل المسلمين، وليس خاصا بالفلسطينيين، وألا يستمعوا إلى كلام المرجفين، الذين يتحدثون عن أن الفلسطينيين هم من ضيعوه؛ لأنه مسؤولية كل مسلم وإن ضيعها أحد.
ومقاطعة العدو اقتصاديا واجتماعيًّا وإعلاميًّا ضرورة وفريضة، كما أنه يلزم الدعاء واللجوء إلى الله في كل حين بأن ينصر وأن يحرر بيت المقدس، ولربما دعوة في جوف الليل بين قلب مخلص، وبين الربّ العليّ، ترد كيد دبابة أو طائرة أو تمنع معتد من الاعتداء على عرض أو شرف.
___
ولقد شاهد النبي r مشاهد عظيمة تعالج قضايا اجتماعية وأخلاقية في صميم المجتمع؛ فهي أمراض تهدد كيان الحياة، ومنها: [عقوبة جريمة الغيبة والنميمة، عقوبة  أكلة أموال اليتامى، عقوبة خطباء الفتنة وعلماء السوء، عقوبة أكلة الربا، ومانعي الزكاة، وخطباء الفتنة، والتهاون في الأمانة،....]. ولأن هناك دولة ستُبْنَى، فلا بد من الحذر من هذه الأخلاقيات؛ فمثلها لا تبني ولكن تهدم..
___
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد الإسلام والمسلمين، وأن يجنبنا ومصرنا وأمتنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأن يأذن بتحرير المسجد الأقصى.
ملخص الخطبة
إن السيرة النبوية بحلقاتها المختلفة هي مصدر الإسلام الأعظم بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فهي الواقع الذي عاشه الرسول، وهي ملخص الحياة البشرية لذلك النبيّ ومقياس الحياة لمن بعده..
ولذا يتجدّد اللقاء مع السيرة العطرة لحبيبنا محمّد r؛ لنتعلّم ونستفيد منها: كيف نعيش؟ كيف نحيا؟ كيف نتعايش؟ كيف نتعامل مع غيرنا قُربًا وبُعْدًا؟
في العام العاشر من البعثة وبعد حصار دام ثلاث سنوات وبعد فكّ الحصار كانت وفاة عم الرسول أبو طالب ووفاة أم المؤمنين خديجة، فكّر الرسول r في الانطلاق بالدعوة خارج حدود مكة؛ حيث من أصول الدعوة أنّه لا يحدّها حدود، ولا توقفها ظروف، ولا تمنعها عن الانتشار الشدائد..
فذهب إلى أرض الطائف (ثقيف) غير أنّهم آذوه وضربوه وطردوه، وعاد حزينًا عليهم، فكافأه الله تسلية وتسرية بإسلام عدّاس ووفد من الجن ونزول ملَك الجبال، ودخوله في جوار المطعم، وحينها أيقنَ الرسول r أنّه لا منجى له إلا من الله ربّ العالمين. حتى كانت ليلة سعدِه، وموطن عزّه وشرفه..
فقد نام النبيّ r في الحِجْر عند الكعبة ليلةً، وقيل في بيت أمّ هانئ -ابنة عمّه- فجاءه جبريل وأخذه منطلقًا من المسجد الحرام في رحلةٍ أرضيّةٍ، حتى وصلَ إلى بيت المقدس وصلّى بالأنبياء إمامًا، ثم انطلق في رحلة سماوية عجيبة -لم ير أحدٌ مَّمن سبقه في موكب النبوة مثلها- حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وكانت آيات الله إليه تترى.. وقد كانت هذه الرحلة في منتصف الرحلة الدعوية المباركة لسيد الخلق؛ وكأنها كانت علاجًا ماسحًا لآلام الماضي، وبمثابة وضع بذور النّجاح للمستقبل.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكة *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفلٌ *** أعظم بمثلك من هاد ومؤتم
لما خطرت به التفوا بسيدهم  *** كالشهب بالبدر، أو كالجند بالعلم
حتى بلغت مكاناً لا يطار له *** على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل: كل نبي عند رتبته *** ويا محمد هذا العرش فاستلم
من دروس الإسراء والمعراج
أولا: قدر النبي صلى الله عليه وسلّم وقيمته عند ربّه وتكريم الله له: فالليلة قد علِمَ النبيّ r أنّ حظّه من رضوان الله جزيل، وأنّ مكانته بين المصطفيْن الأخيار موطّدة مقدّمَة. فأين نحن من تقدير الرسول في أقوالنا وأفعالنا وسلوكياتنا.
ثانيًا: إسلامنا دين الفطرة ... من شذّ عن الفطرة شذّ عن الإسلام؛ فإنّ سلامة الفكرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجلٍ فاسد السريرة عليل القلب.
ثالثًا: عظيم مُلك الله وقدرته التي لا تعادلها قدرة: فلقد أراد الله تعالى باطلاع أنبيائه على مظاهر قدرته أن يملأ قلوبهم ثقة ويقينًا بقدرته البالغة، وقد رأينا من رحلة الإسراء ما يجعلنا على يقين في قدرته.  
رابعًا: تبادل الخبرات ... وتلاقح الأفكار: فالأنبياء إخوة يكمل اللاحق منهم بناء السابق، ووهم الخلاف بينهم صنعه أعداء الأديان، ولنا في موقف نصيحة موسى لرسول الله بأمر الصلاة درس في تبادلهم الخبرات وإكمالهم البناء.
خامسًا: القيادة تنتقل من كل الأمم إلى أُمّتنا: وقد سبقتنا أمّة بني إسرائيل؛ فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السّماء، حلّت بهم لعنة الله، وتقرّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد.
سادسًا: الله لا يخذل أتباعَه ولا يفضحهم: كان الله معه حين آذاه قومُه، كان معه إذ طُرِد من الطائف، وكان معه إذ سألوه عن وصف بيت المقدس فرفعه له وأتقنَ وصفه.
سابعًا: الابتلاء ضروري لغربلة الصف المؤمن وفضح المنافقين فقد ثبت أنّ بعض مترددي الإيمان تزلزلت قلوبهم بخبر الإسراء والمعراج، وما ذاك من الربّ العليّ إلا تصفية للصفّ المؤمن.
ثامنًا: من المحنة تولد المنحة، ومن باطن الألم يتولّد الأمل: فانظر رحمني الله وإياكَ كيف تجدّد الأمل في قلب الرسول في وقت محنته وشدّتِه.
تاسعًا: معراج المؤمن ... هدية السماء إلى الأرض... الصلاة؛ شُرِعت في السماءِ لتكون معراجًا يرقي بالمسلم، فهي علامة صحة الدين؛ تحفظ المسلمين من الدنايا.
عاشرًا: مكانة المسجد الأقصى وواجبنا نحوه: سيظلّ المسجد الأقصى -بحول الله وقوته- هو الشوكة التي تقف في حلوق الظالمين والمغتصبين، وسيظل علامة بارزة على قيادة هذه الأمة لكل الأمم، وأنه حق للمسلمين لا يشترى ولا يباع، ولا يتم المساومة عليه.
حادي عشر: الصداقة الحقيقية مواقف لا كلمات: فانظر إلى الصديّق أبي بكر t (والذي جاء بالصدق وصدَّق به) فصدّق النبي في دعوته ورسالته ومواقفه وأحداث حياته.
جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي
يا أيها المُسْرَى به شرفاً *** إلى مالا تنال الشمسُ والجوزاءُ
يتساءلون -وأنت أطهر هيكل- ***: بالروح أم بالهيكلِ الإسراءُ؟
الخيل تأبى غير (أحمد) حامياً *** وبها إذا ذُكر اسمه خُيَلاءُ
يامن له عِزُّ الشفاعةِ وحدَهُ *** وهو المنزهُ، مالَهُ شفعاءُ
عرش القيامة أنت تحت لوائه *** والحَوْض أنت حيالهُ السّقاءُ
ظلموا شريعتك التي نلنا بها *** ما لم ينل في رومةَ الفقهاءُ
صلى عليك الله ما صحِب الدجى ***حادٍ وحَنّت بالفلا وَجْناءُ

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات