بناءُ الإنسانِ .... بناءٌ للأوطانِ للشيخ محمد جودة عيد




 


عناصر الخطبة :
أولاً : الحنين إلى الأوطان
ثانياً : النبي يربي شخصية المسلم على حب الوطن
ثالثاً : تجليات حب الوطن في شخصية المسلم
رابعاً : معا لإعلاء مبدأ المواطنة وإسقاط ورقة الطائفية المتعفّنة
خامساً : بالعلم يُبنى الإنسان وتبنى الأوطان
سادساً : الوطنية هي تعمير الأرض بإخلاص في العمل وإتقانه :
سابعاً : الوطنية تعني الدفاع عن الوطن والحفاظ على الممتلكات :
ثامناً : المسلم يعي أن حدود الوطن الحقيقية هي أرض الإسلام :
الموضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله رب العالمين . أحمده الحمد كله، وأشكره الشكر كله، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول ، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت .
وأشهد أن لا إله إلا الله . شهادة أدخرها ليوم العرض على الله، شهادة مبرأة من الشكوك والشرك، شهادة من أنار بالتوحيد قلبه، وأرضى بالشهادة ربه، وأشهد أن محمداً رسول الله . الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كاشف الغمة، وهادي الأمة،
صلى الله وسلم عليه : ما تألقت عين لنظرٍ، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف حمام على شجر، وعلى آله بدور الدجى، وليوث الردى، وغيوث الندى، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعــــــــــــــــــــــــــــــد :
أولاً : الحنين إلى الأوطان :
هذا العنوان هو عنوان رسالة جميلة للجاحظ ، حقَّقها وعلَّق حواشيها العلامة المحقِّق الشيخ طاهر الجزائري . وقد جمع فيها الجاحظ ما يتصل بالحنين إلى الأوطان , وأورد فيها طائفة من الأبيات والأقوال فيها الحنين إلى الوطن ومنها :
ومنها قول الشاعر :
إذا ما ذكرتُ الثغرَ فاضت مدامِعـي وأضحى فؤادي نُهبة للهماهم
حنينًا إلى أرض بها اخضرَّ شاربي وحُلَّت بها عني عقود التمائم
وألطفُ قومٍ بالغِنى أهلُ أرضـــــه وأرعاهمُ للمرء حقَّ التقادم
وقالت الحكماء: الحنينُ من رقةِ القلب، ورقةُ القلب من الرعاية، والرعايةُ من الرحمة، والرحمةُ من كرم الفطرة، وكرمُ الفطرة من طهارة الرِّشدة [أي : طهارة النسب] ، وطهارةُ الرِّشدة من كرم المَحْتِد .
وقوله : وقال آخر :عسرك في دارك أعزُّ لك من يسرك في غربتك وأنشد :
لقربُ الدار في الإقتار خيرٌ من العيش الموسَّع في اغترابِ
وقال أيضاً: ومما يؤكد ما قلنا في حبِّ الأوطان قول الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾ ، [النساء: 66] ، فسوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم .
وقال آخر: " من أمارات العاقل برُّه لإخوانه ، وحنينُه إلى أوطانه ، ومداراتُه لأهل زمانه " .انتهى النقل من كتاب الجاحظ
ولقد حنَّ سيدنا بلال إلى مكة في أبيات كما ذكر البخاري؛ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وُعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبَّح في أهله والموت أدنى مِن شِراك نَعلِه
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل [ وإذخر وجليل :من نبات مكة ]
وهل أردنْ يومًا مياه مجنَّة وهل يَبدُوَنْ لي شامة وطفيل [ومجنَّة: مكان قرب مكة ، شامة وطفيل: عينان قرب مكة ]
قالت عائشة رضي الله عنها : فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه فقال : (( اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشدَّ، وصحِّحها، وبارك لنا في صاعِها ومدِّها، وانقل حمَّاها إلى الجحفة )) . صحيح البخاري .
وقال الأصمعيُّ رحمه الله تعالى : ( قالت حكماء الهند : ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان : الإبل تحن إلى أوطانها وإنْ كان عهدُها بعيداً ، والطيرُ إلى وَكْرِه ، وإن كان موضعُه مجدباً ، والإنسانُ إلى وطنه ، وإن كان غيرُه أكثرَ له نفعاً ) .
وقال الغزالي : البشر يألَفُون أرضَهم ، ولو كانت قفرًا موحَشًا !! يحنُّ إليه إذا غاب عنه ، ويَغضب له إذا انتقص .
ومما يذكر في حب الوطن والحنين إليه قول أبي تمام :
نقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منـــــزلِ
ثانياً : النبي يربي شخصية المسلم على حب الوطن :
هذا الحب عبر عنه النبي في بداية بعثته حين قال له ورقة بن نوفل : ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أَو مُخْرِجِيّ هم ؟ ) قال : نعم وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا .. خرجه البخاري عن عائشة أم المؤمنين . وقوله : ( أو مخرجي هم؟ ) استفهام إنكاري على وجه التألم ، وكأنه استبعد أن يخرجوه من حرم الله دون سبب ، فلم يكن ما يقتضي إخراجاً .
وفي ليلةِ هجرتِه إلى المدينة ، وعلى مشارف مكّة وقف يودعُ أرضها ويستعيد الذكريات بموطن الصِبا وبيت الله الحرام قائلاً : ( ما أطيبَكِ مِن بلدةٍ وأحَبَّك إليَّ ولولا أنَّ قومي أخرَجوني منكِ ما سكَنْتُ غيرَكِ ) خرجه :ابن حبان عن ابن عباس ، و الترمذي .
ما أروعَكِ من كلمات ! كلمات قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميق، وتعلُّق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفاراً . ولقد ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: ((باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا))؛ رواه البخاري ومسلم . ومن ألوان الدواء لقاءُ المحبِّ محبوبَه ، أو أثرًا من آثاره ؛ ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟ قال الجاحظ: " كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه ’’ .
إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد .
قال الحافظ الذهبي وهو من العلماء المدقِّقين مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا ، ويحبُّ أسامةَ ، ويحب سبطَيْه ، ويحب الحلواء والعسل ، ويحب جبل أُحُدٍ ، ويحب وطنه ’’ .
إنه يحب مكةَ ، ويكره الخروجَ منها ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خرج من بلده مكة المكرمة ، إلا بعد أن لاقى من المشركين ، أصنافَ العذاب والأذى، فصَبَر؛ لعله يلقى من قومه رقةً واستجابة ، وأقام ورحل ، وذهب وعاد ، يريد من بلده أن يَحتضن دعوتَه ، ولكن يريد الله لحكمة عظيمة أن يَخرُج، فما كان منه إلا أنْ خرج استجابةً لأمر الله ، فدِينُ الله أغلى وأعلى .
وعندما حانتْ ساعةُ الرَّحيل، فاض القلبُ بكلمات الوداع ، وسَكبتِ العينُ دموعَ الحبِّ ، وعبَّر اللسانُ عن الحزن . أُخرج من وطنه ، أَخرجه قومُه ؛ كما قال تعالى : ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] . فمكة وطنه ، وحبُّها يملك قلبَه ، وهواها فطرة فُطر عليها، كما هو الحال عند الناس؛ لذلك لا يمكن أن يكرهها ، وإن أصابه فيها ما أصابه .
بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ
أما المدينة، فهي بلد جديد استوطنه ، وشاء الله أن يكون عاصمةَ دولةِ الإسلام الناشئة ؛ لذلك كان يدعو الله أن يحبِّبَها إليه ؛ كما في "الصحيحين": ((اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ)) ؛ رواه البخاري ومسلم .
إنه يدعو الله أن يحبِّب إليه المدينةَ أكثرَ من حبِّه لمكة ؛ فحبُّ مكة فطرةٌ ؛ لأنها وطنه، أما حبُّ المدينة فمنحةٌ وهِبة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يحبِّبها إليه حبًّا يفوق حبَّه لمكة ؛ لما لها من الفضل في احتضان الدعوة ، ونشر الرسالة وقد استجاب الله دعاءه ، فكان يحبُّ المدينة حبّاً عظيماً ، وكان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها التي تدلُّ على قرب وصوله إليها ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة ، أوضع ناقتَه ، أي: أسرع بها ، وإن كانت دابة حرَّكَها "، قال أبو عبدالله بن عمير عن حميد : " حركها من حبِّها " ؛ أخرجه البخاري .
ولقد أحبَّ الصحابةُ ديارَهم ، ولكنهم آثروا دين الله عز وجل فقد أُخرجوا رضي الله عنهم من مكة ، فهاجَرَ مَن هاجر منهم إلى الحبشة ، وهاجروا إلى المدينة، خرجوا حمايةً لدينهم ، ورغبةً في نشر دين الإسلام .
وما أقساه من خروج وما أشدَّه! لذلك وصف الله الصحابةَ الذين أُخرجوا من ديارهم بالمهاجرين، وجعل هذا الوصفَ مدحاً لهم على مدى الأيام ، يُعلي قدرَهم ، ويبيِّن فضلَهم ؛ قال تعالى : ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ . الحشر: 8 .
ومِنْ خِلاَلِ نُصُوصِ القُرآنِ الكَرِيمِ ، نَجِدُ أَنَّ حُبَّ الوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ لاَ تُعَادِلُها إِلاَّ غَرِيزَةُ حُبِّ الحَيَاةِ ، وكَأَنَّ الوَطَنَ يُسَاوِي الحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ للإِنْسَانِ ،وقد قرن الله حبَّ الأرض في القرآن الكريم بحبِّ النفس ؛ قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾ النساء:66 .
وقَدْ قَرَنَ تَعَالَى النَّهْيَ عَنِ الإِخْرَاجِ مِنَ الوَطَنِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ حِينَ أَخَذَ العَهْدَ عَلَى بَعْضِ الأُمَمِ مِنْ قَبلِنَا، قَالَ تَعَالَى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)) البقرة :84 .
بل قرنه في موضعٍ آخرَ بالدِّين ، والدين أغلى من النفس ، ومقدَّمٌ عليها لمن يفقه ؛ قال تعالى : ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ . الممتحنة: 8 .
وجعل النفيَ والتغريبَ عن الوطن عقوبةً لمن عصى ، وأتى من الفواحش ما يَستحق به أن يُعذَّب ويُغرَّب .
ثالثاً : تجليات حب الوطن في شخصية المسلم :
والحبُّ للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس ؛ بل يتجلَّى في الأقوال والأفعال ، والسلوك .
1- وأجمل ما يتجلى به حبُّ الوطن الدعاء :
فالدعاءُ تعبيرٌ صادق عن مكنون الفؤاد ، ولا يخالطه كذبٌ، أو مبالغة، أو نفاق؛ لأنه علاقة مباشرة مع الله .
ولقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة: ((اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة))؛ رواه البخاري ومسلم
وقال : ((اللهم باركْ لنا في تمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعِنا ، وبارك لنا في مُدِّنا ، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني عبدُك ونبيُّك ، وإنه دعاك لمكة ، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة ، ومثله معه ))؛ رواه مسلم
وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أنه حِينَ تَرَكَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، زَوْجَهُ هَاجَرَ وابنَهُ إِسْمَاعِيلَ عَليهِ السَّلاَمُ ، فِي مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ وَادٍ قَاحِلٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ ، دعا ربه قائلاً : ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) . إبراهيم :73 . وقال : ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ . البقرة:.
ودعاء إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام يُظهِر ما يفيض به قلبُه مِن حبٍّ لمستقر عبادته ، وموطن أهله .
لقد دَعَا رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الاستِقْرارِ، ووَسَائِلَ عِمَارَةِ الدِّيَارِ، بالأمن والرِّزق ، وهما أهم عوامل البقاء ، وإذا فُقِد أحدُهما أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة ، فتُهجَر الأوطانُ ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر الحياة ؛ ولهذا نرى أن الله سبحانه وتعالى شدَّد في عقوبة مَن يُفسِد على الديارِ أمنَها ؛ بل جعل عقوبتَه أشدَّ عقوبةً على الإطلاق ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ، فهل بعد هذه العقوبة من عقوبة ؟ [ المائدة: 33 ] .
2- صلة الأرحام :
ومما يتجلى فيه حبُّ الأوطان ، صلة الأرحام ، فهم عترة الإنسان وخاصَّتُه ، وهم قرابته وأنسه ، وبهم تطيب الإقامة في الديار؛ لذلك جعل الله صلةَ الأرحام من أعظم القُرُبات ، وقطيعتَهم قرينَ الإفساد في الأرض .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله خَلَقَ الخلْقَ، حتى إذا فرغ منهم ، قامَتِ الرَّحمُ فقالت : هذا مقامُ العائذ من القطيعة ، قال: نعم ، أمَا ترضَيْنَ أن أصلَ مَن وصَلَك ، وأقطع مَن قطَعَك؟ قالت: بلى ، قال: فذاك لكِ )) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’ اقرؤوا إن شئتم : ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ محمد: 22 .
3- حسن الجوار :
وينتقل الإحسانُ إلى دائرة أخرى من الدوائر التي تحيط بالإنسان، وهي دائرة الجوار، وهل تطيب الإقامةُ في الدار إن عدا عليك فيها جارٌ .
يقول الله تبارك وتعالى : ’’ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين و الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ’’ , النساء :36. وقد أوصى النبي بالجار، وحث على حسن معاملته ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)). قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) ؛ أي: شروره وأذاه . وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي قال: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليحسن إلى جاره )) والإسلام حريص على أن يفي كل جار لجاره بالأمان من ظلمه ؛ فلا تستباح محارمه ، ولا ينال عرضه ، ولا يستحل ماله ولا يناله أي صنف من أصناف الأذى .
وإذا نظرنا إلى الوراء ؛ وجدنا الجار محل الإكرام، حتى في الجاهلية ، حتى صور أحد الشعراء الجاهليين حاله مع محارم جاره فقال :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مـــأواها
أين هذا ممن ولدوا في الإسلام ونشؤا فيه وكانوا حرباً على جيرانهم أذاقوهم صنوف الأذى: إما بالاستطالة في أعراضهم، أو بالأذى الفعلي في بيوتهن، أو بالتلصص على عوراتهم، أو بالأذى في طرقاتهم، أو بالأصوات المنبعثة من داخل بيوتهم، ولم يعرفوا لجيرانهم حقا ، فليعلموا أن هذا نقض للعهد ، وغدر، وخيانة ، والله تعالى قبح صور الخائنين الغادرين . فقال تعالى : ’’ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ’’ . البقرة .
4- الأخوة الإيمانية :
وهل ذلت الأمة وهانت وصارت قصعة مستباحة لكل أمم الأرض ، تأتي كل أمة من هنا وهنالك لتنهب من الأرض قطعة ، ومن المقدسات مكانا ، ومن الشرف شرفا وعرضا إلاّ يوم أن مزقت معنى الأخوة ، وصار المسلم ينظر إلى أخيه في أرجاء الأرض يعذب وينتهك شرفه وعرضه ويسفك دمه ، ويهز كتفيه ويمضي ، وكأنّ الأمر لا يعنيه مادام آمنا في سربه عنده قوت يومه . والله ما فعل هذا إلاّ يوم أن مزقت معنى الأخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: من الآية 10]، معنى ومبدأ طهور لن تجد له نظير في المناهج الوضعية على وجه الأرض .!!!
فالمؤمنون وإن اختلفت ألوانهم وأجناسهم وأوطانهم ، كأغصان متشابكة في دوحة واحدة ، كروح واحد حل في أجسام متفرقة
وأنا إذ أنادي اليوم بوحدة الصف في الأمة، فأنا لا أريدها أبدا وحدة تجمع شتاتا متناقضا على غير حق وسنة وهدى، فوحدة على غير الكتاب والسنة ، تفرق ولا تجمع، وتجرّح ولا تضمد، بل نريدها وحدة على القرآن والسنة، وإلاّ فما قيمة العرب قبل الإسلام، وما قيمة العرب الآن حينما انحرفوا عن الإسلام ، كانوا في أرض الجزيرة لا وزن لهم ولا كرامة، فجاء الإسلام فجعل منهم سادة للأمم وقادة للأمم .
حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهودياً في المدينة المنورة غاظه ما رأى من ألفة المسلمين، غاظه ما رأى من صلاح ذات بينهم، بعد الذي كان بينهم من العداوة و البغضاء في الجاهلية، فأمر شاباً على شاكلته يهودياً أن يجلس مع الأوس والخزرج، وأن يذكرهم بيوم بعاث، وهو من أيام الجاهلية يوم اقتتالهم، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوه من أشعار فتفاخر القوم، ثم تنازعوا ثم تواثب رجلان من الحي، ثم تقاولا، فقال أحدهما : إن شئتم رددناها الآن جزعة أي حامية ، وغضب الفريقان، وكادت تقع فتنة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم غاضباً وقال لهم: يا معشر المسلمين، اللهَ الله أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم ؟ أبعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم دعوى الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدو لهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين .
لقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الخصومة بالكفر، ثم إن الله عز وجل أنزل بهذه الحادثة قرآناً، فقال تعالى : ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ . سورة آل عمران: 101
5- الإحسان إلى شركاء الوطن من غير المسلمين :
وتتسع الدائرة لتشمل الإحسانَ إلى أهل الأديان الأخرى، وهم شركاؤنا في الوطن , لهم ما لنا من الحقوق وعليهم ما علينا من الواجبات فالوطن بيت الجميع فلا تستباح دماؤهم , أو أموالهم , أو أعراضهم .
وقد جاءت النصوص قرآناً وسنة بالنهي عن قتل النفس بغير حق مطلقا، فيدخل في ذلك النفس المؤمنة والنفوس الكافرة ممن لهم عهد أو أمان أو ذمة، ومن ذلك قوله تعالى:{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } , ثم قال تعالى في آخر الآية:{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } ، [الأنعام:151] قال الشيخ السعدي رحمه الله: ’’وهذا شامل لكل نفس حرم الله قتلها، من صغير وكبير، وذكر وأنثى، وحر وعبد، ومسلم وكافر له عهد إلا بالحق ’’.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التعرض للمعاهدين والمستأمنين من المشركين وأهل الذمة بأذى ؛ وما ذاك إلا تعظيما لحرمة الدماء وصونا للعهد، وتشديدا على من يتساهل فيها ، ولو كانت الدماء لغير المسلمين . ومن ذلك قول النبي : " مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " [البخاري] . وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » [ أبو داود]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ’’ أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ’’ أبو داود .
أقول لسفاك الدماء: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ منك حتى لو قتلت كافرا ؛ فعن عمرو بن الحَمَق رضي الله عنه عن النبي قال «من أمن رجلاً على دمه فقتله؛ فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا» . أخرجه البخاري ، والبيهقي , وحسنه الألباني .
أيها المسلمون : إن هذه الجرائم وبحق ، تعد أعمالاً بشعة ومقيتة ، وللقيم والأخلاق مميتة ، يشوه بها سمعة الإسلام ، وبلد الإسلام ، الذي يرفض مثل هذه التصرفات الرعناء ، والأفعال الهوجاء .
رابعاً : معا لإعلاء مبدأ المواطنة وإسقاط ورقة الطائفية المتعفّنة :
بيد أعدائنا ورقة رابحة أخيرة ، هي إثارة الفتن الطائفية ، وبوعي من إيمانكم ، وإخلاصكم، وحكمتكم، وحرصكم على أمتكم، حرصكم على وحدتكم فيما بينكم ينبغي أن تسقطوها من أيديهم .
إن حب الوطن في الإسلام : لا يعني: العصبيةَ ، التي يُراد بها تقسيمُ الأمة إلى طوائفَ متناحرةٍ، متباغضة، متنافرة، يَكِيد بعضها لبعض، وفي الحديث: (( مَن قُتل تحت راية عُمِّيَّة ، ينصر العصبية ، ويغضب للعصبية ، فقتلتُه جاهليةٌ )) . رواه مسلم .
حب الوطن في الإسلام: لا يعني: اتِّباعَ القومِ أنَّى ساروا، ونصرَهم على كل حال؛ بل يعني : العدلَ والإنصاف .
وعن عبَّاد بن كثير الشامي، عن امرأةٍ منهم يقال لها: فسيلة، قالت سمعت أبي يقول: سألت النبي فقلت: يا رسول الله ، أمِنَ العصبيةِ أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يُعِينَ الرجلُ قومَه على الظلم))؛ رواه أحمد وابن ماجه
أيها الأخوة الأحباب ؛ الوحدة الوطنية ليست شعاراً يرفع ، ولكنها برنامج عمل ، جاد ومكلف ، يقوم على عدم إثارة أي قضية خلافية بين أطياف المجتمع ، فالأعداء يتعاونون وبينهم من القواسم المشتركة خمسة بالمئة ، وهم يبحثون في كل يوم عن عوامل تزيد من تقاربهم ، والذين حولنا يتقاتلون وبينهم من القواسم المشتركة تسعون بالمئة ، وهم يبحثون في كل يوم عن عوامل تزيد من تباعدهم ، أليس هذا وصمة عار بحق الأمة الواحدة ؟
فالمواطنة أصل في ديننا ، فقد كانت يثرب عشية وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها تشكل مزيجاً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة ، ومن حيث الانتماء القبلي والعشائري ، ومن حيث نمط المعيشة ، ففيهم المهاجرون من قريش ، والمسلمون من الأوس والخزرج ، وغير المؤمنين من الأوس والخزرج ، وأهل الكتاب من الأوس والخزرج ، والأعراب والموالي والأحلاف وأعظم مهمة نفذها رسول الله إقامة نظام عام ، ودستور شامل لجميع ساكني المدينة ، جاء في مقدمته أن سكان يثرب أمة واحدة من دون الناس ، وهذا مفهوم المواطنة ، وأنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ ، وحربهم واحدة .
بل لقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على وحدة أمته من بعده ، فقال : (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) . البخاري عَنْ جَرِيرٍ ، لقد وصف الاختلاف الذي يمزق الأمة بالكفر الذي يوجب النار .
وتقوم الوحدة الوطنية على مبدأ قرره رسول الله عليه الصلاة والسلام حينما قال :
أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الدرداء .)) (( فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم
وفي الحديث الشريف ملمحان دقيقان :
الملمح الأول توحيدي : فنحن إذا نصرنا الضعيف ، أطعمناه إن كان جائعاً ، وكسوناه إن كان عارياً ، وآويناه إن كان مشرداً ، ووفرنا له عملاً إن كان عاطلاً ، وعالجناه إن كان مريضاً ، وهيأنا له سبل المعرفة إن كان جاهلاً ، ونصرناه إن كان مظلوماً ، عندئذ يكافئنا الله مكافأة من جنس عملنا ، فينصرنا على من هو أقوى منا .
والملمح الثاني اجتماعي : وهو أن الأمة بنصرة الضعيف تتماسك وتجتمع وتصبح سداً منيعاً ، فلا يستطيع العدو الخارجي أن يخرقها ، ولا أن يفتت وحدتها ، ولا أن يشق صفوفها، أعط الإنسان رغيف خبزه وكرامته وخذ منه كل شيء ، ولا تغلق بابك دونه حتى لا يأكل القوي الضعيف . وقد قال الإمام علي رضي الله عنه : " كاد الفقر أن يكون كفراً " . ويمكن أن نستعير هذه المقولة الرائعة من الإمام الجليل فنقول : وكاد الفقر أن يكون جريمة ، وكاد الفقر أن يكون إرهاباً ، وكاد الفقر أن يكون تخريباً ، وكاد الفقر أن يكون سرقة . وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعالج المشكلات من أسبابها ، لا من نتائجها ، فقد دخل رجل بستان أنصاري ، وأكل من شجره من دون إذنه ، فساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه سارق ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ’’ هلا علمته إن كان جاهلاً ، وهلا أطعمته إن كان جائعاً ’’ .
خامساً : بالعلم يُبنى الإنسان وتبنى الأوطان :
إذا ما تحقَّق الترابط بين أبناء الوطن الواحد، كان الجو مهيّأً للبناء، وأول خطوة في طريق التقدم هو التعليم ، فإذا انتشر العلم النافع بين أبناء الوطن، وتربَّى النشءُ تربيةً صحيحة ، يتحقق أول وأهم مقوِّم من مقومات الحضارة ، وهل الحضارة إلا مكوَّن يتركب من الإنسان ، والتراب ، والزمان ؟
وما غزيت العقول غزواً فكرياً ، ولا تحول العاقل الرشيد إلى بوق يصفق للعدو ويهتف بشعاراته ، ولا جهل الإنسان بما له وما عليه ، ولا ضاعت حقوقه إلا عبر قنوات الجهل والتخلف .
ومن أجل هذه المصائب وغيرها : أمر الخالق سبحانه عباده بالعلم وحث على التعلم وتوالت الرسالات السماوية تدعوا إلى العلم وترفع من شأنه: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) , المجادلة : 11 .
ولم يأمر الله نبيه بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم وذلك في قوله مخاطباً إياه : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طـه: 114]، وأقسم الله بالتعلم لما له من عظيم الأثر في محو الأمية ورفع مستوى الثقافة والمعرفة فقال تعالى - بسم الله الرحمن الرحيم-: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1]. وقد كرًمَ الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعلم. بل ويشهد الله جل وعلا لنفسه بالوحدانية ثم يثنى فى هذه الشهادة الجليلة الكريمة بملائكته ثم بأهل العلم فيقول سبحانه وتعالى: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } سورة آل عمران: 18
ويشهد سبحانه وتعالى لأهل العلم بهذه الشهادة الكريمة فيقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ’’ سورة فاطر: 28.
ولقد ورد فى فضل العلم أحاديث كثيرة : ففى الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحة والبيهقى عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض حتى الحيتان فى الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافرا " حسن :
وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: "فوالله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".متفق عليه: رواه البخارى ، ومسلم ، وأبو داود .
وفى الحديث الذى رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".صحيح: صحيح الجامع , رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذى , النسائى
وعن صفوان بن عسال المرادى رضى الله عنه قال: أتيت النبى وهو فى المسجد متكى على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله إنى جئت أطلب العلم فقال:" مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب" رواه أحمد والطبرانى , وابن حبان فى صحيحه , ورواه الحاكم وحسنه الألبانى
وعن أبى أمامة الباهلى قال: ذكر لرسول الله رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم"، ثم قال رسول الله:" إن الله وملائكته أهل السموات والأرض حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمى الناس الخير" رواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح وصححه الألبانى حفظه الله
أيها المسلمون: إن التسابق اليوم بين قوى الأرض هو في مِضمار العلم ، والأمة الجاهلة المتخلفة لا مكان لها بين الأمم ؛ بل إنها الأمة الضعيفة المنهزمة دائماً العالة على غيرها حتى ولو كان عدوها
ودول الغرب المتسلطة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من علو شأنها وقوةِ اقتصادها ونفاذ أمرها إلا بسلاح العلم
وتعلُّم العلوم المادية يحقق عمارَة الأرض عن طريق استخراج ثرواتها، واستثمار طاقاتها، وتذليل الصعوبات، وتوفير الحاجات تحقيقاً لقول الله: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)
وتعلم العلوم المادية، والتفوق فيها قوة ، يجب أن يكون في أيدي المسلمين ، ليجابهوا أعداءهم ، تحقيقاً لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) .
لأن القوة في هذا العصر هي قوة العلم .
ولن تنهض أمة الإسلام من جمودها ولن ترقى سلم العز والمجد ولن تحافظ على أعراضها ودمائها – إلا باعتمادها على ربها ثم اعتمادها على شبابها ، والجميع مسئول عن ذلك
أيها المسلمون:لا بد من أن يكون المسلم عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ، ولا يكن الخامسة فيهلك
وصدق من قال:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهــــم على الهدى لمن استهـدى أدلاء
وقدر كل أمرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعـــداء
ففز بعلم تعش حياً به أبـــــــدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
سادساً : الوطنية هي تعمير الأرض بإخلاص في العمل وإتقانه :
وأما تربة الأرض، فهي المقوم الثاني من مقومات الحضارة، وتربة الأرض تشمل سطحَها، وتشمل ما في باطنها، فهي تعني زراعتَها، واستثمار ما في جوفها من خيرات .
وقد عُنِيَ الإسلامُ بزراعة الأرض أيَّما عناية؛ لأنها مصدر قُوتِ الإنسان، وهي ضمان لاستقلاله وقوَّته، وأيما أمة لا تَزرع أرضَها، ولا تَملك قُوتَها، أمةٌ لا تملك قرارَها، ولا حرِّيتَها، ولا سيادتها؛ لذلك نظَّم الإسلام امتلاكَ الأرض، ووضع أحكامًا تُعنى بالحفاظ على هذا المقوِّم من مقومات الحضارة والتقدم .
وانظر إلى هذه الإشارة التي تُفهم من هذا الحديث ؛ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلاَّ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ )) .
ومن الاستثمار تَنْمِيَةُ مَجَالاَتِ التَّكَافُلِ الاجتِمَاعِيِّ، وتَسْهِيلُ سُبُلِ العَمَلِ الإِنْسَانِيِّ، والتَّقْصِيرُ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ الأَنَانِيَّةِ ، وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ والقُرْبَى الإِنْسَانِيَّةِ، وَلَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْوَاعِ النَّذِيرِ، وَنَبَّهَنا إِلَى مَا يَجَرُّهُ مِنَ البَلاءِ الخَطِيرِ.
وحب الوطن الذي لا يعارض الشرع يعني الإتقان، الإتقان في كل الأعمال، في التعليم، وفي الزراعة، وفي الصناعة، الإتقان في أمر الدنيا وأمر الآخرة، فكل منتَج في بلاد المسلمين يجب أن يحمل علامةَ الجودة الفائقة . عن عائشة ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )) .
إِنَّ بُنَاةَ الوَطَنِ، العَامِلينَ لأَجْلِهِ، المُخْلِصِينَ المُوَفِّينَ لِحَقِّهِ، يَخلُدُ فِي النَّاسِ ذِكْرُهُم، ويَبقَى إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ أَجْرُهُمْ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ((سَبْعٌ يَجْرِي لِلعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ أَجْرَى نَهَراً، أَو حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَستَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوتِهِ))، إِنَّ المُتَأمِّلَ فِي هَذَا الحَدِيثِ يَجِدُ شَأْناً عَظِيماً، ومَنْزِلاً عَالِياً كَرِيماً، لِمَنْ يُسَاهِمُ فِي بِنَاءِ وَطَنِهِ، سَواءً كَانَ إِسْهَامُهُ فِي البِنَاءِ الحِسِّيِّ بِإنْشَاءِ المَرَافِقِ الخِدْمِيِّةِ، والأَوقَافِ النَّفْعِيَّةِ، وغَيْرِها مِنَ الصَّدَقَاتِ الجَارِيَةِ، أَو كَانَ البِنَاءُ مَعنَويّاً بِتَنْشِئَةِ الأَجْيَالِ الصَّالِحَةِ، وتَرْبِيَتِها عَلَى الأَخْلاَقِ الفَاضِلَةِ، لأَنَّ الوَلَدَ الصَّالِحَ ذِكْرٌ حَسَنٌ لأَبِيهِ، ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يُضَاعِفِ اللهُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ، ويَبقَى بَيْنَ النَّاسِ نَفْعَهُ وَأَثَرَهُ، إِنَّ المُسَاهَمَةَ فِي مَشَارِيعِ البِنَاءِ، والإِعَانَةِ عَلَى تَوفِيرِ العَيشِ الطَّيِّبِ والرَّخَاءِ، لاَ يَقَعُ عَلَى عَاتِقِ الحُكُومَاتِ وَحْدها، بَلْ لِكَافَّةِ شَرَائِحِ المُوَاطِنينَ إِسْهَامَاتُها فِي ذَلِكَ ودَوْرُها، لاَ سِيَّما أَصْحَابَ رَؤوسِ الأَمْوالِ وَالشَّرِكَاتِ، وَأَرْبَابَ التِّجَارَةِ والمُؤسَّسَاتِ، ولاَ يَقْتَصِرُ دَوْرُهم فِي ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ الوَاجِبَةِ، بَلْ ((فِي المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ))، نَعَمْ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِ الخَيْرِ والوَفَاءِ، والمُتَّصِفينَ بِالإِحْسَانِ والعَطَاءِ
سابعاً : الوطنية تعني الدفاع عن الوطن والحفاظ على الممتلكات :
وحب الوطن يعني : الحفاظ على الحق العام، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس شركاءُ في أمورٍ، لا يجوز لأحد الاستئثارُ بها، أو الاعتداء عليها .
قال صلى الله عليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار))؛ رواه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات .
وأيضا يعني : التفاني وبذل النفس والمال في سبيل الدفاع عن كرامة بلده، وصون حدوده وأراضيه من أي اعتداء يحصل له ، وأن يخلص الوفاء لبدله ولوطنه ، وقد دلت النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه وجوب الدفاع عن أرض الإسلام والمسلمين من أي اعتداء، وأن تتكاتف الجهود، وتتوحد الحشود في حماية الأوطان ودرء العدوان، ومن تلك النصوص ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي ورواه غيره عن أنس رضي الله عنه
ولا شك أيها المسلمون أن من جملة الجهاد الذي مدحه الله ورسوله لزوم الثغور وحرس الحدود، ولا يقتصر الجهاد على قتال الكفار فحسب، بل يشمل أي جهد في طاعة الله ورسوله .
إن شأن المسلم المؤمن الصادق أن يكون محبا لوطنه الإسلامي، ومحبا لديار الإسلام حيثما حل أو ارتحل، عاملا على حماية آمنه وسيادته، مخلصا له في محبته ورعايته، وإن لم يستفد منه شيئا، فكيف إذا كان الوطن له المنة والفضل على المسلم، وفر له العيش الرغيد، والأمن المديد، ومنحه الكرامة والخير الوفير، ووفر له البيت الكبير، فلا شك أن الوفاء والمحبة له أعظم وليس من شيم المسلم أن يتنكر للجميل، ويكيد لأهله ولوطنه، ويعمل على الإساءة إلى سمعته، أو يدل أهل البغي والعدوان عليه فإن هذا شان أهل النفاق وديدن أهل الحقد والشقاق .
ثامناُ : المسلم يعي أن حدود الوطن الحقيقية هي أرض الإسلام :
وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: الانفصال عن جسد الأمة الإسلامية ، أو نسيان مبدأ الإنسانية، فلا ننصر مظلومًا، ولا نغيث ملهوفًا، ولا نعين مكروبًا، ما دام أنه ليس في حدود الوطن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ متفق عليه .
إن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء؛ بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى .
أنا الحجـــازُ أنا نجـــدٌ أنا يمــــنٌ أنا دمشق بها دمعي وأشجَانــــــــي
بالشّامِ أهلي وبغــــــداد الهــــوى وأنا بيافا وبالفسطاطِ جِيــرانـــــــي
وفي رُبــى مكــــةٍ تاريخُ ملحمةٍ على ثَراها نشا ديني وعنوانــــــــي
دفنتُ في طيبـــــــة رُوحـي وفي روضةِ المُصطفى عُمْري وبنيانِـي
النيلُ مَائي ومِنْ عمّانِ تذكرتِـــي وفي الجزائرِ أملي وبتونس ريعاني
دمي تصبّبَ في البحرين مُنْسَكِباً ودمعتي سالت في حب لُبْنـــــــــانِ
فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ عــددتُ ذاكَ الحِمى من صلبُ أوطانــــــــي
إن المسلم يحب وطنه، ويعمل كل خير لبلده، ويتفانى في خدمته ، ويضحي للدفاع عنه
وإن المسلم يعمل للأمة ، ويحزن لحزنها ، ويفرح لفرحها ، ويدافع عنها ، ويسعى لوحدتها
وإن المسلم يقدِّم الأقرب فالأقرب ، ولا ينسى من هو بعيد
وكل مسلم على ثغر، فلْيحذر أن يُؤتى وطنُه ، أو تؤتى أُمتُه مِن قِبَله .
بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي
اللهم احفظ بلاد المسلمين آمنة مطمئنة
وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات