هذا هو الإسلام العالمي للشيخ محمد جودة عيد



أولاً : مفهوم عالمية الإسلام :-
ثانياً : دلائل عالمية الاسلام :-
ثالثاً: سعادة المجتمعات في ظل ركائز الإسلام ومبادئه العالمية :-
رابعاً : الإسلام والانتشار العالمي :-
خامساً : اعترافات غربية بعالمية الإسلام :-
سادساً : المستقبل للإسلام :-
الموضوع
الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق .
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه .
آياتُ أحمدَ لا تحدُّ لواصف ولوَ انَّه أُمليْ وعاش دهورَا
بشراكمُ يا أمة المختار فـي يوم القيامة جنة وحرـــــيرَا
فُضِّلتمُ حقًّا بأشرف مرسَل خير البرية باديًا وحضـورَا
صلى عليه الله ربي دائمـاً ما دامت الدنيا وزاد كثــيرَا
وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين .
أما بعد :
أولاً : مفهوم عالمية الإسلام :-
يُقصد بمفهوم عالميّة الإسلام في المعاجم اللغويّة : انتشار الإسلام في العالم كلّه ، وعالميّة هي اسم مؤنَّث، ومنسوب إلى عالَم، وهي عبارة عن مصدر صناعيّ من عالَم، والتي تعني حركة إنسانيّة تهدف إلى خدمة البشر، وتُساعد على التقارب بين شعوب الأرض من غير مساس بهويّة أحد ، أو بخصوصيّاته الثقافيّة.
ويُقصد بعالميّة الإسلام اصطلاحاً : أنَّ الإسلام دين عالميّ ، فشريعته عامّة لكلّ أبناء البشريّة دون استثناء أحد، ويتّصل بهذا الأمر، النّظم التي شرعها الله سبحانه وتعالى ، والتي تتصف أصولها بسمة العالميّة والشموليّة ، حيث إنَّ هذه النّظم عامّة لجميع أبناء البشريّة، ولا تقتصر على شعب دون آخر، أو عقل دون آخر، أو مجتمع دون آخر، بل إنَّ الإسلام عامّ لجميع الأمم والمجتمعات.
ثانياً : دلائل عالمية الاسلام :-
الدين الإسلاميّ هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لكافّة خلقه، ومما يؤكّد على عالميّة الإسلام ما يأتي:
1- الله تعالى هو رب العالمين :-
أكدّت آيات القرآن الكريم على العالميّة، وأنَّ الله تعالى هو ربّ العالمين، وليس ربَّاً للعرب أو المسلمين، حيث يقول الله تعالى في محكم تنزيله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، سورة الفاتحة ، آية: 2
:- 2- الإسلام دين جميع الأنبياء
أحبتي في الله ! الإسلام هو المنة الكبرى، والنعمة العظمى، وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله جل وعلا لأهل الأرض، بل لأهل السماء، فما من نبي ولا رسول إلا وبعثه الله جل وعلا بالإسلام بداية من نبي الله نوح كما قال ربنا حكاية عنه في سورة يونس: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]. وما بعث الله إبراهيم الخليل إلا بالإسلام، كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:130-132]. وما بعث الله يعقوب إلا بالإسلام، كما قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]. وما بعث الله نبيه يوسف إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه في آخر سورة يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. وما بعث الله سليمان إلا بالإسلام، فهذا هو كتابه إلى ملكة سبأ، التي قرأته على أتباعها في مملكتها، كما حكى الله عز وجل ذلك بقوله: قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:29-31]. وما دخلت في الإسلام إلا يوم أن شرح الله صدرها للحق، فقالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44]. وما بعث الله نبيه موسى إلا بالإسلام، كما قال الله حكاية عنه: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]. بل وما بعث الله نبيه عيسى إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]. بل إن دين الجن المؤمنين هو الإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14-15]. إلى أن بعث الله لبنة تمامهم ومسك ختامهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإسلام، قال الله تعالى لنبيه: اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. وخاطبه الله جل وعلا بقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]. فالدين الوحيد الذي ارتضاه الله لأهل السماء ولأهل الأرض هو الإسلام، وهو ليس لا للعرب فحسب بل للبشرية كلها، ولذا قال جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
3- القرآن الكريم كتاب للعالمين :
ذكر بعض الباحثين أنّ الآيات التي تشير إلى عالمية الإسلام تفوق بعددها المئة وخمسين آية :-
ورد في القرآن الكريم أربع آيات تؤكّد أنّ القرآن دعوةً إلهيةً موجّهةً لكلّ البشر، وهو ذكرٌ للعالمين ، يقول سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)، وتكرّرت الآية الكريمة في سورة ص، في الآية السابعة والثمانون، وفي سورة القلم، في الآية الثانية والخمسون، وفي سورة التكوير، في الآية السابعة والعشرون .
استنبط أهل التفسير من الآية السابقة ما يؤكّد حقيقة تفرّد القرآن بعالمية التبليغ؛ فجاءتْ الآية بصيغة الحصر، وهي بذلك تنفي عن كتاب الله كلّ صفةٍ تنافي كونه عالمياً ، وتشير أيضاً إلى كونه كتابٌ يحمل التّذكير للعالم كلّه ؛ فهو يخاطب الجنّ والإنس، كما أنّه يخاطب الأفراد والجماعات والدّول .
ويُلاحظُ أنّ لفظ العالمين يعمّ أولئك الذين عاصروا حياة النبي عليه الصلاة والسلام، من الجنّ والإنس، وممّن جاءوا بعدهم من ذريّاتهم إلى أنْ تقوم السّاعة، ويعرفُ أهل اللغة أنّ صيغة الجمع إذا جاءتْ معرّفة، فإنها تدلّ على العموم والاستغراق .
ولا يمكن إغفال حقيقة أنّ عموم رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتحقّق إلّا بعالمية القرآن الكريم الذي أُنزل عليه، حيث أنزل الله تعالى القرآن الكريم هداية ونوراً للعالمين، حيث يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، سورة يونس ، آية : 37 . فالقرآن الكريم خطاب لجميع الناس، وهذا دليل على أنَّ خطابات القرآن وتوجيهاته عامة للجميع، والقرآن هو وحي الله لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت تشريعاته لإصلاح أحوال كافّة البشر سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين .
وقال تعالى في سورة الفرقان: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً )، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم وسمّاه فرقانًا لتفريقه بين الحقّ والباطل، ومن خصائص هذا القرآن العظيم أنّه هيمن على جميع الكتب السّماويّة التي سبقته ونسخها بما اشتمل عليه من شرائع وأحكام تصلح دستوراً لحياة النّاس إلى قيام الساعة .
هذا الدّستور العظيم لم يفرّق بين عربيّ أو أجنبيّ، بل لم يفرق بين أبيضٍ أو أسود، فكلّ المسلمين في ميزان الإسلام واحد، وإنّ معيار التّفاضل بينهم هو التّقوى والالتزام بشريعة الرّحمن، فأكرم المسلمين عند الله أتقاهم له سبحانه، وقد اشتمل هذا الكتاب العظيم على آيات البشارة بالجنّة لمن سلك طريق الإيمان من البشر، كما اشتمل على آيات الوعيد بالنّار والعذاب لمن أبى شريعة الرّحمن وسلك طريق الشّيطان .
قال عز وجل: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1 ] .
4- النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم رسول الله للعالمين :
يتضح أنَّ الله تعالى رب العالمين، والقرآن الكريم شريعة للعالمين، وبالتالي فإنَّ الرّسول محمداً صلّى الله عليه وسلّم رسول للعالمين، يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، سورة الأنبياء ، آية: 107 .
وقال جل شأنه: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ ، الأعراف: 158.
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، سبأ : 28 .
وقال عز شأنه: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾، الأنعام :19 .
قال المفسرون : أي لأُنذركم به يا أهل مكة ، وسائرَ مَن بَلَغه القرآنُ ووصل إليه مِن الأسود والأحمر، أو مِن الثَّقَلينِ، أو لأُنذركم به أيها الموجودون ومَن سيوجد إلى يوم القيامة،قال ابن جرير: مَن بلغه القرآن ، فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم . [ روح المعاني، للإمام الآلوسي 7 / 119، الكشاف، للإمام الزمخشري 2 / 7، دار عالم المعرفة ]
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُعطيتُ خَمسًا لم يُعطَهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعلَتْ ليَ الأرض مسجدًا وطَهورًا ، وأيُّما رجلٍ من أمتي أدركَتْه الصلاةُ فليُصَلِّ ، وأُحلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قَبلي، وكان النبيُّ يُبعَث إلى قومه خاصة وبُعثتُ إلى الناس كافةً، وأُعطيتُ الشفاعةَ )) ، وفي رواية لمسلم: ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ))، [ رواه البخاري في ك: التيمم ب : قول الله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ﴾ [المائدة: 6]، فتح الباري 1 / 519 رقم 325 ومسلم في ك المساجد، مسلم بشرح النووي 5 / 53 رقم 521 و523، والنسائي في ك الغسل ب التيمم بالصعيد 1 / 209 ـ 211، والدارمي في ك الصلاة ب الأرض كلها طَهور ما خلا المقبرة والحمام 1 / 374 ـ 375 رقم 1389
5- الكعبة المشرّفة هي قِبلة الله للعالمين :
فالكعبة قِبلة لجميع البشر، وبركة، وهدى لكل الناس، حيث قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ). (96) سورة آل عمران .
6- رسائل النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك والأمراء:
تُعتبر رسائل النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم أحد الدلائل على عالميّة الإسلام، ومن أمثلة ذلك رسالته إلى الملك المقوقس، وإرسال السفراء للملوك كإرسال عبد الله بن حذافة السهمي إلى ملك الفرس كسرى بن هرمز
7- تبشير النبيّ محمد بعالمية الإسلام :
بشّر النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم أنَّ الإسلام سينتشر وسيعمّ كافّة البلاد والعباد
وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وروى الإمام أحمد في مسنده، والطبراني بسند صححه الألباني من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وتتدبروا معي هذا الحديث الذي ، في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً وقال (تعرفون مدينة جانب منها في البحر وجانب منها في البر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! -وهذه المدينة هي : القسطنطينية - قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما يقولون في المرة الأولى: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون في الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيفرج لهم فيدخلونها). قال الحافظ ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث الجليل: (وبنو إسحاق في هذه النبوءة النبوية هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهؤلاء هم الروم). والروم بلغتنا هم الأوروبيون. قال الحافظ ابن كثير : (فالنبوءة النبوية تنص على أن الروم سيسلمون في آخر الزمان قبل قيام الساعة، وسيكون فتح القسطنطينية على أيديهم بإذن الله .
8- ختم الرسالات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم :
وحيث إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد ختم الله به الأنبياء والمرسلين، كما قال سبحانه: ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، فقد جعل الله رسالته خاتمة لرسالات الأنبياء السابقين ، ومتممة لما شيَّدوه من صرح الهداية والرشاد ، وأراد لها أن تكون ذات صِبغة عالمية إنسانية ؛ لأنها تناسب الإنسان كلَّ الإنسان في كل عصر ومِصرٍ، وجعل شريعته عالمية وملائمة للبشر أجمعين ، وكانت بحقٍّ صالحةً ومصلحة لكل زمان ومكان ، ولا غروَ فهي تملِك المقومات والخصائص التي تجعلها جديرةً بهذه الخاصية ؛ كونها ربانية ، وواقعية ، وتنطوي على رفع الحرج والمشقة، وملائمة للطبيعة الإنسانية ، وتتسم بالوسطية ، وتجمع بين الثبات والمرونة ، كما سنشير إلى هذا بعد قليل ، وغير هذا من المؤهِّلات التي لا تتوافر لأي نظام أو مذهب أو نِحلة قائمة على وجه الأرض .
ثالثاً: سعادة المجتمعات في ظل ركائز الإسلام ومبادئه العالمية :-
إنَّ هذا الدِّين الحقَّ هو الذي أرسى اللهُ به قواعد الحضارة المُثْلَى، وأقام به ركائزَ ومقوِّمات النهضة الكبرى، التي سَعِدَتْ في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات في ماضي الأيام، وسوف تَسعد بها كذلك إن شاء الله في حاضرها ومستقبلها
تلك الحضارة التي أسفرت آثارها عن جمال وجهها، وجلال غايتها، ورقيِّ منازلها، وإن السموَّ الحضاري في هذا الدّين لتتَّضح معالمه، وتستبين قَسَماته، وتتجلَّى خصائصه بالنَّظر المتأمِّل في ركائزه وأُسُسه ومبادئه ، ومنها :
الأول : العقيدة :-
فعقيدته عبوديَّةٌ كاملةٌ لله وحده، ونبذٌ لعبودية الأرباب من دونه ، في مختلف صورها وألوانها كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ، آل عمران: 64 .
يعلو التوحيد كل مبادئه ، فليس في الإسلام أية شبهة من شبهات تعدد الآلهة ، "قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ". وفي الحديث الشريف بيان لمظهر التوحيد وما يستتبع ذلك من علامات الإيمان حين أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه : " بني الإسلام على خمس : شهادة ألا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله ... " إلى آخر هذا الحديث المشهور. فالأمور التي تلي الشهادتين تعرف في الإسلام باسم "العبادات"، ولها في الدين فلسفة عميقة، من شأنها أن تنعم الروح والجسد كلاهما بالنعيم في الدنيا والآخرة، وهناك المؤلفات الدينية العديدة التي تتحدث عن فلسفة كل عبادة من هذه الأربع على حدة ,
وفي تعبيد العباد لله ربِّهم وهدم عبودية الأرباب من دونه: انتهاضٌ عَقَدِيٌّ، وارتقاءٌ عقليٌّ، وكمالٌ نفسيٌّ، يُبْتَنَى عليه أساس البناء الحضاري الرَّاسخ للأمَّة ؛ إذ إنه يجعل عُمْدَة الالتقاء وآصِرَة الاجتماع وهو سبب التكريم، ومنشأ التمييزيكون في المعتقدَ الصحيحَ والتقوى، لا العنصر أو اللون أو القوم أو الأرض، كما قال سبحانه: ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾، الحجرات: 13 .
الثاني : المساواة :-
لقد نادى الإسلام بالمساواة حين كان النظام الطبقي سائداً أقطار العالم جميعه ، حتى لقد عانى السواد الأعظم لتلك الشعوب ما عانى من السيادة المطلقة ، والمؤسف أن من كانوا يسمون أنفسهم "رجال الكنيسة والدين" هم الذين امتازوا من دون شعوبهم، ورعوا إلى جانبهم طبقة الإشراف والنبلاء، ليقتسم كلاهما النفوذ والسلطان .
أما الإسلام فقد أرسى قاعدة "سيادة القانون" وهذا يعني أن الناس - أمام القانون – سواء، لا فرق بين كبير وصغير، ولا امتياز لقوي على ضعيف، فلا يصح أن نغمض عيوننا على جرائم وجنايات كبير من الكبراء، ونمسك بتلابيب صغير من الضعفاء، فالشواهد والوقائع تثبت أن ميكروبات السخط لا تنتشر إلا في مجتمعات المحسوبية ، والاستثناء ، وعدم المساواة. ويوم يعلم المواطن أن حقه سيصل إليه بغير وساطة ولا خطاب توصية ، ولا وقوف على الأبواب ، يوم يعلم المواطن ويتأكد من كل هذا سوف يشعر بأنه يعيش في بلد سعيد .
الثالث : العدالة :-
كذلك دعا الإسلام إلى " العدالة المطلقة ’’ بين الجميع على السواء، وبذلك قلب الأوضاع التي كانت تسود العالم، حيث أهاب بالحاكم - بادئ ذي بدء - أن يعمل للناس لا لنفسه، فأوجد الإسلام بذلك نوعا جديدا يومئذ - ولأول مرة - من الحكام المثاليين، والذين لا يتوفرون على أكثر مما يتوفر عليه الفرد العادي، حتى كأنه من المحكومين - نتيجة ذلك - من يفوق الحاكم إمكانيات، وقد حدث ذلك الانقلاب الإسلامي في زمن كان فيه الحاكم في نظر الشعب ظل الله في أرضه، وهو مالك للناس وما يملكون، يسخرهم ليحققوا له متعه وملذاته، بل ومنع بطانته ممن قربتهم منه مرتبة، أو علت بهم عن سواد الشعب درجة. ولا عجب فقد كان بفارس - على سبيل المثال لا الحصر - ملوك يدعون أن الدماء الإلهية تجري في عروقهم، وأن طبيعتهم تختلف - لذلك - عن طبيعة البشر، فهم في درجة سامية، وشأن عزيز .
لقد أشرق الإسلام على هذا العالم ليحقق المساواة والعدل - أولا وقبل كل شيء - بين محمد نفسه وبين أي فرد من الرعية، ولننظر في هذا إلى قصة زيد بن سفنة اليهودي صاحب الدين عند الرسول، حيث تأخر النبي عن الأداء عسرا، فحضر الرجل وجذب الرسول من ثوبه بقسوة قائلا : إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، أما آن لك يا محمد أن تسدد الدين؟ فذهل عمر بن الخطاب - وكان حاضرا - من قسوة اليهودي على الرسول، وانتضى سيفه وهم بقطع رقبته، ولكن الرسول المعلم والقدوة يحول بين عمر وبين ما يريد، ويصيح فيه صيحة الحق "ضع يا عمر سيفك في جرابه، لقد كان من الخير لك أن تنصحني بحسن الأداء ، وتنصحه بحسن الاقتضاء ’’، فيسري هذا الكلام من نفس اليهودي مسرى السحر، فيسلم بين يدي الرسول، مؤمنا بدين هذه مبادؤه. والأمثلة في الشأن في جانب الرسول كما في جانب خلفائه الراشدين تجل عن الحصر.. مساواة، وعدالة، مما يستحيل حدوثه في أي مجتمع آخر .
وقد عقد الدكتور عبد المنعم ماجد، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عين شمس بالقاهرة سابقا - فصلا خاصا عن إسلام الشعوب المفتوحة، وتحدث فيه عن الأعداد الضخمة من البشر الذين دخلوا في دين الله زرافات ووحدانا على عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، بعد أن سارت الركبان بعدالته حتى أضحى الإسلام دين السواد الأعظم من الفرس وأهل مصر وخراسان والشمال الإفريقي "وهكذا... نرى أن موجات انتشار الإسلام قد ارتبطت في التاريخ بالعهود التي ساد فيها العدل والمساواة، وليس الأمر - كما زعم المغرضون - وليد سل السيوف ونشر الإرهاب" .
وهنا وقفةٌ مع قصة ؛ حدثَت مع أهل سمرقند، وقد فتحها قتيبةُ بنُ مسلم، وكانت قد فُتِحت بعد أن صالَح قتيبةُ أهلَها،وولَّى عليها سُليمانَ بنَ أبي السَّرِيِّ، فلما قَدم سليمانُ إلى سمَرْقند قال له أهلُها: إن قتيبةَ ظلَمَنا، وغدَر بنا، وأخذ بلادَنا، وقدأظهر الله العدلَ والإنصاف، فأذَنْ لنا لِيَقدَم وفدٌ منَّا على أمير المؤمنين، فأَذِن لهم، فوجهوا وفدًا منهم إلى عمرَ بن عبدالعزيز، وشكَوْا إليه أمرهم، فكتب عمرُ إلى سليمانَ بنِ أبي السريِّ يقول له: إنَّ أهل سمرقد شكَوْا ظلمًا وتَحامُلاًمن قُتيبة عليهم حتَّى أخرجَهم مِن أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلِسْ لهم القاضيَ؛ لِيَنظر فيأمرهم، فإن قَضى لهم فأخرِجِ العربَ مِن مُعسكَرِهم كما كانوا قبلَ أن يَظهَر عليهم قُتيبة، فأجلس لهم سليمانُ القاضيَ جُمَيعَ بنَ حاضِر، فقضى أن يَخرج العربُ من سمرقند إلى مُعسكرِهم، ويُنابذوهم على سواء، فيَكون صلحًا جديدًا، أو ظفَرًا عَنْوة، فقال أهل سمرقند : نَرضى بما كان، ولا نُحدِث شيئًا، وتَواصَوا بذلك
فمع أنها فُتِحت صُلحًا إلا أنَّ عمر بن عبدالعزيز وقاضيَه طلَبا مِن جيوش المسلمين أن تَخرج على فورها، فلما تنبَّه أهلُها إلى ما رأَوا وما سمعوا ذُهِلوا لذلك، وقالوا: والله لا نَستبدِل بكم
:- الرابع :الأخلاق الإسلامية
الإسلام هو دين الرحمة والتسامح، ودين الوفاء بالعهود حتى للأعداء، وأنا لن أتكلم عن أخلاق الإسلام بين المسلمين، ولن أتكلم عن أخلاقه العقيدية، ولا عن أخلاقه التعبدية، ولا عن أخلاقه التشريعية، ولا عن أخلاقه السلوكية فيما بين أفراده. بل سأتحدث عن أخلاق الإسلام مع غير المسلمين، ونحن نعلم يقيناً أن اليهود ما ذاقوا طعم الأمن والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وما تعرض يهودي للأذى إلا يوم أن نقض اليهود العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وما عرف الصليبيون والنصارى طعم الأمن والأمان إلا في ظلال الإسلام .
واقرءوا بنود المعاهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس يوم جاء من المدينة ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فأعطاهم عهداً بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، ومن أراد أن يخرج منهم من أرض (إيلياء) فلابد أن يُعطى الأمان حتى يبلغ مأمنه، ومن أراد أن يبقى منهم في الأرض فلا يؤخذ منه شيء من المال حتى يحصل خراجه ، فهذا هو الإسلام .
وفي صحيح مسلم قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل -رضي الله عنهما- إلا أننا قد خرجنا فأخذنا المشركون ، فقالوا لنا: أتريدون محمداً ؟ قلنا: لا، بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة، وألا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حذيفة: فانطلقت أنا وأبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما قاله لنا المشركون، وبما قلناه للمشركين، فاسمع ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام - وهو في حال حرب - لـحذيفة وأبيه (انصرفا - أي: لا تشهدا معنا المعركة - نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم ). ائتوني بلغة على وجه الأرض تجسد هذا الوفاء! هذا هو ديننا، وهذه هي أخلاق نبينا، فالحربي له عندنا معاملة ، والذمي له عندنا معاملة ، والعدو له عندنا معاملة ، والحبيب والقريب له عندنا معاملة. ولقد وضع الإسلام القواعد والضوابط كلها وبين كل شيء، ومع أنهم في حال حرب إلا أنه يقول صلى الله عليه وسلم : (انصرفا؛ نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم ) .
لقد ظلت هذه القيم النظرية في أوروبا حبيسة الأوراق والأدراج، لكن في اليوم الذي أعلنت فيه الثورة الفرنسية مبدأ حقوق الإنسان وأن الناس جميعاً سواء استبعد القانون الفرنسي نفسه قرابة ما يزيد على نصف الشعب الفرنسي من التصويت في الانتخابات؛ لأنهم يعتبرون المواطن الفقير مواطناً سلبياً!! ولما أعلنت أمريكا مبدأ حقوق الإنسان بنص القانون أبقت استعباد الزنوج قرناً آخر من الزمان بعد إعلان هذا القرار النظري !!!.
الإسلام لا يقدم مثُلاً نظرية ، وإنما يقدم مثُلاً منهجية ربانية نبوية واقعية؛ لتتألق في دنيا الناس سمواً وعظمة وروعة وجلالاً. لقد تحولت هذه المثل في دنيا الناس إلى واقع أعلنه المصطفى صلى الله عليه وسلم مدوياً: (وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وأعلنها رسول الله في بغي من بغايا بني إسرائيل أدخلها الله الجنة في كلب؛ لأنها رحمت كلباً وأحسنت إليه. وأعلنها مدوياً: (أن امرأة دخلت النار في هرة)، هذا هو إسلامنا .
وهذا صلاح الدين يوم فتح القدس، قدم يومها درساً عملياً للصليبين الحاقدين من أعظم دروس التسامح، يوم أن أرسل طبيبه الخاص بدواء من عنده، لعلاج عدوه اللدود ريتشرد قلب الأسد .
وهذا محمد الفاتح يعلم الدنيا كلها درساً آخر من دروس التسامح الإسلامي مع غير المسلمين، يوم فتح ودخل القسطنطينية
هذه حقائق واقعية، فالإسلام دين التسامح والرحمة، ويكفي أن نعلم الحديث الذي رواه البخاري في التاريخ، والنسائي في السنن، وصححه شيخنا الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً ) .
رابعاً : الإسلام والانتشار العالمي :-
انطلاقًا من هذا المبدأ وهذا التكليف بعالميَّة الإسلام ؛ انطلق المسلمون الأوائلُ حاملين مَشاعل الهدى؛ ليُضيئوا الدنيا بسَناها ، وأيضًا مِن همِّهم استنقاذُ إخوانهم في البشرية مِن الظُّلمات ، ومنحُهم النُّورَ المبين سبيلاً ؛ فذلك الهمُّ استَقَوه من قدوتهم ونبيِّهم صلى الله عليه سلم، الذي كان يحملُ همَّ البشر جميعًا ، ويريد لهم النجاة ، الذي عاد غلامًا يهوديًّا مرَّة في مرضه الأخير، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم ذلك الغلام، فخرج صلى الله عليه وسلم مستبشرًا قائلاً: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) . فجابَ المسلِمون بما يَحملون أقطارَ الأرض؛ شرقَها وغربها إلى سمرقند، وبُخارى، وخوارزم، وسِجِسْتان، والهند، والصين، وغيرها شرقًا وإلى بلاد المغرب العربي وطُليطِلة، وغَرْناطة في الأندلس وقُرطبة التي كانت دُرَّتَها بل ودرَّةَ الدنيا كلِّها، وغيرها حتى المحيط الأطلسي غربًا .
كان ذلك هو هدفَهم الأسمى، وهو شعارهم ودَيدَنهم، وهناك الكثيرُ من القصص التي سُطِّرت بمِدادٍ من نور في صفحات التاريخ الدالَّة على نُبل مَسعاهم ومقاصدهم ، ولم يكن الاستيلاء على البلاد أو العباد ولا القتال في حدِّ ذاته هو دافِعَهم كما يُصوِّر البعض
ونتيجةً لهذا الانتشار الهائل للإسلام بين الأمم ، وبجانب مَن سطَع نجمُه من العرب - سطع نجمُ الكثير من الشخصيات غير العربيَّة التي كان لها أثرٌ كبير في تاريخ الإسلام وحاضرِه ومستقبَلِه ، فنذكر البخاريَّ من بخارى ، صاحبَ أصحِّ كتابٍ بعد القرآن الكريم؛ وهو "صحيح البخاري"، والنَّسائي من نَسا في إقليم خُراسان، والمؤرِّخ والمفسِّر العظيم محمد بن جرير الطبري من طبرستان، والثُّلة الكُمَاة أصحاب التَّاريخ المبهر: عضد الدَّولة ألب أرسلان السلجوقي التركي، والأمير المجاهد أسد الدين شيركوه، وابن أخيه المظفَّر الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وعماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود زنكي الملك العادل ليث الإسلام، وهم أكراد .
ولا ننسَ القائد الفذَّ الذي لا تَخفى سيرتُه ومَناقبه ، أسد المرابطين يوسف بن تاشفين، من قبائل صنهاجة اللثام البربريَّة، وفاتح الأندلس طارق بن زياد، والفيلسوف المؤرخ عالم الاجتماع البحَّاثة ابن خَلدون صاحب "المقدِّمة" الشَّهيرة، والعالم عبَّاس بن فرناس، والرَّحَّالة المؤرِّخ والفقيه ابن بَطوطة صاحب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وهُم من أهل المغرب أو البربر .
ونُنوِّه هنا أن بعض النسَّابين نُسبوا البربر إلى العرَب، لكن المهم أنَّ جميع الأجناس والأعراق ، وحَّدَها الإسلامُ تحت ظلِّه، فيُنظر إليهم على أنهم مسلمون، وهذا هو صلب الموضوع، وغيرهم الكثير الشَّاهدةُ سِيَرُهم على عظَمة هذا الدين .
كما مزَجت الدولة الإسلامية مختلِفَ الأجناس والأعراق في مُواطنيها، فقد مزَجت أيضًا في أُمرائها وملوكها وحكَّامها بين مختلِف الأجناس والأعراق، فكان منهم العربُ وهم الأمويُّون والعباسيُّون، والمماليك الذين هم أجناسٌ مختلفة، والسَّلاجقة وهم أتراك، والأيوبيُّون الذين هم أكراد، والطولونيون والإخشيديون وهم أتراك، والمرابطون وهم من البربر، والعثمانيون وهم أيضًا أتراك .
خامساً : اعترافات غربية بعالمية الاسلام :-
الكاتب البريطاني المعروف ميلر : يقول : إن بعض الديانات تهتم بالجوانب الروحية من حياة البشر وليس لديها في تعاليمها أي اهتمام بالأمور السياسية والقانونية والاجتماعية ، و لكن محمداً ببعثته وأمانته الإلهية كان نبياً ، وكان رجل دولة ، ومقنناً أي واضعاً للقوانين وقد اشتملت شريعته على أحكام وقوانين مدنية وسياسية واجتماعية
الكاتب والباحث الغربي ريتين : يقول : منذ بزوغ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وسطوع شمس الإسلام ، أثبت هذا النبي أن دعوته موجهة للعالمين ، وإن هذا الدين المقدس يناسب كل عصر وكل عنصر وكل قومية ، و أن أبناء البشر في كل مكان وفي ظل أية حضارة لا غنى لهم عن هذا الدين الذي تنسجم تعاليمه مع الفكر الإنساني
الكاتب السويسري المعاصر جان : يقول: لو أمعنا النظر في أسلوب حياة محمد صلى الله عليه وسلم و أخلاقه على الرغم من مرور أربعة عشر قرناً على بعثته لتمكنا من فهم كنه العلاقة التي تشد ملايين الناس في العالم لهذا الرجل العظيم ، والتي جعلتهم وتجعلهم يضحون من أجله ومن أجل مبادئه الإسلامية السامية بالغالي والرخيص
الفيلسوف الروسي تولستوي : أما الفيلسوف الروسي تولستوي يقول عنه أيضاً: ليس هناك من شك في أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدم ببعثته خدمة كبيرة للبشرية فهي فخر وهدى للناس، وهي التي أرست دعائم الصلح والاستقرار والرخاء وفتحت طريق الحضارة والرقي للأجيال، وبديهي أن ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم عمل عظيم لا يفعله إلا شخص مقتدر ذو عزم رصين، ومثل هذا الشخص وبلا شك يستحق كل إكرام و تقدير و احترام
المؤرخ الأوربي جيمس : وهذا المؤرخ الأوربي جيمس يقول في مقال تحت عنوان الشخصية الخارقة عن النبي صلى الله عليه وسلم و قد أحدث محمد عليه السلام بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في الجزيرة العربية وفي الشرق كله فقد حطم الأصنام بيده، وأقام ديناً خالداً يدعو إلى الإيمان بالله وحده .
الفيلسوف الفرنسي كارديفو: يقول : إن محمداً كان هو النبي الملهم والمؤمن ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التي كان عليها، إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه محمد بين أعضاء الكتلة الإسلامية كان يطبق عملياً حتى على النبي نفسه
مؤلف كتاب المئة الأوائل : وهذا مؤلف كتاب المئة الأوائل في تاريخ البشرية ، وقد وضع محمد بن عبد الله على رأس المئة الأوائل في التاريخ البشري ، هو الإنسان الأول من بين المئة الأوائل في تاريخ البشرية كلها ، من حيث قوة التأثير ،ومن حيث نوع التأثير، ومن حيث امتداد أمد التأثير، ومن حيث اتساع رقعة التأثير .
: العالم والفيلسوف برنارد شو
قال عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام: "لو كان محمدٌ بيننا لحلَّ مشاكل العالم وهو يتناول فنجان قهوة، لا بد أن نُطلِق عليه لقب منقذ الإنسانية، وأعتقد لو وُجد رجلٌ مثله وتولى قيادة العالم المعاصر ، لنَجح في حلِّ جميع مشاكله بطريقة تجلب السعادة والسلام المطلوبين .
سادساً : المستقبل للإسلام :-
ومِن منطلق ما ذكرنا من أن الإسلام دين عالمي ، وشريعته عامة لكل البشر، وتأسيسًا على هذا - فإن نُظمه التي شرعها الله أو شرع أصولها تتسم كذلك بهذه السمة ، وتختص بهذه الخاصية ؛ فهي نظم عامة لكل البشر، وجميع بني الإنسان ، وليست لشعب دون شعب ، أو خاصة بعقل دون عقل ، أو مجتمع دون آخر ، بل لكل الشعوب والمجتمعات .
ثم إن التاريخ يشهد بأن النظم الإسلامية المؤسسة على شريعة الإسلام الغراء ، والمنطلقة من مبادئه السمحة ، قد أقامت حضارة عظيمة راقية ، كانت ملء سمع الزمان وبصره ، امتدت رقعتها قرونًا طويلة ، وبسطت ظلالها على شعوب مختلفة ، وأجناس عديدة ، فما قصرَتْ يومًا عن الوفاء بحاجات مَن آوى إليها ، ونَعِمَ بظلالها مِن بني البشر، وما عجَزت يومًا عن استيعاب مشكلات الإنسانية وإيجاد الحلول الصائبة والملائمة لها، فكانت أمان كلِّ خائف، ودواء كلِّ سقيم ، وشفاء كل عليل ، وعاش الناس - مسلمُهم وغير مسلمهم - في ظلها الحياةَ الراشدة الطيبة .
ولا يزال العالم الحائر اليوم يتعطش إلى هذه الحضارة التي حُرِم منها دهرًا طويلًا من الزمن ، فذاق الويلات وعاش البؤس والشقاء عندما انتقل زمامُ القيادة إلى الحضارة الغربية التي أقامت قطيعةً مع الله . فوالله ! ما أحرق البشرية لفح الهاجرة القاتل ، وما أرهق البشرية طول المشي في التيه والضلال ، إلا لمحاربتها للإسلام ، وإلا لمعاداتها للإسلام ، وإلا لانحرافها عن دين الله جل وعلا ، الذي أنزله الله للبشرية ؛ لتسعد به في الدنيا والآخرة على السواء. فإن العالم كله اليوم محروم من نعمة الأمن والأمان ، على الرغم من كثرة الوسائل الأمنية المذهلة ، وعلى الرغم من التخصص العلمي المذهل المبني على العلوم النفسية والاجتماعية ؛ لمحاربة العنف والجريمة في كل مكان ، بل وإن العالم محروم من نعمة الأمن والأمان على الرغم من كثرة الأسلحة النووية والبيولوجية والسرية ، بل وعلى الرغم من كثرة أحلافه العسكرية ، وعلى الرغم من كثرة هيئاته ومنظماته ، فبترك الإسلام حرم العالم كله من نعمة الأمن والأمان . بل ولا يشعر العالم كله الآن براحة النفس واستقرار الضمير وانشراح الصدر وهدوء البال، كل هذا نتيجة لانحراف البشرية المنكودة عن منهج الله جل وعلا، عن هذا الدين الذي رضيه الله للبشرية كلها لتسعد به في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:123-127]. وهذه نتيجة حتمية للبعد عن منهج رب البرية، وللبعد عن منهج سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، وهي نتيجة عادلة للإعراض عن منهج الله تبارك وتعالى .
ولسوف يأتي اليوم الذي يسطع فيه نورُ الإسلام وشريعتُه ونظمُه، ليتفيأ الخَلْق ظلال الحياة الكريمة الطيبة الهنيئة .
وصدق الله القائل: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ ، الصف:8،9 .
إن أي حضارة مهما بلغت من النظم ، وحَوَتْ من المبادئ والتشريعات ، لا يمكن أن تملأ الفراغ الذي خلَّفه غياب تطبيق الشريعة الإسلامية اليوم ، ولا أن تكون نظمها عالمية ؛ لأنه - كما ذكرنا - لا توجد على وجه الأرض شريعة ربانية سوى شريعة الإسلام ، وشتان بين نُظمٍ مصدرُها شريعةٌ ربانيةٌ ، من الوحي الإلهي الحكيم ، ومن لدن عليم خبير بفِطَر البشر ونفوسهم ، خلَق الإنسان ويعلم ما فيه نفعُه وضررُه ، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14] ، ونُظمٍ بشريةٍ مصدرُها الإنسان الذي هو عُرْضة للأغيار، وخاضع للمؤثرات الداخلية والخارجية على الدوام ، كما أنه واقع - في كثير من الأحيان - تحت تأثير الأهواء ، أو النزعات الأنانية ، أو مصالح طبقة اجتماعية على حساب طبقة أخرى ، أو ضلالات الفكر ووساوس الشيطان، فضلًا عن قصور علمه ، بل جهله حتى بنفسه التي بين جنبيه ، ومحدودية علمه الذي يعتمد على الأسباب ، فإذا وُجدت الأسباب وُجد ، وإذا انتفَتِ الأسباب انعدم .
وتدبروا ما تقوله الكلمات الغربية؛ لأن كثيراً من الناس لا يصدقون الوحي إلا إذا كان من أوروبا ! . تقول مجلة التايم الأمريكية : وستشرق شمس الإسلام من جديد. وهذه ليست من عندي، وهذا ليس كلامي، بل كلام مجلة التايم ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب، من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس، ومدريد، وروما، وصوت الأذان كل يوم في هذه البلاد خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة، وأتباعاً وجدوا فيه الطريق.
وجريدة (الصندي تلجراف) البريطانية تقول : إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر، إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يقرءون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يتَّبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية!! .
وإذا كان واقع المسلمين اليوم لا يصحُّ أن يكون باعثًا على الحُكْم على حضارة الإسلام ؛ فإن مجال الحكم لابدَّ أن يكون على الأصول والثَّوابت والمبادئ والقِيَم ، والممارسة الواقعية التي آتت أُكُلَها وأينعت ثمارها، حين كان المسلمون يغذُّون السَّيْر، ويحثُّون الخُطا، ويتَّبعون الهدى، ويعمَلُونَ بنَهْج خير الوَرَى - صلوات الله وسلامه عليه. أمَّا ذلكم التَّقَهْقُر والتَّراجع والتخلُّف والهوان الذي مُنيَ به المسلمون عقب تلك العصور الخوالي - فهذا مما لا يرتاب أولو الأبصار في أنَّ تَبِعَتَه لا تقع على الإسلام وحضارته، وإنَّما جريرةُ ذلك على مَنْ فرَّط وأضاع، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرض عن ذِكر ربِّه؛ فكانت معيشته ضنكًا، وكان أمره فُرُطًا، ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ ، الكهف:49
إنه دين الله الذي لم ينزل للعرب فحسب، بل للبشرية كلها: للأمريكان، وللأوربيين، وللعرب، وللمسلمين، إنه دين الله الذي رضيه لأهل السماء ولأهل الأرض كما قال عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]؛ لتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة. أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات