عالمية الرسالة المحمدية كما يجب أن نفهمها للشيخ محمود حسن كمال







عناصر الخطبة:
1-      حاجة البشرية إلى رسالة الإسلام.
2-      عالمية الرسالة في القرآن والسنة.
3-      من دلائل عالمية الرسالة المحمدية.
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء:107].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: جعل الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كله.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله: القائل في سنته المطهرة الغراء: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" <البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه>.
اللهم صَلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون:
إن أجل نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض عامة، وعلى المسلمين خاصة: نعمة الإسلام، وبعثة نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.
فلقد كان أهل الأرض قبل مجيء الإسلام في ظلام دامس، وضلال طامس، إلا قليلا من أهل الكتاب، وبقايا ممن كانوا على الحنيفية ملة إبراهيم.
أما من سواهم من ورثة الأديان السماوية، وصانعي المعتقدات الأرضية الوثنية: فقد اغتالوا زكي النفوس وسليم الفطر، فذبحوها على عتبات الجاهلية، وغمسوها في لجج الوثنية، فاستزرعوا الأصنام في جنبات الحرم، وغيبوا العقول في متاهات الظُلَم.
وهكذا: انطمست أنوار رسالات السماء، وتلاعب الشيطان ببني آدم، فاشتدت حاجة الناس إلى بعثة نبي رسول من عند الله، يخرجهم من الظلمات إلى النور، فأدركتهم رحمة أرحم الراحمين ببعثة محمد سيد النبيين وإمام المتقين، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت عليه الأمة بعد شتاتها، وجاء الإسلام العظيم ليحمل للبشرية كل خير، ويزيح عنها كل شر.
إنه الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
أيها المسلمون:
إن الإنسان قادر على التوصل إلى وجود إله عظيم خالق مدبر لهذا الكون، إله يستحق العبادة والتعظيم، يمدنا بالنعم، ويصرف عنا الشرور والأذى، يستطيع الإنسان الوصول إلى هذا بعقله وفطرته: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة الروم:30].
لكن العقل والفطرة وحدهما لا يكفيان للوصول إلى أسماء هذا الإله المعبود وصفاته والطريق الموصلة إلى مرضاته: فجاءت رسالات السماء عامة، ودين الإسلام خاصة من أجل التكامل مع العقل والفطرة في تحقيق هدف وجود الإنسان في هذه الحياة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات:56].
ولله در الإمام ابن القيم إذ يقول:
لا يستقل العقل دون هداية
                   بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا

كالطرف دون النور ليس بمدرك
                   حتى يراه بكرة وأصيلا

وإذا الظلام تلاطمت أمواجه
                   وطمعت بالإبصار كنت محيلا

فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها
                   فالعقل لا يهديك قط سبيلا

نور النبوة مثل نور الشمس لل
                   عين البصيرة فاتخذه دليلا

طرق الهدى مسدودة إلا على
                   من أم هذا الوحي والتنزيلا

فإذا عدلت عن الطريق تعمدا
                   فاعلم بأنك ما أردت وصولا

يا طالبا درك الهدى بالعقل دو
                   ن النقل لن تلق لذاك دليلا


ولسائل أن يقول: لماذا الإسلام بالذات؟ ألم يكن من الأنسب اختيار أي ديانة أخرى غير الإسلام لتكون كلمة الله الأخيرة والعامة إلى أهل الأرض؟
والجواب بعون الله وتوفيقه: أن الله تعالى هو خالق الخلق، وهو العليم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك:14].
لقد أرسل الله إلى أهل كل بيئة ما يناسبهم من الشرائع بلغتهم حتى يفهموه ويعملوا به: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة إبراهيم:4].
كذلك فإن الإنسان قد مر بعد خلقه بأطوار مختلفة تبعا لتقدم الزمن وتطور وسائل الحياة: فكانت الشرائع تتنزل من الله على كل قوم بما يلائم طبائعهم ويتناسب مع ظروفهم المعيشية.
ولما أراد الله للإسلام أن يكون كلمته الأخيرة إلى أهل الأرض جعله صالحا للتطبيق في كل زمان ومكان، فلم يختص به قوما دون قوم، ولا جنسا دون جنس، ولم يجعله حجر عثرة أمام تطور الحياة حضاريا وعلميا: بل كانت أول كلمة نزلت من القرآن الكريم تدعو إلى العلم والتفكر في مخلوقات الله تعالى: قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (5)} [سورة العلق:1-5].
إن الإسلام لم يصادم العقل والفكر والإبداع: بل أطلق العِنان للعقل في مجال الإبداع، ولليد في مجال الإتقان، فالإسلام جامع بجوار جامعة، ومنارة بجوار متحف أو مَعْلَم، إله يُمَجَّد وحضارةٌ تُشَيَّد.
وأما تعامل الإسلام مع مخالفيه من أصحاب الديانات الأخرى، سماوية كانت أو وثنية، فإن لكل إنسان أن يمارس ما يعتقده من شعائر وشرائع في الدنيا دون مماسة أو مضايقة، والجزاء في الآخرة موكول إلى الله وحده، وهذا مما تميز به الإسلام عن غيره من الديانات والملل.
أيها المسلمون:
إننا لو استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة المطهرة لوجدنا الأدلة الواضحة على عالمية هذا الدين: فمن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف:158].
وقوله جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة سبأ:28].
ومن السنة ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ».
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» <البخاري ومسلم واللفظ له>.
ولم يكتف النبي ‘ بالإشارة القولية إلى عالمية رسالته: بل إنه خاطب كل ملوك الأرض خارج الجزيرة العربية بعد صلح الحديبية، وبعث سراياه وسفراءه إلى أنحاء المعمورة دعاةً إلى الدين ومجاهدين في سبيل الله، واستقبل وفود القبائل التي جاءت تعلن إسلامها بين يديه في أخريات حياته.
بل قد أخذ الأمر صورة أعمق من هذا كله: فلنترك المجال لسيدنا زيد بن ثابت ¢ ليحدثنا بنفسه عما جرى بينه وبين رسول الله ‘: قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي» فَتَعَلَّمْتُهُ، فَلَمْ يَمُرَّ بِي إِلَّا نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى حَذَقْتُهُ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ وَأَقْرَأُ لَهُ، إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ <أحمد وأبو داوود والحاكم>.
أيها الكرام المؤمنون:
لقد عَمَّمَ الصحابة الكرام دعوة الإسلام، وساروا بها في أنحاء الأرض في حياة النبي ‘ وبعد وفاته، ففتحوا بها العقول، وعمروا بها القلوب، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكان مما يجذب الناس إلى الدخول في هذا الدين حسن أخلاق حملته، فالدين عقيدة وعبادة وأخلاق، دين كامل لا يتجزأ، دين شامل لكل مناحي الحياة، من تمسك به فقد نجح وأفلح: أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسبحان الله الملك الحق المبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم.
صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله جماعة المؤمنين:
إننا لو نظرنا إلى تفاصيل الرسالة المحمدية وخصائصها لوجدنا فيها أوضح الدلائل على عالميتها خصوصا في عصرنا الحاضر، فهي:
أولا: شريعة كاملة:
شملت جميع شؤون الحياة من عقائد وعبادات وأخلاق، ونظمت علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وضبطت كافة سلوكه ومعاملاته، فهي شريعة تجمع بين التكامل والشمول، وبين التوازن والاعتدال.
ثانيا: شريعة ربانية:
مصدرها من الله خالق الإنسان، العليم بما يصلحه، وليست مقتبسة من قوانين وآراء بشرية يمكن أن يتسرب إليها القصور والخطأ، أو تكون صالحة لأناس دون غيرهم، أو لأماكن وأزمنة دون غيرها.
ثالثا: شريعة وسطية سمحة:
أساسها ومبناها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وعلى التيسير ورفع الحرج: فهي وسط في باب الاعتقاد بين من يعبدون الحجر والشجر وبين من ينكرون وجود الخالق، وفي باب الشرائع والشعائر بين الغلو المفرط وبين التفريط المضيع: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة:143].
رابعا: شريعة ثابتة في أصولها مرنة في فروعها وأحكامها:
إننا حين نتمسك بهذه الشريعة نتمسك بأصول ثابتة لا تقبل تحويلا ولا تبديلا: كتاب الله وسنة رسوله، وسلامة المعتقد وصحة الإيمان، وحسن المعاملة وكرم الخُلُق.
فإذا أتينا إلى الأحكام الفرعية العملية نجدها مرنة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا بفضل الله أولا، ثم بالاجتهاد الموفق من العلماء والفقهاء ثانيا.
فإنك لو واجهتك مشكلة أثناء تطبيق الشرع أو حدث لك أمر جديد وفقا لتقدم الزمن وتطور الوسائل فلست بحاجة إلى ترك الدين لحل مشكلتك، بل إنك تجد في الدين من اليسر والمرونة ما يعينك على تخطيها أو إجابتها.
ومن أمثلة ذلك:
أ‌.        في زكاة الزروع والثمر: حدد جمهور الفقهاء نصابا وأنواعا للثمار التي تجب فيها الزكاة، بينما ذهب الإمام أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في كل ما أخرجته الأرض مما قل منه أو كثر: ألا ترى في هذا الرأي متنفسا لأهل البلاد الذين يزرعون ما لا يقتات ويدخر من الزروع والثمار ليتمكنوا من القيام بهذه الشعيرة.
ب‌.      في البلاد التي يطول فيها الليل ويقصر النهار: ألا ترى كيف راعت اجتهادات المجامع الفقهية الحديثة حال أهل تلك البلاد خصوصا في باب الصيام.
ت‌.      في شعيرة الحج: تيسير من لدن رسول الله إلى يومنا هذا، ففي عهده عليه الصلاة والسلام: "افعل ولا حرج" وفي عصرنا الحاضر توسيع للمطاف والمسعى وتيسير في أداء المناسك.
ث‌.      في مجال المعاملات المالية الحديثة: ضربت المجامع الفقهية ومؤسسات الإفتاء بسهم وافر في هذا الباب خصوصا مع تقدم الوسائل واستحداث آليات جديدة للتعامل، وبينت ما يحل منها وما يحرم.
وبالجملة فإن الأمر كما قال ابن تيمية ¬: "والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور" <مجموع الفتاوى (19/ 93) ط/ مجمع الملك فهد>.
وبعد: فقد آن الأوان للعالم أن يقتنع كل القناعة، وأن يؤمن كل الإيمان أنه لا إله إلا الله، بعد تجربة طويلة شاقة عبر قرون غابرة توصل بعدها العقل إلى أن الصنم خرافة، والكفر لعنة، والإلحاد كذبة، وأن الرسل صادقون، وأن الله حق له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، وعنا معهم بمنك وجودك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والـمسلمين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد الـمسلمين.
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والبركات يا رب العالمين.
اللهم احفظ أئمتنا وولاة أمرنا، ووفقهم لما تحب وترضى، وأصلح لهم البطانة والرعية، واهدهم سبل الرشاد.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، وتوفنا مسلمين يا أرحم الراحمين

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات