أسباب خيرية الأمة المسلمة للشيخ: السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين .. خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل وجعلنا بالإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله .. فقال تعالي } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ (110){ آل عمران .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. ميز الأمة الإسلامية شرفها وفضلها وجعل لها الشهادة علي العالمين .. فقال تعالي } وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ (143) { البقرة .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)... فضله الله تعالي وميزه وشرفه ،فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي المغانم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة } . متفق عليه.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعد... فيا أيها المؤمنون..
إن الله تعالي رفع قدْرَ هذه الأمةِ وشرَّفها، واصطفاها على غيرها من الأمم، وجعلها خير أُمة أُخرجت للناس، ولِمَ لا وهي أمَّة النبي الخاتم محمد (ﷺ)المبعوث رحمة للعالمين؟!
فضَّل الله هذه الأمة فجعلها من الشهداء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا؛ فلقولِ النبي (ﷺ): «أنتم شهداء الله في الأرض» (صحيح مسلم).
ففي الصحيحين عن أنس قال: مرَّتْ جنازة فأُثني عليها خيرًا، فقال النبي (ﷺ): «وجبت»، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقال النبي (ﷺ): «وجبت»، فسأل عمرُ النبيَّ (ﷺ)عن هذا، فقال: «من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض».
وأما في الآخرة، فلقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(143)} [البقرة].
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه (ﷺ): «يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: "لبيك وسعديك يا رب"، فيقول: "هل بلَّغتَ؟"، فيقول: "نعم"، فيقال لأمته: "هل بلَّغكم؟"، فيقولون: "لا"، فيقول الله: "من يشهد لك؟"، فيقول: "محمدٌ وأمَّته"، فيشهدون أنه قد بلَّغ، وهذا قول الله عز وجل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}».
ومن هذه الخصائص ما اختص الله به هذه الأمةَ في الآخرة، فضلاً عن أنهم الشهداء على الناس يوم القيامة، فهم الآخرون السابقون، والغرّ المحجَّلون، أول من يجوز الصراط، وأول من يدخل الجنة، وهم أكثر أهل الجنة.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي في قبة فقال: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟" قلنا: نعم، قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟" قلنا: نعم، قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟" قلنا: نعم، قال: "والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر".
وقال (ﷺ)في حديث آخر: "أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم" [أخرجه الترمذي وابن ماجه].
فهي لم تدركْ هذا الفضلَ إلا بإيمانها بالله، ومتابعةِ الرسول (ﷺ)وبالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكر الله عز وجل} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ (110){ آل عمران .
فبقدْر الإيمان والقيام بمهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكون الخيريَّة لهذه الأمَّة، ولا يمكن أن تكون هذه الخيرية إلا بهذه الأسباب
لذلك حديثنا عن (أسباب خيرية الأمة المسلمة ) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2ـ فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3ـ عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4ـ ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
5 ـ نماذج رائعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
6ـ الخاتمة .
-----------------------------
العنصر الأول : فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :ـ
من أبرز ما قصر به المسلمون في هذا الزمان واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي أدى إلى التقصير في أمور كثيرة من الدين، فبتقصير المسلمين في جانب الأمر بالمعروف، بدأ كثير من الناس مع الزمان يتهاونون بالمعروف
مع الزمان شيئاً فشيئأ، فبدأ الأمر بترك النوافل والمستحبات، وانتهى بترك الفرائض والواجبات.
وفي جانب التهاون في إنكار المنكر، بدأ كثير من الناس شيئاً فشيئاً بفعل المكروهات، وانتهى بهم الأمر إلى الوقوع في الفواحش والمنكرات.
وقد اتفق علماء الأمة على القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما أثر عنهم من الأقوال مستدلين على ذلك بالكتاب والسنة، قال تعالي} وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104){ [آل عمران]
في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت في الكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها
ولم يكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على هذه الأمة فحسب، بل كان واجباً من قبل على الأمم المتقدمة، كما دل على ذلك القرآن الكريم على النحو التالي:-
قال تعالى }لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79){ ﴾ [المائدة].
وترك النهي عن المنكر كان سبباً في استحقاق الكفار من بني إسرائيل اللعنة على ألسن الأنبياء داود وعيسى ابن مريم، لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان، ولو لم يكن النهي عن المنكر واجباً عليهم لما استحقوا اللعنة على تركه.
وقال تعالى }وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63){[المائدة].
قال ابن كثير: يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط } لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63){ [المائدة] .
يعني من تركهم ذلك. وعن ابن عباس، قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية } لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63){ [المائدة].
وقال القرطبي: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21){[آل عمران].
قال القرطبي: دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدّمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.
والأمر بالمعروف واجب علي كل مسلم كل حسب طاقته لقول النبي صلي الله عليه وسلم :«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (أخرجه مسلم) .
والخطاب هنا للجميع، وكلمة (من) هنا في أول الحديث للعموم من العقلاء، وتعم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وتعم أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول العلماء : إنه يتعين إذا لم يعلم به إلا هو .
هذا يدل على أنه مراتب، وأنه واجب عل كل مسلم، وأنه ينكره حسب طاقته بيده، ثم لسانه، ثم قلبه، والإنكار بالقلب يكون بالتغير والتمعر والكراهة ومفارقة المجلس الذي فيه المنكر إذا لم يستجيبوا لنهيه وإنكاره هكذا يكون المؤمن.
عن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ أَوَّلَ مَا دخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُم يَلْقَاهُ مِن الْغَدِ وَهُو عَلَى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُه ذلِك أَنْ يكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ:} لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81){ [المائدة].
العنصر الثاني : فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:ـ
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل الأعمال وأشرفها، لما فيها من المزايا العديدة والفضائل الحميدة، ولما فيه من الخير العظيم للفرد والمجتمع، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي:-
1- سبب في الخيرية:
لقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة، أمة محمد (ﷺ)، خير أمة أخرجت للناس، وذكر من أسباب هذه الخيرية أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما في قوله سبحانه وتعالى:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..(110){ [آل عمران]
ومما يؤكد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للخيرية ما رواه الإمام أحمد عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي (ﷺ)وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال (خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم) (رواه أحمد في مسنده)
ولا شك أن أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسعى للناس بالخير، بدعوتهم إليه، وتبعد الناس عن الشر بتحذيرهم منه، هي أنفع أمة للناس.
وكما أن هذا الفضل لهذه الأمة على سائر الأمم، فهو أيضاً فضل يتفاضل به أفراد هذه الأمة بعضهم على بعض، فمن قام
منهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أفضل من غيره، وهو خيرالناس للناس، ومن كان منهم أكثر بذلاً في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وأكثر تضحية فلاشك أنه أفضل ممن هو دونه.
وفي المقابل فإن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد زهد في هذه الخيرية، وتنصل من أخص وصف لهذه
الأمة، وتشبه بأهل الكتاب الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- سبب في الفلاح:
وكما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعله الله سبحانه سبباً لخيرية هذه الأمة، فقد جعله أيضاً سبباً للفلاح لمن قام
به، كما في قوله سبحانه وتعالى } وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104){ [آل عمران].
والفلاح مكسب عظيم للإنسان فهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، فلاح في الدنيا، وفلاح في الآخرة، فلاح في الدنيا بالحياة الطيبة، بما فيها من سعة الرزق، وصحة البدن، وأمن في الوطن، وصلاح في الأهل والولد، وغير ذلك الكثير من جوانب الحياة الطيبة. وفوق ذلك كله الفلاح بالآخرة بالفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، ورضوان من الله، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، ومع ذلك النجاة من العذاب الأليم. فياله من فضل عظيم يحصل عليه الإنسان بقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخص صفات النبي (ﷺ):
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي وصف بها في الكتب المتقدمة، كما في قوله سبحانه وتعالى:} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ...(157){ [الأعراف].
وتظهر أهمية هذه الصفة إذا علمت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مدار رسالة الرسل التي بعثوا من أجلها، فهم يدعون إلى كل خير ويحذرون من كل شر، فهو زبدة الرسالة ومدار البعثة.
وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله (ﷺ) في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا)[ أخرجه البخاري].
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخص صفات المؤمنين:
كما سبق بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أخص صفات النبي (ﷺ) فهو أيضاً أخص أوصاف أتباعه على دينه من المؤمنين، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71){ [التوبة] .
ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الصفات الحميدة أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثنياً عليهم بها، واعداً لهم بالرحمة عليها، وكان ذكر هذه الصفات بعد صفات المنافقين الذميمة، حيث كانوا ضد ما عليه المؤمنون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين قال }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (78){ [التوبة].
فاستحق المنافقون والمنافقات على فعلهم هذا من أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف أن نسيهم الله أي: (عاملهم معاملة من نسيهم )، وتوعدهم بجهنم، ولعنهم، وأعد لهم عذاباً مقيماً، فنسأل الله السلامة والعافية من هذه الحال.
وقد ورد وصف المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات أخر، منها قوله تعالى}التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112){ [التوبة].
وقوله سبحانه وتعالى } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41){[الحج].
ولو تأملنا هذه الصفات الواردة للمؤمنين في الآيات المذكورة لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اقترن بأعظم الأعمال وأجلها، اقترن بالإيمان بالله، وبالصلاة والزكاة ونحوها.
فمن ذا الذي يرضى لنفسه أن ينسلخ من صفات المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟!
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة من الهلاك:
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم سبب نجاة المجتمع من الهلاك الذي ربما أصابه بسبب الذنوب الحاصلة، وتجاوز حدود الله سبحانه وتعالى بالمعاصي من ارتكاب المحرمات، والإعراض عن الواجبات، وقد ضرب رسول الله (ﷺ) في ذلك مثلاً بديعاً حين قال: }مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا،فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا{[ أخرجه البخاري في صحيحه].
والقائم على حدود الله هو المطيع لله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وأما الواقع فيها فهو العاصي الذي لا يأمر
بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وفعله هو سبب هلاك المجتمع، كما أن من خرق السفينة كان سبباً في هلاك كل من كان في السفينة، ولكن إذا وجد في السفينة من يأخذ على يديه ويمنعه من فعله الأحمق كان سبباً في نجاته ونجاة كل من في السفينة، وكذلك إذا وجد في المجتمع من يأخذ على أيدي العصاة فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يكون سبباً في نجاة هذه المجتمع من الهلاك العام الذي يشمل الصالح والطالح، كما يقول الله سبحانه وتعالى:}وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25){ [الأنفال]،
وكما في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش (رضي الله عنها) أن النبي (ﷺ) دخل عليها فزعا يقول:((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: نعم إذا كثر الخبث).
ولا يكثر الخبث في مجتمع من المجتمعات إلا إذا قل فيه أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولقد أشار الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه إلى طائفة فيما مضى من الزمان كان سبب نجاتها هو النهي عن الفساد في الأرض حين قال سبحانه }فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117){ [هود]
يقول ابن كثير (رحمه الله تعالى) في تفسيرها: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله: ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ومما يدل على نجاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إذا أراد الله إهلاك الظالمين ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في محكم كتابه عن بني إسرائيل حين قال تعالي}وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (164) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164){ [الأعراف].
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حال ثلاثة أصناف من بني إسرائيل، حينما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن الاصطياد في يوم السبت، فصنف أهملوا النهي وتحايلوا في الاصطياد في هذا اليوم، ووقعوا فيما حرم الله سبحانه وتعالى عليهم، وصنف آخر لم يرتكبوا ما حرم الله عليهم فاعتزلوا ولم يأمروا ولم ينهوا، بل قالوا للمنكرين } لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا (164){ [الأعراف].
أما الصنف الثالث فهم مع اجتنابهم المحرم وامتثال أمر الله سبحانه وتعالى فيه، لم يسكتوا على فعل الصنف الأول بل بادروا بالإنكار عليهم ونهيهم عن ارتكاب المحرم محتجين بقولهم }مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164){ [الأعراف].
فماذا كان جزاء كل صنف من هذه الأصناف؟
قال تعالى }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165){ [الأعراف] .
أنجى الله سبحانه وتعالى الذين ينهون عن السوء وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وأهلك الله الذين ظلموا وهم الذي وقعوا في الحرام.
وأما الذين سكتوا فقد سكت الله سبحانه وتعالى عنهم ولم يبين حالهم، وقد اختلف المفسرون في مآلهم.
والشاهد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة إذا نزل العذاب على قوم.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكفرات:
من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم من الأعمال الصالحة ما يكون سبباً لتكفير الذنوب، كالصلاة والصوم والحج ونحوها، ومن هذه المكفرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما في الصحيحين من حديث حذيفة (رضي الله عنه) قال: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) فِي الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا،قَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، وَكَيْفَ؟ قَالَ: قَالَ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ:(فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَالَ عُمَرُ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ:أَفَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ)[ أخرجه البخاري].
7- أنه يزيد الإيمان:
عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: أن رسول الله (ﷺ) قال:(ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ، يأخذون بسنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُفُ مِن بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردلٍ)؛ رواه مسلم.
8- الأمر بالمعروف سبب في كسب الأجر الكثير:
من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل هذا العمل العظيم سبباً لحصول الإنسان على ثواب عبادات لم يباشرها، فمن أمر بصلاة مثلاً كان له مثل أجر من صلاها، ومن أمر بصدقة أو صوم أو حج أو نحو ذلك من الطاعات، الواجبات أو المستحبات، كان له من الأجر مثل أجر من فعلها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق (ﷺ) حين قال:(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا))[ أخرجه مسلم في صحيحه].
وكذلك في قوله:(من دل على خير فله مثل أجر فاعله)[ أخرجه مسلم في صحيحه].
والأمر بالمعروف دعوة إلى الهدى، و دلالة على الخير، وبالتالي فإن القائم بذلك يحصل من الأجر الشيء العظيم (نسأل الله من فضله).
وأكمل الناس في هذا الجانب نبينا محمد (ﷺ) فما عملت الأمة من خير إلا بدلالته إياهم.
وكلما كان الإنسان أنشط في هذا الجانب، كان أكثر نصيباً من الخير الذي يحصل له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأجر الحاصل هو ثواب آخر، لأن الآمر بالمعروف حتى لو لم يستجب له المأمور فإنه مأجور على فعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
9- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من إثم القول:
إن اشتغال الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوق ما يكسبه من الأجر الكثير والثواب الجزيل، فإنه يكون سبباً في سلامته من إثم القول، ومن عثرات اللسان، وقد قال المولى سبحانه وتعالى } لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114){ [النساء].
كما أخبر المصطفى (ﷺ) أن كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين قال: (كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل)[أخرجه ابن ما جة في سننه].
العنصر الثالث : عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:ـ
1ـ ظهور الذنوب والمعاصي وانتشار جميع أنواع المنكرات:
إن السكوت عن قول كلمة الحق أو التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُجَرِّئُ أهل الباطل على نشر باطلهم، ويشجع أهل الفجور على التمادي في فجورهم، ولذلك "فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس"، فهو بسكوته يعين على نشر المنكرات والمعاصي، بل ويشاركهم في وزرهم إن كان قادراً على التغيير ولم يقم بذلك، وما ظهرت هذه الذنوب والمعاصي في أي أمة إلا بسبب سكوت أهل الحق وتخليهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2ـ استعلاء أهل الشر والفساد وسيطرة الأشرار على مقاليد الأُمور:
ومن عواقب التخلي عن أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ازدياد عدد المنحرفين وأهل الشر والفساد في الأرض، وانحسار عدد الصالحين وأهل الخير والتقى، وبازدياد عدد المفسدين والأشرار وانحسار عدد المصلحين والأخيار تكون الأجواء والظروف مهيأة لأهل الفجور للتمادي في انحرافهم وشرّهم وإفسادهم لعباد الله، وذلك لغياب من يردعهم، ومن يقف في وجوههم ليصدهم عن شرهم وفسادهم، حيث يأمنون من عدم الاعتراض وعدم الملاحقة، فتنطلق إرادتهم الضعيفة أمام الشهوات، وأنفسهم الشريرة من عقالها، فيعملون ما يحلو لهم، ثم يكون الأمر لهم ليسيطروا على مقاليد الأمور، ويوجهون الناس حسبما يرون ويشاءون، وتكون الكرّة لهم لملاحقة ومطاردة الأخيار والصالحين في جميع ميادين الحياة، ولا يبقى للأخيار والصالحين أي منفذٍ للنجاة أو النهوض بالأمر من جديد، فيعيشون الذل والامتهان إضافة إلى الأذى والتعذيب، وأعظم من ذلك تخلي الرعاية الإلهية عنهم، وعدم استجابة الله تعالى لدعائهم.
وإذا علا الفجار والأشرار في المجتمع كان ذلك بداية للدمار والخراب كما أُثر عن سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "توشك القرى أن تخرب وهي عامرة قيل وكيف تخرب وهي عامرة، قال إذا علا فجارُها أبرارَها وساد القبيلةَ منافقوها".
3ـ انتفاء وصف الخيرية عن الأمة:ــ
ومن عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زوال وصف الخيرية عن الأمة، لأنهم لم يستحقوا الثناء والمدح إلا لتحققهم بهذا الفعل، فإذا انتفى عنهم القيام بهذه الفريضة ينتفي عنهم الوصف بالخيرية، لأن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ مدحٌ لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم"
4ـ الهزيمة أمام الأعداء:
من سنن الله تعالى أنه ينصر من ينصر دينه، وعلى العكس من ذلك فإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الهزيمة أمام الأعداء، وذلك أن الساكت عن قول كلمة الحق إما أنه ممن }يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً (77){[النساء].
وإما أنه قد انهزم أمام نفسه، واستسلم لهواه وشهواته، وأصبح لا يتمعر وجهه لمحارم الله تعالى، وفي كلا الحالين فهو لا يستحق نصر الله له،
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي (ﷺ) ، فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ، وما كلم أحدا، ثم خرج، فلصقت بالحجرة أسمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني، فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم»، فما زاد عليهن حتى نزل.
فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً نزعت منه الهيبة أمام الأعداء، وفقدان هيبتها أمام أعدائها وما ذلك إلا بتخليها عن منهج ربها وتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو صمام أمنها ومصدر عزتها، فإذا خذلت دينها وكتابها كان الجزاء من جنس العمل كما قال سبحانه تعالي }إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160){ [آل عمران].
ومن أعظم درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجهاد في سبيل الله تعالى، الذي تخلى عنه كثير من المسلمين، ولم يحصدوا من وراء ذلك إلا حياة الذل والهزيمة، والاستسلام لأعداء الأمة.
5ـ سبب لعنة الله تعالي:
عندما ترك بنو إسرائيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعنوا على لسان أنبيائهم، قال تعالى:}لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79){ [المائدة].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ أي كان لا ينهى أحدٌ منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه".
قال رسول الله (ﷺ): «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا».
وزاد الطبراني: «أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم» قال خلف: «تأطرونه»: تقهرونه.
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ رواه أَبُو داود والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ. هَذَا لفظ أَبي داود.
ولفظ الترمذي: قَالَ رَسُولُ الله ﷺم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهمْ، وَوَاكَلُوهُمْ، وَشَارَبُوهُمْ، فَضَربَ اللهُ قُلُوبَ بَعضِهِمْ بِبَعْضٍ, وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله ﷺ وكان مُتَّكِئًا فَقَالَ: لا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأطرُوهُمْ عَلَى الحَقِّ أطرًا.
وعن أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تقرؤون هَذِهِ الآيةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(105){ [المائدة]، وإِني سَمِعت رَسُول اللَّه ﷺ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ رواه أَبُو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.
وقال تعالي تعالى}إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159){ [البقرة].
6ـ نزول العقوبات العامة :ـ
التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً في جلب المصائب والعقوبات، وقد يكون سبباً في هلاكهم، ولو شاء الله أن يحاسب الناس على أفعالهم في الدنيا لما نجا أحد من عذاب الله كما قال سبحانه:}وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرا(45){ [فاطر].
فالله سبحانه يعفو عن الكثير من ذنوب عباده بمنه وحلمه وكرمه.
وهذه السنن جارية في العباد أفراداً ومجتمعات، فلا تنزل مصيبة بعبد إلا بسبب ذنب اقترفه أو معصية وقع فيها فعن أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال: «لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر»،
قال: وقرأ: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30){ [الشورى] .
7ـ عدم استجابة الدعاء:
ومن عواقب ترك هذه الفريضة عدم استجابة الدعاء، فعن حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال:{ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم } رواه الترمذي وحسنه . ومعنى أوشك أسرع
8ـ الخسران في الدنيا والآخرة:
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الخسران في الدنيا والآخرة، فلقد أقسم الله عز وجل في كتابه الكريم أن كل إنسان في هذه الدنيا في خسارة، إلا من حقق مراتب أربعة ذكرها الإمام ابن القيم عند قوله تعالى:} وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) { [العصر].
العنصر الرابع : ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :ـ
1ـ النظر في المصالح والمفاسد:ـ
ينبغي للقائم بهذا الواجب الشرعي أن يمعن النظر في حقيقة المنكرات الشائعة قبل إزالتها؛ ليتعرف على نسبة المصلحة والمفسدة المترتبة على تغييرها قبل الإقدام على إزالتها أو إبقائها على حالها، وميزان ذلك الشريعة لا الهوى والعاطفة، فكم أحدث التسرع شراً وكم أحدث عدم التروي في مثل هذه المواطن من نتائج سلبيةٍ ؛ ولتجاوز مثل هذه المخاطر نجد العلماء من السلف والخلف قد وضعوا قواعد في ذلك منها ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال: (فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لم يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ ما هو مِثْلُهُ.
الرَّابِعَة: ُ أَنْ يَخْلُفَهُ ما هو شَرٌّ منه.
فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ.
وذكر أنه َسَمِعَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ بن تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يقول:( مَرَرْت أنا وَبَعْضُ أَصْحَابِي في زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ منهم يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَنْكَرَ عليهم من كان مَعِي فَأَنْكَرْت عليه وَقُلْت له إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عن قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ)
2ـ الصبر:ـ
فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلقى الأذى: }يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17){ [لقمان].
3ـ الرفق بالعباد :ـ
فالناس يمقتون العنف وأصحابه، وينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة، ويألفون الرقة وأهلها.، وقد قال تعالى﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159){ آل عمران .
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى قلب رفيق يسعهم ولا يضيق بجهلهم، ويجدون عنده الرعاية والرفق واللين، وهكذا كان قلب رسول الله ﷺ.
نجد أن الله تعالي أمرنبيه موسي وهارون عليهما السلام بالرفق في الدعوة مع فرعون فقال تعالي {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)} (طه).
4ـ الإسرار والإعلان:
قضية الإسرار والإعلان في موضوع المصلحة، هل تنكر سراً أم تنكر علناً؟
كلاهما وارد في الشرع، فقد يكون من المصلحة أن تنكر علانية وقد يكون من المصلحة أن تنكر سراً، مثلاً بعض الصحابة والتابعين كانوا ينكرون علانية، ومثل ذلك طارق بن شهاب رضي الله عنه، يذكر كما في صحيح مسلم أن مروان بن الحكم لما كان أميراً على المدينة أخرج المنبر في يوم العيد، وطفق يخطب قبل الصلاة، فقام إليه رجل، وقال: يا مروان خالفت السنة، قالها بصوت جهوري سمعه الناس: أخرجت المنبر في يوم العيد، ولم يكن يخرج، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، قال له مروان: قد ترك ما هنالك.
وقد يرى الإنسان المصلحة في الإسرار كما إذا كان المنكر شخصياً، أو رأى أن هذا الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم، أو قد يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة فحينئذ يسر.
قال الشافعي – رحمه الله:
تغمدني بنصحك في انفرادِ *** وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تُعط طاعة
الستر على أهل المعاصي وعدم تتبع سقطاتهم من صفات المؤمنين الصالحين , ومن حقوق الأخوة الإسلامية , قال تعالى :}إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10){ الحجرات .
وَعَنْ سَالِمٍ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (أَخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي ومسلم).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا ، إِلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (أخرجه أحمد ومسلم) .
العنصر الخامس : نماذج رائعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:ـ
في القرآن الكريم نماذج رائعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ..
مؤمِن ياسين:
قال تعالى:} وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25){ [يس].
إنها استجابة الفِطرة السليمة لدعوة الحق المُستقيمة؛ فيها الصدق، والبساطة، والحَرارة، واستِقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القويِّ للحق المبين، فهذا رجل سَمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها مِن دلائل الحقِّ والمَنطِق ما يتحدَّث عنه في مقالتِه لقومه، وحينما استشعَر قلبُه حقيقة الإيمان، تحرَّكت هذه الحَقيقةُ في ضميره فلم يُطقْ عليها سكوتًا، ولم يقبَع في داره بعقيدته وهو يرَى الضَّلال مِن حوله والجُحود والفُجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره وتحرَّك في شُعوره، وظاهرٌ أن الرجل لم يكن ذا جاهٍ ولا سُلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منَعة مِن عشيرته، ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تَدفعُه وتجيء به مِن أقصَى المدينة إلى أقصاها.
مؤمن آل فرعون:
قال تعالى:} وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28){[غافر].
انتدب الله عزَّ وجل رجلاً مِن آل فرعون، وقع الحق في قلبه، ولكنه كتَم إيمانه، انتدب يدفَع عن موسى، ويَحتال لدفع القوم عنه، ويَسلُك في خطابه لفرعون وملَئِه مسالكَ شتَّى، ويتدسَّس إلى قلوبهم بالنصيحة، ويُثير حساسيتها بالتخويف والإقناع، إنها جَولة ضخمَة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المُتآمِرين مِن فرعون وملئه، وإنه مَنطِق الفِطرَة المؤمنة في حذر ومَهارة وقوة كذلك، وقد سجَّل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان.
هدهد سليمان:
قال تعالى: } تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩(26) { [النمل].
ونحن نجد أنفسنا أمام هُدهدٍ عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبَراعة في عرض النبأ، ويقَظة إلى طبيعة مَوقفِه، وتلميح وإيماء أريب، فهو يُدرِك أن هذه مَلِكَة وأن هؤلاء رعيَّة، ويُدرِك أنهم يَسجُدون للشمس من دون الله، ويُدرِك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو ربُّ العرش العظيم، وما هكذا تُدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاصَّ، على سبيل الخارِقة التي تُخالِف المألوف، ولكن الأعجب من ذلك المجهود الجبَّار الذي قام به الهُدهد، ولكي ترى كم مِن المسافات قطَع، وكم مِن الجهْد بذَل وضحَّى، لك أن تَعرِف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسِعة والفيافي وبلَّغ قائده بما رأى.
ولقد ضرب السلف الصالح أروع النماذج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعن سفيان الثوري قال: إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول دماً.
وقال مالك بن دينار: حدثني فلان: أن عامربن عبد قيس القدوة الزاهد مرَّ في الرحبة وإذا رجل يُظلم ، فألقى رداءه وقال: لا أرى ذمة الله تخفر وأنا حي. فاستنقذه .
ويروى أن سبب إبعاده إلى الشام كونه أنكر وخلَّص هذا الذمي ،قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}المائدة
قضية الإمام أحمد بن حنبل
وهذا مثال لا يخفى عليكم قضية الإمام أحمد بن حنبل عندما وقف أمام فتنة القول بخلق القرآن، وقف وقوف الأبطال، ضعف كثير من طلاب العلم عن الوقوف أمام هذه الفتنة التي كادت أن تودي بالأمة، فوقف هذا العالم البطل وقفة شجاعة.
الإمام أحمد بن حنبل يصلي والدماء في ثيابه من أثر الضرب، حتى إنه ما استطاع في بعض الأحيان أن يصلي واقفا وصلى جالسا رحمه الله.
الإمام أحمد وقف وقفة شجاعة أمام المأمون، ومن بعد المأمون، أمام حرب الاعتزال، أمام تضليل الأمة في عقيدتها وفي كتاب ربها، وقف هذا العالم البطل وقفة كلها شجاعة وكلها إباء، ويأتيه بعض العلماء يشد من أزره ويؤيده؛
ولذلك ذكر العلماء عن قضية من حدثه ومن وقف معه من الأمة، حتى أنه جاءه بعض طلابه وقالوا له: ألا تتأول يا إمامنا؟
قال: كيف أتأول والناس خلف الباب يكتبون ما أقول؟
وصمد سنوات عدة في السجن، والأغلال، والتعذيب، لم يثنه ذلك عن ذكر الله جل وعلا.
هذه مكانة هذا الإمام؛ ولذلك أصبح الإمام أحمد يقول كما نصحه أحد العلماء يقول الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم وأنا معه خاويين: يا أبا عبد الله، الله، الله إنك لست مثلي أنت رجل يقتدى به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله، واثبت لأمر الله أو نحو هذا الكلام.
يقول أحمد: فعجبت من تقويته لي وموعظته إياي.
كان في السجن وعندما أراد أن يجلد جاءه رجل قد سجن معه فقال له: يا أحمد -اسمعوا إلى هذه الموعظة من سجين، من مجرم قال له يا أحمد: إنني رجل أسرق، وكلما أسرق يؤتى بي وأجلد، ومع ذلك أخرج وأسرق مرة أخرى، فلم يؤثر بي الضرب، وأنت تقوم من أجل حماية عقيدتك فإياك إياك أن أكون أنا أشد عزيمة منك، فاصمد للضرب.
يقول الإمام أحمد: فأصبحت لا أبالي بالضرب كلما ضربوني تذكرت هذا اللص الذي نصحني غفر الله له.
الخاتمة ...
أيها المؤمنون .. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما القطب الأعظم لهذا الدين وبدونه تنتفي عن الأمة خيريتها كما ذكر الله تعالي } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ (110){ آل عمران .
فالأمة لن تقود ولن تسود غيرها ولم تكن لها الشهادة إلا إذا قامت بواجبها بالتغيير نحو الغير.
فنسأل الله العظيم أن يستعملنا لطاعته ويوفقنا لما يحبه ويرضاه ،
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا، وارفَعنا ولا تضَعنا برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بخلقِك فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
تمت بفضل الله