الصحة الإنجابية بين حق الوالدين وحق الطفل للشيخ أحمد أبو عيد
الصحة الإنجابية بين حق الوالدين وحق الطفل
بسم الله الرحمن الرحيم
.
تنظيم النسل قضية أخذ بالأسباب الشرعية
تنظيم النسل قضية أخذ بالأسباب الشرعية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله إمام النبيين........................ وبعد:
العناصر
أولا: فضل النكاح والترغيب فيه ثانيا: نعمة الأبناء
ثالثا: الإسلام وتنظيم النسل
الموضــوع
أولا: فضل النكاح والترغيب فيه
الزواج نعمة من نعم الله تعالى، وآية من آياته: قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم
(فهو راحةٌ حقيقةٌ للرجل والمرأة، فالمرأة تجد من يكفل لها رزقها، فتعكف على البيت ترعاه، وعلى الأولاد تربيهم، وهذا ما يتفق مع طبعها. والرجل يتفرَّغ للعمل والقيام بأعباء الأسرة، وإذا عاد للبيت شعر بالراحة والسعادة بعد العمل، فيدركون حكمة الخالق في خلق كلٍ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقاً للآخر، ملبياً لحاجاته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأنَّ تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظٌ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثَّل في جيلٍ جديد) ([1])
أمر الله به: قال تعالى " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)" سورة النساء
وقال تعالى" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "سورة النور
فأمر بإنكاح الأيامى أمراً مطلقاً ليعم الغني والفقير وبين أن الفقر لا يمنع التزويج لأن الأرزاق بيده سبحانه وهو قادر على تغيير حال الفقير حتى يصبح غنياً، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله بتيسير الزواج وعدم التكلف فيه وبذلك ينجز الله لهم ما وعدهم.
قال أبو بكر الصديق t: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى).
مباهاة النبي بأمته يوم القيامة: عن مَعْقِل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إني أصَبْت امرأةً ذات حَسَبٍ وجمالٍ، وإنها لا تَلِدُ؛ أفأتزوجها؟ قال: " لا ". ثم أتاه الثانية؟ فنهاه. ثم أتاه الثالثة؟ فقال: " تَزَوَّجوا الودود الولود؛ فإني مُكَاثِرٌ بحَم الأمَمَ " ([2])
فرغَّب في نكاح المرأة التي توفرت فيها صفة الود والحب لزوجها والأنس به وطيب معاملته، التي تلد كثيرًا، فإن المكاثرة مما أكد عليه المصطفى لما ذكره من مباهاته بأمته عند عرض الأمم يوم القيامة.
الإعانة على شطر الدين: عن أنس t أن رسول الله r قال من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي" ([3])
اتباع سنن المرسلين: قال تعالى" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً " سورة الرعد
الزواج بالدين والخلق وليس بكثرة المال: عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله r إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا يا رسول الله وإن كان فيه قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات ([4])
وعن أبي هريرة، t قال: قال رسول الله r: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" ([5])
ومعنى قوله تعالى: " إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ " أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -r- قَالَ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» ([6])
ثانيا: نعمة الأبناء
زينة الحياة الدنيا: قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].
حببها الله وزينها لخلقه: قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، الأولاد نعمةٌ إلهيةٌ، وهبةٌ ربانيه، الأولادُ زينةُ الحياة الدنيا وزهرتها، يُخففونَ عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، الأولاد وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يسر الفؤاد مشاهدتهم، وتَقر العين برؤيتهم، وتبتهجُ الأرواح بقربهم، الأولاد بسمةُ الأمل، وأريجُ النفس وريحانُ القلب، أولادنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وقد أحسن من قال:
قرة العين: قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
نعم ما أجمل ثم ما أجمل نعمة الأولاد، وما أروع تصرفاتهم وهم في عمرِ الصبا، تجد في ابتساماتهم البراءة، وفي تعاملاتهم البساطة، لا يحقدون ولا يحسُدون، وإن أصابهم مكروه لا يتذمرون.
يعيشون اليوم بيومه بل الساعة بساعتها، لا يأخذهم التفكير ولا التخطيط لغد، ولا يفكرون كيف سيكون؟ وماذا سيعملون؟ أحاسيسهم مرهفة، وأحاديثهم مشوقة، وتعاملاتهم محبة، إنْ أسأت إليهم اليوم ففي الغد ينسون، وبكلمة أو كلمتين تستطيع أن تمحو تلك الإساءة، قلوبهم بيضاء، وسرائرهم نقية، ومعادنهم صافية.
نعمة لن يقدرها حقا إلا من حرم منها: نعمة الأولاد من افضل نعمِ الله على العبد بعد نعمة الاسلام، يختص الله بها من يشاءُ من عباده ولو كان فقيرًا، ويمنعها عمن يشاء من خلقه ولو كان غنيًّا، وإذا أردت أن تعرف عظيم منَّة الله عليك بهذه النعمة، فانظر الى من حُرمَها كيف يتلوى؟ وكيف يتألم؟ وكيف يحترق؟ وكيف يشتهي؟ وكيف يتمنى أن يُرزَقَ ولدًا يملأ عليه حياته، ويملأ عليه دنياه فرحًا وسرورًا وأنسًا، وبهجةً وأمنًا وأمانا، بل انظر إلى أولئك الذين يدفعون أموالهم، ويُضحون بأوقاتهم متنقلين من مستشفى إلى آخر، ومن مركز صحي إلى آخر، ومن دكتور متخصص في العقم إلى آخر، بل ربما يُضطرون للسفر إلى الخارج من أجل أن يحظون بعلاجٍ يساعد في رزقهم ولدًا واحدًا أو بنتًا!
وأنت يا من لم تُقدِّر هذه النعمة وتشكر الله كثيرًا عليها، أنت أعطاك ووهبك الله الأولاد دون مقابل، ومن غير عناء، وبلا سفر أو تنقلاتٍ ودون ذهابٍ أو إياب.
غيرك ممن حُرمَ الأولاد يضرب أخماسًا بأسداس، ومن عامٍ إلى عامٍ آخر وهو في آناتٍ وآهات وتناهيد، وصرخات وأحزان: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ [الشورى: 49]، وتأمَّل معي هنا هذا النص الصريح "يهبُ"، فالله سبحانه وتعالى سمى الأولاد "هبة"، ولم يسمهم رزقًا؛ لأن الرزق قد تكفل الله به للجميع،
أما الهبة، فهو يهبها لمن يشاء، ووقت ما شاء وكيفما شاء، ولأنه يفعل ما يشاء، ولذلكم: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].
اليوم نجد من ليس له ولد أو بنت يقول: "أتمنى ولدًا أو بنتًا"، فإذا ما رزقه الله ببنتٍ اعترض على حكم الله، وقال: ماذا أفعل بالبنت! أريد ولدًا يحملُ اسمي ويرثني، أريد الذكر! فإذا ما رُزق بالذكر قال: يا رب أريد اثنين وثلاثة وأربعة، وهكذا..."، وما علموا حِكمةَ الله تبارك وتعالى في تقديم كلمة "إناثًا" في قوله: "يهب لمن يشاء إناثًا"؛ لأنه كان في الجاهلية إذا رزق الرجل بالبنت ظلَّ وجهُهُ مسودًا، وكانوا يتخافتون ويسخرون من بعضهم إذا رُزق أحدهم وبشِّر بالأنثى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59].
فكانوا يدفنون الإناث أحياءً والله يقول: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9]، بمعنى لماذا تقتلونها؟ لماذا تفضِّلون الذكور على الإناث؟ لماذا الاعتراض على حكم الله واختيار الله؟
عباد الله، أتعرفون أبا حمزة؟ ومن يكون؟! أبو حمزة رجل من السابقين كانت له زوجةٌ صالحة أنجبت له بنتًا وراء بنت، حتى أصبحت ذريته من البنات، فترك بيتها وأصبح يبيت عند جيرانه، فقالت زوجته تناديه بكل أدبٍ واحترام وبكلماتٍ رائعة مهذبةٍ وبدُرر ذهبية ثمينة، فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا؟ ** يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا ** تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ** ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
تمنى أن يكون ولدك صالحا: هل مع تمنِّيك للولد تتمنى كذلك أن يكون هذا الولد صالحًا؟ فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام تمنَّى الولد، وهذا سيدنا زكريا عليه السلام تمنى الولد: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 5]، لم يقل ذكرًا ولم يقل ولدًا وإنما: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]؛ أي: أريده ولدًا صالحًا، ولدًا مؤمنًا، ولدًا يعرف ربه ويعرف دينه ويُقدِّر أبوَّتي!
وما أجمل وما أروع هؤلاء الآباء الذين يطلبون من ربهم هذه الصفات في أولادهم، فيدعون ربهم أن يرزق أولادهم بها، وكم هناك من يتمنى الولد لكن ليس لأجلِ أن يخدم دينه، وينفع أمته، ويستقيم على شرع ربه، إنما تحولت الدعوات بالأولاد لأجل الشهرة والسمعة والميراث، فأصبحت النية سيئة، وصار المنبت سيئًا والولد لم يأت بعدُ.
حسن التربية وسوءها: فمَنْ أَحْسَنَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِهِ أَحْسَنَ لِنَفْسِهِ في الحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ رَآهُمْ بَرَرَةً بِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَالفَرْحَةُ الكُبْرَى عِنْدَمَا يَجْتَمِعُ مَعَهُمْ في الجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
تَخَيَّلْ نَفْسَكَ أَنْتَ وَزَوْجَتُكَ وَأَوْلَادُكُمَا مِن حَوْلِكُمَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، بِسَبَبِ حُسْنِ تَرْبِيَتِكُمَا لِأَبْنَائِكُمَا، وَالمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَكُمْ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
أروع أثر لك أيها الأب هو الولد الصالح، الولد المؤمن، الولد الذي سيدعو لك بعد مفارقتك للحياة الدنيا، الولد الذي سيعمل جاهدًا لأن يسعدك في قبرك، ويسعدك يوم الوقوف بين يدي ربك جل وعلا، الولد الذي يحمل ذكرك، ويحمل تربيتك، ويحمل اسمك في اليوم الذي سيقول عنه الناس: ما شاء الله تبارك الله، هذا فلان بن فلان رحمة الله عليه، هذا الشبل فعلًا من ذاك الأسد، ملتزمٌ كوالده، ومحترمٌ كأبيه، أخلاقه مهذبة وخلقه مستقيم، لين الجانب، رحب الصدر، طيب القلب كريم النفس، انظروا إليه، ماذا تجدون؟ الصدق، الأمانة، الأدب، الاحترام، الأخلاق الالتزام، الإيمان، المثابرة، الحنان، الرحمة، التواضع، الصلاح، الاستقامة.
فإنه ليس أحب إلى الإنسان من ولد صالح يسعى في بره وطاعته وخدمته في حياته، ثم إن مات الوالد قبله دعا الولد له بالمغفرة والرحمة والرضوان، فعن أبي هريرة t قال قال رسول الله r "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " ([7]) فيُثاب الولدُ على دعائه لوالديه، ويلحق دعاؤه الوالدين فينتفعان به.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَلَكِنَّ المُصِيبَةَ كُبْرَى إِذَا انْقَلَبَتْ نِعْمَةُ الوَلَدِ إلى نِقْمَةٍ عَلَى الوَالِدَيْنِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي عَالَمِ البَرْزَخِ، وَفِي عَالَمِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ بِإِهْمَالِ تَرْبِيَتِهِ، أَو بِسُوءِ تَرْبِيَتِهِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.
فَمَنْ أَهْمَلَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِهِ، أَو أَسَاءَ في تَرْبِيَتِهِمْ، هُوَ في الحَقِيقَةِ أَسَاءَ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا بِهِمْ صَارُوا وَبَالَاً عَلَيْهِ، وَانْقَلَبُوا إلى أَعْدَاءٍ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوَّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾. وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ إِهْمَالِ تَرْبِيَتِهِمْ، أَو سُوءِ تَرْبِيَتِهِمْ.
فَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَشْكُوَانِ مِنْ عَدَاوَةِ أَوْلَادِهِمَا لَهُمَا في حَيَاتِهِمَا الدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَبْكِيَانِ أَلَمَاً وَحُزْنَاً وَأَسَىً مِنْ عَدَاوَةِ أَوْلَادِهِمَا لَهُمَا؟ وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَدْعُوَانِ اللهَ تعالى عَلَى أَوْلَادِهِمَا بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُمَا؟
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سُوءَ تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ وَإِهْمَالَهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ العَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَيْثُ تَلْحَقُهُ اللَّعَنَاتُ في قَبْرِهِ بِسَبَبِ فَسَادِ أَوْلَادِهِ في المُجْتَمَعِ.
وَالطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى هَؤُلَاءِ الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَوْلَادَ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ وَإِهْمَالِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
الطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَوْلَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخَاطِبُ الآخَرَ ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِإِهْمَالِ وَسُوءِ تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ.
الطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ الذينَ أَجْرَمُوا في حَقِّ الأَوْلَادِ وَلَمْ يُحْسِنُوا تَرْبِيَتَهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، إِذَا انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ ـ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾. وَهَذِهِ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ.
ثالثا: الإسلام وتنظيم النسل
في الشريعة الإسلامية، لابد من التمييز بين تنظيم النسل بمعنى منع الحمل، وتنظيم النسل بمعنى التحكم في عدد الأولاد، ولابد من التمييز بين أن يكون التنظيم علاجًا لحالات فردية وأن يكون التنظيم سياسة عامة للدولة. ولاشك أن منع الحمل أو تنظيم النسل على إطلاقه مخالف للشريعة الإسلامية التي تعتبر النسل نعمة من النعم التي منَّ الله بها على عباده. إذ يقول الله تعالى ﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ﴾ النساء: 1. ويقول جل شأنه ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا﴾ الفرقان: 74. ولذلك رغبت الشريعة في تكثير النسل وزيادته وانتشاره .
فالإسلام لا يقر ّ منع الإنجاب على إطلاقه أو تنظيم النسل بصورة عامة، كما لايقبل الحجج التي يقدمها بعض الناس في هذا الصدد، مثل القول بضيق الأرض وقصور خيراتها عن الوفاء بحاجة الأعداد المتكاثرة من الناس. أو أن تنظيم النسل يحفظ للمرأة نضارتها وجمالها وحسنها. لأن القول بضيق الأرض وقلة خيراتها غير صحيح إضافة إلى أنه مخالف لما يقرره الإسلام من أن الله خلق الأشياء وقدرها وحدد أعداد الخلق ومقاديرهم، قال سبحانه: ﴿إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر﴾ القمر: 49. ﴿وكل شيءٍ عنده بمقدار﴾ الرعد: 8 و ﴿لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور¦أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا، إنه عليم قدير﴾ الشوري 49 ، 50.
كما أنّ الرزق بيد الله، يرزق من يشاء بغير حساب. قال تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم﴾ الأنعام: 151. ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا﴾ الإسراء: 31.
أما دعوى أن تنظيم النسل يحفظ للمرأة جمالها ورونقها فموضع نظر؛ إذ يؤدي عدم الإنجاب إلى حرمان المرأة وعزلها عن أداء وظيفتها الفطرية التي خلقها الله لها، مما يُحْدِث في نفسها اكتئابًا، ويولد فيها عُقدًا نفسية ويورثها بؤسًا وكآبة يذهبان بجمالها وحسن رونقها. وهذا ما أكده بعض العلماء من أمثال ألكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول.
ويُجيز الإسلام منع الحمل والولادة أو تأخيرهما إذا كان هناك خطر على حياة المرأة، وذلك دفعًا للضرر الأعظم وتجنبًا للتهلكة قال تعالى: الن ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾ ساء: 29. ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ البقرة : 195 .
أما تنظيم النسل فقد أباحه الشرع في حالة الخشية على صحة الأولاد أو تربيتهم، أو العناية بتنشئتهم إذا كثر عددهم. ففي هذه الحالة يمكن أن تتخذ الوسائل التي يؤخر بموجبها الحمل. وقد ورد في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ قال الرجل: أشفق على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضارًا لضرّ فارس والروم.
كما يجيز الإسلام أيضًا تنظيم النسل إذا خشي الزوج على الطفل الرضيع من حمل جديد، فيعزل عن المرأة منعًا لذلك. ويُعرف الوطء في حال الرضاع بوطء الغِيلة أو الغَيْل لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد. وإنما سُمِّي غَيْلاً أو غِيلة لأنه جناية خفية على الرضيع فهو أشبه بالقتل سرًا.
وفي مثل هذه الحالات التي رخَّص فيها الإسلام تنظيم النسل، كانت الوسيلة المستخدمة لذلك هي العزل (وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها) . وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، كما روي في الصحيحين عن جابر، رضي الله عنه، أنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا).
فيجوز استخدام الوسائل التى يمكن بها تنظيم النسل بشرط عدم الاضرار بصحة المرأة، وهو دليل على الأخذ بالأسباب.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله العلي القهار العزيز الغفار الذي يكور النهار على الليل ويكور الليل على النهار .
وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق كل شئ فأتقن صنعه وأبدع كل أمر فظهرت فيه حكمته فلو نظرت إلى نفسك التي بين جنبيك لوجدت فيها على وجود الله شاهدا حتى تصير موحدا فإنك كنت في ظلمة الأحشاء نطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة أربعين يوما ثم امتدت إليك ريشة الرسام الأعظم وهو الله لترسم لك حاجبين ولتشق لك عينين ولتخلق لك يدين ولتجعل لك رجلين لكنه جل جلاله لما خلق القلب خلق قلبا واحدا ولما خلق اللسان خلق لسانا واحدا لأنه لا يذكر بالقلب الواحد واللسان الواحد إلا الله الواحد القهار.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله ربه للإيمان مناديا والى الجنة داعيا والى الطريق المستقيم هاديا وفي مرضاته ساعيا وبكل معروف آمرا وعن كل منكر ناهيا فرفع الله ذكره وشرح له صدره ووضع عنه وزره وجعل الذل والمهانة على من خالف أمره
العناصــر
أولا: نعمة الأولاد في الإسلام ثانيا: حقـــــــوق الأولاد
ثالثاً: صفات المربي رابعاً: طرق تربية الأطفال
المــــوضـــــوع
أولاً: نعمة الأولاد في الإسلام
الأولاد نعمة يختص الله بها من يشـاء من عباده وقد يكونوا فتنة: قال تعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ َالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) الشورى 49/50
فالأولاد اختبار وامتحان للإنسان كبقية النعم، قال تعالى: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ " قال ابن كثير:" أي: اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه"([8])
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" التغابن.
وقال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" آل عمران
الترغيب في الإنجاب وتكثير النسل: قال تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" هود.
وعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها
لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"([9])
هم زينة الحياة الدنيا: قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
الوقاية من النار:عن عائشة زوج النبي r قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة، فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي r فحدثته، فقال: " من يلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار"([10])
فضل الولد الصالح بعد الممات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "([11])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه r :"إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ ([12])
مرافقة النبي r: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r" مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ" وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. ([13])
الأبناء أمانة ستسأل عنها إمام الله عز وجل: قال رسول الله r " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" ([14])
وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" الأنفال.
وعن معقل بن يسار t قال سمعت رسول الله r يقول ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة " وفي رواية فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة ([15])
وقال رسول الله r: " إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاهُ، أحفظَ أم ضيَّعَ؟ حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيتِه " ([16])
ثانيا: حقـــــــوق الأولاد
أ-قـــبل الــــولادة
أمر الزوج باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله r "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ
بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"([17])
وعن عائشة قالت قال رسول الله r "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم "([18])
قال أحد الحكماء لبنيه "لقد أحسنتُ إليكم صغارًا وكبارًا، وقبل أن تولدوا. قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم من الأمهات من لا تُسَبُّون بها".
أمر الزوجة باختيار الزوج الصالح ذا الدين والخلق: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r" إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ " ([19])
إتباع السنة في المعاشرة الزوجية وطلب الولد الصالح: وذلك بذكر الأدعية التي تحصن المولود – وهو نطفة – من الشيطان الرجيم عملاً بقول الرسول r: " أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ" ([20])
وهذا حقٌ وجانبٌ من جوانب التربية الروحية المبكرة للطفل قبل ولادته.
أجاز الرسول r للحامل أن تفطر في رمضان إذا كان الحمل يضعفها ويؤثر على صحتها ويلحق الضرر بها؛ وذلك لحرص الإسلام على سلامة الجنين وتغذيته تغذية جيدة.
ب-أثناء الحمل
الحفاظ على حياته: قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا جَاءكَ الْمُؤمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْن بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَدَهُنَّ) الممتحنة.
وقال تعالى (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) الأنعام
الاعتناء بالزوجة والنفقة عليها: قال تعالى (وَأُوْلاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ) الطلاق
ج-بعد الولادة
الاستبشار بالمولود: استحباب الاستبشار بالمولود عند ولادته، وذلك على نحو ما جاء في قوله تعالى عن ولادة سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام: "فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ" "آل عمران: 39"
وهذه البشارة للذكر والأنثى على السواء من غير تفرقة بينهما.
الرضا برزق الله وترك فعل الجاهلية: قال تعالى " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" الأنبياء
وقال تعالى (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما انه عليم قدير) الشورى 49
وقال تعالى "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون " النحل 58 59
استحباب تحنيك المولود: فعن عائشة: أن رسول الله r كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ([21])
وعن أبي موسى t قال: وُلِدَ لي غلام فأتيت به النبي r فسماه إبراهيم، فحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة ([22])
قال الإمام النووي: اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر، فان تعذر فما في معناه وقريب منه من الحلو، فَيَمْضَغ الْمُحَنِّك التمر حتى تصير مائعة بحيث تُبْتَلَع ثم يَفْتَح فَمَ المولود ويضعها فيه ليدخل شيء منها جوفه.
إتمام الرضاعة: قال تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) البقرة 233
عمل عقيقة للمولود: عن سلمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله r يقول: " مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى " ([23])
وعن سمرة عن رسول الله r قال" كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه "([24])
وعن ابن عمر قال قال رسول الله r " لا يحب الله العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة " ([25])
التسمية بأفضل الأسماء: عن ابن عمر t قال قال رسول الله r "أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن " ([26])
وعن محمد بن عمرو بن عطاء t قال "سميت ابنتي برة فقالت زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله r نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال رسول الله r لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا بم نسميها فقال سموها زينب " ([27])
بعض الأسماء التي غيرها رسول الله r: قال أبو داود: غير رسول الله r اسم العاصي وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا تسمى عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبني الزنية سماهم بني الرشدة وسمى بني مغوية بني رشدة. قال أبو داود تركت أسانيدها اختصارا
قال الخطابي أما العاصي فإنما غيره كراهية لمعنى العصيان وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام والعزيز إنما غيره لأن العزة لله وشعار العبد الذلة والاستكانة ، وعتلة معناها الشدة والغلظ ومنه قولهم رجل عتل أي شديد غليظ ومن صفة المؤمن اللين والسهولة ، وشيطان اشتقاقه من الشطن وهو البعد من الخير وهو اسم المارد الخبيث من الجن والإنس والحكم هو الحاكم الذي لا يرد حكمه وهذه الصفة لا تليق إلا بالله تعالى ومن أسمائه الحكم وغراب مأخوذ من الغرب وهو البعد ثم هو حيوان خبيث المطعم أباح رسول الله r قتله في الحل والحرم وحباب يعني بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة نوع من الحيات وروي أنه اسم شيطان والشهاب الشعلة من النار والنار عقوبة الله وأما عفرة يعني بفتح العين وكسر الفاء فهي نعت الأرض التي لا تنبت شيئا فسماها خضرة على معنى التفاؤل حتى تخضر([28])
الختان: وهذا ثابت في السنة وإجماع العلماء، وهو وإن كان من سنن الفطرة إلا أن العلماء قالوا بوجوبه، ومن الأحاديث التي ثبت بها الختان ما رواه أبو هريرة أن رسول الله r قال: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الاِخْتِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الإِبِطِ" ([29])
والحكمة من ذلك أنه تشريع إلهي شرعه الله لعباده ليكمل به فطرتهم، ولأنه بواسطته يمكن التخلُّص من الإفرازات الدهنية، كما أنه يُقَلِّل من إمكان الإصابة بالسرطان، وأيضًا يُجَنِّب الأطفال من الإصابة بسلس البول الليلي، وهو أيضًا: يجلب النظافة، والتزيين، وتحسين الخِلْقَة، وتعديل الشهوة.
ملاعبة الأطفال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، انه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ r يُلاعِبُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا زُوَيْنِبُ، يَا زُوَيْنِبُ " مِرَارًا ([30])
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَام، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ وَحَمَلَهُمَا، فَقَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ سورة التغابن آية 15 " رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى نَزَلْتُ فَحَمَلْتُهُمَا " ([31])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ r يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ، لَا يُرْحَمْ ([32])
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ r" أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ([33])
الدعاء لهم بالصلاح والهداية: قال تعالى (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) إبراهيم 40
وقال تعالى :( رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاءِ) آل عمران 38
وقال تعالى: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) الفرقان
وقال تعالى: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" الأحقاف 15.
عدم الدعاء عليهم: عن جابر t قال : قال رسول الله r "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تبارك وتعالى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ " ([34])
العدل بين الأولاد: قال تعالى " قال الله " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا" النساء
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ" انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ - نحلت أي أعطيت بلا مقابل- النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي فَقَالَ أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ قَالَ لَا قَالَ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي فإني لا أشهد على جور ثُمَّ قَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا إِذًا " ([35])
زيادة الإيمان في قلبه وثباته عليه: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ r يَوْمًا فَقَالَ:" يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ([36])
قال تعالى (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان 13
وقال تعالى (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بها اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لقمان 16.
غرس الوازع الديني فيهم منذ الصغر: قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم 6
قال سفيان الثوري، عن منصور، عن رجل، عن علي t في قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) يقول: أدبوهم، علموهم؛ وقال قتادة: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله، ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية، زجرتهم عنها ([37]).
وقال تعالى "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"
تعويدهم على الصلاة وغيرها من العبادات: ليكونوا متعلقين بفرائض الله تعالى وحريصين على طهارة القلب والبدن، وفي ذلك يقول الرّسول r: " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "([38])
قال تعالى (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لقمان 17
تعليمهم آداب الطعام: فعن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ r وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r " يَا غُلَامُ: سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"([39])
تعليمهم الأخلاق الحسنة: قال تعالى (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان.
تعليمهم القرآن الكريم والعمل به: عن أبي أمامة t قال: سمعت رسول الله (r) يقول: (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ). وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (r) ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) ([40])
وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا"([41])
وقال رسول الله r " يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها فيقولان: يا رب أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن. وإن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة: اقرا وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية معك"([42])
ثالثاً: صفات المربي
الحلم والأناة والبُعد عن الغضب: ولنا في النبي r أسوة وقدوة، ولقد خدم سيدنا أنس بن مالك النبي r عشر سنين فما قال لشيء فعله لِمَ فعلته، ولا لشيء تركه لِمَ تركته، وكان النبي r حليمًا في تعليم الأطفال، وروى عمرو بن سلمة قال: "كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ r وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله r: يا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"([43])
ولا بُدَّ للقائم على عمليَّة التربية البعد عن الغضب لما له من آثار سلبيَّة على نفسيَّة الطفل، وهذه من وصيَّة النبي r عندما سأله رجل أن يوصه، فقال له: "لا تَغْضَبْ" وكرَّر عليه ذلك مرارًا.
الرفق واللين: وهاتان الصفتان أساسيَّتان في عملية التربية؛ فالطفل الصغير يحتاج إلى الرفق أكثر من الشدَّة، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال : " إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه " وفي رواية له: قال لعائشة " عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ([44])
الرحمة: وهي من أهمِّ الأسس التي تقوم عليها عملية التربية، فالرحمة من أسس النشأة القويمة والنموِّ النفسي والاجتماعي لدى الأطفال، وبافتقادهم لهذه الصفة تحدث فجوة كبيرة بين الأطفال والمجتمع الذي فيه يعيشون، ولن يكون لهم طريق إلا الانحراف والعنف، وكان النبي r قدوةً في ذلك فكان رحيمًا بالأطفال، وانتقد النبي r الرجل الذي قال له إن لي عشرة من الأبناء ما قبَّلْتُ واحدًا منهم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِىَّ -r- يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r: « إِنَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ([45])
الاعتدال والوسطية: من صفات المربِّي الناجح الاعتدال والوسطية، فالغلوُّ والتشديد ليس له مكان في ديننا، وغالبًا ما ينفر الأولاد من طابع المربِّي الذي يجنح إلى الشدَّة والغلظة.
القصد في الكلام: قد كان النبي r وهو الذي لا يَمَلُّ من كلامه أحد – يتخوَّل أصحابه بالموعظة مخافة الملل، وليس المقصود من عملية التربية الكلام إنما الهدف هو الفعل.
القدوة الحسنة: ولها دور كبير في تنشئة الأولاد، فغالبًا ما يجنح الأولاد إلى التقليد، فالقدوة هنا لها دور كبير في عملية التنشئة، وقد امتدح الله عز وجل الأبوين الصالحَيْنِ وحَفَظَ المال لأبنائهما بصلاحهما فقال تعالى: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ "الكهف: 82
رابعاً: طرق تربية الأطفال
التربية بالملاحظة: وهي ملاحقة الولد وملازمته في التكوين العقدي والأخلاقي، ويدخل فيه التكوين النفسي والاجتماعي، وهذه التربية جسَّدها النبي r في ملاحظته لأفراد المجتمع، ويعقبها الترشيد والتوجيه.
ويجب الحذر من أن تتحوَّل الملاحظة إلى تجسُّس، فمن الخطأ أن نفتِّش غرفة الولد المميَّز ونحاسبه على هفوة نجدها؛ لأنه لن يثق بعد ذلك بالمربِّي، وسيشعر أنه شخص غير موثوق به، وقد يلجأ إلى إخفاء كثير من الأشياء عند أصدقائه أو معارفه، ولم يكن هذا هدي النبي r في تربيته لأبنائه وأصحابه.
كما ينبغي الحذر من التضييق على الولد ومرافقته في كل مكان وزمان؛ لأن الطفل -وبخاصَّة المميَّز والمراهق - يحبُّ أن تثق به وتعتمد عليه، ويحب أن يكون رقيبًا على نفسه، ومسئولاً عن تصرُّفاته، بعيدًا عن رقابة المربِّي، فَتُتَاحُ له تلك الفرصة باعتدال.
وعند التربية بالملاحظة يجد المربِّي الأخطاء والتقصير، وعندها لا بُدَّ من المداراة التي تحقِّق المطلوب دون إثارة أو إساءة إلى الطفل؛ والمداراة هي الرفق في التعليم وفي الأمر والنهي، بل إن التجاهل أحيانًا يُعَدُّ الأسلوب الأمثل في مواجهة تصرُّفات الطفل التي يستفزُّ بها المربي، وبخاصَّة عندما يكون عمر الطفل بين السنة والنصف والسنة الثالثة، حيث يميل الطفل إلى جذب الانتباه واستفزاز الوالدَيْنِ والإخوة، فلا بُدَّ عندها من التجاهل؛ لأن إثارة الضجة قد تؤدِّي إلى تشبُّثه بذلك الخطأ، كما أنه لا بُدَّ من التسامح أحيانًا؛ لأن المحاسبة الشديدة لها أضرارها التربويَّة والنفسيَّة.
التربية بالإشارة: والتربية بالإشارة تُستخدَم في بعض المواقف كأنْ يُخطئ الطفل في وجود ضيوف أو في محفل فتكفيه إشارة باليد، أو نظرة غضب؛ وذلك لأن إيقاع العقوبة قد يجعل الطفل معاندًا؛ لأن الناس ينظرون إليه، وتُستخدم الإشارة خاصَّة مع الأطفال ذوي الحسِّ المرهف.
ويدخل ضمنه التعريض بالكلام، فيقال: إن طفلاً صنع كذا وكذا، وعمله عمل ذميم، ولو كرَّر ذلك لعاقبته، وهذا الأسلوب يحفظ كرامة الطفل ويؤدِّب بقيَّة أهل البيت ممن يفعل الفعل نفسه دون علم المربِّي.
التربية بالموعظة وهدي السلف: وتعتمد الموعظة على جانبين؛ الأول: بيان الحقِّ وتعرية المنكر. والثاني: إثارة الوجدان، فيتأثر الطفل بتصحيح الخطأ وبيان الحق وتقلُّ أخطاؤه، وأما إثارة الوجدان فتعمل عملها لأن النفس فيها استعداد للتأثُّر بما يُلقى إليها، والموعظة تدفع الطفل إلى العمل المرغب فيه.
ومن أنواع الموعظة: أ-الموعظة بالقصة، وكلما كان القاصُّ ذا أسلوب متميِّز جذاب استطاع شد انتباه الطفل والتأثير فيه، وهو أكثر الأساليب نجاحًا.
ب-الموعظة بالحوار، وهي تشدُّ الانتباه وتدفع الملل إذا كان العرض حيويًّا، وتُتِيح للمربِّي أن يَعرف الشبهات التي تقع في نفس الطفل فيعالجها بالحكمة.
ج-الموعظة بضرب المثل الذي يُقَرِّب المعنى ويُعين على الفَهم.
د-الموعظة بالحَدَثِ، فكلما حدث شيء معيَّن وجب على المربِّي أن يستغلَّه تربويًّا، كالتعليق على مشاهد الدمار الناتج عن الحروب والمجاعات ليُذَكِّر الطفل بنعم الله، فيؤثِّر هذا في النفس؛ لأنه في لحظة انفعال ورِقَّة فيكون لهذا التوجيه أثره البعيد.
وللمربِّي في ذلك مخاطبة الطفل على قدر عقله، والتلطُّف في مخاطبته ليكون أدعى للقَبول والرسوخ في نفسه، كما أنه يُحسن اختيار الوقت المناسب فيراعي حالة الطفل النفسيَّة ووقت انشراح صدره وانفراده عن الناس، وله أن يستغل وقت مرض الطفل؛ لأنه في تلك الحال يجمع بين رقَّة القلب وصفاء الفطرة، وأما وعظه وقت لعبه أو أمام الأباعد فلا يُحقِّق الفائدة، ويجب أن يَحْذَر المربي من كثرة الوعظ، فيتخوَّله بالموعظة، ويراعي
الطفل حتى لا يملَّ، ولأن تأثير الموعظة مؤقَّت فيحسن تَكرارها مع تباعد الأوقات.
التربية بالعادة: لَفَتَ النبي r نظر الآباء إلى هذا النوع من التربية في حديثه r الذي رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: "مُروا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ"([46])
فالثلاث سنوات كافية ليتعوَّد فيها الإنسان على الصلاة، وكذلك جميع العبادات والأخلاق، فتصبح عادة راسخة في النفس.
هذا ولكي نعوِّد الطفل على العبادات والعادات الحسنة يجب أن نبذل الجهود المختلفة ليتمَّ تَكرار الأعمال والمواظبة عليها بالترغيب والترهيب والقدوة والمتابعة وغيرها من الوسائل التربويَّة.
وترجع أهميَّة التربية بالعادة إلى أن حُسن الخلق بمعناه الواسع يتحقَّق من وجهين: الأول: الطبع والفطرة، والثاني: التعوُّد والمجاهدة، ولما كان الإنسان مجبولاً على الدين والخُلُق الفاضل كان تعويده عليه يرسِّخه ويَزيده، ولكي نعوِّد الطفل على العبادات والعادات الحسنة يجب أن نبذل الجهود المختلفة ليتم تكرار الأعمال والمواظبة عليها بالترغيب والترهيب والقدوة والمتابعة وغيرها من الوسائل التربويَّة.
التربية بالترغيب والترهيب: وهو من العوامل الأساسيَّة لتنمية السلوك وتهذيب الأخلاق وتعزيز القيم الاجتماعيَّة، ويمثِّل الترغيب دورًا مهمًّا وضروريًّا في المرحلة الأولى من حياة الطفل؛ لأن الأعمال التي يقوم بها لأوَّل مرَّة شاقَّة تحتاج إلى حافز يدفعه إلى القيام بها حتى تصبح سهلة، كما أن الترغيب يُعَلِّمه عادات وسلوكيَّات تستمرُّ معه ويصعب عليه تركها.
والترغيب نوعان: معنوي ومادي، ولكلٍّ درجاته فابتسامة الرضا والقبول، والتقبيل والضم والثناء، وكافَّة الأعمال التي تُبهج الطفل هي ترغيبٌ في العمل. ويرى بعض التربويِّين أن تقديم الإثابة المعنويَّة على الماديَّة أولى؛ حتى نرتقي بالطفل عن حُبِّ المادة، وبعضهم يرى أن تكون الإثابة من جنس العمل، فإن كان العمل ماديًّا نكافئه ماديًّا، والعكس.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
الحمد لله الحي العليم السميع البصير القادر، المتكلم بكلام قديم أزليّ هو به ناه وآمر، زين قلوب العارفين بنور هدايته فأضاء منها السرائر ن من رضي بدونه فهو الخائن الغادر، الشقي من حرمه، والسعيد من رحمه، والطريد من حجبه، والقريب من جذبه، والنادم من أهانه، والسالم من أعانه، وقد علم الوليّ والعدو والرابح والخاسر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحانه أوضح الدلالة وبين، وحبب الإيمان إلى المؤمنين وزيّن، وطبع على قلوب الجاحدين فهم يجادلون في الحق بعد ما تبين.
أنا خاطئ أنا مذنب أنا عاصي | ** | هو راحم هو غافر هو كافي |
قابلتـهن ثـلاثـة بثـلاثـة | ** | ولتغلـبن أوصافه أوصافي
|
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
ملأت بنبوته الوجـود وأظهر | ** | الديـن الصحيـح فـأسـفرا |
واستبشر فرحا ببعثته الورى | ** | ومحا الضلال كما بدا لك خبرا
|
نص الكتـاب مفصلا تفصيلا | ** | فصلوا عليه وسلموا تسليـما |
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولا: الترغيب في بر الوالدين وثمراته ثانيًا: نماذج على بر الوالدين
ثالثًا: كيف يكون بر الوالدين؟ رابعًا: الترهيب من عقوق الوالدين
خامسًا: أسباب العقوق ونماذج عليه
الموضوع
سُئل الحسن البصري رحمه الله: ما بر الوالدين؟ قال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به، إلا أن يكون معصية).
قال الفيروز ابادي الإحسان إلى الوالدين والتّعطّف عليهما والرّفق بهما والرّعاية لأحوالهما وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما من بعدهما ([47])
أولا: الترغيب في بر الوالدين وثمراته
وصَّى الله ببر الوالدين والإحسان إليهما في القرآن كله: لو قسمنا القرآن إلى أربعة أقسام لوجدنا أن الله تعالى أمر بالإحسان إليهما في كل قسم منه ففي
أ-سورة البقرة: قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) البقرة 83 والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية.
ب-سورة النساء: قال تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) النساء 36
ج-سورة الأنعام: قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].
سورة الإسراء: قال تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) الإسراء 224.
د-سورة مريم: حاكيا عن نبيه يَحْيَى u ، قال تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) مريم.
وحاكيا كذلك عن نبيه عيسى u ، قال تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) مريم.
ذ-سورة العنكبوت: قال تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)" العنكبوت.
ر-سورة لقمان: قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) سورة لقمان.
ز-سورة الأحقاف: قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) الأحقاف.
وفي معنى الإحسان: قال القرطبي رحمه الله: (الإحسان إلى الوالدين برهما، وحفظهما، وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطان عليهما).
قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته: التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له فأوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمهما في سلكها بقوله
أقرب طريق إلى الجنة: عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ r أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ قَالَ: الصَّلاةُ عَلى وَقْتِها قَالَ: ثُمَّ أَيّ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ أَيّ قَالَ: الْجِهادُ في سَبيلِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي"([48])
الفوز برضا الله تعالى: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله r " رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد" ([49])
أقرب الأعمال إلى الله تعالى: عن ابن عباسt أنه أتاه رجل فقال: إنى خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيرى، فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت. [قال: عطاء بن يسار:] فذهبت، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: "إنى لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة" ([50]).
الاجر الكبير: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ r فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَىٌّ». قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ «فَتَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» ([51]).
مغفرة الذنوب: عن طيسلة بن ميّاس قال: كنت مع النجدات، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر. قال: ما هى؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليست هذه من الكبائر، هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال: لي ابن عمر: أتفرق النار، وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي، والله! قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمى. قال: فوالله! لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر" ([52]).
ومعنى النجدات: أصحاب نجدة بن عامر الخارجي، وهم قومٌ من الحرورية، ويستسخر: الاستسخار من السخرية، أتفرق النار: الفَرَق؛ الخوف والفزع.
البركة في العمر والرزق: عن أنس بن مالكٍ، قال: سمعتُ رسول الله r يقول: ((مَن سَرَّه أن يبسط عليه رزقه، أو يُنسَأ في أثره، فليصِلْ رحمه)) ([53])
هم الذين يتقبل الله منهم أعمالهم: وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)" الأحقاف.
دعوة الوالدين مستجابة: عن أَبي هريرة t قَالَ: قَالَ رسولُ الله -r-: ((ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَات لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) ([54]).
وعن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله r يقول: "ما تكلم مولود من الناس في مهد إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه [وسلم] وصاحب جريج" قيل: يا نبي الله! وما صاحب جريج؟ قال: "فإن جريجا كان رجلاً راهباً في صومعة له، وكان راعي بقر يأوي إلى أسفل صومعته، وكانت امرأة من أهل القرية تختلف إلى الراعي، فأتت أمه يوما فقالت: يا جريج! وهو يصلى، فقال في نفسه -وهو يصلي -أمي وصلاتي؟ فرأى أن يؤثر صلاته، ثم صرخت به الثانية، فقال في نفسه: أمي وصلاتى؟ فرأى أن يؤثر صلاته. ثم صرخت به الثالثة فقال: أمي وصلاتى. فرأى أن يؤثر صلاته. فلما لم يجبها قالت: لا أماتك الله يا جريج! حتى تنظر في وجه المومسات. ثم انصرفت فأُتَيَ الملك بتلك المرأة ولدت -أي من الزنا- فقال: ممن؟ قالت: من جريج. قال: أصاحب الصومعة؟ قالت: نعم. قال: اهدموا صومعته وأتوني به، فضربوا صومعته بالفؤوس، حتى وقعت. فجعلوا يده إلى عنقه بحبل؛ ثم انطلق به، فمر به على المومسات، فرآهن فتبسم، وهن ينظرن إليه في الناس. فقال الملك: ما تزعم هذه؟ قال: ما تزعم؟ قال: تزعم أن ولدها منك. قال: أنت تزعمين؟ قالت: نعم. قال: أين هذا الصغير؟ قالوا: هذا في حجرها، فأقبل عليه. فقال: من أبوك؟ قال: راعي البقر. قال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟ قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا. قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت. قال: فما الذي تبسمت؟ قال: أمراً عرفته، أدركتني دعوة أمي، ثم أخبرهم"([55]).
دخول الجنة: عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله r: (دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ قيل: هذا حارثة بن النعمان كذاكم البر كذاكم البر) ([56])
وجوب إرضائهما: عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي r يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: "ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما"([57]).
فيهما فجاهد: عن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ. فَقَالَ: «أَحَيُّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ». ([58]).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني -تعليقًا على هذا الحديث -: يحرُمُ الجهادُ إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمينِ؛ لأن برَّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهادُ فلا إذنَ" ([59])
وعن طلحة بن معاوية السلمي t قال أتيت النبي r فقلت يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله "قال أمك حية قلت نعم قال النبي r الزم رجلها فثم الجنة" ([60])
بر الوالدين حتى لو كانا مشركين: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي r فسألت النبي r آصلها؟ قال (نعم). قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} ([61])
ومعنى: (لا ينهاكم الله.) لم يمنعكم من الإكرام وحسن الصلة لغير المسلمين طالما أنهم لم يناصبوكم العداء ولم يسعوا في إيذائكم ولم يقاتلوكم بسبب دينكم لا سيما إن كانوا أقرباء وذوي رحم.
بر الوالدين عند الكبر: أخي المسلم: لا شك أنك إذا كبرت؛ تحب أن تجد من يقوم بخدمتك، ويحسن إليك، ويجبر ضعفك، وأحق من قام بهذه المهمة؛ هم الأبناء؛ فهم الذخر للوالدين، تعبا من أجل هذا اليوم.
فما ظنك أخي بوالد كبرت سنة، ورق عظمه، وضعفت قوته، فتركه أبناؤه ؟!
ألا تذكر أيها الابن: يوم أن كان والداك يسهران لمرضك؟ ألا تذكر: يوم أن كانا يكدحان، ويتعبان؛ لتشبع أنت، وتنام مظمئنًا ؟! ألا تذكر: يوم أن كانا يقومان بمصالحك، وأنت لا تستطيع أن تدفع عن نفسك ضرًا، ولا تجلب لها نفعًا ؟! أيليق بك إن كنت عاقلاً؛ أن تنسى هذا الإحسان كله ؟!
إن من حقهما اليوم أيها الابن: أن تقف بجانبهما وتشملهما ببرك، وعطفك؛ كما وقفا بجانبك، وأفاضا عليك من عطفهما وبرهما، فلا تتضايق من خدمتهما؛ كما لم يتضايقا من خدمتك.
قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}
وخصّ ربّ العزّة حالة الكبر؛ لأنّها الحالة الّتي يحتاجان فيها إلى البرّ لتغيّر الحال عليهما بالضّعف والكبر، فألزم في هذه الحالة مراعاة أحوالهما أكثر ممّا ألزمها من قبل؛ لأنّهما في هذه الحالة قد صارا كلّا عليه، فيحتاجان أن
يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج إليه في صغره أن يليا منه، فلذلك خصّ هذه الحالة بالذّكر.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r-«رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ([62]).
الأم أولى بالبر من غيرها: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صحابتي قَالَ «أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أَبُوكَ» ([63]).
وَفِى حَدِيثِ قُتَيْبَةَ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِى وَلَمْ يَذْكُرِ النَّاسَ.
وعن معاوية بن حيدة-رضي الله عنه-قال: قلت يا رسول الله! من أبرّ؟ قال: «أمّك». قال: قلت: ثمّ من؟، قال: «أمّك». قال: قلت: ثمّ من؟ قال: «أمّك»، قال: قلت: ثمّ من؟ قال: «ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب» ([64])
وعن المقدام بن معدي كرب؛ أنه سمع رسول الله r يقول: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"([65])
لأمِّكَ حقٌّ لو علِمْتَ كبيرُ | ** | كثيرُك يا هذا لديه يسيرُ |
فكم ليلةٍ باتَتْ بثقلِكَ تشتكي | ** | لها مِن جَوَاها أنَّةٌ وزفيرُ
|
وفي الوَضْع لو تدري عليها مشقَّةٌ | ** | فمِن غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ |
وكم غسَلَتْ عنكَ الأذى بيمينِها | ** | وما حَجْرُها إلا لديكَ سَريرُ |
وتَفْديك ممَّا تشتكيه بنفسِها | ** | ومِن ثَدْيِها شربٌ لديكَ نَمِيرُ (الماء العذب) |
وكم مرَّةٍ جاعَتْ وأعطَتْكَ قُوتَها | ** | حنوًّا وإشفاقًا وأنت صغيرُ |
فآهًا لذي عقلٍ ويتَّبِعُ الهوى | ** | وآهًا لأعمى القلبِ وَهْوَ بصيرُ |
فدونَكَ فارغَبْ في عَميمِ دعائِها | ** | فأنتَ لِما تَدْعو إليه فقيرُ |
هل وفيتها حقها: عن أبى بردة؛ أنه شهد ابن عمر، ورجلٌ يمانيٌ يطوف بالبيت -حمل أمه وراء ظهره -يقول: إني لها بعيرها المذلل……إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر! أترانى جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة، واحدة ثم طاف ابن عمر، فأتى المقام، فصلى ركعتين. ثم قال: يا ابن أبى موسى! إن كل ركعتين تكفران ما أمامهما ([66]).
معنى" ولا بزفرة واحدة": بفتح الزاي وسكون الفاء: المرة من الزفير وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
وعن أَبي هريرة -t-، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -r -: ((لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إلاَّ أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً، فَيَشْتَرِيهُ فَيُعْتِقَهُ)) ([67]).
بعض الذي يعين على بر الوالدين: (1) الاستعانة بالله تعالى: وذلك بإحسان الصلة به سبحانه؛ عبادةً ودعاءً والتزامًا بما شرع؛ لكي يوفِّق اللهُ العبدَ ويعينه على بر والديه.
(2) استحضار فضائل بر الوالدين وعواقب العقوق: فإن معرفة ثمرات البر واستحضار حُسن عواقبه مِن أكبر الدواعي إلى فعله.
وكذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من غمٍّ وحسرةٍ وندامةٍ، كل ذلك مما يعين على البِر، ويُبعد العبد عن عقوق والديه.
(3) استحضار فضل الوالدين على الإنسان: فهما سبب وجوده في هذه الدنيا، وهما اللذان تعِبا من أجله، وأولَيَاه خالص الحنان والمودة، وربَّيَاه حتى كبِرَ؛ فمهما فعل الولد معهما فلن يستطيع أن يوفِّيَهما حقهما؛
فاستحضار هذا الأمر مدعاةٌ للبر.
(4) صلاح الآباء: فصلاحهم سبب لصلاح أبنائهم وبرهم بهم.
(5) التواصي ببرِّ الوالدين: وذلك بتشجيع البررة، وتذكيرهم بفضائل البر، ونصح العاقِّين، وتذكيرهم
عواقب عقوق الوالدين.
(6) يضع الولد نفسه موضع الوالدين: فهل يسرُّك -أيها الولد -غدًا إذا أصابك الكِبَر ووَهن العظم منك، واشتعل الرأس شيبًا، وعجزت عن الحركة -أن تلقى مِن أولادك المعاملة السيئة؟!
(7) قراءة سِيَر البارِّين بآبائهم والعاقين لهم: فسِيَر البارين مما يساعد على البر، وقراءة سِيَر العاقين وما نالهم من سوء المصير تُنَفِّرُ عن العقوق، وتبغِّضُ فيه، وتدعو إلى البر وترغِّب فيه.
أيها المسلمون: في هذه الأيام يحتفل أعداء الله الضالون بما يسمونه عيد الأم، وفي هذه المناسبة يتذكر الواحد منهم أمه بأن يزورها في مأوى العجزة، أو يقدم لها باقة من الورد، أو حتى يتصل بها بالهاتف، أو يرسل لها رسالة تهنئة من جواله. وهذا العيد بدأ وللأسف يغزو مجتمعاتنا، وتعلقت به نفوس بعض ضعاف الإيمان من أبنائنا، انشغلوا به، وتهيؤوا له، واتخذ بعضهم مناسبته -في بعض البلدان-عطلةً وعيدًا؛ وما ذلك إلا بسبب الانبهار والإعجاب بحضارة الغرب المادية الزائفة، والانخداع ببريقها المخدر، وبسبب الغزو الفكري والثقافي والترويج الإعلامي المسموع والمرئي والمقروء الذي يحرض على هذه الضلالات، ويلفت إليها أنظارَ الناس وأسماعَهم، ويحرك قلوبهم لها.
أيها المسلمون، لقد كان رسولكم r يحرصُ كلَّ الحرصِ على أن تخالف أمتُه اليهود والنصارى في كلِ شيء، حتى قال عنه اليهودُ أنفسهم كما يرويه أنسٌ رضي الله عنه: ما يريدُ هذا الرجلُ أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه ([68]).
وإذا كان اليهود والنصارى يتجاهلون أعيادنا ولا يحتفلون بها بل يستهزئون ويسخرون منا فما بالُ البعضِ يحتفل بمناسباتهم ويحييها على سنتهم ابتغاءً وطلبًا لرضاهم؟! وتناسى أولئكَ قوله سبحانه:﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾[البقرة: 120].
إنما كل يوم هو عيد للوالدين حينما تتقي الله فيهما وتحسن صحبتهما وتبرهما، فلا يليق أبدا أن يكون برهما بهدية مرة كل عام وينتهي الأمر، فليس هذا ما علمنا إياه النبي r .
ثانيًا: نماذج على بر الوالدين
النبي r: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t قَالَ زَارَ النَّبِىُّ r قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» ([69]).
سيدنا إبراهيم u : خاطب خليل الرّحمن إبراهيم u أباه بلطف شديد، وإشفاق واضح، وحرص عليه، ورغبة في الهداية والنّجاة، والخوف من غوايته وهلاكه، فيقول كما أخبر الله عنه:" وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا "، مريم/41 - 455. فقد خاطب والده بكلمات مؤثّرة تلمس القلوب والأعماق، وعبارات مشفقة على حاله، لولا أنّ قلب والده كان قاسياً أغلف، لتأثّر بها، وكانت سبباً في نجاته واهتدائه إلى الطريق المستقيم.
سيدنا إسماعيل u: ضرب سيّدنا إسماعيل u أروع الامثلة في برّ الوالدين، عندما قال له أبوه:" يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ "، الصافات/102، فكان ردّه كما أخبرنا الله تعالى:" يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ "، الصافات/102.
أبو هريرة: عن أبي مرة؛ مولى أم هانئ ابنة أبي طالب أخبره "أنه ركب مع أبى هريرة إلى أرضه بـ(العقيق) فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أمتاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمك الله كما ربيتنى صغيراً. فتقول: يا بنى! وأنت. فجزاك الله خيراً ورضى عنك، كما بررتني كبيراً" قال: موسى: كان اسم أبى هريرة: عبد الله بن عمرو ([70]).
أُوَيْسُ بْنُ عَامِر: عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ «يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِى. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِى غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ. قَالَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَوَافَقَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ «يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ لَقِيتَ عُمَرَ قَالَ نَعَمْ. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ أُسَيْرٌ وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ" ([71])
ثلاثة نفر أُغلق عليهم الغار: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ قَالَ «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِى جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِى وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِى وَلِىَ صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِىَّ وَأَنَّهُ نَأَى بِى ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِىَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَىَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِى وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ..........." ([72])
ومعنى: الحلاب: الإناء الذي يحلب فيه اللبن، ويتضاغون: يبكون ويصيحون
الهذيل بن حفصة بنت سيرين: قالت حفصة بنت سيرين: "بلغ من برِّ الهذيل ابني بي، أنه كان يكسر القصب في الصيف فيوقد لي في الشتاء، قال: لئلا يكون له دخان، وكان يحلب ناقته بالغداة، فيأتيني به، فيقول: اشربي يا أم الهذيل؛ فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع قالت: فمات، فرزق الله عليَّ من الصبر ما شاء أن يرزق، وكنت أجد مع ذلك حرارةً في صدري لا تكاد تسكن، قالت: فأتيت ليلةً من الليالي على هذه الآية: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]،فذهب عني ما كنت أجد"([73])
أخي المسلم: كان تلك بعض الصور الصادقة لأبناء بارين. فلا تعجزن أن تكون من أولئك الأبناء الذين صدقوا في برهم بوالديهم. فإن برك بأبويك طريقك إلى رضا الله تعالى. وتأييده في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: كيف يكون بر الوالدين؟
أ-في حياتهما
طاعتهما فيما يأمران به: طاعة الوالدين واجبة على الولد؛ إذا أمراه أن يسمع لقولهما، ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى.
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
بل إن العلماء أفتوا: أن الوالد إذا منع ابنه من صوم التطوع، فله أن يطيع والده.
سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل يصوم التطوع، فسأله أبواه أو أحدهما؛ أن يفطر، قال: (يروى عن الحسن أنه قال: يفطر وله أجر البر، وأجر الصوم إذا أفطر).
خفض الصوت عندهما ومخاطبتهما بلين وعدم زجرهما: إن مما يؤسف له أن الكثيرين؛ إذا خاطب أحدهم أحد والديه؛ تجده يرفع صوته، ولا يراعي الأدب معهما! وهذا لا شك من العقوق؛ الذي حذر منه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] ، فلا يقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم، وأفّ للأبوين أردأ شيء لأنّه رفضهما رفض كفر النّعمة، وجحد التّربية وردّ الوصيّة الإلهيّة.
توقيرهما والتذلل لهما: وهذا من لوازم البر؛ فإن كثيرًا من الأبناء؛ تجده يتعالون على الوالدين؛ فإذا أمره أحدهما بشيء، فكأنما في ذلك إهانة له! وخاصة إذا كان الولد كبير المنصب.
ولكن هذا الجاهل، غاب عنه؛ أن بر الوالدين ليس فيه إهانة ولا مذلة؛ بل إن المذلة في عدم طاعتهما! قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].
قال عروة رحمه الله: هو ألا يمنعهما من شيء أراداه.
وقال طاووس رحمه الله: (إن من السنة أن نوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد).
وأبصر أبو هريرة t رجلين، فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي. فقال: لا تسمه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله ([74]).
استئذانهما إذا نوى السفر الطويل؛ لطلب علم أو غيره: فإن رضا الوالدين من الأمور الضرورية في مثل هذه الحالة. ولك أن تعتبر أن إذن الوالدين واجب؛ حتى في حق الذي يريد الخروج إلى الجهاد.
وعن طلحة بن معاوية السلمي t قال: أتيت النبي r فقلت: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: «أمك حية؟» قلت: نعم، قال النبى r: «الزم رجلها فثم الجنة!» ([75])
الإنفاق عليهما وسد حاجتهما: وهذا من لوازم البر الأكيدة؛ أن يطعم الابن والديه ويكسوهما، ويقوم على حاجتهما.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: «أنت ومالك لأبيك!» ([76])
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا أتى النبي r فقال: إن لي مالا وإن والدي يحتاج إلى مالي قال: " أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم كلوا من كسب أولادكم ([77])
الدعاء لهما: إن من البر؛ أن يدعو الابن لوالديه بالرحمة؛ حتى وإن كانا أحياء وقد حثنا النبي r على الدعاء لكل من صنع إلينا معروفًا، فكيف بالوالدين؟! ومعروفهما فوق كل معروف.
وفي الدعاء لهما: أداء لبعض حقوقهما عليك، وليس ذلك بالصعب.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء.
وقال تعالى: " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ " إبراهيم.
وقال تعالى في ذكره لدعاء نوح:" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا "، نوح/288،
قال بعض التابعين: (من دعا لأبويه في كل يوم خمس مرات، فقد أدى حقهما، لأن الله تعالى قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فشكر الله تعالى أن يصلي في كل يوم خمس مرات، وكذلك شكر الوالدين؛ أن يدعو لهما في كل يوم خمس مرات).
وقال بعض الصحابة رضى الله عنهم: (ترك الدعاء للوالدين؛ يضيق العيش على الولد).
ب-بعد موتهما
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ » ([78]).
وعن أبي أسيد السّاعديّ -t-، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله -r -إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيء أبرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا)) ([79])
الاستغفار لهما: عن أبى هريرة قال: " ترفع للميت بعد موته درجته. فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: "ولدك استغفر لك"([80]).
الدعاء لهما: وعن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبى هريرة ليلة، فقال: "اللهم اغفر لأبى هريرة، ولأمي، ولمن استغفر لهما" قال لي محمد: فنحن نستغفر لهما؛ حتى ندخل في دعوة أبى هريرة" ([81]).
الصدقة عنهما: عن ابن عباسt أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أمي توفيت ولم توص، فينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: "نعم" ([82]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة t توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال (نعم). قال فإني أشهدك أن حائطي المخراق صدقة عليها" ([83])
ومعنى (حائطي) هو البستان من النخل إذا كان له جدار. و(المخراف) اسم لحائطه والمخراف الشجرة وقيل ثمرها.
إكرام صديقهما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ t أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» ([84]).
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا قال: سمعت رسول الله r يقول: (من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده) وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك" ([85])
وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيِّ -r -مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَة رضي الله عنها، وَمَا رَأيْتُهَا قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يقَطِّعُهَا أعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا إلاَّ خَديجَةَ ! فَيَقُولُ: ((إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لي مِنْهَا وَلَدٌ)) ([86]).
الصوم والحج عنهما وقضاء نذرهما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -t-قَالَ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ -قَالَ -فَقَالَ «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ «صُومِى عَنْهَا»، قَالَتْ إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «حُجِّى عَنْهَا» ([87]).
وعَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنها -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ([88]).
عليك ببرّ الوالدين كليهما | *** | وبرّ ذوي القربى وبرّ الأباعد |
ولا تصحبن إلّا تقيّا مهذّبا | *** | عفيفا ذكيّا منجزا للمواعد |
رابعًا: الترهيب من عقوق الوالدين
العقوق في اللغة: مشتق مِن العَقِّ، وهو القطع.
عقوق الوالدين: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قولٍ أو فعلٍ، إلا في شركٍ أو معصية ([89])
قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): عقوق الوالدين: مخالفة الوالدينِ فيما يأمرانِ به من المباح، وسوء الأدب في القول والفعل ([90]).
حرم الله العقوق: عن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة -t-، عن النَّبيّ -r -، قَالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأمَّهَاتِ، وَمَنْعاً وهاتِ، وَوَأْد البَنَاتِ، وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ)) ([91])، وعن المغيرةِ بن شعبة، عن النبي r قال: ((إن اللهَ حرَّم عليكم عقوقَ الأمهاتِ)) ([92])
قال الإمام ابن حجَر العسقلاني (رحمه الله): قيل: خصَّ الأمهاتِ بالذِّكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، ولينبِّهَ على أن برَّ الأم مقدَّم على برِّ الأبِ، في التلطف، والحُنوِّ، ونحو ذلك" ([93])
من أكبر الكبائر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رَسُول الله -r -، قَالَ: ((مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ!))، قالوا: يَا رَسُول الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟! قَالَ: ((نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)) ([94])
وفي رواية: ((إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ!))، قِيلَ: يَا رَسُول الله، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ ؟! قَالَ: ((يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)) ([95]).
وعن أَبي بكرة نُفَيع بن الحارث -t-، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -r -: ((ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟)) - ثلاثاً -قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: ((الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ))، وكان مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، فَقَالَ: ((ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. ([96])
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النَّبيّ -r -، قَالَ: ((الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ)) ([97])
لعن الله من لعن والديه: عن أبى الطفيل قال: سئل علي: هل خصّكم النبي r بشيء لم يخص به الناس كافة؟ قال: ما خصنا رسول الله r بشيء لم يخص به الناس؛ إلا ما في قراب سيفي، ثم أخرج صحيفة، فإذا فيها مكتوب: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من سرق منار الأرض، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا"([98]).
ومعنى آوى محدثا: أجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. ويروى بالفتح وهو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها، ولم ينكرها عليه أحد، فقد آواه.
خاب وخسر من أدرك والديه فلم يغفر له: عن أبى هريرة، عن النبي r قال: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه". قالوا: يا رسول الله! من؟ قال: "من أدرك والديه عنده الكبر، أو أحدهما، فدخل النار"([99]). معنى رغم انفه: ألصقه بالتراب وأذله
تعجيل العقوبة في الدنيا: عن أبى بكرة، عن النبي r قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له؛ من البغى وقطيعة الرحم"([100]).
سبب غضب الله تعالى: عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي r قال: ((رضا الربِّ في رضا الوالد، وسَخَط الربِّ في سَخَط الوالد)) ([101])
لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا: عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله r أنه قال: ((ثلاثة لا يقبَل الله منهم صَرْفًا (فرضًا)، ولا عدلًا (تطوعًا): عاقٌّ، ومنَّانٌ، ومكذِّبٌ بالقدر)) ([102])
هم الخاسرون الذين حق عليهم القول: قال تعالى: "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)" الاحقاف
أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة([103]).
دخول النار : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله r: ((ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمِن على الخمر، والمنَّان بما أعطى)) ([104])
قال السندي (رحمه الله): قوله: (لا ينظر الله إليه)؛ أي: نظر رحمة أولًا، وإلا فلا يغيب أحد عن نظره، والمؤمن مرحوم بالآخرة قطعًا، (العاقُّ لوالديه): المقصر في أداء الحقوق إليهما، (المترجِّلة): التي تتشبَّه بالرجال في زيِّهم وهيئاتهم، فأما في العلم والرأي فمحمود، (والدَّيُّوث) وهو الذي لا غيرةَ له على أهله، (لا يدخلون الجنة): لا يستحقُّون الدخولَ ابتداءً. ([105])
الجزاء من جنس العمل: أ-قال الأصمعي (رحمه الله): حدثني رجل من الأعراب قال: خرجتُ من الحي أطلب أعَقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة، والحر شديد، وخلفه شاب في يده رِشاء (الحبل) من قِدٍّ (جلد مدبوغ) ملويٍّ يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنَع بأبيه، وهكذا كان يصنَع أبوه بجده، فقلت: هذا أعَقُّ الناس. ([106])
ب-وهذا رجل الذي كبر أبوه. اخذ أباه على دابة (جمل) أخذه إلى وسط الصحراء. فقال أبوه: يا بني أين تريد أن تأخذني. فقال الابن: لقد مللتك وقد أسأمتك. قال الأب: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبى. فقال الأب: إن كنت ولابد فاعلا فذبحني عند تلك الصخرة. فقال الابن: ولما يا ابي. قال الأب: فأني قد قتلت ابي عند تلك الصخرة فقتلني عندها فسوف ترى من أبنائك من سوف يقتلك عند تلك الصخرة
عمَى القلوب: قال عبد العزيز السلمان (رحمه الله): مِن أقبحِ مظاهر عقوق الوالدينِ: أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما؛ كأن يكون فلَّاحين، أو يكون الوالد نجارًا، أو صاحب مهنة متواضعة، في حين يعيش الولد في تَرَف، ويَشغَل وظيفة كبيرة، فيخجَل من وجودهما في بيته عند زملائه بزيهما البسيط، وربما سأله مَن لا يعرف والده: مَن هذا؟ فيقول: هذا خادم عندنا مستأجَر لشؤون البيت؛ وذلك لأن هذا الولد يتوهم أن هذه الهيئة تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير، وهذا بلا شك برهانٌ على سخافة عقله، وقلة دِينه، والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتزُّ بمنبتِها وأصلها، أبيها وأمها، مهما كانت حياتُهما ونشأتهما، وبيئتهما وهيئتهما، ولا يستبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن: متعلمات، إذا سألها مَن لا يعرف أمَّها: من هذه؟ فتقول: هذه خادمة عندنا ([107]).
وصدق الله العظيم القائل:﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾.
خامسًا: أسباب العقوق ونماذج عليه
أ-أسباب عقوق الوالدين: يمكن أن نوجز الأسباب التي تؤدي إلى عقوق الوالدين فيما يلي:
(1) الجهل: فالجهل داءٌ قاتل، والجاهل عدوٌّ لنفسه، فإذا جهل الإنسان عواقب العقوق في الدنيا والآخرة، وجهل ثمرات البر، قاده ذلك إلى العقوق، وصرَفه عن البر.
(2) سوء التربية: فالوالدان إذا لم يربِّيَا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، فإن ذلك سيقودهم إلى التمرُّد والعقوق.
(3) الصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسِد الأولاد، ومما يجرِّئهم على العقوق، كما أنها تُرهق الوالدينِ، وتضعف أثرهما في تربية الأولاد.
(4) عقوق الوالدين لوالدَيْهما: فهذا من جملة الأسباب الموجبة للعقوق، فإذا كان الوالدانِ عاقَّينِ لوالدَيْهما عُوقِبا بعقوق أولادهما.
(5) التفرقة في المعاملة بين الأولاد: فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناءَ والبَغْضاء، فتسُودُ بينهم روحُ الكراهيَة، ويقودهم ذلك إلى بُغْض الوالدَينِ وقطيعتهما.
(6) عدم إعانة الوالدينِ لأولادهما على البر: فبعض الوالدين لا يعين أولاده على البر، ولا يشجِّعهم على الإحسان إذا أحسنوا.
(7) قلة تقوى الله تعالى في حالة الطلاق: فبعض الوالدين إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان.
فترى الأولاد إذا ذهبوا للأم قامت بذكر عيوب والدهم، وبدأت توصيهم بالتمرد عليه وهجره، وهكذا إذا ذهبوا إلى الوالد فعَل كفعل الوالدة، والنتيجة أن الأولاد سيعقُّون الوالدين جميعًا.
(8) سوء خُلُق الزوجة: فقد يُبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتكون شوكة في حَلْق زوجها، فتجدها تجعل الزوج يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما؛ لتخلوَ بزوجِها، وتستأثرَ به دون غيره؛
ب-نماذج على العقوق: يروي أحد الأشخاص: كنت على شاطئ البحر فرأيت امرأة كبيرة في السن جالسة على ذلك الشاطئ تجاوزت الساعة 12 مساءً فقربت منها مع أسرتي ونزلت من سيارتي ... أتيت عند هذه المرأة، فقلت لها: يا والدة من تنتظرين؟
قالت: انتظر ابني ذهب وسيأتي بعد قليل ... يقول الراوي: شككت في أمر هذه المرأة. وأصابني ريب في بقائها في هذا المكان. الوقت متأخر ولا أظن أن أحد سيأتي بعد هذا الوقت ...
يقول: انتظرت ساعة كاملة ولم يأت أحد ... فأتيت لها مره أخرى فقالت: يا ولدي. ولدي ذهب وسيأتي الآن، يقول: فنظرت فإذا بورقه بجانب هذه المرأة، فقلت: لو سمحت أريد أن اقرأ هذه الورقة، قالت: إن هذه الورقة وضعها ابني وقال: أي واحد يأتي فأعطيه هذه الورقة، يقول الراوي: قرأت هذه الورقة ... فماذا مكتوب فيها؟
مكتوب فيها: (إلى من يجد هذه المرأة الرجاء أن أخذها إلى دار العجزة).
عجباً لحال هؤلاء.
يروي أحد بائعي الجواهر قصة غريبة فيها صورة من صور العقوق.
يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته، ومعهم عجوز تحمل ابنَهما الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتما فأعجبها لكي تلبسه في العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريالا؟ قال: لهذه المرأة؛ قد أخذت خاتماً، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟ ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
فيا أخي المسلم من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت لتنام، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحمَلت أذاك وهي راضية، فإذا عقلتَ ورجت منك البر عققتَها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهراً أو شهرين.
هذا رجل أصابه الكبر الشديد وتجاوز التسعين من العمر فأصبح في بعض الأحيان يفقد وعيه ويفقد الذاكرة حتى يصبح كالمجنون تذهب الذاكرة وتعود، ولقد قام بتزويج أبنائه الثلاثة وأسكنهم في نفس البيت ولكن كانت زوجات أبناءه قد تضايقوا من وجود هذا الأب. فوضع البنات خطة لطرد هذا الأب وأقنعا الأزواج بالذهاب به إلى دار العجزة وفعلاً استجاب هؤلاء الأبناء، عليهم من الله ما يستحقون وذهبوا بوالدهم إلى دار العجزة، وقالوا للمسؤولين: إن هذا الرجل وجدناه في الطريق ونريد أن نكسب الأجر فوضعناه عندكم دار العجزة.
رحبت دار العجزة بهذا الأمر على أنه فعلا رجلا في الطريق ليس له أحد إلا هؤلاء جاءوا به إلى هذا المكان وقالوا للبواب المسئول: إذا مات هذا الرجل فهذا رقم البيت ورقم الجوال فاتصل علينا، ما هي إلا لحظات وتعود الذاكرة إلى هذا الأب وينادي أبناه يا فلان يا فلانة احظروا لي ماء أريد أن أتوضأ، جاء المسئول والممرضين عند هذا الأب الكبير قالوا: أنت في دار العجزة، قال: متى أتيت إلى هنا؟ قالوا: أتيت في يوم كذا وكذا وذكروا أوصاف الأبناء الذين جاءوا به، قال هؤلاء أبنائي ورفع يديه ودعاء عليهم. اللهم كما فعلو بي هذا الفعل اللهم فأرني وجوههم تلتهب ناراً يوم القيامة.
اللهم أحرمهم من الجنة يا رب العالمين وينادي المدير المسئول ويكتب جميع عقاراته وأملاكه وقفاً لهذه الدار ولم يتحمل هذه الصدمة وتوفي مباشره. فرح الأبناء بعدما أتصل عليهم هذا البواب وأعطوه مبلغ من المال فجاءوا فرحين ولكن تفاجؤوا إذا برجال الأمن يوقفونهم عند المحكمة ليخبروهم أن هذه الأملاك كلها أصبحت ملك لدار العجزة ويجب عليهم أن يخرجوا من هذه الشقق التي كانوا يسكنون فيها هذا في الدنيا قبل الآخرة
مات والدي وأنا صغير فأشرفت أمي على رعايتي، عملت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها، أدخلتني المدرسة وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية كنت باراً بها وجاءت بعثتي إلى الخارج فودعتني بالدموع وهي تقول لي: -انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك، أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملت تعليمي بعد مضى زمن طويل ورجعت شخصاً آخر قد أثرت فيه الحضارة الغربية، رأيت في الدين تخلفاً ورجعيه !!!وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله.
حصلت على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها، وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة ولكني أبيت إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأنني كنت أحلم بالحياة الارستقراطية !!!
وخلال ستة أشهر من زواجي كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت أمى، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي فسألتها عن السبب فقالت: -اختر أحد الأمرين إما أنا وإما أمك في هذا البيت لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب فخرجت وهي تبكي وتقول: -أسعدك الله يا ولدي.
انظروا كم هو قلب الأم كبير وحنون وعطوف فرغم أن ولدها وحيدها طردها من البيت ظلماً وعدواناً إلا أنها تدعو له بالسعادة في الحياة.
يكمل صاحب القصة قائلاً: -وبعد ذلك بساعات خرجت ولكن لا فأئده، رجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة !!!
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أصب خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل علي طردتها زوجتي وقالت لها: -ابنك ليس هنا. ماذا تريدين منا. اذهبي عنا.
رجعت أمي من حيث أتت وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل انتكست فيه حالتي النفسية وفقدت
الوظيفة والبيت وتراكمت على الديون وكل ذلك بسبب زوجتي فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة، وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميلة وقالت ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فأنني أعلنها لك صريحة: -أنا لا أريدك. لا أريدك. طلقني.
كان هذا الكلام الذي سمعته بمثابة صاعقة على رأسي طلتها بالفعل، وعندها استيقظت من السبات الذي كنت فيه وخرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها، ولكن أين وجدتها ؟!
كانت تقبع في أحد " الأربطة " والرباط مكان يجتمع فيه الذين لا مأوى لهم وليس لهم من يعولهم ويأكلون ويشربون من الصدقات، دخلت عليها وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني البكاء، بينا على هذه الحال حوالي ساعة كاملة بعدها أخذتها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله مجتنباً لنواهيه.
قال أحد الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:
غذَوْتُك مولودًا وعُلتُك يافعًا | ** | تعلُّ بما أحني عليك وتنهَلُ |
إذا ليلةٌ نابَتْك بالشَّكْوِ لم أبِتْ | ** | لشكواكَ إلا ساهرًا أتملمَلُ
|
كأني أنا المطروقُ دونَك بالذي | ** | طُرِقْتَ به دوني، فعَيْنيَ تهمُلُ |
تخافُ الردى نفسي عليك وإنها | ** | لتعلَمُ أن الموتَ ضيفٌ سينزِلُ |
فلمَّا بلغتَ السنَّ والغايةَ التي | ** | إليها مدى ما كنتُ فيكَ أؤمِّلُ |
جعَلْتَ جزائي غِلظةً وفظاظةً | ** | كأنَّك أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ |
فليتَك إذ لم تَرْعَ حقَّ أبوَّتي | ** | فعَلْتَ كما الجارُ المجاورُ يفعَلُ |
فأوليتَني حقَّ الجوارِ ولم تكُنْ | ** | علَيَّ بمالي دون مالِكَ تبخَلُ |
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%