طلاقة القدرة الإلهية في العطاء والمنع للشيخ أحمد أبو عيد

 



pdf


word



الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام النبيين.

العناصر:

أولًا: حكمة الله في المنع والعطاء                                   ثانيًا: نماذج في العطاء والمنع

ثالثًا: واجبُ المسلمِ حالَ العطاءِ والمنعٍ

الموضوع

أولًا: حكمة الله في المنع والعطاء

يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء بحكمته:  قال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (آل عمران: 26).

نعم الله لا تعد ولا تحصى: قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا) سورة إبراهيم.

الرزق بيد الله وحده لا يمكن لأحد منعه: قال تعالى: (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر 2)

وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته) ([1])

أنَّ الفقرَ والغنَى ابتلاءٌ واختبارٌ: فالفقيرُ ممتحنٌ بفقرِهِ وحاجتِهِ، والغنَي ممتحنٌ بغناهُ وثروتهِ، وكلٌّ منهما مسؤولٌ وموقوفٌ بين يدي اللهِ عزَّ وجلَّ، وكما أنَّ الفقرَ ابتلاءٌ، فكذلك الغنَى ابتلاءٌ وامتحانٌ، قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.( الأنبياء: 35)؛ فاللهُ يعطيكَ ليختبرَكَ، ويسلبُ منك ليختبرَكَ، فإذا نجحتَ في الاختبارِ كنتَ مؤمنًا حقًّا.

يعطي الله المسلم والكافر: قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]، قال المفسرون: كُلاًّ نعطي من الدنيا، البَرَّ والفاجرَ، والعطاء هاهنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة

الغنى غنى النفس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» ([2])

(العرض) هو متاع الدنيا ومعنى الحديث الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه فليس له غنى.

عطاء الدنيا سرعان ما ينقضي: قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد:20] .

ولا يساوي شيء مقارنة بالآخرة وروى الإمام مسلم بسنده، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا تَرْجِعُ؟».

قد يكون الخير في المنع والشر في العطاء: قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }.[ سورة البقرة: 216]. فالخيرُ فِيمَا يختارُهُ اللهُ لك.

وفي هذا المعنى يقولُ ابنُ عطاءِ اللهِ السكندرِي في حِكَمِهِ: " رُبَّما أعطاكَ فمنعَك، ورُبَّما منعَكَ فأعطَاك، متى فتحَ لك بابَ الفهمِ في المنعِ عادَ المنعُ هو عينُ العطاءِ، فهو في كلِّ ذلك متعرفٌ إليك ومقبلٌ بوجودِ لطفهِ عليك، إنَّما يؤلمُكَ المنعُ لعدمِ فهمِكَ عن اللهِ فيه ".

فمَن فهمَ الحكمةَ مِن العطاءِ والمنعِ أصبحَ المنعُ مِن زخارفِ الدنيا هو عينُ العطاءِ؛ لأنَّه منعَ عنكَ ما يشغلُكَ عنه.

لا تحزن فالله يريد لك الخير: إنَّ الإنسانَ قد يقعُ لهُ شيءٌ مِن الأقدارِ المؤلمةِ، والمصائبِ الموجعةِ، التي تكرهُهَا نفسُهُ، فرُبَّما جزعَ، أو أصابَهُ الحزنُ، وظنَّ أنَّ ذلك المقدورَ هو الضربةُ القاضيةُ، والفاجعةُ المهلكةُ، لآمالهِ وحياتهِ، فإذا بذلك المقدورِ منحةٌ في ثوبِ محنةٍ، وعطيةٌ في رداءِ بليةٍ، وفوائدُ لأقوامٍ ظنُّوهَا مصائبَ، وكم أتَى نفعُ الإنسانِ مِن حيثُ لا يحتسب!.

والعكسُ صحيحٌ: فكم مِن إنسانٍ سعَى في شيءٍ ظاهرُهُ خيرٌ، واستماتَ في سبيلِ الحصولِ عليه، وبذلَ الغالِي والنفيسَ مِن أجلِ الوصولِ إليه، فإذا بالأمرِ يأتِي على خلافِ ما يريد.

وذلك مثلُ المريضِ الذي يمنعهُ أهلهُ مِن لذيذِ الطعامِ والشرابِ، لماذا؟! حبًّا له ورغبةً في سرعةِ شفائهِ وتعافيهِ وليس كراهيةً له، فالمريضُ يتألمُ مِن المنعِ، والمنعُ هو عينُ العطاءِ له، حيثُ يسرعُ منعُ لذيذِ الطعامِ والشرابِ في زوالِ المرضِ ومجيئِ الصحةِ والعافيةِ. وهذا المعنى أشارَ إليهِ حديثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَخَافُونَ عَلَيْهِ». ([3])

لهذا قال" شَيْبَانُ الرَّاعِي لِسُفْيَانَ: يَا سُفْيَانُ عُدَّ مَنْعَ اللَّهِ إيَّاكَ عَطَاءً مِنْهُ لَك، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك بُخْلًا إنَّمَا مَنَعَك لُطْفًا".

كل أمر المؤمن له خير بصبره: فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ."(مسلم). فعليكَ بالشكرِ عندَ الرخاءِ، والصبرِ عندَ البلاءِ، تكنْ مؤمنًا حقًّا.

يعطي الله العبد ما يصلح به حاله: يقولُ تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] : " أي، ولكن يرزقُهُم مِن الرزقِ ما يختارُهُ مِمّا فيه صلاحهُم، وهو أعلمُ بذلك، فيُغنِي مَن يستحقُّ الغنى، ويُفقرُ مَن يستحقُّ الفقرَ".

وهناكَ شواهدُ كثيرةٌ في القرآنِ الكريمِ تثبتُ حالَ الذين بسطَ اللهُ لهم في الرزقِ ففسدَ حالُهُم وبغوا في الأرضِ فسادًا، كقارون وأصحاب الجنة وغيرهم.

قد يكون العطاء نقمة واستدراج من الله للعبد: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] ([4])

ثانيًا: نماذج في العطاء والمنع

نعمة الأولاد: قال﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَأَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.

سيدنا زكريَّا –عليه السلام– عندما صارَ شيخًا كبيرًا، وامرأتَهُ عاقرًا، توجَّه إلى ربِّه متضرعًا، يلهجُ لسانُه بالثناءِ عليه رجاءَ أنْ يرزقَهُ الولدَ فأجابَ اللهُ سُئلَهُ، ولم يخيبْ رجاءَهُ، حيث قال تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾، فيا مَن أعيتْكَ الحيلُ، وأتعبتْكَ السبلُ، إقرعْ بابَ مولاكَ، وثقْ بهِ، وخذْ بالسببِ، وتوكَّل عليهِ، ولله در القائل:  

إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا ... أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب

وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا ... يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ

ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ ... فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم:  رجل قدمَ إلى المطارِ، وكان حريصًا على رحلتِه، وهو مجهدٌ بعضَ الشيءِ، فأخذتْهُ نومةٌ ترتبَ عليهَا أنْ أقلعتْ الطائرةُ، وفيها ركابٌ كثيرونَ يزيدونَ على ثلاثمائةِ راكبٍ، فلمَّا أفاقَ إذا بالطائرةِ قد أقلعتْ قبلَ قليل، وفاتتْهُ الرحلةُ، فضاقَ صدرُه، وندمَ ندمًا شديدًا، ولم تمضِ دقائقٌ على هذه الحالِ التي هو عليها حتى أُعلِنَ عن سقوطِ الطائرةِ، واحتراقِ مَن فيها بالكاملِ.

        وانظر إلى حال بعض قوم موسى لما رأوا قارون في ماله وغروره فتمنوا أن يكون لهم ما له، وظنوا أن الله قد وسَّع عليه وضيق عليهم فقالوا: ﴿يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (القصص 79)، لكن لما رأوا عقاب الله (عز وجل) لهذا الذي جحد نعم الله (سبحانه وتعالى) وتكبر بها وأنكر الفضل، إذ يقول الله سبحانه ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ (القصص 81) كان إدراكهم لأمر جلل، وهو أنهم إذا كان لهم مثل ماله ثم كانوا على نفس جحوده للنعمة، لأصابهم ما أصابه، قال تعالى: (وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُۥ بِٱلْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَٰفِرُونَ) ( القصص 82)،

 ورحم الله الحسنُ البصريُّ، إذ يقول: "لا تَكرَهِ الملماتِ الواقعةَ، والبلايا الحادثةَ؛ فلَرُبَّ أمرٍ تكرهُه فيه نجاتُك، ولَرُبَّ أمرٍ ترجوه فيه عَطَبُك".

ما خاب من لجأ إلى الله: رجل كان مشلولًا ولا يستطيعُ الحركةَ وأرادَ أنْ يحجَّ بيتَ اللهِ الحرام، فتعجبَ الأولادُ، يا أبانَا كيف ذلك ؟وأنت مريضٌ لا تستطيعُ الحركةَ فألحَّ عليهم الوالدُ المريضُ وسافرَ للحجِّ وجلسَ أمامَ الكعبةِ على  كرسيهِ المتحركِ وأخذَ يقولُ واللهِ يا ربِّ ما أنا خارجٌ مِن بيتِكَ إلّا على  رجلِي أو على  الأعناقِ على  ظهرِي واللهِ واللهِ ما أنا خارجٌ مِن بيتِكَ إلَّا على  رجلِي أو على  الأعناقِ على  ظهرِي،  ونامَ الرجلّ لحظاتٍ ويأتِي إليه في المنامِ قُم وامشِي وتحركْ فقامَ الرجلُ وتحركَ خطوةً بل خطوتينِ فقالَ بأعلَى صوتهِ واللهِ يا ربِّ ما خابَ مَن التجأَ إليكَ واللهِ يا ربِّ ما خابَ مَن التجأَ إليك، فهل توكلَ عليه أحدٌ يومًا فخيبَهُ؟ وهل سألَهُ أحدٌ يومًا ولم يعطهِ سؤلَهُ ؟وهل فوضَ أحدٌ إليهِ الأمرَ فضيعَهُ؟ كلًّا واللهِ مَن توكلَ على  اللهِ كفاهُ،  ومَن سألَهُ أعطاهُ، ومَن فوّضَ إليهِ الأمرَ هداهُ .لا تحزنْ إذا كان اللهُ معكَ فإنَّ مع العسرِ يُسرًا، وبعدَ الضيقِ فرجٌ، وبعدَ الحزنِ فرحٌ، وبعدَ الخوفِ آمنٌ، وبعدَ الفراغِ سكينةٌ، فالبحرُ لم يغرقْ كليمَ اللهِ مُوسي؛ لأنَّه قالِ (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [سورة  الشعراء: 61-62]والنارُ لم تحرقْ إبراهيمَ؛ لأنَّه توكلَ على  اللهِ وحدَهُ فقال حسبُنَا اللهُ ونعمَ الوكيل. 

ما منعك إلا ليحميك: لقد شبَّهَ العلامة ابن القيم: " مَنْعَ اللهِ عبدَه المؤمنَ بفَلَّاحٍ خبيرٍ غَرَسَ جَنَّةً، وتعاهدَها بالسَّقْي والإصلاحِ حتى أثمرتْ أشجارُها، فأقبلَ عليها يَفْصِلُ أوصالَها، ويَقْطَعُ أغصانَها؛ لِعلمِه أنَّها لو خُلِّيَتْ على حالِها لم تَطِبْ ثمرتُها، حتى إذا التحمتْ بها واتَّحدتْ، وأعطتْ ثمرتَها؛ أقبلَ بقَلْمِها وقَطْعِ أغصانِها الضعيفةِ التي تُذْهِبُ قوَّتَها، ويُذيقَها ألمَ القطعِ والحديدِ لمصلحتِها وكمالِها؛ لِتَصْلُحَ ثمرتُها أنْ تكونَ بحضرةِ الملوكِ، ثمَّ لا يَدَعُها ودواعيَ طبعِها من الشربِ كلَّ وقتٍ، بل يُعَطِّشُها وقتًا، ويسقيها وقتًا، ولا يتركُ الماءَ عليها دائمًا، وإن كان ذلك أنضرَ لورقِها وأسرعَ لنباتِها، ثمَّ يَعْمَدُ إلى تلك الزينةِ التي زُيِّنَتْ بها من الأوراقِ فيُلقي عنها كثيرًا منها؛ لأنَّ تلك الزينةَ تَحُولُ بين ثمرتِها وبين كمالِ نضجِها واستوائِها، كما في شجرِ العنبِ ونحوِه؛ فهو يقْطَعُ أعضاءَها بالحديدِ، ويُلقي عنها كثيرًا من زينتِها؛ وذلك عينُ مصلحتِها، فلو أنَّها ذاتُ تمييزٍ وإدراكٍ كالإنسانِ، لتَوَهَّمَتْ أنَّ ذلك إفسادٌ لها وإضرارٌ بها، وإنما هو عينُ مصلحتِه وَكَذَلِكَ الْأَب الشفيق على وَلَده الْعَالم بمصلحته إِذا رأى مصْلحَته فِي إِخْرَاج الدَّم الْفَاسِد عَنهُ بضع جلده وَقطع عروقه وأذاقه الْأَلَم الشَّديد وَإِن رأى شفاة فِي قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ أبانه عَنهُ كَانَ ذَلِك رَحْمَة بِهِ وشفقة عَلَيْهِ وَإِن رأى مصْلحَته فِي أَن يمسك عَنهُ الْعَطاء لم يُعْطه وَلم يُوسع عَلَيْهِ لعلمه أَن ذَلِك أكبر الْأَسْبَاب إِلَى فَسَاده وهلاكه وَكَذَلِكَ يمنعهُ كثيرا من شهواته حمية لَهُ ومصلحة لَا بخلا عَلَيْهِ فأحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأعلم الْعَالمين الَّذِي هُوَ أرْحم بعباده مِنْهُم بِأَنْفسِهِم وَمن آبَائِهِم وأمهاتهم إِذا أنزل بهم مَا يكْرهُونَ كَانَ خيرا لَهُم من أَن لَا ينزله بهم نظرا مِنْهُ لَهُم وإحسانا إِلَيْهِم ولطفا بهم وَلَو مكنوا من الاختيار لأَنْفُسِهِمْ . الفوائد لابن القيم ص ٩٢.

ثالثًا: واجبُ المسلمِ حالَ العطاءِ والمنعٍ

الرضا بالمقسومِ: فلن يبلغَ العبدُ مقامَ الرضَا حتّى يفرحَ بالنقمةِ فرحَهُ بالنعمةِ، "كما قِيلَ ليحيى بنِ مُعاذٍ رحمه اللهُ: متى يبلغُ العبدُ مقامَ الرضَا؟ قال: إِذا أَقامَ نفسَهُ على أَربعةِ أُصولٍ فيمَا يعاملُ بهِ ربَّهُ، فيقولُ: إنْ أعطيتنِي قَبِلْتُ، وإِنْ منعتنِي رضيتُ، وإِنْ تركتنِي عبدتُ، وإِنْ دعوتنِي أَجبتُ ." (مدارج السالكين). "

وسُئِلَ جعفرُ بنُ سليمانَ الضبعِي: متى يكونُ العبدُ راضيًا عن اللهِ تعالى؟ قال: إذا كان سرورُهُ بالمصيبةِ مثلَ سرورِهِ بالنعمةِ!! وكان الفضيلُ يقولُ: إذا استوىَ عندَهُ المنعُ والعطاءُ فقد رضيَ عن اللهِ تعالى". (إحياء علوم الدين – الإمام الغزالي ).

        وروي: " أنَّ عابدًا عبدَ اللهَ دهرًا طويلًا فأري في المنام، أنَّ فلانةً الراعيةَ رفيقتُكَ في الجنةِ، فسألَ عنها إلى أنْ وجدَهَا فاستضافَهَا ثلاثًا لينظرَ إلى عملِهَا، فكان يبيتُ قائمًا وتبيتُ نائمةً، ويظلُّ صائمًا وتظلُّ مفطرةً. فقال: أمَا لكِ مِن عملٍ غيرَ ما رأيتُ؟ فقالتْ: ما هو واللهِ إلَّا ما رأيتَ لا أعرفُ غيرَهُ. فلم يزلْ يقولُ: تذكري، حتى قالت: خصيلةٌ واحدةٌ هي فيَّ، إنْ كنتُ في شدةٍ لم أتمنَّ أنْ أكونَ في رخاءٍ، وإنْ كنتُ في مرضٍ لم أتمنَّ أنْ أكونِ في صحةٍ، وإنْ كنتُ في الشمسِ لم أتمنَّ أنْ أكونَ في الظلِّ، فوضعَ العابدُ يده على رأسهِ وقال: أهذه خصيلةٌ؟ هذه واللهِ خصلةٌ عظيمةٌ يعجزُ عنها العبادُ.". (إحياء علوم الدين – الإمام أبو حامد الغزالي ).

 

عدم التأسف على ما فات: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». ([5])

يقولُ الإمامُ النوويُّ: (وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ هُنَا: عَزِيمَةُ النَّفْسِ وَالْقَرِيحَةُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ أَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى الْعَدُوِّ، وَأَسْرَعَ خُرُوجًا إِلَيْهِ، وَذَهَابًا فِي طَلَبِهِ، وَأَشَدَّ عَزِيمَةً فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرْغَبَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْأَذْكَارِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَنْشَطَ طَلَبًا لَهَا وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ). (شرح النووي).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) ([6])

أنْ ينظرَ المرءُ إلى مَن هو دونَهُ في أمورِ الدنيا: فقد علمَنَا ذلك النبيُّ ﷺ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ" إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ." ([7]) وفي روايةِ مسلم": انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ." قال المباركفوري: "إنَّ المرءَ إذا نظرَ إلى مَن فُضِّلَ عليه في الدنيا، استصغرَ ما عندَهُ مِن نعمِ اللهِ، فكانَ سببًا لمقتهِ، وإذا نظرَ للدونِ، شكرَ النعمةَ، وتواضعَ وحَمِدَ".

فكلّمَا نظرتَ إلى مَن هو أقلُّ منكَ ازددتَ رضًا وقناعةً، فإنْ كنتَ فقيرًا ففي الناسِ مَن هو أفقرُ منك! وإن، كنتَ مريضًا ففي الناسِ مَن هو أشدُّ منك مرضًا، وإنْ كنتَ ضعيفًا ففي الناسِ مَن هو أشدُّ منك ضعفًا.. فلماذا تَرفعُ رأسَك لتنظرَ إلى مَن هو فوقَكَ، ولا تخفِضُه لتُبصِرَ مَن هو تحتَكَ؟!.

الدعاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ». ([8])

قصدتُ بابَ الرجا والناسُ قد رقدُوا  *** وقمتُ أشكُو إلى مولايَ مـا أجـدُ

وقلتُ يـا أملِـى في كـلِّ نائبـةٍ يا   ***  مَن عليهِ لكشـفِ الضـرِّ أعتمـدُ

أشكُو إليـك أمـورًا أنـت تعلمُهَـا   *** ما لِي على حملهَا صبـرٌ ولا جلـدُ

مــددتُ يدي بـالـذلِّ مفـتـقـرًا  ***  يـا خيرَ مَـن مُـددتْ إليـه يــدُ

فـلا تردنَّـهَـا يـا ربـِّى خائـبـةً ***  فبحرُ جودٍك يروِى كلَّ مَـن يـردُ

الشدة لا تدوم، بل يعقبها برحمة الله:  قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح 5،6)، ويقول (جل وعلا): (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق 7).

تحقيق معاني تقوى الله (عز وجل): قال تعالى ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق 2، 3)

التوكل على الله والأخذ بالأسباب: قال تعالى (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق 3).

حسن الظن بالله : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» ([9])

لا تغتر بنعم الله عليك: إنَّ بعضَ الذين فاجأَتهُم النعمةُ نظَرُوا إلى البشرِ نظرةَ ازدراءٍ واحتقارٍ، واعتزازٍ بأموالِهم وأولادِهم وصحتِهم، وهؤلاءِ ضربَ اللهُ لهم مثلًا بأصحاب الجنة، بعد أن كانوا في يتنعمون في نعم الله، جحدوها فأذهبها الله عنهم، فرجعوا يتحسرون على ما جحودهم لنعم الله عليهم.

 

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد

%%%%%%%%

 



[1])صحيح الجامع

[2])صحيح مسلم

[3])المستدرك على الصحيحين صحيح).

[4])مسند احمد (حسن).

[5])صحيح مسلم

[6])سنن الترمذي (حسن).

[7])صحيح مسلم

[8])صحيح البخاري

[9])مستدرك الحاكم (صحيح)0

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات