حرمة الغدر والخيانة للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الملك الحق المبين لا إله
إلا الله العدل اليقين لا إله إلا الله ، ربنا ورب آبائنا الأولين سبحانك إني كنت من
الظالمين ، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
- وإليه المصير - وهو على كل شيء قدير .
وأشهد أن لا إله لا الله إقراراً بربوبيته
وسبحان الله خضوعاً لعظمته ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي في مجده وحكمته.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده المرسل
مبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، قُرئ عليه القرآن ففاضت
بالدمع عيناه، وكان ما تقدم وما تأخر من الذنب مغفورًا، قام الليل حتى تورَّمت قدماه،
وقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا.
العناصر
أولًا: الترهيب من الخيانة
ثانيًا: أنواع الخيانة
ثالثًا: أقوال مأثورة عن الخيانة
رابعًا: نماذج على الخيانة
الموضوع
تعريف
الخيانة: جاء
في لسان العرب لابن منظور: "الخَوْن: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، خانَه يخونه
خونًا وخيانة، وخانَةً ومخانة".
• قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: "والخيانة: الغَدر
وإخفاء الشيء.
• والخيانة هي عَكس الأمانة، وهي نقصان في الوَفاء، وتفريط الإنسان
في حقوق الغير التي تحت يديه؛ ماديَّة كانت أو معنوية، أو تبديدها، أو إفشاؤها وإذاعتها.
• قال الجاحظ: الخيانة هي الاستِبداد بما يؤتمَن الإنسان عليه من
الأموال والأعراض والحرم، وتملك ما يستودع ومُجاحدة مُودعه، وفيها أيضًا طيُّ الأخبار
إذا نُدِب لتأديتها، وتحريف الرسائل إذا تحمَّلها فصرفها عن وجوهها".
• قال الراغب: الخيانة والنِّفاق واحد، إلَّا أن الخيانة تُقال
اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق يُقال اعتبارًا بالدِّين، ثمَّ يتداخلان؛ فالخيانة:
مُخالفة الحقِّ بنقض العهد في السِّر، ونقيض الخيانة الأمانة.
أولًا: الترهيب من
الخيانة
البغض
الشديد له: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
(3)) [سورة الصف]
أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه،
وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله
أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة،
وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقال
شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} ([1]).
نزلت حين تمنوا فريضة الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فُرِضَ نَكَلَ
عَنْهُ بَعْضُهُمْ، كقوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ، وقال تعالى:
{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} الآية،
وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ
الْجِهَادُ يَقُولُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ دَلَّنَا عَلَى أَحَبِّ
الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ فَنَعْمَلَ بِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ أَحَبَّ
الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الذين
خالفوا بالإيمان وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهَ ذلك ناس
من المؤمنينن وشق عليهم أمره([2]).
لهم
اللعنة وسوء الدار: قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ
لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) ) [سورة الرعد]
أما الأشقياء فقد وُصِفوا بضد صفات المؤمنين، فهم الذين لا يوفون
بعهد الله بإفراده سبحانه بالعبادة بعد أن أكدوه على أنفسهم، وهم الذين يقطعون ما أمرهم
الله بوصله مِن صلة الأرحام وغيرها، ويفسدون في الأرض بعمل المعاصي، أولئك الموصوفون
بهذه الصفات القبيحة لهم الطرد من رحمة الله، ولهم ما يسوءهم من العذاب الشديد في الدار
الآخرة([3]).
من
علامات النفاق: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " آيَةُ المُنَافِقِ
ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ
" ([4])
(آية) علامة. (كذب) أخبر بخلاف الحقيقة قصدا. (اخلف) لم يف بوعده.
من علامات
الفسق والخسران: قال تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) ) [سورة البقرة]
الذين ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم بالتوحيد والطاعة، وقد أكَّده
بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ويخالفون دين الله كقطع الأرحام ونشر الفساد في الأرض،
أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
حذر الله
ورسوله منها: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ
خَانَكَ» ([5])
فبسلاح الغدر والخيانة ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه
المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ،
فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلته يد الغدر، وعلي وغيرهم
ممن أغاظ أعداء الله أذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال، وفي بئر معونة قُتِلَ
سبعون من خيار الصحابة.
والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد
أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل
الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر
والخيانة.
لا يحبهم
الله تعالى ولا يهديهم: قال الله تعالى: {إِنَّ
اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال من الآية:58]، وقال سبحانه:
{وَأَنَّ اللّهَ لاَيَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف من الآية:52]، وقرن
الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جلّ وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج من الآية:38].
لكل غادر
لواء يُعرف به: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ
غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ " ([6])
(يرفع لكل غادر لواء) قال أهل اللغة اللواء الراية العظيمة لا يمسكها
إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش ويكون الناس تبعا له قالوا فمعنى لكل لواء غادر
أي علامة يشهر بها في الناس وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر
لتشهيره بذلك وأما الغادر فإنه الذي يواعد على أمر ولا يفي به وذكر القاضي عياض احتمالين
أحدهما نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار أو غيرهم أو غدره للأمانة التي
قلدها لرعيته والتزم القيام بها والمحافظة عليها ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو
الرفق بهم فقد غدر بعهده والاحتمال الثاني أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام
فلا يشقوا عليه الطاعة ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه والصحيح الأول.
خصومة الله له يوم القيامة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
" قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى
بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ " ([7])
(أعطى بي) عاهد باسمي وحلف.
(غدر) نقض العهد ولم يف به أو لم يبر بقسمه. (باع حرا) وهو يعلم أنه حر. (فاستوفى منه)
العمل الذي استأجره من أجله.
فضحهم
وبيانهم: قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
) [سورة آل عمران]
ما كان الله ليَدَعَكم أيها المصدقون بالله ورسوله العاملون بشرعه
على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق حتى يَمِيزَ الخبيث من الطيب، فيُعرف
المنافق من المؤمن الصادق. وما كان مِن حكمة الله أن يطلعكم -أيها المؤمنون- على الغيب
الذي يعلمه من عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق، ولكنه يميزهم بالمحن والابتلاء،
غير أن الله تعالى يصطفي من رسله مَن يشاء؛ ليطلعه على بعض علم الغيب بوحي منه، فآمنوا
بالله ورسوله، وإن تؤمنوا إيمانًا صادقًا وتتقوا ربكم بطاعته، فلكم أجر عظيم عند الله
([8]).
دخول
النار: عن قيس بن سعد بن عبادة
رضي الله عنهما قال: "لولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((المكر والخديعة في النَّار)) لكُنت من أمكَر النَّاس" ([9])
ألد
الخصام: قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
) [سورة البقرة]
وبعض الناس من المنافقين يعجبك -أيها الرسول- كلامه الفصيح الذي
يريد به حظًّا من حظوظ الدنيا لا الآخرة، ويحلف مستشهدًا بالله على ما في قلبه من محبة
الإسلام، وفي هذا غاية الجرأة على الله، وهو شديد العداوة والخصومة للإسلام والمسلمين.
من علامات الساعة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ
سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ،
وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا
الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي
أَمْرِ الْعَامَّةِ» ([10])
(سنوات خداعات) الخداع المكر والحيلة. وإضافة الخداعات إلى السنوات
مجازية. والمراد أهل السنوات. وقال في النهاية سنون خداعة أي تكثر فيها لأمطار ويقل
الريع فذلك خداعها. لأنها تطمعهم في الخصب بالمطر ثم تخلف. وقيل الخداعة القليلة المطر
من خدع الريق إذا جف. (الرويبضة) تضغير رابضة. وهو العاجز الذي ربض عن مغالي الأمور
وقعد عن طلبها. وتاؤه للمبالغة. (في أمر العامة) متعلق به ينطق.
لا قيمة
لهم ولا وزن ولا كرامة: إن الخونة يدفعون ثمناً
باهظاً جراء خيانتهم، ليس أعظمه حياتهم التي تبقى في مهب الريح وبلا قيمة عند من خانوه:
الوطن والأمة، أو من خانوا لأجله: المستعمر والعدو، فقبل أن يدفع الخونة حياتهم ثمناً
لخيانتهم يموتون آلاف المرات وهم يرون كرامتهم تُنتهك وتُداس بالأقدام من العدو الذي
مدّوا أيديهم إليه بالخيانة قبل الصديق الذي باعوه بثمن بخس. لنتصفح أوراق التاريخ
ونسأل: ماذا كان مصير العملاء عبر التاريخ؟ هل مجّد التاريخ عميلاً واحدًا؟ هل أقامت
الدول لعملائها نُصباً تذكارية أو سمت شارعاً أو مرحاضاً عاماً باسم أحد عملائها؟ هل
احترمتهم شعوبهم أم أنهم رموا في مزبلة التاريخ بعد انتهاء صلاحياتهم؟ العميل يبقى
ذليلاً قميئاً ولو وضعوا على رأسه كل تيجان العالم، ويبقى صغيراً واطئاً مهما نفخوا
في أوداجه وجعلوه رئيساً أو وزيراً. ذات يوم أراد أحدهم أن ينافق نابليون، فنقل إليه
أسراراً عسكرية حيوية عن استعدادات جيش بلاده، استقبلها نابليون بسرور بالغ، وقد ساهمت
هذه الأسرار فيما بعد في تحقيق الانتصار له في الحرب، وبعد الانتصار، استقبل نابليون
ذلك الرجل بجفاء، وأخذ كيساً من المال وألقاه إليه دون أن يترجل عن ظهر حصانه، فقال
له المنافق: "لا حاجة بي إلى المال، وأمنيتي هي أن أصافح الإمبراطور"، فقال
له نابليون: "من يخون وطنه وينافق أعداءه على حساب شعبه له المال فقط، أما يد
الإمبراطور فإنها لا تصافح إلا الأشراف المخلصين"([11]).
ثانيًا: أنواع
الخيانة
خيانة العقيدة: وعقيدتنا
لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير وأنت
مسلم خيانة لله، تعطيل فرائض الله أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه وأنت مسلم خيانة
لله. أن يكون المسلم مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد
أو دليلاً لهم على عوراتها خيانة، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]. والخيانة هنا هي خيانة
الدين لا الفاحشة، قال ابن كثير: "إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة
لحرمة الأنبياء"، قال ابن عباس: "كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما،
فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح
به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء"،
وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبيّ، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101]. ([12])
خيانة
العهد مع الله: قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
) [سورة التوبة]
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ
عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لئن أغناه الله مِن فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ مِنْ مَالِهِ وَلَيَكُونَنَّ
مِنَ الصَّالِحِينَ، فَمَا وَفَّى بِمَا قَالَ، وَلَا صَدَقَ فِيمَا ادَّعَى، فَأَعْقَبَهُمْ
هَذَا الصَّنِيعُ نِفَاقًا سَكَنَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ اللَّهَ
عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
خيانة الأعراض: ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام،
قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر
من الآية:19]، قال ابن عباس: "هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء،
فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غضَّ بصره"، فكيف بالزنا؟! وقد حرّم الله الزنا
ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: { {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32].
خيانة الكسب: المسلم الحق يحرص على الحلال
في مطعمه ومشربه، فلا غش ولا خداع ولا كذب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا،
فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ
أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ
كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ([13])
خيانة الأهل: من معاني الخيانة أن يستغل
الإنسان ما حباه الله من مواهب خصه بها أو أموال وأولاد رُزقها في معاصيه بدلاً من
تسخيرها في قرباته واستخدامها في مرضاته، ولذا عقَّب سبحانه نهيه عن الخيانة بقوله:
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال من الآية:28]، ولذا كان من الخيانة تضييع الزوجة
والأولاد، فلا يؤدبهم ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. أين الأمانة ممن ينصب في بيته أجهزة الاستقبال
الفضائي التي تفسد الشيوخ فضلاً عن الشباب، والتي تبث من البرامج ما يغضب الله عز وجل،
ويسعى جاهدًا لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وغرس تقاليد الكفار وعاداتهم ومحاربة الفضائل
الشرعية؟! أين هذا من أمانة الأولاد؟! فليتقِ الله من هذا شأنه، ولْينظر إلى حديث رسول
الله عنِ الْحَسَنِ، قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ
الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، قَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ
حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ عَلِمْتُ
أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ
يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ([14])
(يسترعيه الله رعية) يعني يفوض إليه رعاية رعية وهي بمعنى المرعية
وقوله يموت خبر ما وغش الراعي الرعية تضييعه ما يجب عليه في حقهم.
فلنراعي حقوق أبناءنا وما يجب على
نحوهم ولنتق الله فيهم فإنا مسئولون أمام الله عنهم.
خيانة العمل: عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا
قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: «فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ
أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ
يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا
خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ: «اللَّهُمَّ
هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلاَثًا ([15])
(استعمل) وظف. (الصدقة)
الزكاة. (هذا لكم) ما جمعته زكاة تأخذونه لتعطوه الفقراء المستحقين. (منه) من المال
الذي يهدى له بسبب عمله ووظيفته. (جاء به) حشر مصاحبا له. (رغاء) صوت ذوات الخف. (خوار)
صوت البقر. (تيعر) من اليعار وهو صوت الشاة. (عفرة إبطيه) بياض ما تحت الإبط وسمي عفرة
لأنه بياض غير ناصع كأنه معفر بالتراب. (ثلاثا) أي كررها ثلاث مرات.
وكذلك ما نراه من ترك العمل في
وقت العمل ، او بمجرد أن يثبت حضوره في دفتر الحضور الانصراف، ثم يترك العمل ويذهب
وغيره يوقع له ، أو يترك المعلم تلاميذه دون أن يتقي الله فيهم وقت الحصة فلا يشرح
ما يجب عليه لهم ، وإنما يقضي وقت الحصة في الحديث في هاتفه أو الحديث معهم في
أمور خارجة عن الدراسة وليس هذا محلها .... الخ.
خيانة
الجوارح: ومن الخيانة أيضًا عدم
حفظ العبد جوارحه وحواسه عن معصية الله تعالى، وجوارحنا أيها المسلمون أمانة، فلسانك
أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش
واستعملتَه في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن فعلت
ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنّبتَ نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وعيناك أمانة عندك، فإن جنبتهما النظر إلى ما حرّم الله واستعملتهما
فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى، وأذناك أمانة لديك، فجنبهما الاستماع إلى ما
يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة، واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة
الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه، إذا فعلت ذلك -أخي المسلم- فقد أديت أمانة أذنيك، ورجلاك
أمانة، فلا تمشِ بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء
والمنكر، وسِرْ بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى
الجهاد في سبيل الله، ويداك أمانة، فلا تمدَّهما إلى ما يغضب الله، واعمل بهما أعمالاً
تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة، والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرّم الله من المال.
والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم، وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس،
فقال تعالى من سورة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7]
أي: المعتدون. والمال أمانة، فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله، وأنفقه على المساكين،
وأخرج منه الزكاة. وهكذا أيها المسلمون ما وهبنا الله إياه من جوارح وعقل كلها أمانات،
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ
فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ
وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» ([16])
ثالثًا: أقوال مأثورة
عن الخيانة
لفَداحة هذه الآفة وشناعتها وبشاعتها، توارثَت الأجيال أقوالًا
وحِكمًا وأمثالًا للتَّحذير منها، ومن مَغبَّة الوقوع فيها أو التلطُّخ بأوحالها.
يقول أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه: "أكيس الكيْس التَّقوى،
وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصِّدْق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة".
قال الإمام علي رضي الله عنه: "مَن ضيَّع الأمانة
ورضي بالخيانة، فقد تبرَّأ من الديانة".
كما يقول أيضًا: أدِّ الأمانةَ، والخيانةَ
فاجتنِبْ = واعدِل ولا تظلِم يطيب المكسَبُ
وقال الفضيل بن عياض: (أصل الإيمان عندنا وفرعه
وداخله وخارجه بعد الشهادة بالتوحيد، وبعد الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ،
وبعد أداء الفرائض - صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم،
والنصيحة لجميع المسلمين)
وذكر أعرابي رجلًا خائنًا فقال: (إنَّ الناس يأكلون أماناتهم
لقمًا، وإن فلانًا يحسوها حسوًا) .
وقال الماوردي: (وأما الاستسرار بالخيانة
فضعة؛ لأنَّه بذُلِّ الخيانة مهين، ولقلة الثقة به مستكين. وقد قيل في منثور الحكم: من
يخن يهن. وقال خالد الربعي: قرأت في بعض الكتب السالفة: أن مما تعجل عقوبته ولا تؤخر:
الأمانة تخان، والإحسان يكفر، والرحم تقطع، والبغي على الناس.
ولو لم يكن من ذم الخيانة إلا ما يجده الخائن في نفسه من المذلة،
لكفاه زاجرًا، ولو تصور عقبى أمانته وجدوى ثقته، لعلم أنَّ ذلك من أربح بضائع جاهه،
وأقوى شفعاء تقدمه مع ما يجده في نفسه من العزِّ، ويقابل عليه من الإعظام) .
وقال أيضًا: (والداعي إلى الخيانة شيئان:
المهانة وقلة الأمانة، فإذا حسمهما عن نفسه بما وصفت ظهرت مروءته) .
وقال العارف المحاسبي: (ثلاثة عزيزة أو معدومة:
حسن وجه مع صيانة، وحسن خلق مع ديانة، وحسن إخاء مع أمانة) .
وقال حكيم: (لو علم مضيع الأمانة،
ما في النكث والخيانة، لقصر عنهما عنانه.
وقالوا: من خان مان ، ومن مان هان،
وتبرأ من الإحسان) .
وقال ابن حزم: (الخيانة في الحرم أشدُّ
من الخيانة في الدماء، العرض أعزُّ على الكريم من المال، ينبغي للكريم أن يصون جسمه
بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصون عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه، ولا يصون بدينه شيئًا) .
قال الأعور الشني: لا
تأمنَنَّ امرأً خان امرأً أبدًا ** إن من الناس ذا وَجهين خوَّانَا
قال الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو: "الراعي الذي يَفتخر
بالذئب لا يحبُّ الخراف".
يقول المثل الأيرلندي: "من الأفضل أن يكون
أمامك أسَد مفترس، على أن يكون وراءك كلبٌ خائن".
قال نابليون بونابرت: "مثل الذي خان وطنَه
وباع بلادَه، مثل الذي يَسرِق من مال أبيه ليطعم اللُّصوص؛ فلا أبوه يسامحه، ولا اللِّص
يكافئه".
قال الشاعر معن بن أوس:
أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يَومٍ ** فلمَّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني
وَكَم علَّمتُه نظمَ القوافِي ** فَلمَّا قالَ قافيةً هجاني
أعلمه الفُتُوَّة كلَّ وَقتٍ ** فلمَّا طَرَّ شارِبُه جَفاني
(طَرَّ: نبت).
يقول المثل الفرنسي: "الخيانة تُغفر، ولا
تُنسى".
يقول المفكِّر الإسلامي عبدالكريم بكار: "إن انشغال النَّاس
بالجزئيات والأمَّةُ تُجتثُّ من جذورها، من أعظم الخيانة لها وللمنهجِ الربَّاني الذي
كُلِّفنا بحمله".
يقول المثل الروماني: "كفى بالمرء خيانة
أن يكون أمينًا للخونة".
قال أحد الشعراء: إنَّ
الخيانةَ ليس يغسلُها ♦♦♦ مِنْ خاطئٍ دمعٌ ولا ندمُ
• ومن المؤكد أنَّ هناك الكثير والكثير من الأدبيَّات في هذا الجانب،
ولكن نكتفي بما ذُكِر للدلالة والتذكير.
رابعًا: نماذج على الخيانة
وجود الخيانة
في كل زمان ومكان، الخيانة موجودة في كل الأمم في وقت السلم، وتشتد في الحرب، ولم يسلم
منهم زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، بل لم يسلم منهم أفضل زمان بوجود أفضل رجل ورجال،
زمن النبي وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟!..
في غزوة أُحُد خرج رسول
الله في ألف من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن
أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: "أطاعهم وعصاني!" يقول: "ما ندري علام
نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟!"..
في غزوة تبوك: لما خرج
رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم وكان في الجيش بعض الخونة المنافقين فقاموا يرجفون
ويخوّفون المسلمين، فقال بعضهم: "أتحسبون جِلادَ بني الأصفر -أي: الروم- كقتال
العرب بعضهم بعضًا؟!" والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال،
ابن سبأ: فإن لابن
سبأ الخائن المنافق الدور الكبير في الفتنة العظمى التي حصلت بين الصحابة، حتى إنه
لما سعى علي رضي الله عنه بالصلح بينه وبين طلحة والزبير وساروا في ذلك، قام ابن سبأ
فيمن كان على رأيه فقال: "إنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير
وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، فإذا التقوا -يعني للصّلح- فأنشِبوا الحربَ
والقتال بينهم، ولا تدعوهم يجتمِعون"، فاختلط المنافقون بالناس، وبينما الجيشان
المسلمان يسيران إلى طريق العودة للصلح عزم الأشرار على إثارة الحرب بينهم مع طلوع
الفجر، فابتدأوا الحرب بالهجوم على من يلونهم من جيش طلحة والزبير، وثار الناس مغضبين،
وتفاجَؤوا مما حدَث، فاتّهم بعضم بعضًا، ونشب القتال الذي ذهب ضحيته خلق كثير من المسلمين.
وتستمر مكائد المنافقين الخائنين لهدم دولة الإسلام في كل زمان ومكان، والسبب هو غفلة
المسلمين عن خطر هؤلاء الخونة المنافقين،
ابن العلْقَمِي: كان وزيرًا
للخليفة العباسي المستعصم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدور الكبير في دخول
التتر إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها، والمذابح المروعة التي نتجت عن ذلك،
فقد كتب ابن العلقمي إلى هولاكو ملك التتر يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد إذا حضر
بجيشه إليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: "إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا
فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرّق العسكر"، فلما وصل الكتاب إلى ابن العلقمي
دخل على المستعصم، وزين له أن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأن التتر قد رجعوا
إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء العساكر، فاستجاب الخليفة لرأيه، وأصدر
أمرًا بذلك، فخرج ابن العلقمي بنفسه ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم،
وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، فتفرقوا في البلاد. وبعد عدة أشهر زين
للخليفة أن يسرح أيضًا عشرين ألفًا فاستجاب لطلبه، وفعل ابن العلقمي كما فعل في الأولى،
فاختارهم على عينه، كان هؤلاء الفرسان الذين سُرّحوا -كما يقول المؤرخون- بقوة مائتي
ألف فارس، ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد،
وأحسَّ أهل بغداد بمداهمة جيش التتر لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وقاتل المسلمون ببسالة،
وحلت الهزيمة بجيش التتر، ثم عاد المسلمون مؤيَّدين منصورين، ونزلوا في خيامهم مطمئنين،
فلما جاء الليل أرسل الوزير ابن العلقمي جماعة من أصحابه المنافقين الخونة، فحبسوا
مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة
ومحاطة بالوحل، وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته، فعاد هولاكو بجيشه
وعسكر حول بغداد، فلما جاء الصباح دخل جيش التتر بغداد ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا
الخليفة وابنه قتلة شنيعة، وأفسدوا أشدَّ الفساد، ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه،
فحضر بين يديه، فوبخه على خيانَتِه لسيّده الذي وثِق به، ثم قال: "لو أعطيناك
كلَّ ما نملك ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك"، فقتِل شرَّ قِتلة، {وَلَا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر من الآية:43].
الخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف
جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيدًا للسيطرة عليها وإحراز النصر، وصور الخيانة متعددة، منها
ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم، ولقد عهدت
الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائمًا كان سلاح الخيانة
يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة
النووية، وأقل كلفة، ونتائجه حاسمه، وذلك ما أكده "تومي فرانكس" قائد الحملة
العسكرية على العراق لوكالات الأنباء، ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/5/2003م؛ حيث
ذكر أن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن
الرئيسية في العراق قد تقاضوا رشاوى من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات
الأمريكية الخاصة أثناء الحرب، وجاء في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية عن
أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية أن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي
تكلفة صواريخ كروز الذي تراوح قيمته ما بين مليون و 2. 5 مليون دولار، وقال:
"إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء"، وقال: "إن
هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية".
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1]))
تفسير السعدي
[2]))
تفسير ابن كثير
[3]))
التفسير الميسر
[4]))
متفق عليه
[5]))
السلسلة الصحيحة
[6]))
متفق عليه
[7]))
صحيح البخاري
[8]))
التفسير الميسر
[9]))
السلسلة الصحيحة
[10]))
السلسلة الصحيحة
[11]))
موقع طريق الاسلام
[12]))
تفسير ابن كثير
[13]))
صحيح مسلم
[14])) صحيح
مسلم
[15])) متفق
عليه
[16]))
صحيح سنن الترمذي