التحذير من الكذب للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي تفرد بأوصاف
عظمته وكمال، وتقدس بعز كبريائه وجلاله، وتوحد بالخلق والإبداع فلا شريك له في أفعاله،
وعم كل مخلوق جزيل أفضاله ونواله، هو الأول والأخر بالقدم والبقاء، الظاهر والباطن
بالقهر والكبرياء، القدوس الصمد الغني عن جميع الأشياء، الواحد الأحد المنزه عن جميع
والأشباه والشركاء.
واشهد أن لا إله إلا الله،
وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
يا من يجيب دعاء المضطر
في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
شفع نبيك في ذلي ومسكنتي
واستر فإنك ذو فضل وذو كرم
واغفر ذنوبي وسامحني بها
كرما وقد وعد بأن ندعو تجيب لنا
وقد دعونا فجد بالعفو الكرم
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا
وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
ألا يا رسول الله يا خير
مرسل عليك صلاة الله لا تتناهى فيا فوز من صلى عليك من الورى
صلاة يعم الكون منها سناها
عليك صلاة الله يا أشرف الورى محلا ويا أعلى البرية جاها
عليك صلاة الله ما سار
راكب عليك صلاة الله ما هبت الصبا وفاح بعرف المسك طيب شذاها
وعلى اله وأصحابه ومن سار
على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم
الراحمين
العناصـــر
أولًا: حرمة الكذب
ثانيًا: مجالات الكذب وصوره
ثالثًا: دواعي الكذب وكيفية الوقاية منه
رابعًا: نماذج على عاقبة الكذب والكاذبين
الموضـــــــــــــوع
أولًا:
حرمة الكذب
لا يؤمنون بالله: قال تعالى: إِنَّمَا
يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَاذِبُونَ (105)) سورة النحل، إنما
يجرؤ على افتراء الكذب على اللَّه من لا يؤمنون بآيات اللَّه، وأولئك هم -وحدهم -البالغون
في الكذب نهايته، ولست -أيها النبي -من هؤلاء حتى يتهموك بما اهتموك به ([2]).
من صفات المنافقين: قال تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) سورة
المنافقون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ
كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) ([3])
هم الخاسرون: قال تعالى: ( الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً
كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) ) سورة الأعراف
الكذب يهدي
إلى الفجور: عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ
الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،
وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ
اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى
الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ
يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» ([4])
أتباع الشياطين: قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) ) سورة
الشعراء، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أَيْ أُخْبِرُكُمْ {عَلَى مَن تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أَيْ كذوب في قوله وهو
الأفاك {أَثِيمٍ} وهو الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَزَّلُ
عليه الشياطين من الكهان وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْكَذَبَةِ الْفَسَقَةِ،
فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَيْضًا كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ {يُلْقُونَ السَّمْعَ} أَيْ
يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ مِنْ عِلْمِ
الْغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ثُمَّ يلقونها إلى أوليائهم من
الإنس، فيحدثون بِهَا فَيُصَدِّقُهُمُ النَّاسُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ بسبب صِدْقِهِمْ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ
مِنَ السماء([5])
واختر
صديقك واصطفيه تفاخرا ... إنّ القرين إلى المقارن ينسب
ودع
الكذوب ولا يكن لك صاحبا ... إنّ الكذوب لبئس خلّا يصحب
الجزاء من جنس
العمل: قال
تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ
بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ (96) ) سورة الأعراف
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)) سورة الأعراف ، وقال
تعالى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ
كانُوا ظالِمِينَ (54)) سورة الأنفال
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ،
قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي، مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ
يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ:
أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ،
حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ:
سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ،
فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ
الأَشْهَادُ: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]
(النجوى) هي
التكالم سرا والمراد ما يقع بين الله تعالى وبين عبده المؤمن يوم القيامة من
إطلاعه على معاصيه سرا فضلا منه سبحانه. (يدني) يقرب. (كنفه) ستره وحفظه. (هلك)
باستحقاقه العذاب على ذنوبه. (الأشهاد) جمع شاهد وشهيد وهم الرسل والملائكة
والمؤمنون من الإنس والجن. (كذبوا على ربهم) بنسبة الشريك له والولد وأن الله
تعالى لا يبعثهم بعد موتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. (لعنة الله) الطرد من
رحمته والعذاب الدائم في جهنم. (الظالمين) المشركين والكافرين ومن على شاكلتهم.
لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ
مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ
الْكَاذِبِ» ([6]) ، (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) معناه
الإعراض عنهم (ولا يزكيهم) لا يطهرهم من دنس ذنوبهم (ولهم عذاب أليم) أي مؤلم قال
الواحدي هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعة (المسبل) هو المرخي إزاره الجار طرفة
خيلاء]
العذاب يوم
القيامة: قال تعالى: ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
) سورة
الذاريات، {قُتِلَ الخراصون} قال مجاهد: الكذابون،
وَالْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا نُبْعَثُ وَلَا يُوقِنُونَ، {الَّذِينَ
هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي الْكُفْرِ
وَالشَّكِّ غَافِلُونَ لَاهُونَ {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} وَإِنَّمَا
يَقُولُونَ هَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا، وَشَكًّا وَاسْتِبْعَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} قَالَ ابن عباس: يُعَذَّبُونَ، {ذُوقُواْ
فِتْنَتَكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَذَابَكُمْ {هَذَا
الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا،
وتحقيراً وتصغيراً، والله أعلم ([7]).
أصحاب النار: قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) سورة البقرة،
وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ (86) ) سورة البقرة
الويل والعذاب قال تعالى: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا
تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) ) سورة
الذاريات
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ
وَيْلٌ لَهُمْ ذَلِكَ اليوم من عذاب الله ونكاله، {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ
يَلْعَبُونَ} أَيْ هُمْ فِي الدُّنْيَا يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ وَيَتَّخِذُونَ
دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا {يَوْمَ يُدَعُّون} أَيْ يُدْفَعُونَ وَيُسَاقُونَ {إلى
نَارِ جَهَنَّمَ دَعّا} ، قال مجاهد والسدي: يُدْفَعُونَ فِيهَا دَفْعًا {هَذِهِ
النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ
ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
* اصْلَوْهَا} أَيِ ادْخُلُوهَا دُخُولَ مَنْ تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ،
{فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} ، أَيْ سَوَاءٌ صَبَرْتُمْ عَلَى عَذَابِهَا وَنَكَالِهَا أَمْ لَمْ
تَصْبِرُوا، لَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ مِنْهَا، {إِنَّمَا
تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا بَلْ
يُجَازِي كُلًّا بعمله.
وعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده قال: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِمَنْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ
لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» ([8])
يشق شدقه
بكلوب من حديد في النار: عَن سُمرةَ بنِ جُندب قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ:
«مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟» قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا
فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى مِنْكُمْ
أَحَدٌ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لَا قَالَ: " لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ
رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدَيَّ فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ
فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ
يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ فَيَشُقُّهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ
بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ
فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ: مَا هَذَا؟ ................ قَالَا: نَعَمْ أَمَّا
الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ
بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ مَا
تَرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ([9]) (الكلوب)
هو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم، والشدق هو جانب الفم ممَّا تحت الخَدّ.
ومن مضار الكذب أيضا: أن الكذب وسيلة لدمار صاحبه أمما وأفرادا، وقد
يؤدّي بصاحبه إلى النّار.
وهو سراب يقرّب البعيد ويبعّد القريب، ويذهب
المروءة والجمال والبهاء، وهو لصّ يسرق العقل كما يسرق اللّصّ المال، والكاذب مهان
ذليل، والأمم الّتي كذّبت الرّسل لاقت مصيرها من الدّمار والهلاك، ويورث فساد
الدّين والدّنيا، ودليل على خسّة النّفس ودناءتها، ويؤدي إلى احتقار النّاس له
وبعدهم عنه، ويمقت نفسه بنفسه ويحتقرها.
ثانيًا:
مجالات الكذب وصوره
الكذب في الأقوال: قال تعالى: ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ
عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (75) ) سورة آل عمران، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ بأن منهم
الْخَوَنَةَ، وَيُحَذِّرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ، فَإِنَّ
مِنْهُمْ {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أَيْ مِنَ الْمَالِ {يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ} أَيْ وَمَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأُولَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْكَ،
{وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أَيْ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْإِلْحَاحِ
فِي اسْتِخْلَاصِ حَقِّكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا صَنِيعُهُ في الدينار، فما فوقه
أولى أن لا يؤديه إليك. وَقَوْلُهُ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُودِ الْحَقِّ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي دِينِنَا حَرَجٌ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ
الْأُمِّيِّينَ (وَهُمُ الْعَرَبُ) فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لَنَا، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي
وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوها بِهَذِهِ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِحَقِّهَا وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ
بُهت.
الكذب على الله سبحانه وتعالى: قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)) الأنعام
فعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ
فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ
إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ
وَلَدًا» ([10])، (كذبني)
نسب إلى ما هو خلاف الحقيقة والواقع. (شتمني) وصفني بما لا يليق بي (فسبحاني) أنزه
نفسي. (صاحبة) زوجة]
الكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعَنِ المُغِيرَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ
مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ([11])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (
ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا
أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ
العَصْرِ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ
مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا
لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ ) ([12])
قول الزور: عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ،
وَشَهَادَةُ الزُّورِ - أَوْ قَوْلُ الزُّورِ -» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى
قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ
[(الزور) أصله تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى
يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق]
الكذب في الرؤيا أو الحلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الفِرَى أَنْ يُرِيَ
عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ» ([13]) [ش (أفرى الفرى) أشد الكذب وأكذب الكذبات والفرى جمع
الفرية وهي الكذبة الفادحة التي يتعجب منها. (يري عينه) يدعي أنه رأى رؤيا وهو لم
ير شيئا]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَنْ تَحَلَّمَ
بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ
يَفْعَلَ.....) ([14]) ، (تحلم
بحلم) تكلف الحلم أو ادعى أنه رأى حلما. (كلف) يوم القيامة. وذلك التكليف نوع من
العذاب. (يعقد) يوصل. (لن يفعل) لن يقدر على ذلك وهو كناية عن استمرار العذاب عليه.
الكذب
في إظهار الفضل وادِّعاء ما ليس له: عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ
ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ» ([15])
الكذب
في البيع والشراء: كالذي يُخفي عن الناس عيوب سلعته، أو يعتمِد الحلف والإيمان أداةً له في
ترويج بضاعته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (اليمين الكاذبة
مُنفقة للسلعة مُمحقة للكسب) ([16])
الكذب بقصد المزاح والسخرية: عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده
قاء ل: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِمَنْ يُحَدِّثُ
فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» ([17])
الكذب
لإفساد ذات البين: قال تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (سورة محمد
الكذب في الأفعال: يقول الشّيخ الميدانيّ: فقد يفعل الإنسان فعلا
يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبّر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل
المخادعة بالفعل مثلما تكون المخادعة بالقول، وربّما يكون الكذب في الأفعال أشدّ
خطرا وأقوى تأثيرا من الكذب في الأقوال. ومن أمثلة ذلك ما حكاه الله لنا من أقوال
وأفعال إخوة يوسف- عليه السّلام- قال تعالى: (
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا
إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا
عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) )
فجمعوا بين كذب القول وكذب الفعل([18]).
وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ
فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ (108) ) التوبة
حالات يجوز
فيه الكذب: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ
عُقْبَةَ، أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،
فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» ([19])
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ
بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، اللَّاتِي
بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا
سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَيْسَ
الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي
خَيْرًا» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا
يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ
النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا) ([20])
قال ابن باز رحمه الله: ففي الحرب لا مانع من الكذب الذي ينفع
المسلمين، ولا يكون فيه خداع، ولا يكون فيه غدر للكفار، لكن يكون فيه مصلحة
للمسلمين، كأن يقول أحدهم في للجيش: نحن راحلون غدًا إن شاء الله إلى كذا
وكذا، أو يقول: نحن سنتوجه إلى الجهة الفلانية؛ ليعمي الخبر على العدو حتى يفجأهم
على غرة إذا كانوا قد بلغوا وأنذروا ودعوا قبل ذلك فلم يستجيبوا وعاندوا، قد ثبت
عنه ﷺ أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها فالمقصود: أن الكذب الذي ليس فيه غدر ولا
خداع ولكن فيه مصلحة للمسلمين لا بأس به في الحرب
وهكذا في الإصلاح بين
الناس، بين قريتين أو جماعتين أو قبيلتين أو شخصين يصلح بينهم بكذب لا يضر
أحدًا من الناس ولكن ينفع هؤلاء، كأن يأتي إحدى القبيلتين فيقول: إن إخوانكم
يعني: القبيلة الأخرى يدعون لكم ويثنون عليكم ويرغبون في الإصلاح معكم، ثم يذهب
للأخرى فيقول مثل ذلك، ولو ما سمع منهم هذا؛ حتى يجمع بينهما، وحتى يصلح بينهما،
وحتى يزيل الشحناء التي بينهما، وهكذا بين جماعتين أو أسرتين أو شخصين يكذب
كذبًا لا يضر أحدًا من الناس، ولكنه ينفع هؤلاء، ويسبب زوال الشحناء،
هذا هو الإصلاح بين الناس.
وأما الرجل مع زوجته
فالأمر فيه واسع، إذا كان الكذب لا يضر أحدًا غيرهما إنما فيما بينهما فلا
بأس بذلك، أن تقول: أنا سوف أفعل كذا، وسوف لا أعصيك أبدًا، وسوف أشتري هذا الشيء،
وسوف أعمل في البيت هذا الشيء، وهو يقول كذلك فيما سيتعلق بهما لإرضائها: سوف
أشتري لك كذا وكذا، سوف أفعل كذا وكذا، يتقرب إليها بأشياء ترضيها وتنفعها وتجمع
بينهما وهي كذلك في أشياء تتعلق بهما خاصة ليس في ذلك كذب على أحد من الناس، نعم.
ثالثًا: دواعي الكذب
وكيفية الوقاية منه
دواعي الكذب
1-اجتلاب النّفع واستدفاع الضّرّ، فيرى الكذّاب
أنّ الكذب أسلم وأغنم، فيرخّص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطّمع.
2- أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذبا، وكلامه
مستظرفا، فلا يجد صدقا يعذب ولا حديثا يستظرف، فيستحلي الكذب الّذي ليست غرائزه
معوزة، ولا طرائفه معجزة.
3- أن يقصد بالكذب التّشفّي من عدوّه فيسمه
بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.
4- أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتّى
ألفها، فصار الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة.
5- حبّ التّرأّس، وذلك أنّ الكاذب يرى له فضلا
على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبّه بالعالم الفاضل في ذلك، وغير ذلك من الأمور.
كيفية الوقاية منه
أ- معرفة أنه من كبائر
الذنوب، وأن عاقبته وخيمة، وأن الله لا يحب الكاذبين.
ب- مراقبة الله في كل تصرفاتنا
فتذكر دائمًا قول الله عز و جل ) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(سورة ق ، فدائمًا كن على دراية بأن كل ما تقوله او تفعله يعلمه الله
وان الكذب يعرضك الى سخط من الله عز و جل.
ج- الحياء من ملائكة
الرحمة الموكلين بكتب ما ينطق به ابن آدم، فتستحي منهم أن يكتبوا في صحائفهم
افتراءك للكذب.
د- سؤال الله كثيراً بذل
وإلحاح أن يجعلك صادق اللهجة، وأن يبغض إليك الكذب ويصرفه عنك.
ذ- طلب العلم النافع،
فإنه يقرب إلى الله تعالى، ويقضي على أسباب الكذب والتي منها: عدم إقدار الله حق
قدره بالجهل بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومنها: الخوف من غير الله خوفاً لا يكون إلا
لله، ومنها: عدم التوكل على الله، وغير ذلك من الأسباب.
ر- صحبة الصالحين، فإن
صحبتهم تغري بالصلاح، والصاحب ساحب، والطباع سراقة، ففتش عن الشباب المؤمن
المستقيم، وانخرط في سلكهم، وتعاون معهم على الخير، فستنفعك صحبتهم وستتغير طباعك
وأخلاقك الذميمة إن شاء الله.
ز-لتعرف مدى قبح الكذب قم بالنظر الى كذب الآخرين
وكيف تنفر منه وتستقبح كذبه وتخيل مدى نظرة الناس اليك
س-الاعتراف والشعور بالخطأ وسوء ما نقوم بفعله
والخوف من الله.
ش- الكذب ليس الحل
و إنما هو يؤدي الى المزيد من التعقيدات و بخاصة في حال اكتشاف الكذب حيث يصبح
الشخص الكاذب ساقط من أعين البشر جميعًا و ليس موضعًا للثقة منهم
.
ما السبب لممارسة عادة الكذب ايًا كان السبب فمهما
كان ما تحصل عليه من الكذب فالألم من اجل الصدق افضل فالصدق منجي على المدى البعيد.
ص- الكذب صفة تكتسب و لا تكون من الصفات الطبيعية
في الشخص لذا ابحث في نفسك كيف اصبحت تمارس الكذب و لما , فلكي تتخلص من اي داء
ايًا كان يجب أن تصل الى اسبابه لتقضي عليها اولًا حتى تقضي على تلك العادات او
الداء البغيض و يمكن أن يساعدك ان تضع نصب عينيك دائمًا آية او حديث يذكرك بعواقب
الكذب مما يرهبك و يساعدك على الامتناع عن الكذب .
ض- اعلم دائمًا ان تأثير الكذب لا يطال بمفردك بل
ينعكس و يؤثر على كل من حولك و بخاصة الاطفال فالطفل يقلد الكبار و بخاصة والديه و
من يكونون مقربون منه فإذا مارسوا الكذب امامه فعل مثلهم لذا عندما تفكر في الكذب
تذكر جيدًا أن ابنك الصغير او اخيك و كل من يتأثر بك سيصبح مثلك.
ط- يجب أن تعلم جيدًا ان حبل الكذب قصير مهما
طالت مدة كذبك فهي غالبًا ستنكشف و عندها لن ترى من الناس الا الشك و الريبة في
نظراتهم و افعالهم .
ظ- يجب أن تكون صادقًا مع نفسك اولًا حتى تبدأ
بتغيير نفسك و تتخلص من تلك العادة السيئة و تعد نفسك اولًا بعدم تكرار ذلك الخطأ
فالشجاعة ليست فقط الاعتراف بالخطأ و إنما عدم تكرار هذا الخطأ
ع- يجب أن تعلم جيدًا أن التخلص من العادات يحتاج
الى الوقت والتدرج ولكن لا يجب الانتظار بل يجب البدأ فورًا واتخاذ القرار بالتخلص
والامتناع عن تلك العادة مهما كان، فالكذب مهما كان منجي في وقته فعواقبه على
المدى البعيد اسوء و اشد تأثيرًا و تشويهًا لصورتك .
غ- تخيل ما يمكن أن
يحدث من سوء اذا قمت بقول الصدق حتى تسهل على نفسك مواجهة الناس وقول الحقيقة مهما
كانت عواقبها المؤقتة .
رابعًا:
نماذج على عاقبة الكذب والكاذبين
ثلاثة نفر من بني إسرائيل: عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "
إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى
الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ،
وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ،
فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، - أَوْ قَالَ: البَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ
الأَبْرَصَ، وَالأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ: البَقَرُ
-، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى
الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ،
وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ
وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:
البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا،
وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ
اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ
اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ
الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا،
فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ
مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ
رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ
اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ
الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي
سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ
كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ
النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ
كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ،
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ
لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ
كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ،
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي
سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ
بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ:
قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي،
فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ
لِلَّهِ، فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ " ([21])
ومعنى: (بدا لله) أراد أن يظهر ما سبق في علمه.
(يبتليهم) يختبرهم. (ملكا) أي بصورة إنسان. (هو شك) أي إسحاق بن عبد الله راوي
الحديث. (عشراء) الحامل التي أتى على حملها عشرة أشهر من يوم طرق الفحل لها ويقال
لها ذلك إلى أن تلد وبعدما تضع وهي من أنفس الأموال عند العرب. (والدا) ذات ولد أو
حاملا. (فأنتج هذان) أي صاحب الإبل والبقر وأنتج من النتاج وهو ما تضعه البهائم.
(صورته وهيئته) أي التي كان عليها. (الحبال) الأسباب التي يتعاطاها في طلب الرزق.
(أتبلغ به) من البلغة وهي الكفاية. (لكابر عن كابر) وفي رواية شيبان (وإنما ورثت
هذا المال كابرا عن كابر) أي ورثته عن آبائي وأجدادي حال كون كل واحد منهم كبيرا
ورث عن كبير. (ابن سبيل) منقطع في سفره. (لا أجهدك) لا أشق عليك في منع شيء تطلبه
مني أو تأخذه].
اليهود مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم:عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ اليهود
جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أنّ رجلا منهم وامرأة زنيا،
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تجدون في التّوراة في شأن الرّجم؟»
فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إنّ فيها الرّجم، فأتوا
بالتّوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرّجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال
له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرّجم. فقالوا: صدق يا محمّد. فيها آية الرّجم. فأمر بهما رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فرجما. قال عبد الله: فرأيت الرّجل يجنأ على المرأة يقيها
الحجارة» ([22])
أهل الكوفة: عن جابر بن سمرة قال: «شكا أهل الكوفة سعدا إلى
عمر- رضي الله عنه- فعزله، واستعمل عليهم عمّارا فشكوا حتّى ذكروا أنّه لا يحسن
يصلّي. فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق. إنّ هؤلاء يزعمون أنّك لا تحسن تصلّي. قال
أبو إسحاق: أمّا أنا والله فإنّي كنت أصلّي بهم صلاة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم ما أخرم عنها: أصلّي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخفّ في الأخريين. قال: ذاك الظّنّ بك يا أبا إسحاق.
فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلّا سأل
عنه، ويثنون معروفا حتّى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن
قتادة يكنّى أبا سعدة. قال: أما إذ نشدتنا فإنّ سعدا كان لا يسير بالسّريّة، ولا
يقسم بالسّويّة، ولا يعدل في القضيّة. قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث: اللهمّ
إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرّضه بالفتن، وكان
بعد إذا سئل يقال: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته
بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنّه ليتعرّض للجواري في الطّرق يغمزهنّ» ([23])
نسأل
الله تعالى أن يرزقنا الصدق في أقوالنا وأفعالنا وجميع أحوالنا، ويجنبنا الكذب
ويصرفنا عنه، انه على كل شيء
قدير وبالإجابة جدير وهو نعم المولى ونعم النصير
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
%%%%%%%%