خطورة الكذب والشائعات د. خالد بدير




عناصر الخطبة:
العنصر الأول: قوام الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد
العنصر الثاني: خطورة الكذب وأثره على الفرد والمجتمع
العنصر الثالث: خطورة الشائعات وأثرها على الفرد والمجتمع
المقدمة:                                                            أما بعد:
العنصر الأول: قوام الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد
عباد الله: إن الدين الإسلامي الحنيف حارب الفساد منذ اليوم الأول لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم, فالإسلام ذاته ثورة ضد الفساد, بدءا من فساد العقيدة؛ فقد جاء ليحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, وجاء ليقضى على الأخلاق الذميمة والعصبيات الجاهلية, وينشر بدلا منها, الأخلاق القويمة الحميدة, وتكون العصبية للدين وحده, جاء ليقضى على كل مظاهر الفساد الاقتصادية والاجتماعية ويؤصل بدلا منها كل ما هو حسن وكل ما من شأنه أن ينهض بالأمة ويجعلها رائدة العالم كله.
ولقد جاءت الشريعة الإسلامية السمحة لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وهذا هو الهدف من بعثة الأنبياء عليهم السلام؛  حيث كان الإصلاح هو سبيل أئمة المصلحين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو منهجهم، فشعيب عليه السلام يقول لقومه: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود: 88]، وأوصى موسى عليه السلام أخاه هارون فقال: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف: 142]، فالله عز وجل نهى عن الإفساد فقال سبحانه: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56]، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين فقال مبيناً حال بعض الناس: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: 205]، وأمر بالإحسان ونهى عن الفساد فقال: { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وبين جل وعلا الفارق العظيم بين أهل الإصلاح وأهل الفساد فقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28].
وأضاف الله الإفساد إلى المنافق فقال:{وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (البقرة/ 205) يقول ابن جرير الطّبريّ في تفسيره لهذه الآية:” اختلف أهل التّأويل في معنى الإفساد الّذي أضافه الله- عزّ وجلّ- إلي هذا المنافق: فقال: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطّريق، وإخافته السّبيل كما حدث من الأخنس بن شريق. وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرّحم وسفك دماء المسلمين … وقد يدخل في الإفساد جميع المعاصي، وذلك أنّ العمل بالمعاصي إفساد في الأرض، فلم يخصّص الله وصفه ببعض معاني الإفساد دون بعض.”أ.ه
وفي سياق التشريع القانوني وضعت أشد عقوبة وأقساها في الإسلام ضد المفسدين في الأرض يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33]، ولهذا قاوم الرسول صلى الله عليه وسلم المفسدين ونكل بهم وعاقبه أشد العقوبة؛ فعن أنس بن مالك قال: ” سألني الحجاج قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلت : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عمدوا إلى الراعي فقتلوه واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا ” [البخاري ومسلم ]. هذا في سياق من يقطعون الطريق أمام إعمار الأرض وإصلاحها وازدهارها؛ ويسعون في الأرض فسادا !!
عباد الله: لقد أوجب الإسلام على كل مسلم أن يسعى للإصلاح في الأرض لا للإفساد فيها، وهذا أمر الله -عز وجل- قال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}[سورة الأعراف : الآية 56 ] ، وجاءت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك .
فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيت على راع فناد ثلاث مرّات، فإن أجابك وإلّا فاشرب من غير أن تفسد، وإذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب البستان ثلاث مرّات. فإن أجابك وإلّا فكل من غير أن تفسد» )( أحمد والحاكم وصححه).
وفي مجال الإنفاق حثنا صلى الله عليه وسلم على عدم الإفساد في النفقة؛ فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك. لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا» ( البخاري ومسلم واللفظ له).
وفي مجال الزواج حثنا – صلى الله عليه وسلم – على التيسير في الزواج وحسن الاختيار حفاظاً على الأعراض ودرءاً لمفاسد العنوسة وتأخر الزواج؛ وسداً لأبواب الحرام والفواحش؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»( الترمذي وحسنه).
كما حثنا – صلى الله عليه وسلم – على إصلاح ذات البين؛ وحذرنا من فسادها لأنها تحلق الحسنات وتدمر المجتمع؛ فعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟” قالوا: بلى، قال: “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين” (أبو داود بإسناد صحيح). وغير ذلك كثير من الأحاديث التي حفلت بها السنة المطهرة – والتي تدعو إلى الإصلاح وتنهى عن الفساد في كل مجالات الحياة – مما لا يتسع المقام لذكرها؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق.
إن الإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له، لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل -عليهم السلام- الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله -عز وجل-، جاءوا ليسعدوا الناس، ولينشروا الخير بينهم، والفلاح والصلاح، وإن الإفساد في الأرض له ضرر عظيم على البلاد والعباد، وحتى على الحيوانات، والبر والبحر؛ والطيور والدواب؛ فكلٌ يتضرر من إفساد العباد في الأرض، قال أبو هريرة – رضي الله عنه- :” والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم ” (القرطبي) والحبارى: نوعٌ من الطيور . وقال مجاهد رحمه الله: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَنَة – أي : القحط – وأمسك المطر , وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم وفساده في الأرض . وقال عكرمة رحمه الله : إن دواب الأرض وهوامها ، حتي الخنافس والعقارب يلعنون المفسد ويقولون : مُنعنا القطر بذنوب بني آدم .لذلك تفرح الطيور والدواب والشجر بموت العبد الفاسد الفاجر؛  فقد قال صلى الله عليه وسلم :”إذا مات العبد الفاجر استراح منه العباد والبلاد والشجر والدواب .” (مسلم).
العنصر الثاني: خطورة الكذب وأثره على الفرد والمجتمع.
عباد الله: الكذب من أخطر الخصال الذميمة التى نهى عنها الشارع الحكيم؛ فهو مستقبح شرعاً وعقلاً، وتأباه الفطرة السليمة، فإنك ما زلت توقر المرء ما دام صادقاً فإن كذب سقط من عينك. وللكذب عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع؛ وقد عدد الإمام ابن القيم رحمه الله خطورة الكذب ومفاسده فقال: ” الكذب متضمن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد، ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شر، وفساد الأعضاء لسان كذوب، وكم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وتقطعت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذلَّ به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدواً مبيناً، ورد الغني العزيز مسكيناً، وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية”( مفتاح دار السعادة)
لذلك ينبغي عليك وعلى ولدك عدم مصاحبة الكذاب. قال صالح بن عبد القدوس:
واختر صـــــــــــــديقاً واصـــــطفـيه تفاخراً   ***    إن القرين إلى المقـــــــــــــارن ينــــــــــسب
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحباً   ***    إن الكذوب لبئس خلاً يصحب
أحبتي في الله: إن خطورة الكذب لم تقتصر على الحياة الدنيا فقط؛ بل لها عواقب وخيمة وحسرة وندامة على صاحبها يوم القيامة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ” ( مسلم ) ، والكذاب يُعذب في قبره قبل يوم القيامة، روى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب – رضي الله عنه –  أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في حديث الرؤيا الطويل: «  فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ, وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ أَيْ يَقْطَعُ, وَمَنْخِرَاهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنَاهُ إِلَى قَفَاهُ, قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ, فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ, فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ, ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى » فسأل عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقيل له: « إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ »؛ فضلا عن أن الكذب طريق إلى النار؛ كما أن الصدق طريق إلى الجنة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :” إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا . وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ” (البخاري ومسلم).
عباد الله: مما ينبغي التنبيه عليه: أن النكت وهي قصص مكذوبة يقصد بها إضحاك الآخرين داخلة في الكذب المنهي عنه؛ فكثير من الناس يؤلف نكت مكذوبة على رجالٍ معينين أو فئة أو صاحب مهنة؛ ليسخر منهم ويُضحِكَ الآخرين؛ كأن يقول: ( واحد صعيدي فعل كذا كذا…….)؛ ثم يتمايل الجميع من الضحك؛ يظنون أن هذا مباح!! وحسبك أن الله توعدهم هو ورسوله بالويل!
فعن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه قال ؛ قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:” ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ لِيُضحِكَ بهِ القومَ فيكذِبَ ، ويلٌ لهُ ، ويلٌ له” ( أبوداود والترمذي وحسنه).
وليس معنى ذلك أن الإسلام يدعوك إلى العبوس والكآبة والحزن؛ كلا ؛ إن الإسلام أباح المزاح شريطة أن يقول حقا وصدقا؛ وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه ويداعبهم ولا يقول إلا حقا؛ وشواهد ذلك كثيرة.
فعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْمِلْنِي، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ»!؟. ( أبو داود والترمذي وحسنه). فكان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مداعبة للرجل ومزاحاً معه ، وهو حق لا باطل فيه .
وروى الترمذي عن الحسن قال : أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز . قال : فَوَلَّتْ تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ( الواقعة : 35 ؛ 36 ).
وهنا يتساءل الصحابة عن ذلك مخافة وقوعهم في الكذب؟! فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله : إنك تداعبنا؟! قال”:  نعم ، غير أني لا أقول إلا حقا ” ( الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح).
أحبتي في الله: ومن الأمور التي أحببت أن أنبه أحبابي وآبائي وإخواني وأبنائي عليها؛ أن كثيرا من الناس يعتقد أن في الإسلام كذبا أبيضا وآخر أسودا ؛ أي كذبة بيضة وكذبة سودة؛ وهذا ليس من الشرع في الشئ؛ فالكذب كله محرم؛ صغيره وكبيره؛ قليله وكثيره؛ إلا ما رخص فيه الشرع الحكيم من أجل المصلحة وذلك في ثلاث حالات: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت :” رخَّصَ النبِيُّ مِنَ الكَذبِ في ثلاثٍ : في الحربِ ، وفي الإصلاحِ بين الناسِ ، وقولِ الرجلِ لامرأتِهِ . وفي روايةٍ: وحَدِيثِ الرجلِ امرأتَهُ ، وحَدِيثِ المرأَةِ زوجَها” ( أحمد بسند صحيح).
عباد الله: إن الإسلام حرم الكذب حتى على الحيوانات التي لا تعقل؛ فلا يجوز لك أن تكذب عليها؛ وإليكم قصة في هذا الشأن.
روى العلامة المعلمي اليماني في كتابه الأنوار الكاشفة :” أن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه؛ فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت؛ يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها؛ فلاحظوا أن المخلاة فارغة؛ فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب! كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيراً !! والواقع أنه ليس فيها شيء!! فرجعوا ولم يسمعوا منه. وقالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث!!”
العنصر الثالث: خطورة الشائعات وأثرها على الفرد والمجتمع
عباد الله: الشائعات من الأمراض الاجتماعية المدمرة التي ابتليت بها الأمم ؛ والشائعات هي : ” الأحاديث والأقوال والأخبار التي يَتناقلُها الناس، والقَصص التي يَروونها، دون التثبُّت مِن صحَّتها، أو التحقُّق مِن صِدقِها”، ويكون منشأ هذه الشائعات – غالبًا -: خبرًا مِن شخص، أو خبرًا مِن جريدة، أو مِن مَجلَّة، أو خبرًا من إذاعة، أو خبرًا من تلفاز، أو خبرًا من رسالة خطِّية، أو خبرًا من أي وسيلة حديثة من وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة .
 فكثير من الناس وللأسف لا يتثبتون في نقل الأخبار ؛ ويصدرون الخبر؛ قال بعضهم: أو زعموا أو أكدت مصادر مطلعة أو أو إلخ ؛ وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصيغ المجهولة والتي تؤدي إلى فساد المجتمع فقال -: “بئس مَطِيَّة الرجل: “زعموا” [أبو داود والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح] ؛ هذه الكلمة التي يبدأ بها مروج الإشاعات، فهو حتماً لم يتثبت من الأمر؛ هدفه من نشر الأخبار إما المصلحة المادية أو الحصول على منصب؛ أو الظهور الإعلامي؛ أو مجارات الناس وكسب ودهم بقذف الناس والخوض في أعراضهم؛ أو غرس الفتنة بين أفراد المجتمع.
أحبتي في الله: إن نقل الأخبار الكاذبة والشائعات دون التثبت منها مرض اجتماعي خطير له أثر خبيث في إفساد القلوب، وإثارة الشحناء، ونشر العداوات،، ذلكم المرض هو مرض الإشاعات، أو مرض الشائعات، الإشاعات المختلقة فيسمعون كلمة واحدة، فيزيدون عليها مائة كلمة، ثم ينقلها الناس في الآفاق، وينقلها بعضهم إلى غيرهم حتى تصبح إشاعةً يسير بها بين القاصي والداني، ويؤدي إلى توهين العزائم؛ بالإضافة إلى الأذى الذي يحدثه في أعماق النفوس!!
وما أكثر هذا في عصرنا!! لأن ما يُنشر في الصحافة أو في الإذاعة أو في التلفاز وفي جميع وسائل الإعلام الحديثة؛ يصل العالم كله كالبرق الخاطف!!.. يطير طيراً !! فمن أمانة الكلمة ومن حفظ الكلمة ألا تنقل من الأخبار إلا ما ثبت عندك، وأن تكون صادقاً في نقل ما ثبت، فليس كل خبر يصلك صحيحاً مطابقاً للواقع، وليس كل امرئ مأموناً على نقل الأخبار، فبعض الناس لهم عادة الزيادة في الكلام، وبعضهم له عادة الإنقاص منه، وبعضهم يضفي عليه عاطفته، وبعضهم يزيد فيه رأيه، وقليل من الناس من يضبط ما نقل!!
وعليك أن تكون حكيما في تعاملك مع من نقل إليك خبراً ؛ ولنا في سلفنا الصالح القدوة الحسنة؛ فقد جاء رجل لعمر بن عبد العزيز في يوم يقول له: يا أمير المؤمنين إن فلانا يقول عليك كذا !! قال له عمر: حسنا سننظر في أمرك، فإن كنت كاذباً صدق فيك قول المولى عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]. وإن كنت صادقا فأنت ممن قال فيهم: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 11)؛ وإن شئت عفونا عنك، فقال الرجل: العفو يا أمير المؤمنين العفو.. هكذا يجب التعامل مع ما نقل إليك من أخبار وشائعات!!..
ولا يخفي علينا أكبر شائعة عرفها التاريخ وهي شائعة الإفك التي رميت بها زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – عائشة العفيفة ابنة الصديق الطاهرة، لنأخذ منها العبرة والعظة والقصة معروفة ومشهورة!! قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النور: 19)؛ ومعلوم أن هذه الآية نزلت في شيخ المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول؛ وذلك في حادثة الإفك حين العودة من غزوة بني المصطلق؛ حينما رمى السيدة عائشة بكلام فحواه وقوعها في الفاحشة مع صفوان بن المعطل؛ غير أن ابن سلول لم يذكر ذلك صراحة ولم تقم عليه البينة أو الدليل؛ وهذا من خبثه ومكره ؛ كيف لا وهو زعيمهم؟! لذلك لم يُقِم الرسول الحد عليه وأقامه على الباقين؛ قال الدكتور البوطي في فقه السيرة:” فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بأولئك الذين تفوّهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف وهو ثمانون جلدة؛ وليس في هذا من إشكال؛ إنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسييرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبيّ بن سلول، والسبب، كما قال ابن القيم: أنه كان يعالج الحديث من الإفك بين الناس بخبث، فكان يستوشي الكلام فيه ويجمعه ويحكيه في قوالب من لا ينسب إليه؛ وأنت خبير أن حد القذف إنما يقع على من يتفوّه به بصريح القول.” أ.ه
ومن صور الشائعات ما فعله المرجفون في غزوة أحد وإشاعة مقتل النبي – صلى الله عليه وسلم – في المشركين والمسلمين‏؛‏ وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة الذين لم يكونوا مع رسول الله  – صلى الله عليه وسلم- ، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضي والاضطراب، ولكن ثبت جماعة من الصحابة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وفقهوا الدين وعاشوا لحظات المصيبة بكامل عتادهم الإيماني، ونظرتهم الشاملة لنصرة دين الله، والاستمرارية التامة لإعلاء كلمة الله حتى آخر لحظة، فكانوا يبثون الحماس في نفوس اليائسين ويقولون: إذا كان رسولكم قد مات فقوموا فموتوا على ما مات عليه !!!
ومن صور الشائعات – أيضاً- استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }  [آل عمران:144].
وهناك صور كثيرة للشائعات على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما فعل المرجفون وأعداء الإسلام في حادثة تحويل القبلة؛ ومنع المرتدين للزكاة باعتبارها كانت تؤدى للرسول – صلى الله عليه وسلم – فحاربهم أبو بكر ؛  وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره.
عباد الله: إن ضرر الشائعات يعدو من الضرر الفردي إلى ضرر اجتماعي عام، وقد رأينا كيف تحولت بعض الكلمات الصغيرة إلى شائعات، ثم إلى أحداث، ثم إلى قتل وتخريب وتدمير؛ ثم إلى دماء وأشلاء، ثم إلى تأخير فى نهضة هذا الوطن وانبعاث حضارته.
الشائعات كم  دمرت من مجتمعات وهدمت من أسر، وفرقت بين أحبة.
الشائعات كم أهدرت من أموال، وضيعت من أوقات.
الشائعات كم أحزنت من قلوب، وأولعت من أفئدة، وأورثت من حسرة.
الشائعات كم أقلقت من أبرياء، وكم حطمت من عظماء وأشعلت نار الفتنة بين الأصفياء.
الشائعات  كم نالت من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟!
الشائعات كم أثارت فتناً وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، ، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
الشائعات  كم هزمت من جيوش، وكم أخّرت  في سير أقوام .
الشائعات ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في عرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس.
الشائعات والأراجيف تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص بل قد تكون مِعْوَل هدم للدين من الداخل أو الخارج، فهي أشد من القتل؛ وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 191] ويقول في آية أخرى { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 217]. أكبر من القتل لأن القتل يقع على نفس واحدة ويهدر نفساً معصومة أما الفتنة أو الإشاعة فإنها تهدم مجتمعاً بأكمله وتقضي على كل الفضائل فيه ؛ فالإشاعة بنت الجريمة وأشد من القتل ؛ وخطرها لا يقل خطراً عن خطر المخدرات والآفات ؛ وإذا كان هناك من يسعى إلى خلط الأوراق وتدمير البلاد بالتفجيرات واستهداف التجمعات وتفخيخ الأماكن العامة والمساجد والطرقات؛ فإن هناك أيضاً من ينحر المسلمين بنشر الإشاعات ويوهن عزائمهم بتلفيق المعلومات وكل هذا وهذا مرفوض وغير مقبول به.
عباد الله: إن المسلم العاقل يجب عليه أن يتثبت من المعلومات إذا سمعها ويتأكد من صحتها قبل نشرها ويوزن الكلام بميزان العقل الصحيح السليم قبل أن يقوله ويذيعه؛ لا أن يسارع في نشر الإشاعات وتلفيق الأراجيف والكاذبات فإن الله سبحانه وتعالى يقول :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
ولنا في رسول الله أسوة حسنة في تثبته من الأخبار ؛ حيث أنه في غزوة الخندق أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- السعدين للتأكد من نقض اليهود للعهد. بل ذهب بنفسه ليستيقن الخبر .
من كل هذه المواقف نتعلم أنه عندما تشاع شائعة عن أحد أمامنا يجب أن نحسن الظن بالآخر وألا نصدق ناقل الإشاعة وأن نبغضه في الله؛ لأنه بغيض إلى الله ورسوله؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ.”(أحمد والطبراني بسند صحيح).
أحبتي في الله: عليكم بالوحدة والاجتماع ؛ وعدم الانسياب وراء الشائعات والدعوات الهدامة ؛ التي تدعو إلى الفساد والإفساد وهدم البلاد والعباد؛ وعلينا أن نتكاتف جميعاً – رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً – من أجل بناء وطننا وحضارتنا العريقة !!!
اللهم طهر قلوبنا من النفاق ؛ وأعمالنا من الرياء ؛ وألسنتنا من الكذب ؛ وأنفسنا من الخديعة ؛ اللهم احفظ مصرنا وشعبها من كل مكروه وسوء ؛ واجعل بلدنا أمناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين ؛؛؛
الدعاء،،،،                                     وأقم الصلاة،،،،                                  

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات