أسباب بناء الأمم ودور الفرد فيها للشيخ السيد أبو أحمد




      

الحمد لله رب العالمين .. كرم الإنسان وفضله علي سائر الخلق فقال تعالي}وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70){الإسراء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. سخر للإنسان كل الإمكانات لعمارة الأرض فقال تعالي }وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13){ الجاثية. 
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ...قام ببناء إنسان العقيدة فحرر الإنسان من عبادة العباد إلي عبادة الله رب العباد ،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلاّ بلّغه, فتح الله به أعيناً عُمياً، وآذانا صُماً، وقلوباً غُلفاً, وهدى الناس مِن الضلالة، ونجّاهم مِن الجهالة, وبصّرهم مِن العمى, وأخرجهم مِن الظلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أَولِي النُّهى، وأعلام الهدى، ومصابيح الدُّجَى، والتابعين لهم بإحسان، ومَن تبِعهم واقتفَى أثرهم وسلم تسليما كثيرا . .... 
أما بعد : فيا أيها المؤمنون ..
كان المجتمع قبلَ الإسلام أشبهُ ما يكون بالغابة الواسعة المُظلِمة يَتِيه فيها "القوم"، قويُّهم يأكل ضعيفَهم، لا يعرفون طريقًا يَهدِيهم إلى الخروج من تلك الغابة، ولا يستأنسون بمُرشِد يُرشِدهم إلى طريق الصواب، فالقدرات البشرية معطَّلة أو ضائعة لم يُنتَفع بها، ولم تُوجَّه التوجيهَ الصحيح السليم، فكانت وبالاً على أصحابِها وعلى الإنسانية جمعاء. 
 فعمت الفوضي وانتشر الظلم ، والفساد بعبادة الأصنام ، وشرب الخمور، وأكل الميتة ، ووأد البنات ، وبالجملة لم تكن هناك فضائلُ تُذكَر أو تُعَدُّ، فصار الخير شرًّا، وتبدَّل ظلامًا وعتمةً، عمَت القلوب، وطمست الأبصار عن جادة الطريق. 
وإزاءَ تلك الصورة القاتمة لهذا المجتمع الجاهلي الذي عاصره الرسول الكريم، كان لزامًا عليه، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقوم ببناء وعمارة هذا المجتمع ، ليكون مجتمعا فاضلا يشعر فيه "الإنسان" من جديد بكِيانِه وكرامته وقيمته، ويُدرِك حقيقةَ وجودِه على الأرض، يشعر بالانتماء لعقيدته ووطنه ، ويعتز بالانتساب إلي هذه العقيدة ، فيعمل جاهدا من أجل تحقيق غايته في الوجود ، وهي عبادة الله تعالي ومعرفته ، وعمارة الأرض ،وتحقيق الخلافة في الأرض . 
وعمارة الأرض هي: التمكين ، كما هو واضح من قوله سبحانه:}وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10){ )الأعراف). 
لذلك كان لزاما علينا أن نتعرف علي (أسباب بناء الأمم ودور الفرد فيها).  وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية منها ..
1ـ البناء العقائدي للإنسان.
2ـ البناء الإجتماعي.
3ـ البناء الإقتصادي.
4ـ الخاتمة.
العنصر الأول : البناء العقائدي للإنسان:ـ
البناء العقائدي الذي يهدف من خلاله بناء الإنسان الذي يقوم علي عاتقه بناء الدولة لأن بناء الإنسان مقدم علي بناء الدول ،فهو مطلب إنساني وأيضا مطلب قرآني ، لذلك بدأ النبي الكريم صلي الله عليه وسلم، بتربية الروح والعقل، وتحرير العقول من الأوهام ومن الجاهلية ومن العبودية ، ومن التخلف، لذلك قام ببناء المسجد عند أول وصوله للمدينة المنورة.
لأنه لا يكتمل بناء الدولة إلا بالعمل على بناء الإنسان وتطوير الكفاءة.
فالعقيدة السليمة : هي اللبنة الأساسية في بناء شخصية المسلم على مستوى الفكر والسلوك، وهي العنصر الفعّال المحرك لعواطفه والموجه لإرادته.
إن العقيدة، هي قضية الإنسان الكبرى ومسألته الأساسية في هذه الحياة، لأنها تجيبه عن سر
وجوده في هذا الكون، وتكشف له عن خالقه وخالق المخلوقات من حوله، وتحدد له علاقته بهذا
 الخالق وبالكون والوجود، وتبين له مصيره ونهايته.               
ولهذا ركزت عقيدة التوحيد الإسلامية في بنائها للإنسان على البناء الفكري والنفسي والسلوكي، لتبلغ به ذروة الكمال الإنساني وترتقي به صعداً نحو السعادة المنشودة.
فركزت العقيدة على البناء الفكري:
فقد اتبعت عقيدة التوحيد في بنائها للإنسان منهجاً سديداً يتحدد في خطوات متتالية، فأول خطوة بدأت بها في سبيل هذا البناء...
1ـ تحرير العقل الإنساني من كل الأوهام والخرافات التي علقت به مع مرور السنين والأعوام، وتفريغه من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين ولم تستند إلى دليل، قال تعالى:}وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170){البقرة.
2ـ  توجيه العقل إلى منهج التثبت:ـ
 توجيه العقل إلي منهج التثبت من كل أمر قبل الاعتقاد والتسليم به، وعدم الاعتماد على الظنون في بناء الحقائق والمعتقدات، قال تعالى:} وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28){ النجم.
فالمنهج العلمي ينافي اقتفاء الأمور بلا علم ولا تثبت، ولذلك قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36{( الإسراء.
ولقد حذر القرآن الكريم من تعطيل حواس الإنسان الظاهرة والباطنة وعدم استخدامها في اكتساب العلوم والمعارف، وبين تحسر أهل النار وندامتهم إذ أهملوا أسماعهم وعقولهم في الدنيا، قال تعالى: }وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)ِ{الملك.
3ـ  دفع العقل إلى البحث والتفكير وحثه على التأمل والتدبر في ملكوت الله عز وجل:ـ
ومن ذلك قوله تعالى: }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164){ البقرة.
وبهذا النظر والتفكر في مخلوقات الله عز وجل، يتجه العقل البشري، إلى الإيمان اليقيني القائم على البراهين القاطعة والاستدلالات المنطقية، قال تعالى على لسان عباده الذين آمنوا بعد تفكر وتأمل في ملكوته قال تعالي }رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191){ آل عمران.
فالفكر الذي تبنيه عقيدة التوحيد الإسلامية هو فكر ممنهج مستقيم يسير على هدى ونور من ربه عز وجل، قد تحرر من كل الأوهام والخرافات الهدامة، وابتعد كل البعد عن الزيغ والضلال، والانحراف والشطط، فغداً أفقه واسعاً ونظره ثاقباً وهدفه واضحاً.
وركزت العقيدة أيضا علي  البناء النفسي
إنَّ النفس التي لم تعرف توحيد الله سبحانه وتعالى، ولم تذق حلاوة الإيمان والتصديق، ونجدها تعيش تائهة حائرة، يائسة قانطة، مضطربة متوترة، تفزع للمصائب وتجزع للنوائب، وتبطر الخير والنعمة، وتغمط الناس حقهم وفضلهم.
لذلك أخبرنا القرآن الكريم عن حقيقة النفس الإنسانية وكشف لنا عن خفاياها وخباياها في آيات كثيرة منها:قوله تعالى: } إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21){ المعارج.
وقوله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الانْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً)الإسراء.
ولهذا، فإنَّ منهج عقيدة التوحيد في بناء النفس الإنسانية يقوم على تعريف الإنسان بحقيقة نفسه وطبيعتها وماهيتها، ثم بالإجابة على الأسئلة الكبرى الملحة عندها والتي تجعلها تعيش في قلق وحيرة تجاهها، وهي: من الذي أوجدني؟ وما هي الغاية التي لأجلها وجدت في هذا الكون؟ وإلى أين المصير وما هي النهاية؟
وحين تظفر هذه النفس بالجواب الصحيح على تلك الأسئلة الملحة يتضح للإنسان تصوره لنفسه وللحياة وللكون من حوله، وتترسم له معالم الطريق الذي يجب أن يسلكه ويسير فيه بجلاء  بيّن، فتهدأ نفسه وتطمئن، وتعيش في سكينة واستقرار بعيداً عن الحيرة القاتلة.
كما تعمل عقيدة التوحيد على تزكية النفس وتطهيرها من كل ما يشوبها ويفسدها، قال تعالى: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10){الشمس.
وإن للنفس التي عرفت التوحيد والإيمان، سمات وخصائص تميزها، منها:
1- الأمن والاطمئنان: فالنفس التي أشرق في عمقها نور الإيمان واستقرت في سويدائها حقيقة التوحيد تكون آمنة مطمئنة، لقوله تعالى:}الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82){لأنعام.
2- الرضا والثبات: إن النفس المؤمنة نفس راضية عن ربها في كل الأحوال والظروف، لذلك استحقت رضا الله عنها، قال تعالى: }رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ  (8). البينة.
وهذه النفس ثابتة مستقيمة تسير على خط واحد في اليسر والعسر، شاكرة في السراء وصابرة في الضراء، قال صلى الله عليه وسلم: "عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ" رواه مسلم.
3- الهداية والتوفيق: إن النفس التي تسلك صراط الله المستقيم تنال الهداية والتوفيق الإلهي، والحماية والحفظ من كيد الشيطان وشركه. قال تعالى: }قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16){المائدة.
4ـ صلاح السلوك يتناسب مع سلامة المعتقدات : لقد دلّت الأبحاث في ميدان التربية، أن صلاح سلوك الإنسان يتناسب مع مدى سلامة أفكاره ومعتقداته، وأن انحراف سلوكه راجع إلى فساد أفكاره ومعتقداته، وبذلك يكون السلوك الإنساني ترجمة لما يؤمن به هذا الإنسان ويعتقده.   
ولا شيء أقدر على تقويم سلوك الإنسان وضبطه مثل العقيدة الإسلامية، ذلك لما لهذه العقيدة من سلطان على سلوكه
وتصرفاته نابع من داخل الإنسان نفسه، يحمله على التحلي بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ويجنبه سيئها وفاسدها.
ولذلك لما ترسخت العقيدة السليمة في نفوس أصحابها ، ملكت عليهم كل اهتماماتهم ، فتوحَّدت قِبْلتُهم، وتجمعت أشواقهم، وانتظمت مشاعرهم، وتحدَّدت أفكارهم وأهدافهم، فنقلت أفرادَ هذا المجتمع الجاهلي من عالم همجي غوغائي تسودُه الدَّهماء إلى عالَم جديد تبَلْوَرت في ظلِّه معالِم شخصية هذا الإنسان الجديد (إنسان العقيدة)، حتى إن الأهداف والطموحات تغيرت.   
لذلك رأينا أثر ذلك في نفوس الصحابة الكرام الذين بناهم الإسلام علي الإيماني الصادق والعقيدة السليمة .
فقد كان الأعرابي في الجزيرة العربية قبل الإسلام لا تتجاوز طموحاته الشاة والبعير والرعي، ولم يكن عندهم طموح، وكانت أهدافهم حتى على المستوى المادي محدودة، فكانوا ينظرون إلى ملك كسرى، وإلى ملك قيصر، وإلى من وراءهم من الغساسنة والمناذرة أنهم شيء عظيم لا يمكن أن يرتقوا إليه، ولا أن يتطاولوا معه، ولا أن ينافسوه، لكن لما رسخت العقيدة الإيمانية في نفوسهم تغيرت الأهداف والغايات.                        
 انظروا إلي الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه واعتزازه بإيمانه ، وهو بملابس رثة، ودخل إلى أبهة الملك ومعه حربته يخرق بها الطنافس، ويرقى إلى أعلى مكان عند العظيم الذي يعظمونه، فيسأل: أي شيء جاء بكم وقد كنتم لا يجرؤ أحدكم أن ينظر إلينا؟! 
  قال: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
 ومن خلال هذا الإيمان تغيرت الطموحات، فإذا شاب صغير كـربيعة بن كعب رضي الله عنه وهو في الرابعة عشرة من عمره يسأله النبي صلى الله عليه وسلم : (سلني ما شئت؟ فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة)، تغيرت الآمال والأفكار والطموحات، لقد أصبحوا أصحاب رسالة وغاية، أصبحوا معلمين وأساتذة وقادة بهذا الإيمان كل ذلك بسببب الإيمان بمفهومه الشامل .                                                                               العنصر الثاني : البناء الإجتماعي:
البناء الإجتماعي أقامه الرسول الكريم على ركيزة من الألفة والمحبة والصفاء والوُدِّ، وإخلاص السريرة بين طيَّات قلوب أفراد المجتمع الجديد، ولقد كان لهذا أثرُه المحسوس في سرعة الامتزاج والاندماج بين الأفراد بعضهم بعضًا في مظهر الإخاء الكامل، الذي كان له السماتُ البارزة في القضاء على الفوارق الاجتماعية، وإزالة الحواجز النفسية، والموانع العصبية بين هؤلاء الناس جميعًا. 
والذي مُحِيَت فيه كلُّ صفات الفردية والأنانية وحب الذات، ولقد كانتِ القاعدةُ التي وضعها النبي صلي الله عليه وسلم أساسًا قام عليه هذا التضامن الجديد، هي قولَه صلى الله عليه وسلم:}مَثَل المسلمين في توادِّهم، وتراحمِهم، وتعاطفِهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى{ رواه أحمد ومسلم.                                                                        
وقوله صلي الله عليه وسلم (المؤمنون تتكافأ  أي: تتساوى  دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم) رواه أحمد وأبو داود.           
ولقد حقق النبي صلي الله عليه وسلم التضامن بين أفراد المجتمع ، وذلك من خلال التكافل الاجتماعي : وهو شعور الفرد المسلم بتحمُّل التَّبِعات، والمشاركة في الأزمات، إزاء أخيه المسلم الذي يعيش معه في مجتمع واحد تربطه وحدة العقيدة، ووحدة المصالح والأهداف.  
فعلى جميع القوى الإنسانية في ظلِّ هذا المجتمع الإسلامي ألاَّ تدَّخِر جهدًا، أو أن تتوانَى في سبيل المحافظة على مصالح الآحاد، أو أن تقعد عن حل مشكلاتِهم، وهذا هو الأساس البنائي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم في مجتمعه الإسلامي الكبير.
أمَّا إذا ضاقت الحال، ولم يجد الإنسان عملاً، وأصبح فقيرًا محتاجًا، فعلاج الإسلام حينئذ لهذه المشكلة هو أن يَكْفُل الأغنياءُ الموسرون أقاربهم الفقراء، وذلك لما بينهم من الرَّحِمِ والقرابة، وقد وصفه الله بأنه حقٌّ من الحقوق الواجبة بين الأقارب، فقال تعالى: {فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (38)} [الروم]. 
وإذا عجز الأقارب الأغنياء عن سدِّ حاجة الفقراء جاء دَوْرُ المجتمع ككلٍّ؛ متمثِّلاً في الزكاة التي فرضها الله للفقراء من أموال الأغنياء، ولكنَّ رسول الله جعلها مقصورة على الفقير الذي لا يستطيع العمل والكسب؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ (أخرجه أبو داود والترمذي). 
بهذا لم يجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم لمتبطِّل كسول حقًّا في الصدقات؛ ليدفع القادرين إلى العمل والكسب.
وإذا بقي في المجتمع فقيرٌ لا يستطيع العمل؛ وجب على المجتمع كله أن يُخْرِج الصدقات ابتغاء مرضاة الله وثوابه، وهذه مزيَّة تميَّز بها الإسلام عن غيره من المعالَجَات البشريَّة للمشكلة، فها هو ذا النبي صلي الله عليه وسلم يُعَلِّم أصحابه الإنفاق، فعن جرير بن عبد الله  أنه قال: خطبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم فحثَّنَا على الصدقة، فأبطئوا حتى رُئِيَ في وجهه الغضب، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصُرَّة، فأعطاها له، فتتابع الناس حتى رُئِيَ في وجهه السرور، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا، وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَمِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". (أخرجه مسلم في صحيحه).                                              
 وقال صلى الله عليه وسلم(أيما أهل عَرْصَةٍ الحي والمكان أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمَّة الله تبارك وتعالى) رواه أحمد. 
 وقال صلي الله عليه وسلم (مَن كان عنده فضلُ ظهرٍ، فليَعُدْ به على مَن لا ظهر له، ومَن كان عنده فضل زادٍ، فليَعُدْ به على مَن لا زاد له)؛ رواه مسلم وأحمد.                        وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:(ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه)؛ متفق عليه. 
وهكذا تأسَّس هذا المجتمع الإسلامي الجديد على التضامن والتكافل الاجتماعي، فالأفراد كلهم جسدٌ واحد، وروح واحدة في الإحساس بالألم، والشعور بالمشاركة فيه، وليس من شكٍّ أن في هذا الاتِّحاد الجامع المتضامن ما يعكسُ صورةً رائعة أوضحت الشكلَ الجديد لمجتمع الرسول الكريم، فالمؤمن يجبُ أن يشدَّ من أزر أخيه، وأن يقف بجانبه، يشاطره المحن، ويمسح عن وجهه الكآبة والحزن، ويرفع عن كاهلِه الأحمالَ الثِّقال، بقدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً.                                      وهذا نموذج رائع في الروح العالية بين المسلمين الأوائل : أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه  قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَآخَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِىِّ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، دُلَّنِى عَلَى السُّوقِ . 
فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ ، فَرَآهُ النَّبِىُّ  صلى الله عليه وسلم  بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ ، فَقَالَ النَّبِىُّ  صلى الله عليه وسلم « مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ » .
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ . قَالَ « فَمَا سُقْتَ فِيهَا » .
 فَقَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ » أخرجه البخاري.                                               
 وفي رواية عند البخاري أيضًا عَنْ أَنَسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَآخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا؛ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيرًا ، حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْيَمْ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا سُقْتَ فِيهَا؛ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ). أخرجه البخاري.                                                                                                  ثالثا : البناء الإقتصادي :ـ
لقد فطر اللهُ الإنسانَ على كثير من الأشياء، ومنها الطعامُ والشرابُ والحاجةُ إلى اللباس والمأوى، ولا تتوفر هذه الأشياءُ إلا بسَعي الإنسان للحصول عليها، وهو ما يُسمَّى بطلب الرزق، ويتكامل الناس فيما بينهم؛ إذ يوفر كلٌّ منهم حاجةَ الآخر.
ومن خصائص الإسلام أنَّه دينٌ شامل؛ لذا فقد وضع نظامًا ينظم العلاقات المادية وجميع المعاملات بين أفراده، عن طريق سَنِّ قوانينَ وقواعدَ عامةٍ وخاصة.
لقد وضع الإسلام الحنيف أسس للبناء الإقتصادي .. وهي ..
1ـ ترسيخ حقيقة الملكية :ـ
فالإسلام يقرر حقيقةَ أن المُلكَ لله وليس لأحد ملك خارج عنه؛ إذ الأرضُ ومن فيها لله وحدَه؛ قال تعالى}وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (18){ [المائدة]
وأن المال أيضًا ملك لله  سبحانه وتعالى } وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ(34){[النور]، غير أنَّ الله  تبارك وتعالى  قد جعل للإنسان ولايةً على ذلك المال وملكًا مجازيًّا له؛ قال  تعالى } إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ (16){ [التغابن]، وجعله مستخلفًا فيه وقائمًا عليه؛ قال  تعالى} وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (8)﴾ [الحديد]، غَيْرَ أنَّ هذه الملكية وهذا الاستخلاف من أجل أن يستعينَ العبد على طاعة الله والإنفاق فيها، فإنَّ هذه الدنيا وسيلة وليست غاية في ذاتها، فهي تبلِّغه الآخرة.
2ـ الإلتزام بأخلاق الإسلام :ـ
لقد راعَى الإسلامُ في نظامه الاقتصادي الأخلاقَ الفاضلة، فقد حرَّم كسْب المال من السرقة والغصب، وحرَّم إنماءه من الغشِّ والغَرَر بالناس، وحرم صرفَه في الفواحش والمنكرات؛ بل حث على كسبه من الحلال، وتنميته بالحلال، وإنفاقه فيما يُرضي الله عَزَّ وجل.
ومسألة الأخلاق منها ما تركه الإسلام للأفراد؛ مثل مراعاة الأمانة والصدق، ومنها ما للدولة، فتدخل الدولة لتقويم نشاط الفرد الاقتصادي، كما إذا تاجر بالخُمُور.
3ـ تحفيز الإسلام إلي العمل والإنتاج :ـ 
إنَّ ارتفاع الأممِ وهبوطها، وبقاءَها واندثارها يرتبط ارتباطًا كبيرًا بعملِ أبنائها وتطلُّعاتهم واهتماماتهم، فلن ترتقيَ أمةٌ يميلُ أبناؤها إلى الدَّعة والراحة والسكون، ويؤثرون على العمل الجاد الذي يسهم في بناءِ الأمة ، وإن نهضة الأمم والشعوب ورقيها وسيادتها وسعادتها تتوقف على تقدمها في مجال العلم والعمل، وبهما تبني الأمم أمجادها فلا تبنى الأمجاد على البطالة والجهل والفقر والمرض، ورحم الله من قال:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم                      لم يبـن ملك على جهـل وإقـلال.
وبالعمل والاحتراف المتقن تتبوأ الشعوب الصدارة بين الأمم، والله سبحانه وتعالى يحب اليد التي تعمل وتجتهد لتقدم الخير لنفسها ووطنها ودينها، والمؤمن المحترف يحبه الله ورسوله جزاء ما قدم، ومن أحبه الله ورسوله هداه الله واجتباه وحفظه ووقاه وجعله من أوليائه وأدخله في رحمته فيسعد في الدنيا والآخرة.   
ولقد حفز النبي صلي الله عليه وسلم علي العمل والإعمار مهما كان حجمه فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ" أخرجه أحمد.                                   
وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ ".
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ مِنْهَا يَعْنِي أَجْرًا وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي مِنْهَا يعني الطير والسباع  فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ".                             
 والإعمار والإحياء إما بالزرع أو حفر الآبار،أو بالبناء عليها،كبناء المصانع، والشركات المنتجة لما يلزم للناس، ونحو ذلك.
ولقد أخبرنا النبي صلي الله عليه وسلم أن العمل الجاد يسبب محبة الله تعالى لتلك الأيادى، منها يد الفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والعالم في محرابه، والمعلم في معهده، والطبيب في عيادته، وغيرهم من رجال يسهرون على راحتنا، وهؤلاء لهم ثواب عظيم؛ لأن «من بات كالّاً من عمل يده بات مغفورًا له» رواه الطبراني..                                        
وقوله صلي الله عليه وسلم ( إن الله يحب المؤمن المحترف ) .
والعمل الجاد مكفر للذنوب ومطهر للآثام فقال صلى الله عليه وسلم (من بات كالا من عمله بات مغفورا له "                 
وبالإضافة إلي ذلك حث ورغب في إتقان العمل وإحسانه فقال صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " إن كلمة " عملا " في الحديث جاءت مطلقة من غير تحديد لنوع معين من الأعمال يجب الاهتمام به والإحسان فيه دون غيره لتشمل أعمال الدنيا والآخرة . 
4ـ ذم الإسلام للتسول والبطالة:ـ 
إن البطالةُ من أخطر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم يومًا بعد يوم على المستوى العالمي، وخاصة في الدول الفقيرة والنامية،ولا شك أن للكسل والبطالة والقعود عن العمل أضراراً وأمراضاً خطيرة تهدد المجتمعَ بالخراب والدمار، فالإنسان الذي يركن إلى البطالة ويُضرب عن العمل مع توفر فرصه يضيع نفسه ويضيع ذويه، ويصبح عالة على غيره وعضواً مشلولا يعوق حركة المجتمع وتقدمه، ثم نجده يُعرّض نفسَه ومن يعول للذل والهوان، ولا يلقى من الناس إلا الاحتقارَ والسخرية، ويجني من كل ذلك ضياع الدين والخلق والكرامة. 
وهذا العاطل عن العمل قد يدفعه تعطلُه وبطالتُه إلى أحد أمرين:ـ
 إما أن يتكفف الناس ويتسول، وإما أن يتجه إلى ارتكاب الجرائم والمنكرات للحصول على الأموال. 
فأما التسول:ـ  فهو من أخطر الأمراض التي تضر المجتمع، وتشوه صورته، والمتسول وخاصة إذا كان من القادرين على العمل إنسان حقر نفسه، وأراق ماء وجهه، وخلع حياءه وكرامته، وفقد إنسانيته، وبدأ يمد يده للناس أعطوه أو منعوه، أما غيرُ القادر على العمل فهذا له عذرُه في الحاجة إلى غيره، ومن أجله كانت فريضة الزكاة التي تغنيه عن الحاجة والمسألة.  
ولكن الشيء الغريب أن التسول أصبح اليوم مهنة لبعض الناس، وانتشر في بعض الدول الإسلامية انتشارا سرطانيًا مدمرًا؛ حتى إن بعض القادرين على العمل من الكسالى قد استسهلوا التسول وانطلقوا في الشوارع والمركبات العامة يمدون أيديهم للناس بغير حياء. 
وأما الأثر الثاني للبطالة والتعطل عن العمل بعد التسول فهو الاتجاهُ إلى الجريمة طلبًا للمال، وهذا الأثر أخطرُ بكثير من التسول؛ لأنه إن كان المتسولُ يأخذ من مال الإنسان بمحض إرادته وبطيب نفس منه، فإن السارق يأخذُ المالَ عَنوة، وقد يعتدي على صاحب المال إذا ما اعترضه وهو يسرق، ويرتكب جريمة أخرى غير السرقة وهي: القتل، ومن هنا تنتشر الجرائم وتصبح حياةُ الإنسان وماله وعرضه في خطر من هؤلاء المجرمين المتعطلين، وقد أثبتت الدراساتُ والبحوث أن أكثر الذين يرتكبون الجرائم في هذه الأيام هم من العاطلين الذين أخفقوا في عملهم أو في دراستهم وعجزوا عن أن يشغلوا أنفسهم بالحق فشغلتهم هي بالباطل.
ومن هنا تتضح عظمة الإسلام حين حضّ على العمل، ورغب الناس فيه، وجعل بعض الأعمال تصل إلى منزلة الجهاد في سبيل الله. 
من أجل ذلك حارب النبي صلي الله عليه وسلم هذه العادةَ السيئة وبالغ في النهي عن مسألة الناس؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما  أن رسول الله قال: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".
وروى الإمامُ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله قال: "لا يفتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتحَ الله عليه بابَ فقر".
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى". 
ولقد ذم السلف للعاطلين ، إن المتابع لهدي السلف الصالحين يجدهم عمالا متكسبين وليسوا كسالى ولا متسولين، قال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" أخرجه البخاري و مسلم .  
وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من سؤال الناس؛ فعن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه : أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم  قال:(لَأَنْ يأخذَ أحدُكم حَبلَه، فيأتيَ بحُزمة الحطب على ظهره، فيبيعَها، فيكُفَّ الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسألَ الناس، أعطَوْه أو منعُوه) رواه البخاري. 
ولقد قطع الإسلام كل الطرق أمام المتسول  والبطال حتي لا يركن لشيئ مثل أن يركن بحجة العبادة ، أو يركن معتمدا علي مال الزكاة .                         
لقد رأى الفاروقُ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول:}فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ(10){ (الجمعة).
وروى ابن أبي الدنيا في "التوكل" بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسا من أهل اليمن، فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال : بل أنتم المتكلون، إنما « المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله ».
وكان سفيانُ الثوريّ رحمه الله يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟! قال: اطلُبوا من فضلِ الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.                                                                                    
فالمؤمنين ليسوا عالة على غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب ، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى ، " ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك .. " .
ودخل عبد الله بن عمر رضي الله عنه   السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال : فيهم نزلت : " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .. " .
وقال مطرف الوراق : " كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة " 
وأيضا لم يجعل النبي صلي الله عليه وسلم لمتبطل كسول حقا في الصدقات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" أخرجه أبو داود والترمذي.. 
و لكنه قد تجوز المسألة عند الحاجة ، قال صلى الله عليه وسلم :"إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة :لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع" أخرجه أحمد وابن ماجة.. 
5ـ توفير فرص العمل للقادرين عليه:ـ 
وهناك حديثٌ معبِّر أتمَّ تعبيرٍ عن أنَّ المسلم يجب أن يعمل، ويصونَ نفسَه من مذلَّة السؤال، فإنَّه ما دام قادرًا على العمل، فلا بُدَّ أن يجد وسيلةً للعمل. 
فعن أنس رضي الله عنه ( أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسأله فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أَمَا في بيتك شيء؟)، قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.] نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم (ائتني بهما) ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم  بيده، وقال: (مَن يشتري هذين؟)، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم (مَن يَزيد على درهم؟) مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به).                                                                      
 فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ  صلَّى الله عليه وسلَّم  عودًا بيده، ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ، فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم (هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع) رواه أبو داود برقم ، واللفظ له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد ، 
فكانت معالجته معالجة عمليَّة؛ استخدم فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم كل الطاقات والإمكانات المتوفِّرة لدى الشخص الفقير، وإن تضاءلت؛ حيث علَّمه رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف يجلب الرزق الحلال من خلال عمل شريف.  
6ـ تشجيع المشاريع الإقتصادية:ـ                        
شجَّع رسول الله المشاريع الاقتصادية بين المسلمين، وحثَّهم على المزارعة، كما فعل الأنصار مع إخوانهم المهاجرين الفقراء، الذين قَدِموا على المدينة بلا أدني مال، فعن أبي هريرة أنه قال: قالت الأنصار للنبي : اقسمْ بيننا وبَيْن إخواننا النَّخِيلَ. فقال: "لا". فقالوا: تَكْفُونَا الْمُؤْنَة, وَنَشْرَككُمْ في الثمرة. قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا.(رواه البخاري) . 
من الشخصيات العصامية في المسلمين الأوائل ...سيدنا عبدالرحمن ابن عوف ، لقداستطاع أن يكون ثروة واسعة، بعد أن ترك دياره وأرضه وأمواله،وكان يقول: لو رفعت حجرًا لوجدت تحته ذهبًا، وقال عنه بعض المؤرخين: : كان تاجرا مجدودا في التجارة وكسب مالا كثيرا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة. 
كان له دور في تأسيس الاقتصاد الاسلامي ، وبناء الوطن وإطلاق أسواق تنهي احتكار اليهود للتجارة فأنشأ سوقا للمسلمين في المدينة.  
إذ كان اليهودُ قبل الهجرة يحتكرون التجارةَ فيها، ويسيطرون على معظمِ الموارد. وقد أرادَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إنهاءَ هذا الاحتكارِ والهيمنة، وتشجيعَ أثرياءِ المسلمين على مزاولة النشاط الاقتصادي. 
 من أبرز المسلمين الذين كانَ لهم فضلٌ في إنشاء سوقٍ في المدينة المنورة الصحابيُ الجليل عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوف. ومَلَكَاته التجارية، لم تظهر في المدينة فحسب، بل كان له نشاطٌ تجاري كبير في مكةَ قبلَ الهجرة.
كان عبدُ الرَّحمنِ بن عوف من أوائل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وساهمت إمكاناتُه الماليةُ في مساندةِ الدعوةِ وفقراءِ المسلمين. 
فأين أصحاب رؤس الأموال اليوم من عبدالرحمن ابن عوف ومعاناة الكثير من فقراء المسلمين .  
 وقد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق . 
 إن الأمة التي تعمل تقود ولا تقاد ، تسود ولا تساد ، تتكلم فيسمع لها ، تأمربأمر الله فتطاع ، وتنهى بنهي الله فلا تعصى، تذل لها الأمم وتدين لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم،و يشار إليها بالبنيان، ويتحقق لها النجاج ، والهيبة والمنعة. 
إن الأمة المنتجة قوية ولها منعة ويهابها أعدائها ، والأمة المستهلكة ضعيفة وتكون ألعوبة في أيد أعدائها .                         
لقد زار سيدنا عمرابن الخطاب رضي الله عنه، بلدة فرأى أكثر الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنفهم أشد التعنيف، فقالوا: لقد سخرهم الله لنا، فقال لهم قبل ألف وأربعمائة  وسبع وثلاثون عاما: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟ 
لقد أدرك الخليفة العملاق قبل ألف وأربعمائة وسبع وثلاثون عاما أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف،أصبحنا الآن نستورد كل شيئ من الإبرة حتي الصاروخ ، لذلك يجب أن نعمل ونعمر ونبني ونجتهد قدر المستطاع.                                                
 إن تقدم الأمة في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها المنعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها . 
الخاتمـــــــــة ...
وأخيرا :ـ أيها المسلمون .. إذا أردنا بناء الأوطان فعلينا أولا ببناء الإنسان إنسان العقيدة   . . فالإنسان الذي آمن بعقيدة التوحيد، يكون مذعناً لأوامر ربه ونواهيه طاعة له، لأنه علم أن خالقه هو المتصرف في كل شيء بعدله وحكمته، وهو عالم الغيب والشهادة المطلع على ما في الصدور، والحسيب الرقيب على كل حركاته وسكناته، قال صلى الله عليه وسلم: “أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ”.
نسأل الله العظيم أن يعيننا علي أمر ديننا ودنيانا ، وأن يجعلنا من العاملين المخلصين المنتجين إنه ولي ذلك ومولاه .                         
 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات